الاثنين، 30 يوليو 2012

مظاهر القانون الحضاري للمعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني


بسم الله الرحمن الرحيم 

مظاهر القانون الحضاري للمعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني ............................................................
.................  لم يكن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني مجرد منشأة معمارية  دينية ضخمة ، و أن ما حدث فيه من تطورات معمارية و فنية و دينية لا يمكن  النظر إليها على أنها مجرد نهايات لتطور طبيعي للتراث الديني و المعماري  المصري القديم الذي يضرب بجذوره نحو عصور عتيقة ، فهو لا يظهر كصورة طبق  الأصل من المعابد المصرية القديمة ، كما أن ظروف نشأته السياسية و  الإقتصادية إختلفت كثيرا عن أحوال و ظروف تشييد المعابد المصرية الأقدم  زمنيا و تاريخيا ، فالمعبد المصري في العصور المتأخرة تم بنائه في زمن  إحتلال أجنبي و لذا ينبغي علينا أن نفرد دراسة كاملة عن المعبد المصري في  العصرين البطلمي و الروماني  و حتى نتفهم السمات الدينية و السياسية و  المعمارية للمعبد المصري في ذلك الوقت نطرح التساؤل التالي : لماذا إتجه  المصري القديم لتشييد معابد متعددة في زمن الإحتلال البطلمي و الروماني ؟
 1 – إرتبطت ظاهرة بناء المعبد المصري في العصور المتأخرة بظاهرة الكتاب  الديني المقدس ، فقد ورد في معبد حورس بإدفو العبارات التالية " تم إعادة  بناء المعبد في عصر بطلميوس الثالث وفقا لخطة البناء العظيمة في ذلك الكتاب  الذي هبط من السماء إلى شمال منف " . يتضح لنا من خلال هذا النص – و هناك  أمثلة أخرى تعطي  معنى مشابه لبقية المعابد التى ترجع للعصرين البطلمي و  الروماني – أن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني أصبح ترجمة  عملية واقعية لمفهوم الكتاب الديني المقدس أو بمعنى أدق تحول إلى ما يعرف  بالقانون الحضاري ، فهو كتاب يشبه الوحي الذي نزل من السماء ، فلا يجوز أن  يضاف إليه شيئا و لا يجوز أن ينتقص منه شيئا ، و ذلك هو المقصود بمصطلح  القانون الحضاري . و بما أن الكتاب الديني المقدس هو أساس بناء المعبد ،  فقد أصبح المعبد بالتالي يحتوي في داخله على ذلك الكتاب فهو يقوم بحفظه من  الضياع و من النسيان .
2 – أصبح المعبد المصري في العصرين البطلمي و  الروماني وحدة معمارية و فنية ثابتة و واحدة ، فكانت خطة بنائه تخضع لقانون  حضاري ثابت لا يقبل التغيير أو الإضافة أو النقص و بشكل صارم يختلف تماما  عما كان يحدث في العصور السابقة ، فجميع المعابد التى شيدت في العصور  المتأخرة لا تعدو كونها مجرد صور متنوعة لنمط معماري نموذجي واحد . و هذا  النمط تجسد أفضل ما يكون في معبد إدفو ، فنلاحظ في تشييد ذلك المعبد أنه  تحول إلى مقاصير معمارية دينية متداخلة في بعضها البعض ( مثل مقاصير الملك  توت عنخ آمون ) ، و ذلك من خلال تصوير نمط الكورنيش المصري في قمة كل واجهة  أو كل وحدة معمارية للمعبد بحيث تصبح كل وحدة معمارية كما لو كانت مستقلة  بمناظرها و طقوسها و شعائرها . فقدس أقداس معبد إدفو على سبيل المثال يشكل  وحدة معمارية دينية مستقلة و في ذات الوقت تظل محجوبة عن العالم الخارجي من  خلال الوحدات المعمارية الأخرى التي تتقدمها و تحتويها في آن واحد .  فالمعبد تم بنائه على شكل سبع مقاصير بسبع بوابات متداخلة ، و كل بوابة  مقصورة ( نقصد بالمقصورة هنا أي عنصر من عناصر المعبد التي تظهر في أشكال  متعددة مثل الفناء – صالة الأعمدة الأولى – صالة الأعمدة الثانية -  صالة  تقدمات القرابين ... إلخ ، حيث تم تشكيل هذه العناصر معماريا و فنيا على  هيئة مقاصير ) تفصل بين عالمين : عالم خارجي و آخر داخلي .
3 – إن  الهدف من هذه الصورة المعمارية التى كشفها كهنة العصرين البطلمي و الروماني  هو تصوير عالم مطلق القداسة موجود على الأرض و ينبغي حمايته ولذا فيجب حجب  هذا العالم المقدس و بكل الوسائل الممكنة عن سياق العالم الدنيوي الخارجي  الدنس . فعمارة المعبد في ذلك العصر كانت تتميز بإجراءات أمنية ( مثل  المقاصير المتداخلة و عدم الدخول إليها من جانب أي فرد عادي ) أملاها إحساس  دفين بالخطر ، فالمعبد هنا يعكس حالة الخوف من تدنيسه و إنتهاك حرمة  قدسيته المهددة من العالم الخارجي ، و من هنا كان الإبتعاد عن ذلك العالم  الخارجي الدنس هو الوسيلة لحفظ المعنى المقدس في المعبد .
4 – نلاحظ  هنا وجود قاعدتين أساسيتين قامت عليهما بناء المعبد المصري في العصرين  البطلمي و الروماني و هما : ( الحفاظ على شيء مقدس في الداخل ) من جانب و(  التعرض للخطر من الخارج ) من جانب آخر . و من خلال الجمع بين هذين  المتناقضين ، نستشف ملمحا هاما يسترعي الإنتباه و هو : النفور الشديد من  الأجانب و الذي نراه واضحا في خشية الكهنة آنذاك من تدنيس المقدسات مما  ينتج عنه وجود نزعة قوية ( للإنطواء على النفس في عالم داخلي مقدس – المعبد  ) و ذلك في مقابل ( العالم الخارجي الدنس ) الذي يسيطر عليه الأجنبي  المحتل . و من هنا جاءت نصوص المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني  لكي تؤكد على أن الأجنبي الغريب ( نجس ) و ( غير طاهر ) ، و لهذا توصي هذه  النصوص بحرمانية إقتراب الأجانب من المعبد و عدم  رؤيتهم لشعائر العبادة و  أصبحت هذه القاعدة لكهنة المعبد قانونا حضاريا أو بمعنى أدق تعليمات دينية  مطلقة القداسة و واجبة التنفيذ و ثابتة المعالم و لا يجوز تغييرها أو حتى  مجرد التفكير في تعديلها .
5 – تحول المعبود ( ست ) في المعبد المصري  للعصرين البطلمي و الروماني إلى إله العالم الخارجي الدنس و رب الغرباء و  الأجانب الذين يسعون لتدنيس عالم مصر المقدس ( عالم المعبد ) و أصبحت صورة (  ست ) تمثل من الآن فصاعدا صورة الأجنبي الشرير الذي يسعى لهدم معابد مصر و  نشر الفساد في البلاد و طمس الهوية الحضارية لها ، و بما أنه كان ربا  للرياح الشديدة و الأعاصير و الزوابع الرملية المخيفة ، إنتقلت هذه الصورة  للأجانب الذين تحولوا إلى ( كائنات و مخلوقات إعصارية مخيفة تتجه للهجوم  على مصر )  فلا غرابة من وجود مناظر و شعائر ضرب و تدمير ( ست ) في المعبد  المصري آنذاك و تعميم تلك الطقوس على جميع المعابد المصرية التي تنتمي لنفس  الفترة مما يعني أن هذه الشعائر تحولت إلى قانون حضاري ، فهي طقوس واجبة  التنفيذ و لا يجوز إهمالها أو نسيانها و إلا تعرضت مصر لخطر الزوال .
6  – ليس هناك شك في أن ( معاداة و مقت الأجانب ) و ( الخوف الشديد من تدنيس  المقدسات ) هي أفكار نشأت في عصر شهدت فيه البلاد إحتلال أجنبي بدءا من  العصر الفارسي و حتى العصرين البطلمي و الروماني ، فهي تجارب تاريخية و  سياسية و فكرية سلبية مما جعلها تترك آثار و ذكريات مؤلمة ، فلا يمكن أن  تنشأ هذه الأفكار و هي معلقة في فراغ فضائي ، بل لا بد و أنها ترجمت ما وقع  في البلاد من أحداث صادقة عبرت عن خشية الكهنة من تأثير الغزو الأجنبي  الفكري للبلاد و زوال الثقافة المصرية فضلا عن عدم إحترام العديد من هؤلاء  الأجانب لمعطيات الحضارة المصرية .
7 – تحول المعبد المصري في ذلك  العصر لكي يجسد ذكرى الماضي المجيد ، فهي تعطي إنطباعا بأنها تمثل الجوهر  الفني و المعماري الكلاسيكي للحضارة المصرية القديمة ، فكل ما تم بنائه أو  تصويره في المعبد هو هو تمثيل لأصل ديني مقدس قديم . و هذه الظاهرة لاشك  أنها ملفتة للنظر عندما نعلم أن جميع بلاد الشرق القديم في العصر  الهللينستي بدأت تتجه لتبني الرموز الدينية و الأشكال الفنية اليونانية  داخل معابدها الرسمية ، حيث بدأت تسود و تهيمن في بلاد الشرق القديم و حوض  البحر المتوسط ، و كانت مصر هي البلد الوحيد التى ظلت محتفظة برموزها  الدينية و أشكالها الفنية و نمطها الحضاري القديم و لاسيما في معابدها  الرسمية . فلا غرابة عندما نقول أننا  هنا أمام إصلاح ديني كهنوتي شامل  يتجه نحو العودة إلى الأصول و المنابع الأولى المقدسة ، ثم يتم إستعراض هذا  الإصلاح في شكل جديد . و لا يخفى علينا أن ما كان يروج له الكهنة آنذاك من  إستعادة و إسترجاع الماضي المجيد يهدف إلى تثبيت ميراث الأسلاف القديم ، و  عند تثبيته يتحول هذا الميراث إلى قانون حضاري لا يمكن تغييره أو الإضافة  عليه مما يعني الحفاظ عليه للأبد فلا يضيع أبدا .
8 – أصبح المعبد  المصري في ذلك الوقت موسوعة للعلم و المعرفة و الثقافة ، و هي قفزة نوعية  كيفية ملفتة للنظر ، فما كان يتم نقشه و تخليده على جدران المعبد لم يعد  مجرد طقوس دينية ، بل تعدى ذلك الهدف القديم ، فظهرت نصوص و مناظر تقوم  بوصف الكون و تتحدث عن جغرافيا مصر و ما حولها من البلاد ، فضلا عن قص  أساطير دينية متعددة تحكي عن ما حدث في سالف الزمان ، كما ظهرت نصوص طويلة  تصف التعاليم الأخلاقية و السلوكية للكهنة و ما ينبغي لهم أن يتبعوه عند  دخولهم للمعبد ، و زادت هذه النصوص في وصف ممتلكات و ثروات المعبد و قوائم  كاملة بما ينبغي أن يتم تقديمه من جانب الملك من قرابين يومية ، و بإختصار :  إتجه كهنة مصر في ذلك العصر لخلق موسوعة شاملة لحضارة و ثقافة مصر داخل  المعبد بوصفها قانونا حضاريا واجب الإتباع .
9 – إزداد عدد العلامات  التصويرية ( الهيروغليفية ) المنقوشة على جدران المعبد المصري في العصرين  البطلمي و الروماني بشكل لم يسبق له مثيل ، فقد تجاوزت لأكثر من 7000 علامة  تصويرية جديدة و من هنا يمكن القول بأن الكتابة المعبدية إتجهت هي الأخرى  لكي تكون موسوعة لغوية تحتوي في داخلها كل شيء ، فكانت كل علامة تصويرية  تجسد ( صورة لشيء ما ) موجود في ( العالم الخارجي ) و بهذه الطريقة تصبح كل  ( كائنات و موجودات العالم الخارجي ) مصورة و منقوشة في ( العالم الداخلي –  عالم المعبد ) و بمعنى أدق أصبحت كتابة المعبد ترنو نحو وضع العالم بأكمله  ( داخل المعبد ) و بما أن المعبد هو مكان الخلق الأول و مقر سكن المعبودات  الأولى ، نشأ تصور جديد مؤداه أن العالم الداخلي المقدس ( المعبد ) ما هو  إلا الكتابة التي سطرتها الآلهة في بدء الزمان ، وبرغم إستيحاء هذه  العلامات التصويرية من ( العالم الخارجي ) فوضعت في ( عالم المعبد الداخلي )  إلا أن المعبد يظل هو ( العالم الحقيقي ) ، فهو الصورة الفعلية للعالم  المقدس و الذي ينبغي أن لا يتحول و لا يتبدل و لا يتغير على الإطلاق ،  فالنصوص التى تصف العالم الفعلي داخل المعبد تزعم لنفسها الصحة المطلقة و  لذا تكتسب هذه النصوص صفة القانون الحضاري .
10 – تحول المعبد المصري في العصر المتأخر إلى نمط حياتي و سلوكي عام و ملزم للجميع ، فقد وصفت نصوصه ما ينبغي عمله كأسلوب حياة و معيشة لا يقتصر فقط على المعبد و لا على الكهنة بل هو نمط و نموذج حياتي ملزم للجميع ، و بمعنى أدق أصبحت تعاليم المعبد الأخلاقية و السلوكية ( معيارا صارما للحياة العملية ككل ) ، فما يسود داخل المعبد من نماذج سلوكية ينبغي أن يهيمن على سلوك المجتمع بأكمله خارج المعبد ، و بما أن هذه القواعد الأخلاقية و السلوكية نابعة من محيط ديني مقدس ( المعبد ) أصبحت الحياة هنا خارج المعبد تتسم هي أيضا بالقداسة و لا نقصد بالحياة المقدسة خارج المعبد بأنها ذلك العالم الخارجي الدنس الذي تحدثنا عنه سابقا ، فالعالم الخارجي الدنس هو كل من لا ينتمي لمصر و حضارتها و هو كل من لا يبجل معبودات مصر و هو كل من يهدد معابد مصر ، أما الحياة خارج المعبد تتسم بقدسيتها النابعة من قدسية إتباع التعاليم و الأخلاق الحميدة المسجلة على جدران المعبد ، و هكذا تتحول مصر إلى بلد مقدس بفضل إتباعها لتعاليم الآلهة المسجلة على جدران المعبد بل و تصبح أقدس بلدان العالم ، لدرجة وصفها بأنها ( معبد العالم ) و بتعبير آخر كشف المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني عن قانون حضاري ثابت و دائم يهدف إلى تعميم القدسية المطلقة على مصر و أن المصري القديم لديه وعي خاص بالتفرد و التميز و أنه وحده من بين شعوب الأرض الذي يقدس الآلهة و أن المعبودات لا تعيش إلا في مصر و أنه لا يزال يحيا حياة جماعية و مشتركة مع آلهة مصر و من هنا خلعت القداسة على شعب و أرض مصر و في المقابل كان الدنس أمرا حتميا لكل من لا يقبل بعالم مصر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق