الثلاثاء، 26 فبراير 2013

صورة المعبود ست بين الأسطورة و الواقع في العصور المتأخرة


بسم الله الرحمن الرحيم

صورة المعبود ست بين الأسطورة و الواقع في العصور المتأخرة

أثارت صورة المعبود ( ست ) الأسطورية و الفكرية جدلا كبيرا بين الباحثين في علم المصريات فمنهم من إعتبره رب الشر و الفساد بشكل مطلق منذ بداية ظهوره على مسرح الأحداث التاريخية و منهم من رآه معبود ذو أهمية قصوى و لاسيما و أنه لعب أدورا هامة منذ عصور ما قبل الأسرات و حتى نهاية عصر الدولة الحديثة فضلا عن إرتباطه بالملكية المصرية منذ فترة التوحيد السياسي و إعتبار الملك منذ العصر العتيق بأنه تجسيد لصورتي المعبودين ( حورس ) و ( ست ) و يسعى الدارس من خلال هذا المقال معالجة و تناول الصورة الأسطورية لذلك المعبود في العصور المتأخرة و مدى إرتباطها بالواقع السياسي و التاريخي لمصر آنذاك و لاشك أننا نحتاج لإلقاء بعض الضوء على الشكل الأسطوري لذلك المعبود قبل العصور المتأخرة في عجالة سريعة و ذلك كمحاولة تمهيدية لفهم ما طرأ عليه من تغيرات في تلك العصور
مما لاشك فيه أن أقدم دلائل تقديس للمعبود ست ظهرت منذ عصر حضارة نقادة الأولى ( منذ 3800 و حتى 3500 ق.م ) في عصور ما قبل الأسرات و لاسيما على مشط عاجي تم العثور عليه في منطقة المحاسنة ( بجوار سوهاج ) و نستشف أدواره القديمة مما ورد في متون الأهرام اللاحقة زمنيا و التي وصفته بأنه ربا للصواعق و الرياح و الأمطار و الزعابيب و العواصف الرملية . و من ناحية أخرى تمكن أنصار المعبود ست في الجنوب من إيجاد مركز عبادة له في منف منذ النصف الثاني من عصر نقادة الثانية ( المرحلة الثانية من عصور ما قبل الأسرات و تمتد من 3500 و حتى 3200 ق.م ) حيث كشفت الحفائر عن وجود تمام و أختام في جبانة حلوان ( الإمتداد الشرقي لمنف ) منذ عصر نقادة الثانية و صور عليها هيئة المعبود ست . أما في عصر نقادة الثالثة ( آخر مراحل ما قبل الأسرات و تمتد زمنيا من 3200 و حتى 3000 ق.م ) فقد إنتسب إليه بعض زعماء الأسرة صفر - و كان أشرهم الملك ( العقرب ) - فقد نشأوا و تربوا في المدن التي تم تقديسه فيها فكان من المنطقي أن يتخذوه هو الآخر ربا للملكية منذ تلك الفترة ( لمزيد من التفاصيل أنظر مقال سابق للدارس بعنوان حورس و ست بين الأحداث الأسطورية و الوقائع التاريخية منذ عصور ما قبل الأسرات و حتى نهاية عصر الدولة القديمة ) .
و هنا ينبغي أن ننوه لأهم أدوار و سمات المعبود ست قبل العصور المتأخرة في النقاط التالية :
1 – كشفت المصادر المصرية القديمة عن صورة المعبود ست بوصفه قاتل أخيه المعبود أوزير و هي الصورة التي ظهرت لأول مرة في متون الأهرام في عصر الدولة القديمة حيث وصفته بأنه طرح أخيه أرضا و لذلك لا يمكن تجاهل الرأي الذي نادى بأن المعبود ( ست ) قد تم إعتباره لدى شريحة ليست هينة من المصريين القدماء رمزا للجبروت و الطغيان منذ تلك الفترة .
2 – هناك إصرار شديد في العديد من المصادر الدينية المصرية القديمة – بدءا من عصر الدولة القديمة و ما تلاها – على إستبعاد نوال قدر الموت لرقبة المعبود ست ، و كانت متون الأهرام هي الأكثر صراحة و وضوحا في التعبير عن هذه القناعة حيث تنص إحدى فقراتها كأمنية على لسان الملك يرجو بها تفادي قدر الموت الدائم و تقول : " لقد هربت من يوم موتي كما هرب ست من يوم موته . لقد هربت من نصف شهر موتي كما هرب ست من نصف شهر موته . لقد هربت من سنة موتي كما هرب ست من سنة موته " و هنا يمكن لنا أن نطرح الحقيقة التالية :
أن المعبود ست هو الأوحد دون المعبودات الأخرى الذي كانت لديه القدرة على الإفلات من الموت وفقا للأطر العقائدية الخاصة بأنصاره منذ عصر الدولة القديمة مما يحمل في ثناياه صورة إيجابية تجاه ذلك المعبود على الأقل من جانب أتباعه و مريديه .
3 – وصفت نصوص عصر الدولة الحديثة المعبود ست بإعتباره الأقوى ضمن أرباب التاسوع و حيث نسب له في بردية شيستر بيتي أنه قد هدد المعبودات المتعاطفة مع حورس ضمن مجمع الأرباب بالقتل بواسطة صولجان ضخم يمتلكه و يزن 4500 دبن و بحيث يقتل به واحدا منهم كل يوم .
4 – ورد ضمن نصوص الفصل رقم 175 من كتاب الموتى إشارة مشابهة للنقطة السابقة مفادها أن الرب الخالق آتوم قد قام بحجز و حبس ست حتى لا يثير مزيدا من الفزع بين الأرباب
5 – تم تفسير سبب طرد الهكسوس من مصر على خلفية و ضوء أسطورة حورس و ست التي تم تعديل بعض معطياتها مع بدايات عصر الدولة الحديثة . فقد ظهر المعبود ست بملامح و صفات آسيوية في النصوص المصرية التي تنتمي لبدايات ذلك العصر و لا سيما و بعد إتخاذه كرب رسمي للدولة خلال عصر الإنتقال الثاني من جانب الهكسوس الذين إستقروا في الشمال . فقد كان ست ربا للهكسوس فأصبح بذلك آسيويا وفقا للمعطيات الأيدولوجية الدينية المصرية التي وصفته بأنه يميل للعنف و يهدف للتوسع و غزو مصر . إلا أن ذلك لم يكن يعني بأي حال من الأحوال أنه كان يمثل صورة سلبية مطلقة فقد تم إستيعاب و هضم الآسيوي الأجنبي الغريب بواسطة المعبود ست ، حيث تم ترويضه و إخضاعه لسيطرة حورس ( الملك الشرعي لمصر في الأسطورة المصرية ) و من هنا لم يعتبر ست رمزا للتشيطن المطلق ، بل هو يمثل العالم الآسيوي الذي سيطر عليه الملك المصري بواسطة ست خلال عصر الدولة الحديثة .
و بعد عرض ما تقدم يمكن أن نضيف أيضا نتيجة هامة :
برغم ظهور المعبود ست أحيانا في صورة سلبية ، إلا أنه تمتع بالحظوة و الرضا الدائمين لدى ( رع ) بإعتباره الرب الأوحد الذي يستطيع بحربته الضخمة و هو يقف على مقدمة المركب الليلية لرب الشمس أن يقهر و يقمع عدو الشمس الفوضوي الأزلي أبوفيس و هو ما تجلى أيقونوجرافيا ( تصويريا ) في كتب العالم الآخر منذ بداية عصر الدولة الحديثة على جدران وادي الملوك في طيبة الغربية
و هو ما يعكس ميل كهنة الشمس في هليوبوليس - و ربما بسبب التأثير المباشر لأنصار المعبود ست في اللاهوت شمسي – خلال عصر الدولة الحديثة لإضفاء دورا إيجابيا على ذلك المعبود بوصفه المحافظ على النظام الكوني العالمي المرتبط بإستقرار النظام و الحكم الملكي في مصر .
و على أية حال ظهرت محاولة لعزل المعبود ست في عصر الدولة القديمة من التاسوع الشمسي حيث يظهر في متون الأهرام أحيانا ببعض السمات السلبية فضلا عن عدم ظهور دور واضح له تجاه قرينته ( نفتيس ) التي توصف بأنها أخت المعبود أوزير التي قامت بالإشتراك مع أختها ( إيزيس ) في عمل شعائر النحيب و البكاء و إعادة البعث و الإحياء لأخيهما أوزير في حين أن ست لا يظهر له أي دور واضح مع قرينته الأمر الذي يعكس قيام طائفة من كهنة الشمس خلال عصر الدولة القديمة بمحاولة لعزله و نبذه من التاسوع الشمسي و رغم كل ما سبق كان وجوده في مجمع الأرباب المصري القديم أمرا لا غناء عنه ، فهو يحقق التوازن بين فعاليات قوى النظام المستقر أو المثالي و بين قوى الفوضى و عدم الإستقرار .
و بمعنى آخر كان هو طرف المعادلة الآخر لتوازن قوى و معطيات البيئة الطبيعية على أرض مصر ، فإذا كان المعبود أوزير على سبيل المثال يمثل الطبيعة الخيرة الرزينة و المعطائة المتمثلة في طين الأرض و خصبها و وفاء النيل بفيضانه العظيم فإن ست في نفس المعادلة يمثل الجانب الآخر المقابل من شراسة و غضبة قوى هذه الطبيعة و لم لا ؟ ألم يكن منذ بداية ظهوره على مسرح الأحداث ربا للرياح العاتية و الأعاصير الرملية القوية و الصواعق المرعبة .
إن أهم ما لفت إنتباه الدارس تجاه الصورة الأسطورية للمعبود ست هو الفصل رقم 175 من كتاب الموتى ( الذي يرجع لعصر الدولة الحديثة ) حيث ورد فيه حوارا فريدا بين كل من المعبودين آتوم و أوزير الذي يطلب بإلحاح من آتوم أن يقوم بإحضار ( با ) روح ست إلى العالم الآخر حتى يقوم ( أوزير ) بالقضاء عليه و لكن آتوم يراوغه في تحقيق ذلك الطلب قائلا له :
" إنني قد تدبرت أمره ( أي ست ) و سوف يتم حبس بائه ( روحه ) على المركب الشمسي " و هنا يتبين لنا الأمور التالية :
1 – أن كهنة أوزير لم يتمكنوا من القضاء على عبادة ست و نفوذ كهنته و أنصاره خلال عصر الدولة الحديثة .
2 – أن اللاهوت الشمسي كان حريصا أشد الحرص على إبقاء المعبود ست في مركب الشمس حتى يدافع عن رع من مخاطر العالم الآخر دون أن يتم إلحاق الأذى بست من جانب أوزير و لا سيما و أنه ( ست ) قد هبط للعالم الآخرالذي يعتبر مملكة المعبود أوزير و المسيطر الرئيسي على كل مخلوقاته .
3 – أن وجود ست في المركب الشمسي ليس إلا مجرد حبس لطاقاته و فاعلياته التي يستفيد منها آتوم خلال رحلته الأخروية ، فلا يخرج منها أبدا و لا يتم تصويره خارج نطاق هذه المركب و هنا ينبغي لنا أن نشير إلى أن ملوك عصر الرعامسة إعتبروا أنفسهم صورة ست في مركب الشمس حيث يقومون بدحر و قمع أعداء مصر الفوضويين من خلال تمثلهم بذلك المعبود في ساحة القتال ، فالملك هنا هو ست المدافع عن النظام الشمسي العالمي في مركبه و المقاتل لخصوم البلاد الذين يتشبهون بثعبان الفوضى الأزلي أبوفيس .
أثارت مناظر ذبح و قتل ست على جدران المعابد المصرية و لا سيما في عصر الدولة جدلا كبيرا بين الباحثين . فهل المعبود ست يتم قتله فعليا و ذلك على النقيض من الصورة التي رسمت له في متون الأهرام بوصفه المعبود الأوحد الذي تميز صراحة بأنه الذي تمكن من الهروب من الموت ؟
و برغم وجود بعض المناظر التراثية الأيقونوجرافية ( التصويرية ) المتصلة بمفهوم توجيه العقاب للمعبود ست و لا سيما المنظر الشهير الذي تم تصويره على جدران صالة الأعمدة الكبرى في الكرنك حيث يتم ذبح غزال يعبر عن ست بواسطة الملك و يصف النص المرافق للمشهد أنه عندما قام الملك بذبح الغزال إسترد ( عين حورس ) الضائعة و في ذلك إشارة لمتن قديم من متون الأهرام التي نصت صراحة على أن حورس ( الملك ) هزم و ذبح ست و إسترد عينه التي كانت قد إنتزعها ست منه سابقا .
إن مشهد ذبح الغزال في صالة الأعمدة الكبرى في الكرنك و الذي يتوافق مع نص الدولة القديمة يعكس حقائق هامة تمثلت فيما يلي :
1 – أن إسترداد حورس ( = الملك ) لعينه التي إنتزعها ست منه يعني حيازته للسلطة الملكية التي إنتزعها من ست في السابق و إضفاء الشرعية على حكم الملك بوصفه حورس الوريث الشرعي الفعلي للبلاد و قطع أي محاولة تماما على كهنة الإله ست الذين زعموا بأن ست إنتزع عين حورس ( = السلطة الملكية الشرعية ) فذبح الغزال يهدف إلى شل قدرته على إغتصاب السلطة الملكية من الوريث الشرعي الفعلي للبلاد ( حورس ) .
2 – وفقا لما ورد في نص الدولة القديمة قام حورس بذبح ست في أحراش الدلتا مما جعل ملوك الرعامسة و كهنة الكرنك يشيدون صالة أعمدة كبرى تحتوي على نباتات البردي في أحراش الدلتا حيث المكان الذي إختبأ فيه حورس و توج هناك و قضى على ست و من هنا ندرك أهمية تمثيل ذلك المشهد على الجدار الجنوبي الغربي لصالة الأعمدة فهو يدخل في نطاق أيدولوجيا إضفاء الشرعية السياسية على ملوك الرعامسة داخل تلك الصالة و من خلال تتويجهم فيها بعد قيامهم بشعيرة ذبح الغزال و إسترداد عين حورس .
3 – برغم أن الغزال يعبر من خلال هذا السياق عن المعبود ست إلا أنه لا يمثل صورة ست المعهودة و المتعارف عليها ، فهذا المنظر يمثل ممارسات طقسية أكثر منها تعبيرا عن عقاب فعلي و كذلك الأمر في معظم الحالات التصويرية الأخرى المماثلة فإن المعاقب هنا في معظم الأحيان ليس ست بذاته ( و لاسيما حتى نهاية عصر الدولة الحديثة ) ممثلا في هيئته التجسيدية المقدسة المتعارف عليها و إنما هي رموزه الحيوانية الحلولية ( أي التي حلت محله ) مثل الحمار ، الخنزير ، فرس النهر ، التمساح ، الغزال ، الظبي ... إلخ فهي التي تطعن و تقيد و تضرب أو حتى تذبح بل و في أحيان أخرى تدفن و هي على قيد الحياة ، و ربما كانت أشهر الأمثلة على هذه الحالة الأخيرة هي حفائر كلية الآثار التابعة لجامعة القاهرة بقيادة دكتور علي رضوان في منطقة أبوصير و التي كشف فيها عن ثلاث حمير ( أحد الرموز التصويرية الرئيسية للمعبود ست ) ردمت أقدامها في الرمال و هي على قيد الحياة ، ثم ضربت على رؤوسها لتموت و هي في وضع الوقوف و بما أن تأريخ هذه الدفنة وفقا لبعثة جامعة القاهرة يرجع لعصر الأسرة الأولى فهنا يمكن لنا أن نطرح التساؤل التالي : هل يمكن إعتبار هذه الدفنة ترجمة عملية لطقسة مبكرة تعبر عن إهلاك ست الشعائري ( و ليس شخص المعبود ذاته ) وفقا لما ورد في متون الأهرام و بعض المناظر التي سجلت و نقشت على جدران المعابد المصرية القديمة ؟
و مما لاريب فيه أن هذه المقدمة كانت ضرورية قبل تناول موضوع المقال المتمثل في ماهية المعبود ست الأسطورية خلال العصور المتأخرة و محاولة فهم التغيرات التي طرأت على أدواره في تلك المرحلة المتأخرة زمنيا من الحضارة المصرية القديمة . و قد تناول الدارس في مقال سابق أسطورة النزاع بين حورس وست التي إهتم ملوك الأسرة الخامسة و العشرين بكتابتها ( لمزيد من التفاصيل أنظر أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر ) على اللوحة الشهيرة التي تناولت مذهب الخلق في منف و التي ظهر من خلالها المعبود ست في الملامح التالية :
1 – أن المعبود ست لم يلجأ لإستخدام العنف من أجل حل النزاع بينه و بين حورس و ذلك على الرغم من تراجع المعبود جب ( رب الأرض ) عن قراره الأول الذي كان بموجبه قام بتقسيم مصر إلى مملكتين واحدة في الشمال يحكمها حورس و الأخرى في الجنوب يحكمها ست ، فلما تراجع عن قراره و أعطى ملكية الأرضين لحورس لم يظهر أي رد فعل سلبي من جانب ست على الإطلاق وفقا لمعطيات نص هذه الأسطورة بل يظهر ست و كأنه يمتثل للقرار
2 – تصالح ست مع حورس و أقام معه سلاما نهائيا حتى بعد أن آلت السلطة الملكية كلها للوريث الشرعي الوحيد ( حورس ) و لا شك أن صدى هذه الفكرة تضرب بجذورها أيضا في متون الأهرام منذ عصر الدولة القديمة فقد أشارت هذه المتون أنه و بعد إنتصار حورس على ست أخضعه لسلطته و تصالحا .
3 – ظهر ست في هذه الأسطورة و هو يمثل القوة و البأس و الشدة و ذلك على النقيض من حورس الذي يمثل الشرعية و القانون  عندما يندمج حورس مع ست و يتصالح معه ذلك يعني أن القانون يتصالح مع القوة
4 – ست لا يمثل منذ البداية مفهوم سلبي أو شيطاني فهو القوة اللازمة لأي ملك حاكم لتنفيذ القانون فلا قانون دون وجود قوة و العكس صحيح كما نجد من ناحية أخرى أن الشرعية عندما تعود لحورس فذلك يعني إخضاع القوة لكي تصبح في خدمة القانون فأي قوة دون وجود قانون يعني تحولها لقوة غاشمة و باطشة مما يعني فساد العالم و إنحلاله و أن مصر لن تصبح قابلة للمعيشة و السكن
من هنا نرى أن ست في بداية العصور المتأخرة كان يمثل القوة و البطش و الشدة و أحيانا الفوضى التي لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها ، بل ينبغي السيطرة عليها و إخضاعها لصالح السلطة الملكية الشرعية الأمر الذي يؤكد أن مذهب الخلق في منف لم يهدف لتصوير ست كشيطان أو كرمز للشر المطلق بل يسعى لإبراز لهيمنة حورس على ست من أجل إتمام التصالح و التآخي .
و قد إستمرت هذه الأسطورة خلال العصر الصاوي ( الأسرة السادسة و العشرين ) إلا أنه قد حدث تغير كبير في صورة المعبود ست خلال الغزو الفارسي لمصر في عصر الأسرة السابعة و العشرين حيث وجهت له و لأول مرة تهم صريحة لم تكن معروفة في السابق ، فظهر في هيئة الغازي الفارسي البغيض و الذي تم طرده من البلاد بعدما إنتصر عليه حورس فنقرأ على لسان المعبودة إيزيس التي ترفع شكوى أمام رب الشمس رع حور آختي قائلة له :
" يا رع حور آختي أيها السيد الواحد الذي ليس له مثيل الذي يصدر الأوامر فيعمل البشر بأوامره و أنت الذي خلقت لوائح العبادة للآلهة و أرشدت الملك في قصره .... أنظر ، هذا ( ست ) قادما كالمتمرد متجها نحو مصر مرة أخرى ليقوم بالسلب و النهب مع أنصاره و هو يحاول الآن أن يستولي على البلاد بقوة و بنفس طريقته السابقة التي غزى بها البلاد ... لقد قام بتحطيم المعابد ! و أطلق صرخاته فيها ... أنظر ها هو يقتحم السرابيوم و يقوم بعمل تمرد في منف و لقد جلب إشمئزاز آتوم في معبده ... لقد إنطلق بمجون و أطلق صرخاته في معبد آمون و أشعل الحرب في البلاد و أقام مذابح في مصر ... فليكن إنقلابا عليه ، إذا أمرت يا رع بذلك "
يتبين لنا من هذا النص الأسطوري هذه الحقائق الهامة و هي :
1 – لم يعد هناك تصالح بين حورس و ست مثلما ظهر في نص مذهب الخلق في منف الذي يعود لبداية العصور المتأخرة و يضرب بجذوره في متون الأهرام التي ترجع لعصر الدولة القديمة ، بل يرتكز الحديث هنا على أن المعبود ست المجسد في صورة المحتل الفارسي قام بغزو مصر و إقتحم مع حلفائه البلاد لكي يخرب و يدمر معابدها و هو أمر لم نعهده من قبل في تكوين الصورة الأسطورية للمعبود ست من قبل .
2 – يتخذ ست في هذا النص معالم الغازي الآسيوي الذي يسعى بكل قوته لعزل حورس ( و هو الملك المصري الشرعي ) عن العرش فيطلق قوته المعهودة و وحشيته اللاقانونية ضد المعابد و آلهتها فيأكل الحيوانات المقدسة و يستبيح المحرمات و يمنع تقديم القرابين و يحرم إقامة الأعياد لمعبودات مصر  
3 –يهدف هذا النص لإعلان نهاية العالم و خراب الكون إذا لم يتخذ المعبود رع حور آختي الإجراءات اللازمة لصد ست و الإنقلاب عليه و مواجهة شروره التي يسعى لنشرها و من هنا ندرك تلك الحملة التي شنها كهنة مصر في العصور المتأخرة داخل المعابد المصرية القديمة حيث قاموا بكشط صور المعبود ست من مناظر المعابد و المقابر ( على سبيل المثال لا الحصر تم كشط مناظر المعبود ست من تاسوع طيبة على جدران الكرنك )
و لهذا السبب ظهرت مجموعة من المشاهد المتعددة في العصرين البطلمي و الروماني على جدران المعابد المصرية تصور ما يلي :
1 – مناظر ذبح الأعداء و هي عبارة عن طقوس تزخر بها معابد دندرة و إدفو و فيلة فصور الفنان أعداء مصر و قد أوثقت أيديهم خلف ظهورهم وفي بعض الأحيان تم تصويرهم مقطعي الرأس و نجد الملك و هو يخاطب المعبود حورس في معبد إدفو قائلا له :
" لقد سقط ست تحت نعالك " و هي عبارة إستجدت في العصرين البطلمي و الروماني لكي تؤكد على هزيمة و دحر أعداء البلاد المتقمصين لشخصية المعبود ست عدو مصر الحقيقي
2 – مشاهد ذبح و حرق الحمار و هي الطقوس التي ظهرت تحديدا في المقاصير الأوزيرية الخاصة بتحنيط و بعث و إعادة إحياء المعبود أوزير داخل تلك المعابد و لذلك وجب حمايته من ست و لذا تم تصوير الحمار و هو يلقى مصيرا قاسيا حيث يتم حرقه و الهدف من ذلك هو : منع ست من أن يعترض طريق الإله فيجب التخلص منه تماما فلا يبقى فيه ذرة حياة و لذا نجد الملك في مقاصير أوزير في معبد دندرة يقول : " أقضي على الحمار و أمنع وصول الهواء إلى جسده " و هنا يختلف الدارس مع بعض الباحثين الذين إعتبروا مشاهد ذبح و حرق الحمار في العصرين البطلمي و الروماني مجرد شعائر لم تهدف للقضاء على ست نفسه ، فهنا ( في العصرين البطلمي و الروماني ) أصبحت رموز و أشكال ست تعبر عنه شخصيا و فعليا و ربما كانت وجهة النظر هذه صحيحة فقط قبل الإحتلال الفارسي لمصر .
3 – نلاحظ من ناحية أخرى أن مشاهد ضرب و ذبح حيوانات ست تعددت من حيث الكم و الكيف في معابد العصرين البطلمي و الروماني و هي مشاهد لم تظهر مثلا في معبد أبيدوس الذي يرجع لعصر الدولة الحديثة و المكرس للمعبود أوزير ،  فكان من الأجدر أن يتم ضرب و ذبح حيوانات و رموز ست في ذلك المعبد أو في مقبرة أوزير الشهيرة المعروفة بإسم الأوزيريون مما يعكس فارق جوهري بين شكل ست في عصر الدولة الحديثة و بين صورته الأسطورية في ما بعد عصر الإحتلال الفارسي .
4 – مناظر ذبح و قتل فرس النهر في إدفو و هي الطقوس التي أكدت على أن ذلك الحيوان هو تجسيد حقيقي و فعلي للمعبود ست في إدفو فلا يستطيع أحد القضاء عليه سوى الملك بقوته الخارقة و هنا يتحدث الملك عند قيامه بهذه الشعيرة قائلا : " أذبح فرس النهر بأفعاله الشريرة فلا وجود له بعد الآن ، و لتسعدوا و لتهللوا أيها الفلاحون الطيبون " و لاشك أن هذه العبارة الأخيرة تعكس قلق الفلاحين المصريين من ذلك الحيوان الذي يلتهم البذور و النباتات و الخضراوات في الحقول و هو ما يعني من ناحية أخرى إستجابة معظم الفلاحين المصريين لأسطورة الكهنة في العصرين البطلمي و الروماني فيما يتعلق بخطورة و شر و طغيان ست الذي يسعى لتخريب حقول و مزارع مصر .
و من جانب آخر تحدثت المصادر الإغريقية في العصر البطلمي عن أن المصريين إعتبروا أن هناك علاقة تجمع بين ست العدو الديني و السياسي لمصر و بين اليهود . ثم جاء بلوتارخ في مرحلة زمنية لاحقة و تحدث في الفصل رقم 31 من مؤلفه ( أسطورة أوزير و إيزيس ) عن أن ست :
" هو ( الأب الأول ) لليهود وفقا لما يقوله المصريون و لقد تم طرده من مصر و ظل مشردا خارج البلاد لمدة سبعة أيام ، ثم قام بعدها بإنجاب إبنين له هما هيروسيما و يهوذا "
إن هذا النص الأسطوري ذو الطبيعة الشعبية يعكس إندماج ست بصورة اليهود في مرحلة الشتات و في مرحلة تأسيسهم لمملكة يهوذا في فلسطين في العصور المتأخرة للحضارة المصرية القديمة .
و لاشك أن الرعب الذي هيمن على المصري القديم في العصور المتأخرة قد تجسد في صورة عنف الغزاة القادمين عبر الصحراء و المأمورين من ست لتدمير مصر ، و نرى ذلك في صورة نص شعبي آخر ينتمي للعصر الروماني حيث يتنبأ بمحاولة غزو أخرى للبلاد من خلال اليهود المتمثلين في ست و تظهر المعبودة إيزيس من خلال ذلك النص كغريمة لليهود و لربهم ست فنقرأ على سبيل المثال :
" لقد تم طرد اليهود من مصر سابقا بأمر من إيزيس ، إهجموا على اليهود لأنهم بشر عديموا الآلهة ، فهم ينهبون المعابد بزعامة ست "
و هنا يمكن لنا أن نستنبط الحقيقتين التاليتين :
1 – وفقا لمعطيات النص المصري تحول المعبود ست لكي يصبح ربا لليهود و ليس ربا للمصريين و لم يعد ست هنا كما كان في السابق المدافع عن رب الشمس رع في مركبه الشمسية في العالم الآخر و الذي كان يقوم بطعن ثعبان الفوضى الأزلي أبوفيس و الذي كان يهدد المركب ذاتها .
2 – لا يمكن أن يكون مثل هذا النص الأسطوري قد تم إنتاجه في فراغ ، فلا فكر دون واقع و لا واقع دون فكر فكلاهما يؤثر في الآخر بالتبادل و بمعنى آخر أن الحروب المتعددة التي إندلعت بين المصريين و اليهود في العصر الروماني و لاسيما خلال القرن الأول الميلادي تركت تأثيرا أكثر سلبية على صورة المعبود ست الذي إتحد باليهود وفقا لأيدولوجيا كهنة و شعب مصر مما جعله رمزا كاملا للتشيطن و الشر المطلق في مرحلة متأخرة من التاريخ المصري
و هنا و قبل أن نختتم هذا المقال ينبغي أن نشير إلى أن نزعة التوجه السلبية ضد المعبود ست في العصور المتأخرة بدأت إرهاصاتها الأولى عند الغزو الفارسي لمصر ولاريب أن الجالية اليهودية التي كانت مستقرة في إلفنتين قد ساعدت على تأجيج هذه الكراهية و لاسيما و أن رئيس المستوطنة العسكرية اليهودية هناك كان قد أرسل لحاكم أسوان يذكره بأن الملك الفارسي قمبيز قام بتحطيم جميع المعابد عند إحتلاله لمصر ما عدا معبد ( يهوا ) اليهودي في إلفنتين ، الأمر الذي يعكس وجود تضامن و تعاون بين الفرس و اليهود ضد المصريين و كان هذا التضامن يشكل نقطة حاسمة في تكوين صورة سيئة ضد ست الذي تحول بدوره إلى رب الأجانب الغزاة ( الفرس و اليهود ثم الحكام البطالمة و اليونان و الرومان فيما بعد ) و هو الأمر الذي تم ترجمته عمليا في المعابد المصرية التي تنتمي لزمن الإحتلال البطلمي و الروماني من خلال طقوس العنف الموجهة ضد ست .

الثلاثاء، 12 فبراير 2013

منظر مقبض سكين متحف المتروبوليتان


بسم الله الرحمن الرحيم 

 منظر مقبض سكين متحف المتروبوليتان 



( منظر مقبض سكين متحف المتروبوليتان ) - يعتبر منظر مقبض سكين المتروبوليتان من أهم المناظر التي نقشت خلال عصر الأسرة صفر و هي الفترة التي كانت تشهد توحيد البلاد سياسيا و لأول مرة و نلاحظ هنا أن المقبض يحتوي على مشهدين تم نقشهما على وجهي المقبض نفسه . و من خلال مشاهدة الوجه الأول للمقبض ( المنظر العلوي ) نلاحظ ما يلي 
1 - مجموعة من المراكب ( عددها أربعة فيما هو تبقى من المشهد ) المبحرة و قد تم تصويرها على مجموعتين فوق بعضهما البعض . 
2 - ظهر في الصف السفلي لهذه المراكب شكل لرجل مميز يرتدي عباءة و له ذقن و من المحتمل أنه تصوير لأحد زعماء الأسرة صفر . 
3 - ظهر في الصف العلوي تصوير لمركب مميزة تحتوي على مجداف فضلا عن أن مؤخرتها إتخذت شكل مقارب للدرج ؟ كما ظهر فيها تصوير لمقصورتين أو كابينتين ، واحدة أكبر من الأخرى ، و ربما كانت إحداهما مخصصة للزعيم و الأخرى لمعبود بعينه . 
4 - و عند منتصف الصف العلوي تقريبا يظهر تصوير لشكل مميز لنبات أو أحراش الدلتا ( لا يظهر الشكل الكامل و المميز لهذه الأحراش و لكن بمقارنة ما تبقى من هذا الشكل مع ما تم تصويره لنفس الشكل على مقبض سكين الملك العقرب و صلاية نعرمر تبين لنا أنه بقايا تصوير لأحراش الدلتا و نبات البردي ) 
5 - و عند منتصف التصوير السفلي يظهر تصوير المقصورة ( أو معبد ) القومية لمصر السفلى و هي التي عرفت بلفظ ( البر نو ) خلال العصور التاريخية و كانت الرمز الأكثر شهرة للتعبير عن مدينة ( بوتو ) في الشمال . 
فهل هذا المنظر بأكمله يدل على زيارة أحد زعماء الأسرة صفر بمركبه لمعبد مدينة بوتو في الشمال ؟ و ما هو الغرض من هذه الزيارة ؟ 
أما على الوجه الثاني للمقبض ( المنظر السفلي ) نلاحظ ما يلي : 
1 - مجموعة من كبار الأفراد تم تصويرهم و هم واقفين و يتجهون ناحية مبنى أو منشأة مميزة تنتهي عند قمتها بالشكل المميز للكورنيش المصري . 
2 - يمسك كل واحد من هؤلاء الأفراد بالصولجان ( حقا ) في اليد اليسرى و صولجان ( الواس ) باليد اليمنى و الذي يكشف عن هويتهم كزعماء محليين لمدن أو مقاطعات خلال عصر الأسرة صفر . فضلا عن تصوير كل منهم باللحية المميزة لهيئة الزعماء . 
3 - ظهر في الصف السفلي تصوير لمجموعة من الأسرى الجالسين و يتقدمهم فرد واقف و يتجه ناحية نفس المنشأة . 
4 - يتضح من شكل المنشأة المصورة على هذا المشهد أنها واجهة كوخ أو قصر لزعيم أو ملك كما يظهر ورائها شخص آخر يعتقد البعض أنه زعيم القصر الذي يتجه إليه كلا من الزعماء المحليين و الأسرى . 
يتبين لنا مما تقدم هذه الحقائق الهامة : 
1 - مقبض سكين المتروبوليتان هو أقدم مشهد قصصي معروف في الحضارة المصرية القديمة و يحكي عن حدث تاريخي فعلي خلال عصر الأسرة صفر . فما هو المقصود بعبارة المشهد القصصي ؟ المقصود بالمنظر القصصي أن يحتوي على السمات التالية : 
أ - أن يدل المشهد على حدث واضح و فريد من نوعه ( فهنا نجد زيارة لمعبد البر نو في بوتو كما نجد زيارة أخرى لقصر الزعيم ) 
ب - أن يدل المشهد على أبطال مشاركين في الحدث بشكل واضح ( فهنا نجد زعيم محلي في الوجه الأول و هو متجه لزيارة معبد بوتو كما نلاحظ وجود الزعماء المحليين المتجهين ناحية القصر في الوجه الثاني للمقبض فضلا عن الأسرى الذين يقودهم فرد آخر ) 
ج - أن يدل المشهد على أماكن واضحة ( فنجد هنا معبد بوتو - و أحراش البردي في الدلتا و واجهة القصر أو الكوخ ) 
2 - إن تمثيل الزعماء المحليين في الوجه الثاني للمقبض و هم متجهين لقصر يدل على أنهم خاضعين لسلطة الزعيم الأكبر و ربما كان ذهابهم له يدل على تأكيد البيعة و الولاء له كزعيم أو ملك مسيطر على المناطق التي ينحدرون منها . 
3 - إن تمثيل الأسرى يدل على إخضاع عسكري لمجموعة من الأفراد الذين رفضوا الخضوع لسلطة الزعيم الأكبر و ربما كان الزعماء المحليين المصورين فوقهم هم من قاموا بإخضاعهم و إحضارهم حتى قصر الزعيم الأكبر 
4 - إن هؤلاء الزعماء المحليين هم من سيظهرون في نهاية عصر الأسرة صفر بلقب ( شمسو حور ) على مقبض الملك العقرب و صلاية نعرمر و يعني هذا اللقب ( أتباع حورس ) و هم عبارة عن زعماء المناطق و المقاطعات المحلية الذين آزروا و ساندوا ملوك الأسرة صفر ( الذين إتخذوا من المعبود الصقري حور ربا لهم فخرجوا تحت رايته لتوحيد البلاد ) خلال عصر هذه الأسرة لتوحيد مصر سياسيا و لأول مرة 
5 - كشف هذا المنظر عن وجود نظام أشبه بالنظام السياسي الفيدرالي الذي يتكون من مجموعة من التحالفات السياسية لمقاطعات و مدن مصر مع بعضها البعض و الخاضعة لزعامة كبرى فنلاحظ أنه يتم الإعتراف بهذه الزعامات المحلية بتصوير كل زعيم بشاراته الملكية إلا أنها تخضع في النهاية لسلطة واحدة و هي سلطة القصر الذي يسكنه الزعيم الأكبر أو الملك الذي لا نعرف هويته بالتحديد . 
6 - ربما كان هذا الزعيم الأكبر هو من تم تصويره على الوجه الأول للمقبض حيث يتجه لزيارة مقصورة البر نو و هي معبد بوتو حتى يكتسب منها شرعية حكم مصر السفلى و هو ما يذكرنا بنفس الملامح التي ظهرت فيما بعد في مرحلة متأخرة من عصر الأسرة صفر على مقبض الملك العقرب الذي تم تصويره بنفس العناصر السابقة لتأكيد شرعيته في أرض الدلتا بزيارته لمعابد بوتو بل و بتأسيس معبد جديد هناك 
7 - هل يمكن لنا أن نستشف من تصوير مقبض سكين بروكلين إرهاصات أولى لوحدة سياسية مصرية تحت زعامة واحدة سبقت عصر الملوك ( التمساح و إري حور و كا و العقرب و نعرمر ) خلال فترة مبكرة من الأسرة صفر ؟

أقدم قائمة ألقاب ملكية فى الحضارة المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

أقدم قائمة ألقاب ملكية فى الحضارة المصرية القديمة



( أقدم قائمة ألقاب ملكية فى الحضارة المصرية القديمة ) .........هل تعلم أن أقدم قائمة ألقاب ملكية فى الحضارة المصرية القديمة ترجع إلى عصر الأسرة الأولى ؟ .... إكتشفت البعثة الألمانية فى أم الجعاب أقدم قائمتى ألقاب ملكيتين و هما عبارة عن طبعتا ختم ، واحدة منهما إكتشفت فى مقبرة الملك ( دن ) و كانت تحمل أسماء أول خمس ملوك موثقين فى الحضارة المصرية و هم : نعرمر آخر ملوك الأسرة صفر و حور عحا أول ملوك الأسرة الأولى ثم الملوك جر و جت و دن و أم الملك دن التى كانت وصية عليه و هى مريت نيت أما طبعة الختم الأخرى فقد تم إكتشافها فى مقبرة الملك قاعا - آخر ملوك الأسرة الأولى و تميزت أنها سجلت جميع أسماء ملوك هذه الأسرة بداية من نعرمر و حتى قاعا مما يعنى عدد من الحقائق الهامة :
1 - لم يمثل حجر بالرمو الذى يرجع لعصر الأسرة الخامسة أقدم قائمة ألقاب ملكية فى الحضارة المصرية القديمة
2 - إهتم المصري القديم بتدوين أسماء الملوك و منذ بدايات التاريخ المصري لأسباب طقسية شعائرية ، فكانت أسمائهم تدل على وجود عبادة منتظمة لهم فى جبانة أبيدوس و لا سيما فيما يعرف بالمعابد الجنزية التى تم إكتشافها هناك بجوار مقابر الملوك
3 - إرتبطت أسماء الملوك على القائمتين بصورة المعبودين حورس و خنتى امنتيو ، فكان الملك هو تجسيد لصورة حورس على الأرض فى دنياه و تجسيد لخنتى إمنتيو ( أول الذين فى الغرب ) فى العالم الآخر و قبل أن يسيطر المعبود أوزير على جبانة أبيدوس و يحتل مكان خنتي إمنتيو
4 - تجاهل المصري القديم أسماء ثلاث ملوك على الأقل ينتمون لعصر الأسرة الأولى أثبتت لهم الآثار وجودهم فى مناطق أخرى من مصر مما يعكس إحتمالية وجود صراع على العرش منذ تلك الفترة و ربما وجود ملوك مغتصبين للعرش
5 - لم تكن قامة ملوك ختمى أم الجعاب مادة لكتابة التاريخ و إنما هى أداة لتثبيت أسماء الملوك الشرعيين و أحقيتهم لما يعرف بعبادة الأسلاف
6 - هل كان نعرمر آخر ملوك الأسرة صفر كما يرى البعض ؟ أم هو أول ملوك الأسرة الأولى كما يرى البعض الآخر ؟ ... إن وجود إسمه مع ملوك الأسرة الأولى فى القائمة الثانية يرجح أنه ربما كان أول ملوك الأسرة الأولى و أن خطوة التوحيد النهائية لمصر قد تمت على يديه
7 - لماذا إستهلت القائمتان الملكيتان إسم الملك نعرمر كنقطة بداية ؟ و لم تذكر إسم الملك العقرب ؟ هل لم تكن للعقرب عبادة جنزية فى أبيدوس ؟ أم أن العقرب لم يكن هو الملك الفعلى الذى قام بتوحيد أرض مصر كلها ، فكان ذلك سببا لعد إتخاذه كنقطة بداية فى القائمتين الملكيتين ؟
8 - ظهور إسم أول زوجة ملكية ( مريت نيت ) على قائمة ألقاب ملكية و الإعتراف بأنها أم الملك دن مما يعنى أنها لم تحكم البلاد كملك مصر العليا و السفلى مثلما كان يظن البعض و أنها هى التى نقلت الدم الملكى و شرعية الحكم لإبنها الملك دن مما يعكس بشكل ضمنى غير مباشر وجود صراع على العرش
9 - تعمد الكاتب أن لا يذكر إسم أول ملوك الأسرة الثانية و هى سمة تكررت فى الكثير من القوائم الملكية التى ترجع للعصر العتيق و لا سيما طبعات الأختام ، حيث كان الكاتب يكتفى دائما بكتابة إسم آخر ملك من الأسرة الأولى أو آخر ملك من الأسرة الثانية كما حدث فى طبعات أختام تعود للأسرة الثانية مما يعنى أن فكرة تقسيم الملوك إلى أسرات قد عرفت فى الوثائق المصرية القديمة و لا سيما طبعات الأختام و لم تكن من إبتكار مانيتون مثلما كان يعتقد عدد كبير من الدارسين و أن قائمة الختم الثانية المكتشفة فى أم الجعاب ضمت جميع ملوك الأسرة الأولى مع بعضهم فى خط واحد
10 - ما الذى جعل الكاتب المصري يضم ملوك الأسرة فى بوتقة واحدة ؟ لماذا إنتهت الأسرة الأولى بالملك قاعا ؟ ذلك يعود لسبب أن آخر ملوك الأسرة الأولى قد تم دفنه مع أسلافه فى جبانة أم الجعاب أما أول ملوك الأسرة الثانية حوتب سخموى قد إختار سقارة لأول مرة كجبانة ملكية ، و علاوة على ذلك فقد كشفت الدراسات الحديثة عن مقر العاصمة الملكية طوال الأسرة الأولى فى ثنى - التى كانت جبانتها أبيدوس ثم إنتقلت مع بدايات الأسرة الثانية إلى منف و لأول مرة . كما يرى البعض أن إسم الملك حوتب سخموى يعنى هدأت أو رضيت القوتان ، قوة المعبود حورس و قوة المعبود ست مما يكشف عن وجود صراع محتمل بين أنصار المعبودين فى أواخر عهد الأسرة الأولى فقام الملك حوتب سخموى بسياسة إصلاح دينية و سياسية بينهما فكان ذلك سببا كافيا لأن يعتبر المصري القديم عهده بداية لأسرة جديدة
11 - إعتمد كاتب قائمة ملوك حجر بالرمو على طبعتى ختم أم الجعاب و ما شابهها من طبعات أختام أخرى كانت متداولة حتى نهاية الأسرة الر ابعة مما جعل كتابة و تسجيل أسماء الملوك على ذلك الحجر فى عصر الأسرة الخامسة أمرا يسيرا
12 - طبعتا ختم أم الجعاب لا تدل فقط على عبادة الملوك الأسلاف الشرعيين و إنما تشير أيضا إلى وجود فرقة إدارية كانت تشرف على الجبانة الملكية حتى تتأكد من عدم سرقة أو إقتحام أى مقبرة ملكية
13 - إن تتابع أسماء الملوك على طبعتى ختم أم الجعاب يدل على حرص المصري القديم فى إبراز فكرة أن كل ملك قد أقام طقوس الجنازة و الدفن لسلفه المباشر مما يعنى أنه هو الذى تلاه على العرش مباشرة فيضفى بذلك شرعية على حكمه
14 - تختلف قائمة طبعتى ختم أم الجعاب فى وظيفتها عن حجر بالرمو ، فطبعتا الختم يمثلان تدوين أسماء الملوك لأغراض عملية شعائرية طقسية و لإضفاء الشرعية أما حجر بالرمو فهو أول تدوين لأعمال الملوك التاريخية و أهم إنجازاتهم و سنوات حكمهم مما يضفى عليها طابع تاريخى أكثر من طبعتى ختم أم الجعاب

الاثنين، 11 فبراير 2013

آنية الملك " كا "


بسم الله الرحمن الرحيم 

آنية الملك " كا "

هي آنية الملك " كا " و هو أحد زعماء الأسرة صفر و الذي من المرجح أنه تولى زمام الأمور في البلاد قبل " العقرب " و " نعرمر " . تم الكشف عن هذه الآنية أسفل الهرم المدرج للملك " إري نتر خت " ( زوسر ) و هي تعتبر أقدم أثر لسلف ملكي معروف حتى بدايات عصر الأسرة الثالثة على أقل تقدير . و ترجع أهمية الكشف عن هذه الآنية ما يلي : 
1 - تم تسجيل إسم الملك عليها في إطار السرخ ( و هو ثاني ملك معروف بعد التمساح يضع إسمه في السرخ ) الذي يعلوه المعبود الصقري " حور " ( و هو المعبود الرسمي لزعماء الأسرة صفر بصرف النظر عن مكان منشأهم الحقيقي ) و الذي توحدت البلاد تحت رايته .
2 - تم رسم و لأول مرة نبات شعار الجنوب و الشمال كإشارة واضحة لأقدم سيطرة معروفة لملك على البلاد بل و يمكن القول أن ذلك هو أقدم تقسيم إداري معروف للجنوب و الشمال ظهر على الآثار المصرية . فهل كانت مصر فعليا تخضع لسلطة ملكية واحدة في عصر ذلك الملك ؟ و هو ما يرجحه عدد لا بأس به من باحثي الأسرة صفر . 
3 - إعتبار الملك زوسر ( إري نتر خت ) أن سلفه القديم ( كا ) أقدم سلف شرعي تولى ملكية البلاد و الإهتمام بإقتناء هذا الأثر كواحد من آثار الأسلاف التي جمعها ( زوسر ) و وضعها أسفل الهرم المدرج إتباعا لقاعدة ملكية مصرية : تقديس آثار الأسلاف و أن من يستولي عليها يصبح هو الوريث الشرعي لملكية البلاد . 
4 - العثور على هذه الآنية أسفل الهرم المدرج جعل عدد كبير من الباحثين يعتقد أنها كانت من ضمن الأدوات الطقسية الخاصة بالعبادة الجنزية للملك " كا " الذي لا يبتعد كثيرا عن مجموعة ( زوسر ) و أنه وفقا لهذا الترجيح ربما كان الملك قد إستقر في منف مقتفيا أثر سلفه الملك أو الزعيم " التمساح " الذي ظهرت له شواهد أثرية قوية ترجح إستقراره في منف و هو ما يعني أن منف كانت كمدينة معروفة منذ عصر الأسرة صفر على أقل تقدير و ربما نشأت كمدينة قبل ذلك العصر طبقا لترجيح بعض الباحثين و وفقا للشواهد الأثرية المكتشفة في مقابر كبار الموظفين في ( حلوان ) و الذين دفنوا هناك قبل عصر الأسرة صفر

الأحد، 10 فبراير 2013

أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر


أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر

إن أسطورة الصراع بين حورس و ست التي نقشت على نص لوحة الملك شباكا في عصر الأسرة الخامسة و العشرين و تناولت فكرة نشأة الدولة بالمعنى السياسي و الديني فضلا عن مفهوم الملكية المصرية تحت زعامة واحدة هي نتاج ديني متأخر و إن حملت في ثناياها على بعض المعطيات الفكرية القديمة . و لكن و قبل أن خوض في تناول ما ورد فيها ، ينبغي هنا أن نشير لأمر هام و هو :
إن الأسطورة هنا لا تتحدث عن وقائع تاريخية فعلية حدثت في زمن قديم و هو زمن ما قبل ظهور الوحدة المصرية و الكيان السياسي للدولة المصرية ، فقد كان هدف الكاتب أن يشير لزمن ما قبل وحدة مصر السياسية و ما حدث بعد ذلك عند توحدها و لأول مرة ، فلا شأن بما ورد في هذه الأسطورة بما وقع فعليا من الناحية التاريخية حتى و إن إحتوت على ( بذرة ) أو ( نواة ) حقيقية ، فهذه النواة تظل مجرد نواة حيث تراكم حولها معطيات أسطورية متعددة تسعى لوضع أهداف بعينها في إطار أيدولوجي ديني سياسي .
و النص الذي نتحدث عنه هو مقطع لغوي ورد ذكره على لوحة الملك شباكا و هو أحد ملوك الأسرة الخامسة و العشرين و قد زعم هذا الملك أنه قد قام بتجديد محتوى ذلك النص و نسخه من جديد على الحجر بعد أن كاد الدود أن يلتهم نسخة النص القديمة التي سجلت على ورق بردي قديم . أما عن أهم ما ورد في ذلك النص و تناول قصة النزاع بين حورس و ست فنجده في الفقرات التالية :
" أمر جب التاسوع المقدس للإجتماع به ، و لقد عمل على منع حورس و ست من الإستمرار في النزاع و فصل بينهما و قام بتعيين ست كملك على مصر العليا إلى حدود المكان الذي تمت فيه ولادته و هكذا قام بتعيين حورس كملك على مصر السفلى إلى حدود المكان الذي غرق فيه أبوه و هكذا وقف حورس في مكان و وقف ست في مكان آخر و قد إتفقا حول الأرضين في منطقة ( عيان ) و هكذا كانت الحدود بين الأرضين . و كان من رأي جب أنه ليس من الصحيح أن تكون حصة حورس مساوية لست و لذلك أعطى جب المعبود حورس ميراث أبيه أوزير و ذلك لأنه هو إبن إبنه و هو المولود الأول "
ثم قام المعبود جب بمخاطبة التاسوع قائلا لهم :
" أنا قررت أن يكون حورس خليفتكم و له فقط الميراث فهو الوارث الذي يرث ميراثي و هنا يعود إلى ( حورس ) إبن آوى من مصر العليا فهذا هو الإبن الذي تمت ولادته ( حورس ) في يوم ميلاد وب واووت ، و عندما ظهر حورس كملك على الأرضين كان ذلك في المكان الذي إتحدت فيه الأرضين عند منف و هذا يعني : أن حورس و ست قد إنسجما و إتحدا بواسطة تآخيهم و ذلك لكي يتم إنهاء النزاع بينهما و هما يتحدان في بيت بتاح و هو ميزان الأرضين ( منف ) و قد حدث أن تمت طقسة إتحاد الأرضين – سما تاوي – عند بوابتي معبد بتاح في منف "
و هنا يمكن لنا أن نستشف مجموعة من النتائج الهامة و هي :
1 – أراد كاتب النص في بداية العصر المتأخر و من خلال هذه الأسطورة المتأخرة زمنيا أن طبيعة النزاع القائم بين حورس و ست هو نزاع ذو طبيعة قانونية و بالدرجة الأولى ، فلا يتم إتخاذ أي قرار إلا من خلال إستدعاء مجمع تاسوع عين شمس و من هنا يتسم الحكم الذي سيصدر من خلال هذا المجمع بالصفة القانونية و الشرعية أما القرار فيظهرهنا أنه كان في يد الإله جب رب الأرض و المسئول الفعلي عن منح الملكية الإلهية و بشكل شرعي و قانوني للوريث الشرعي المعبود حورس الذي يتم وصفه بأنه إبن إبن جب بمعنى حفيد جب و إبن المعبود أوزير
2 – أن هذا النزاع لم يتم حسمه بينهما على الإطلاق بأي شكل يتسم بالعنف أو القوة و رغم ظهور إرهاصات أولى لفكرة عدم حسم النزاع بالقوة في متون الأهرام و منذ عصر الدولة القديمة إلا أن الجديد هنا هو التأكيد و الإصرار على تثبيت هذا المفهوم حيث تؤكد الأسطورة في بداية العصر المتأخر أن النزاع قد تم حسمه بشكل قانوني و شرعي من خلال حكم المعبود جب الصادر أمام مجمع أو محكمة تاسوع عين شمس .
3 – نلاحظ من ثنايا هذه الأسطورة أن المعبود جب إتخذ قرار في باديء الأمر بتقسيم مصر إلى مملكتين يحكمهما ست في الجنوب و حورس في الشمال ثم حدث أن تراجع جب عن قراره الأول و رأى أنه من غير الصحيح أن لا يعطي حورس كلا المملكتين فما هو السبب عن تراجعه في هذا القرار ؟
4 – إن تراجع المعبود جب عن قراره يكشف عن أمرين هما :
أ – في القرار الأول أراد كاتب النص أن يقول أن مصر في مرحلة ما قبل الوحدة كانت تنقسم إلى مملكتين ( و هو ما آمن به المصري القديم طوال تاريخه و لا يوجد أساس تاريخي صحيح لمفهوم وجود مملكتين قبل الوحدة السياسية و هو ما سبق و أن تناوله الدارس في أكثر من مقال سابق ) فنحن هنا نتحدث عن فكرة السلطة المزدوجة لحورس و ست في زمن ما قبل الوحدة بالمعنى الأسطوري
ب – في القرار الثاني يهدف كاتب النص لكي يبرز فكرة مرحلة الحكم الفردي المطلق و الشرعي للمعبود حورس و من خلال الرفض الحاسم و القاطع للسلطة المزدوجة ، فمصر هنا أصبحت كيان سياسي واحد أو مملكة سياسية واحدة بعد أن كانت مملكتين ، فالحكم المزدوج لم يتم ذكره في النص إلا لكي يشطب بعدها .
5 – يكشف نص الأسطورة في بداية العصر المتأخر عن ثلاث مفاهيم أو أفكار أساسية تتمثل فيما يلي :
أ – مرحلة أولى مفترضة ظهر فيها نزاع بين حورس و ست إلا أن هذا النزاع لم يصل لدرجة العنف .
ب – مرحلة ثانية يظهر فيها تسوية هذا النزاع من خلال المعبود جب رب الملكية القديم و رب الأرض الذي منح حورس مملكة الشمال و ست مملكة الجنوب و من هنا يحدث تصالح بينهما .
ج – مرحلة ثالثة و أخيرة و هي المرحلة التي يظهر فيها السلام النهائي الذي حل في البلاد كلها بإتحاد الأرضين أو المملكتين تحت سلطة و هيمنة و زعامة واحدة ، و هي سلطة حورس الوريث الشرعي لملكية البلاد .
6 – تحوي هذه الأسطورة في ثناياها على فكرة أن الإتحاد بين الأرضين أو المملكتين قد تم على شكل معاهدة للسلام بين الطرفين و بالرغم من إستحواذ حورس على الأرضين إلا أن ست يظهر و كأنه قد رضخ لقرار المحكمة الإلهية فلا وجود لأي إشارة عن تمرد قام به ست ضد هذا القرار بل أنه لا يتم عزله و لا إقصائه حيث يظل مندمجا و متعايشا مع النظام الملكي الجديد .
 7 – بالرغم من أن نص الأسطورة يرجع لبداية العصر المتأخر إلا أنها تحتوي على بعض المعطيات الفكرية و الدينية و الأسطورية القديمة التي ظهرت منذ العصر العتيق و الدولة القديمة . فهي هنا تسعى لتذكير القاريء بأن كل ملك يحكم البلاد يعيد أسطوريا و رمزيا قصة إتحاد الأرضين القديمة و عند إعتلاء كل ملك لعرش البلاد يتجسد في شخصه حورس و ست حيث يتصالحان و يتآخيان عند صعوده للعرش فيحكم البلاد بأكملها بعد أن كانت منقسمة إلى مملكتين و يبدأ في إجراء طقسة سما تاوي – توحيد الأرضين ( أنظر مقال سابق للدارس بعنوان المغزى الحضاري من شعيرة سما تاوي ) مع التذكير بأنه لا شأن بكل ما ورد بالحقيقة التاريخية . فالأسطورة لا تسجل ما حدث فعليا في الماضي الأول ( الماضي الفعلي ) بل تسعى لخلق الماضي الثاني ( الماضي المركب و الذي يتم مونتاجه ) من خلال تأطيره في دائرة أيدولوجية دينية سياسية .
8 – يتحد حورس في نص هذه الأسطورة مع المعبود وبواووت فكلاهما تتم ولادتهما في يوم واحد و قد إعتبرت هذه الفكرة صدى أسطوري قديم ظهر منذ عصر الدولة الوسطى و تحديدا في لوحات الحج لأبيدوس التي ورد فيها أن وبواووت هو الإبن الذي يدافع عن أبيه المعبود أوزير في يوم القتال ، فهنا يظهر وبواووت و كأنه إبن أوزير و الوارث الفعلي و الشرعي لملكية أبيه و بمعنى أدق لم يكن هناك فارق من خلال هذا السياق الأسطوري بين المعبودين حورس و وبواووت .
و هنا يمكن لنا أن نقول أن أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر تشكل نواة قديمة إلا أن هذه النواة كانت دائما ما يتم تركها مفتوحة لأي تطوير أو تعديل ، فالأسطورة المصرية تتسم بالديناميكية و ليست متحجرة أو جامدة . فهي تكشف من ناحية عن أن هذا التصالح قد تم في منف ، بإعتبارها الهوية السياسية و الحضارية و التقليدية لمصر منذ العصر العتيق فالكاتب هنا أراد أن يضفي مصداقية على محتوى و مضمون الأسطورة من خلال إبراز حدث التصالح في مدينة لها أهميتها الحضارية القديمة .
كما تشير هذه الأسطورة المتأخرة زمنيا من ناحية أخرى إلى وجود إفتراض بأن الكيان السياسي لمصر كدولة موحدة هو أمرا مقدرا منذ الأزل ثم تسعى لكي تستند على هذا الإفتراض كشيء موروث و مقدس منذ القدم . و قد رأى عدد كبير من علماء المصريات في السابق أنه من الممكن أن نفهم أو ندرك من خلال هذا النص وجود زخرفة أسطورية لحالة أو واقعة تاريخية حدثت في عصور ما قبل الأسرات ، حيث كانت مصر تنقسم إلى مملكتين و إنتهى الأمر في نهاية فترة ما قبل الأسرات بتكوين إتحاد إنتصر فيه أحد الطرفين ، ثم إنسجم الطرف الخاسر مع المنتصر إلا أن هذه النظرية قد بطلت تماما في علم المصريات و بعدما قد تبين لنا من خلال الشواهد الأثرية أنها فكرة قد إختلقت مع بداية العصر العتيق لتناسب المعطيات الأيدولوجية و السياسية و الدينية للنظام الملكي الجديد .
بينما رأى فريق آخر من الباحثين أن نص أسطورة الملك شباكا يمثل صدى قديم لتطاحن و صراع تاريخي فعلي قد وقع بين مملكتي نقادة و هيراكونبوليس ( نخن ) في الجنوب في عصر نقادة الثانية ( في عصور ما قبل الأسرات ) حيث كانت مملكة نقادة تحت هيمنة المعبود ست و كانت مملكة هيراكونبوليس ( نخن ) تحت سيطرة المعبود حورس . إلا أنه لا يمكن لنا أن نقبل بهذا الطرح لأن الشواهد الأثرية التي تعود لعصور ما قبل الأسرات لا تعكس أي نزاع بين مملكتي هيراكونبوليس ( نخن ) و نقادة بأي حال من الأحوال ، فضلا عن ذلك فقد أماطت الإكتشافات الأثرية اللثام عن أن زعماء مملكة نقادة في الجنوب ( و هي المركز الرئيسي لعبادة الإله ست ) كانوا يحملون لقب ( المنتسب للمعبود حورس ) و لا سيما في الفترة التي كانت البلاد تتوحد فيها سياسيا و فيما يعرف بعصر الأسرة صفر و هو ما يعني بعدم وجود علاقة بين مفهوم الصراع و التفسير السابق
هناك حقائق هامة نستشفها من نص أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر تتمثل فيما يلي :
1 – إن النص و برغم إنتمائه كتابيا لبداية العصر المتأخر ، إلا أنه يبرز فكرة قديمة في محتوى الأسطورة ذاتها و هي : أن حورس يمثل هنا القانون أو الوريث الشرعي الذي تمكن من خلال القانون أن يستولي على حكم البلاد بمفرده . أما ست فهو يعكس مفهوم القوة و البأس و الشدة و هي كلها صفات قد ألحقت بالمعبود ست منذ العصر العتيق أو حتى في عصور ما قبل الأسرات . و عندما يندمج ست مع حورس و يتعايش معه فذلك يعني أن القوة تتصالح مع القانون .
2 – ست منذ البداية لا يمثل مفهوم سلبي أو شيطاني ، فهو القوة اللازمة لأي ملك حاكم لتنفيذ القانون ، فلا قانون دون وجود قوة و لا قوة بمفردها دون وجود القانون بمعنى أدق ست هنا يظهر كأحد الأوجه الضرورية و اللازمة للحكم الملكي و الذي تتكامل وظيفته مع وظيفة المعبود حورس .
3 – عندما تعود الشرعية لحورس ، فذلك يعني إخضاع القوة لكي تصبح في خدمة القانون ، قالقوة إن ظلت دون وجود قانون ستصبح سلبية و تتحول إلى عنف و بما أن العنف لا يمكن أن يكون قانونيا لذلك سعى الكاتب هنا لإبراز فكرة : أن القوة و بعد إخضاعها تصبح في خدمة و تحت أمر القانون ( الشرعية الملكية ) .
و لكن ما هو السبب الفعلي لإعادة كتابة هذه الأسطورة في بداية العصر المتأخر و لاسيما في عصر الملك شباكا ؟
إن هذا النص يقع في إطار سياق أسطوري يبدأ بفكرة أن المعبود بتاح تاتنن هو الخالق الأول و بالتالي يتم إعلان الملكية المصرية في بدء الزمان بوصفها الإختراع الأول للمعبود بتاح تاتنن ، فهو الذي قام بخلق جميع الآلهة ثم قام بخلق آتوم رب عين شمس الذي ورث ملكية البلاد من بتاح تاتنن ( و يعني هذا الإسم بتاح رب الأرض الأزلية الأولى ) ثم يقفز النص عبر أجيال الآلهة التي ورثت الملكية جيلا بعد جيل حتى ينشأ مفهوم النزاع على هذه الملكية بين حورس وست . فالأسطورة هنا توضح كيف تم تقسيم المملكة المصرية بعدما كانت متحدة في البداية و بعدما كان يحكم البلاد إله وحيد ورث الملكية من الذي سبقه ( بتاح تاتنن في البداية ثم آتوم ثم شو ثم جب ثم أوزير ) و بالتالي فكاتب النص هنا يسعى للخروج بفكرة أنه ينبغي إعادة الوحدة مرة أخرى و مثلما كانت عليه من قبل على يد المعبود حورس و من هنا تبرز لنا أهمية الأسطورة من خلال ما جرى قبل و خلال عصر الملك شباكا . فذلك الملك و قبل أن يتولى مقاليد الحكم في البلاد كانت مصر تواجه حالة إنقسام تاريخي فعلي و لاسيما خلال عصر الإنتقال الثالث و بداية العصر المتأخر فقد كان يحكمها مجموعة من الأمراء المحليين من ذوي الأصل الليبي ، و كان كل حاكم يعتبر نفسه ملكا في إقليمه ، و لم يسعى الملك ( بيعنخي ) أو ( بي ) – و هو الملك الذي تولى مقاليد الأمور سياسيا قبل شباكا – إلى توحيد البلاد مرة أخرى ، بل عمل على تثبيت حالة الإنقسام السياسي الذي عرفته مصر خلال عصر الإنتقال الثالث و دون أي تغيير . و هنا تأتي أهمية إنجاز الملك شباكا الذي قام بالخطوة الحاسمة و أعاد توحيد البلاد مرة أخرى و قضى على سلطات الأمراء المحليين من ذوي الأصل الليبي ، و أنشأ من جديد الحكم الفردي المطلق لمصر . كما سعى هذا الملك من ناحية أخرى لإعادة العصر الذهبي للملكية المصرية القديمة و كان يعتبر وثائق الملوك القدامى الذين حكموا مصر في الماضي العتيق من الوثائق الدينية المقدسة التي ينبغي إعادة نسخها من جديد ، فظهر ميله ناحية عاصمة المجد القديم ( منف ) فعمل على إعادة بناء و توسيع هذه المدينة ذات الماضي التليد و جعلها مقرا للحكم الملكي تماما و مثلما كان هذا هو حالها في السابق و لذلك يمكن التأكيد على الأمور التالية :
1 – إن حالة ظهور مصر في الأسطورة كبلد موحد سياسيا و منذ ملكية المعبود آتوم ترمز إلى حالة مصر السياسية كدولة ذات سلطة سياسية واحدة قبل عصر الإنتقال الثالث .
2 – إن حالة الإنقسام بين مملكة في الشمال و أخرى في الجنوب و كما ظهر في الأسطورة تعكس و بشكل غير مباشر حالة مصر التاريخية خلال عصر الإنتقال الثالث حيث لم يعد يحكمها ملك واحد و لم تعد تعرف السلطة الملكية المركزية .
3 – عندما يحكم الإله جب بإعادة الملكية للمعبود حورس و تثبيت حكمه و بمفرده على البلاد كلها ( كما ورد في الأسطورة ) فذلك يشير و بشكل غير مباشر إعادة السلطة الملكية لحالة الحكم الفردي المطلق و من هنا تبرز أهمية نص الملك شباكا الذي سعى لإستغلال الأسطورة لتثبيت حكمه أيدولوجيا و بوصفه حورس الذي أعاد بذور الحكم الفردي المطلق تماما كما ورد في الأسطورة .
يتبين لنا مما تقدم أن أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر لم تنشأ من فراغ ، فلا يمكن فهمها دون ربطها بالواقع السياسي المعاصر لها زمنيا و لذلك يمكن لنا أن ندرك الحقيقة التالية و هي : أن الأسطورة برغم أنها تتحدث عن ( الماضي ) إلا أنه ( ماضي مختلق ) و ( غير بريء ) و بمعنى أدق أن من يصنع ذلك الماضي هو ( إحتياجات الزمن الحاضر ) فالحاضر هو الذي يخلق الماضي و ليس العكس . فالحاضر هنا هو زمن الملك شباكا الذي يتوارى تماما وراء الأسطورة و ذلك لكي يظهر الحاضر و كأنه يسعى لتقليد الماضي و لا سيما و إذا وضعنا في الإعتبار أن الماضي الذي نتحدث عنه هو ماضي الأسلاف المجيد   

رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى بين إقامة الماعت و إرساء مبدأ القوة القانونية و تحقيق نظام الخلق الأول و قهر أعداء البلاد


رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى بين إقامة الماعت و إرساء مبدأ القوة القانونية و تحقيق نظام الخلق الأول و قهر أعداء البلاد

يسعى الدارس من خلال هذ المقال أن يتناول قضية مفهوم إقامة الماعت خلال عصر الدولة الوسطى و الربط بين ذلك المفهوم و بين مبدأ إرساء القوة القانونية و تحقيق نظام الخلق الأول و قهر أعداء البلاد . و لا يسعني في هذا المقام سوى إهداء هذه الدراسة للزميلة العزيزة و الأخت القديرة ( مايسة مصطفى ) و التي تتجه دائما ناحية حب العلم و معرفة بعض القضايا والإشكاليات التي تتعلق بالفكر المصري القديم . زعم ملوك الأسرة الثانية عشرة أن عصرهم لم يكن سوى تطبيق عملي لمفهوم القضاء على الفوضى و إحلال النظام في البلاد بأسرها و بصورة أبدية . و قد تم التعبير عن هذا البرنامج الأيدولوجي السياسي من خلال النموذج الأدبي الشهير و المعروف بإسم ( تنبؤات نفرتي ) ، فقد كان ذلك النص يعبر عن نموذج أدبي كلاسيكي لوصف الأزمات و الإشكاليات و الفوضى التي سادت في مصر خلال عصر الإنتقال الأول وفقا للصورة التي سعت السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى أن تعلنها على الملأ ، و لذا فقد قامت تنبؤات نفرتي بإبراز سياسة الملكية في عصر الدولة الوسطى كرد فعل على زمن الفوضى السابق من خلال الحقيقة التالية :
أن ممارسة السلطة السياسية و ضع القانون في حيز التنفيذ لا يمكن تطبيقهما إلا من خلال إستخدام ( مبدأ القوة ) حيث ينبغي منع أي قوة منافسة سياسية أخرى للسلطة الملكية من الظهور بل و قمعها إن لزم الأمر ، لأن ترك أي قوى سياسية أخرى منافسة لهذه السلطة يعني جلب الفوضى و إحداث الأزمات في مصر مثلما حدث في السابق .
و لذا فقد تحولت الملكية في عصر الدولة الوسطى إلى دولة القوة القانونية ، و السعي نحو إحتكار هذه القوة و بشتى الطرق فكان ذلك هو سبيلها الأوحد للقضاء على زعماء الأقاليم الآخرين المنافسين لهم و كسر شوكة جيوشهم للأبد و إخضاعهم للسلطة الملكية ذات الصبغة الشرعية الوحيدة .
إن إختلاق نص تنبؤات نفرتي كنموذج كلاسيكي للملكية خلال عصر الدولة الوسطى كشف عن الحقائق التالية :
1 – هذا النص هو تقرير وصفي لفوضى وهمية مختلقة حلت على البلاد بأسرها قبل تولي ملوك الأسرة الثانية عشرة مقاليد الحكم و هو يصور طبيعة الأمور في مصر و العالم عندما لا تتواجد السلطة الملكية التي تسعى لإحقاق الحق و وضع النظام في مقابل الفوضى
2 – وظيفة هذا النص هو التأكيد على عدم إمكانية إحلال السلام في العالم و إستحالة تطبيق النظام و العدالة إلا من خلال وجود سلطة ملكية شرعية إختارها الإله و إصطفاها منذ الأزل .
3 – ترسيخ مفهوم إنتشار الأزمات و الكوارث في مصر إذا غابت السلطة الملكية الشرعية صاحبة الحق في تطبيق مبدأ إستخدام القوة العسكرية مما يؤدي إلى وعي الشعب المصري بالخطر الدفين عند إختفاء هذه السلطة ، فلا سلام و لا نظام و لا عدالة إلا في وجود ملك شرعي يطبق مبدأ إستخدام القوة ذات الصبغة القانونية . 
4 – يوحي هذا النص بأن الإنسان في مصر و العالم لا يميل إلى تحقيق النظام ، بل هو خاضع فطريا و طبيعيا و تلقائيا لإحداث الفوضى ( إسفت ) و هنا يمكن معنى وجود السلطة الملكية التي تحقق الماعت ( النظام و السلام و العدالة و الحق و الخير )
و لهذا السبب قامت النصوص الأدبية الملكية ، ذات الطبيعة الدينية و الأهداف السياسية ، بطرح هذه الإشكالية الخطيرة وفقا لمنظورها الأيدولوجي : كيف سيكون الحال عند إختفاء ماعت ؟
إذا إختفت ماعت كنتيجة لغياب السلطة الملكية ، أدى ذلك إلى إنهيار الصلة التي تربط الإنسان في مصر بعالم الآلهة ، فماعت كانت تربط الفرد بالأحياء و الأموات و الآلهة و الكون ، و عندئذ تتنحى الآلهة عن عالم مصر ، و بما أنها ( الآلهة ) هي التي تعمل على ضمان الخير و الخصوبة للبلاد بأسرها ، يكمن هنا خطر غيابها ، لأن العاقبة ستكون وخيمة حيث تنتشر المجاعات كنتيجة لإنخفاض مستوى الفيضان و يغيب الأمن فيسود القتل و النهب بين الناس مما يفضي لتحطيم الصلات الإجتماعية الطيبة بين جميع الأفراد ، و كأن التساؤل المضمر ( الخفي ) الموجه من السلطة إلى الأفراد : أهكذا يرتضي شعب مصر لنفسه الكوارث التي وقعت خلال عصر الإنتقال الأول و في غياب السلطة الملكية الشرعية ؟
و لعل أبلغ الصور الأدبية البلاغية التي عبرت عن مفهوم إنتشار إسفت في البلاد في ذلك العصر هي الفقرة التي وردت في نص ( إيبوور ) – المختلق خلال عصر الدولة الوسطى – حيث ذكر هذا الحكيم " فإذا سار ثلاثة أشخاص في الشارع ، لا يلبث أن يتبقى إثنان منهم فقط ، لأن العدد الأكبر يقضي على العدد الأصغر ، و يصبح لون النهر أحمر لسيلان الدم فيه " و كلما تصاعدت الوتيرة اللغوية الأدبية البلاغية لإنتشار إسفت ، كلما نمى الشعور بالخطر ، و نشأت الحاجة لوجود السلطة الملكية الشرعية .
و لذلك السبب يتم رثاء إنهيار العدالة – المفترض غيابها خلال عصر الإنتقال الأول - في نص ( إيبوور ) بهذه الكلمات :
" لم يعد هناك أحد يسير في الطريق ، فقد عمت المعارك بالأيدي ، و لم يكن هناك قائد في تلك الساعة " ثم يطرح كاتب النص التساؤل التالي : " أين هو في هذا اليوم ؟ هل هو نائم ؟ ... أنظروا : لا يمكن رؤية سلطته العقابية و لا يمكن لأحد أن يناديه لأنه كان خاليا من الغضب ضد من أحدث الفوضى "
يتبين لنا من هذه الفقرة ملاحظات هامة تمثلت فيما يلي :
1 – من الصعوبة معرفة من هو المخاطب بصورة مؤكدة من خلال عبارة " أين هو في هذا اليوم ؟ هل هو نائم ؟ " ، فهل هو الإله الخالق نفسه الذي تنحى عن العالم ؟ أم هو الملك الحاكم ضعيف الشخصية ( صورة الملكية خلال عصر الإنتقال الأول ) ؟ لكن في كلا الحالتين يبرز هنا النقد الموجه لأول مرة في نص أدبي بلاغي لأي منهما عند إنتشار إسفت .
2 – عدم وجود المقدرة على إثارة الغضب ضد الظلم و هي صفة الملك الضعيف و هي صورة تناقض صورة الملك القوي الذي ينبغي أن يغضب ( الغضب العادل ) – صورة الملكية في عصر الدولة الوسطى .
3 – سعى هذا النص و غيره من النصوص الأدبية الأخرى إلى الترويج لفكرة أن الغضب العادل هو من الفضائل الأخلاقية التي ينبغي للملك و حاشيته أن يتحلوا بها ، فهو يغضب لما يغضب له الشعب إذا غابت العدالة و حل الظلم .
و لذلك فلا غرابة من وجود نص أدبي آخر ، و هو نص سنوهي الذي ينتمي لعصر الدولة الوسطى ، يتناول غضب الملك المصري في عصر الدولة الوسطى وفقا للصيغة الأدبية التالية :
" إذا غضب ، يتجمد أنف كل إنسان فلا يتنفس ، و إذا هدأ يتنفس الإنسان ثانية " .
و هنا ندرك أن الغضب التاريخي الأول كان هو غضب الملكية وفقا للمنظور الأيدولوجي لأدب السلطة في عصر الدولة الوسطى و لم تكن قد ظهرت بعد فكرة الغضب الإلهي في ذلك العصر ، فغضب الإله لم يظهر تاريخيا و للمرة الأولى إلا من خلال النصوص الأدبية السياسية لعصر الرعامسة ( خلال الدولة الحديثة ) و كرد فعل على أحداث عصر العمارنة ، فانتقلت وظيفة حراسة و حماية العدالة من الملكية إلى الإله و بصورة نهائية ، و تحول مصدر الغضب من الملك في الدولة الوسطى إلى الإله في عصر الرعامسة .
إن الجشع و الطمع و الكذب و جميع مظاهر الشر ( إسفت ) الأخرى هي صفات لها جذور طبيعية و فطرية في البشر و في العالم وفقا للتصورات الأيدولوجية لملكية الدولة الوسطى . و لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه الملكية كانت تدعوا لمفهوم مشابه للفلسفة الدينية الغنوصية التي نادت خلال القرن الثاني الميلادي بفكرة رفض وجود العالم بأسره بإعتباره ( شر مطلق ) ، فالعالم وفقا لهذه التصورات الملكية ليس شر مطلق ، بل هو عالم ذو قيمة مزدوجة تتكون من الخير و الشر ، و ينبغي للملك أن يمارس سلطته و بقوة على هذا العالم حتى يتمكن من توحيد القيمة المزدوجة التي تتحول إلى قيمة واحدة إيجابية ، فيحل الخير بدلا من الشر و يحل النظام بدلا من الفوضى . و لكي يحقق الملك هذا الهدف ، تبرز سلطته تارة في شكل رحيم و مسالم و عطوف تجاه الأفراد الطيبيين و تبرز تارة أخرى في شكل عدواني و قاتل تجاه المتمردين و يظهر الوجه المزدوج لهذا الشكل الخاص بالسلطة الملكية بإندماجه بالإلهة ( باستت ) الربة الرحيمة العطوفة المسالمة ، و بإتحاده بالإلهة ( سخمت ) ربة العنف و القتل و العدوانية ، و هو الأمر الذي تجلى بوضوح في نص سنوهي الذي ورد فيه ما يلي :
" هو ( الملك ) باستت التي تحمي الأرضين و من يقوم بتمجيده ( تمجيد الملك ) يصبح تحت ذراعه الحامية ، و هو الإلهة سخمت التي تقف ضد كل من يعصي الأوامر و من يكرهه ( يكره الملك ) سيكون مصيره البؤس و الشقاء "
إن هذه الفقرة التي تنتمي لنص سنوحي تعكس بعض الأمور الهامة التي تتمثل فيما يلي :
1 – إن هذا النص يكشف عن مفهوم الولاء المطلق للسلطة الملكية خلال عصر الدولة الوسطى ، فهو ينتمي لبرنامج تعليمي يهدف لوضع الرعية و تشجيعها نحو طاعة الملك الذي يتعهد بوضع من يطيعه تحت ذراعه الحامية بوصفه الإلهة ( باستت ) التي تحمي الأرضين
2 – يتجه هذا النص من ناحية أخرى لتوجيه تهديد مباشر و صريح لكل من يقف ضد سياسة هذه السلطة أو لا يمتثل لأوامرها ، ففي هذه الحالة لن يجد أمامه سوى الإلهة ( سخمت ) التي يتحد بها الملك لقمع جميع معارضيه .
3 – لا يمكن لأي فرد ينتمي لشعب مصر أو ينتمي للعالم أن يقف – من خلال هذه الفقرة – تجاه السلطة الملكية في موقف المحايد ، فعليه أن يقرر منذ الآن فصاعدا إلى أي جهه سينتمي ؟ هل سينتمي لجبهة الملك و يصبح تحت حمايته ؟ أم سينتمي للجبهة التي تعارضه ؟
4 – تكشف هذه الفقرة عن فكرة لجوء الملكية و إتجاهها نحو الألوهية سواء ناحية باستت أو ناحية سخمت في تثبيت صورتها المزدوجة : المسالمة و العنيفة أمام الشعب المصري ، فالألوهية هنا أقوى من الملكية حتى و إن لم يعترف بها كاتب النص بشكل مباشر أو صريح فلولا وجود ألوهية لها مكانة طيبة و قوية في نفوس الناس لما لجأت السلطة الملكية لهذا التشبيه الأدبي البلاغي .
و هنا ينتقل الدارس لتناول قضية هامة من القضايا الفكرية الهامة و التي لم تقتصر فقط على عصر الدولة الوسطى ، و إن كان تناول مفكروا الدولة الوسطى لها ترك تأثيرا بالغا فيها ، و هذه القضية هي مدى إرتباط مبدأ القوة بتحقيق العدالة ، و القوة التي نتحدث عنها هنا هي قوة الملكية التي تلجأ أحيانا لأقصى عقاب لأجل تحقيق النظام ، فهذه السلطة الملكية قد تلجأ لحكم ( الإعدام ) و هو بلا شك من أعظم الأحكام المؤثرة الذي لا يمكن إصداره إلا من جانب السلطة الملكية أو الآلهة المصرية . فالقتل في الحضارة المصرية القديمة هو إحتكار صارم للدولة ( و ذلك لم يمنع من وجود بعض الحالات التي تم تنفيذ حكم الإعدام فيها في فترات تاريخية معينة من جانب حكام الأقاليم ) فعقوبة الإعدام لا تصدر إلا من جانب الملك الذي يتم توجيه النصيحة له بأن يتروى و يتحفظ للغاية في إصدار مثل هذا الحكم .
و هنا نجد تساؤل هام يطرح نفسه : ما هو السبب الذي يدفع الملك للتروي كثيرا قبل أن يصدر مثل هذا الحكم ؟
مما لاشك فيه أن مثل هذا التحفظ يعود في المقام الأول إلى التصور المتعلق بأهمية روح الإنسان . فخلال عصر الدولة القديمة كان الملك هو الوحيد الذي له الحق في وجود ( با ) بمعنى روح ( مع التحفظ الشديد في ترجمة هذا المصطلح بذلك المعنى ) و أن هذه ( البا ) الملكية تنفصل عن جسد الملك بعد وفاته و تبتعد عن عالم الأرض لتصعد لعالم السماء ، و لكن و بعد نهاية عصر الدولة القديمة و ما تبعها من تغيرات سياسية و دينية خلال عصر الإنتقال الأول ، حدث تحول بارز الأهمية تجاه ( البا ) التي أصبحت حقا للجميع ، فقد ساد الإعتقاد منذ عصر الدولة الوسطى بأن لكل إنسان روح تنتقل معه نحو العالم الآخر بعد وفاته ( و يرى عالم المصريات ألتن موللر بأن مفهوم البا ( الروح ) قد إتسع كثيرا منذ نهاية عصر الدولة القديمة و لم يكن مقتصرا فقط على الملوك و إنما شمل أيضا عدد من الأفراد ) و بسبب هذه السلطة الروحية الكامنة في كل إنسان لا يتم تنفيذ حكم الإعدام إلا في حالات قصوى يكون فيها رضاء الآلهة المصرية مؤكدا وفقا لمفاهيم الأيدولوجية الملكية المصرية ، و ذلك لأن الحاكم نفسه يخشى شكوى روح المحكوم عليه بالإعدام في محكمة العالم الآخر إذا كان حكمه غير عادل . و ما يؤكد هذا الطرح هو النص المعروف بإسم ( تعاليم الملك خيتي الثالث لإبنه مري كارع ) حيث يوجه هذا الملك حديثه و نصائحه لإبنه قائلا له :
" إحفظ نفسك من العقاب غير العادل ، و لا تقتل لأن ذلك لا يجلب النفع لك و عاقب بالسجن أو الضرب و بهذا الشكل ينتعش و يزدهر البلد ما عدا العصاة و المتمردين الذين إنكشفت خطتهم لأن الإله يعلم أنهم عصاة فيجازيهم بالدم . و الحكام الذين يفصلون بين الناس في المحكمة الأخروية ، أنت تعرف أنهم ليسوا طيبين و في ذلك اليوم يأخذ البؤساء حقوقهم ممن ظلموهم "
هناك حقائق هامة تتعلق بهذا النص الأدبي تتمثل فيما يلي :
1 – يعتقد البعض من الدارسين بأن هذا النص قد تمت كتابته خلال نهاية عصر الإنتقال الأول و ذلك عندما كانت الملكية لا تزال تحت سيطرة ملوك إهناسيا و قبل أن تنتقل مقاليد الأمور لزعماء طيبة الذين إنتصروا عليهم في نهاية المطاف و قاموا بتأسيس عصر الدولة الوسطى .
2 – و نظرا لأن الملكية خلال عصر الإنتقال الأول لم تكن على نفس درجة و قوة السلطة الملكية خلال عصر الدولة القديمة ظهر في ذلك النص و لأول مرة إعتراف الملك بأخطائه فهذا شيء جديد لم نعهده من قبل ، فهو ينصح إبنه بعدم تكرار الأخطاء التي وقع فيها عندما يحكم البلاد .
3 – ظهر في ذلك النص و من خلال الفقرة التي وردت هنا أن هناك محكمة في العالم الآخر ، سيحاسب فيها الجميع أمام الآلهة بل و يظهر فيها الملك كشخص يتم محاسبته هو الآخر و إلا لما قال لإبنه " أنت تعرف أنهم ( حكام المحكمة ) ليسوا طيبين " و هو ما يعني أن الملكية خلال عصر الإنتقال الأول كانت تؤمن هي الأخرى بحقيقة إتيانها بالخطأ بل و أنها ستحاسب على ما إرتكبته من أخطاء .
4 – هناك بعض الباحثين يرون أن هذا النص لا يعود لعصر الإنتقال الأول على الإطلاق ، بل هو نص مختلق خلال عصر الدولة الوسطى و تم رده زمنيا لعصر الملك الإهناسي ( خيتي الثالث ) و الذي يظهر فيه كملك مرتكب للآثام مما يعني أنه كان موجها كدعاية سياسية سلبية ضد ملوك العصر الإهناسي من جانب ملوك الدولة الوسطى الذين حرصوا على إبرازهم في تلك الصورة السلبية .
و هناك نص أدبي آخر يؤكد أهمية عدم إصدار حكم الإعدام على أي شخص دون أن يرتكب ذنب محدد و هو نص بردية وستكار الذي تم تأليفه خلال فترة متأخرة من عصر الدولة الوسطى حيث يتحدث هذا النص عن ساحر يدعى ( جدي ) إشتهر بقدرته على الإتيان بالخوارق السحرية ، إلا أنه يمتنع عن إجابة طلب الملك ( خوفو ) الذي رغب في رؤية معجزاته فطلب منه فصل رأس أسير مسجون حتى يرى خوارقه الباهرة و هنا يبدي الساحر شجاعة بالغة و يرفض طلب ( خوفو ) فيقول له : " و لكن ليس على إنسان يا سلطاني و يا حاكمي أنظر إنه غير مسموح بإجراء ذلك على قطيع الإله " . و هنا تغير رأي الملك ( خوفو ) فورا و أمر بجلب أوزة فقطعت رأسها ثم أعيدت لها مرة أخرى فأدرك الملك قدرة الساحر جدي الخارقة .
         ينبغي لنا هنا في هذا الصدد أن نطرح الإستنتاجين التاليين :
1 – يظهر الساحر و ليس الملك في صورة الشخص القادر على الإتيان بالخوارق و المعجزات و هو ما يعكس صورة أخرى للملكية لا تتفق مع ما ورد ذكره عنها من ألقاب و صفات تم تسجيلها على جدران المعابد المصرية القديمة .
2 – هذه البردية من وحي الخيال الشعبي و لم يتم إنتاجها في مصنع الأيدولوجيا الملكية ، فهي تعكس فكر العامة من الناس تجاه بعض الملوك و كان الفكر الشعبي المصري خلال عصر الدولة الوسطى يرى خوفو بوصفه ملكا لا يبالي بالقيمة الإنسانية فيأمر الساحر بقطع رأس أسير لإجراء معجزاته السحرية . و كان هذا الحكم ( قطع الرأس ) من وجهة النظر الشعبية حكما ظالما و لا سيما و أنه يتم على شخص أسير مسجون لم يرتكب ذنبا خطيرا يستوجب ذلك العقاب و لا ينبغي إستخدامه كأداة للتجارب الملكية
 و من ناحية أخرى تبرهن وثائق مؤامرة الحريم الملكي التي كان ضحيتها الملك رمسيس الثالث في عصر الأسرة عشرين على وجود مثل هذا التحفظ في إصدار حكم بالقتل على المتآمرين ضد الملك . فلم يتم إعدام المجموعة التي حرضت على إرتكاب هذه الجريمة و بالرغم من إثبات ذنبهم إلا أنهم لم يعدموا و إنما حكم عليهم بالإنتحار حيث كان هذا التحفظ تجاه القتل يرجع لسبب الخوف من المحاكمة في العالم الآخر و إمكانية محاسبة من تسببوا في قتلهم من جانب آلهة العالم الآخر و من هنا نستنتج حقيقة بارزة الأهمية و هي :
إن تطور عقيدة المصريين في عصر الدولة الوسطى فيما يتعلق بوجود حساب في محكمة أخروية فضلا عن فكرة خلود الروح لجميع الناس و إمكانية تقديم شكوى لهذه الروح ضد من ظلمها ، ترك تأثيرا كبيرا في العمل السياسي للملكية منذ عصر الدولة الوسطى و حتى نهاية العصر المتأخر و أن توخي تطبيق العدالة و إستخدام مبدأ القوة ضد المتمردين لا يعني على الإطلاق إفراط يد الملك في القتل .
هل لجأت السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى و ما تلاها من عصور إلى عمل إجراءات أخرى لممارسة الحكم السياسي ؟
 في واقع الأمر أن السلطة الملكية بداية من عصر الدولة الوسطى لم تعتمد فقط على مفهوم إستخدام القوة لتطبيق العدالة في ممارستها السياسية ، و لكن إعتمدت أيضا على إستمرارية إجراء الطقوس ذات الطابع السحري في المعابد المصرية للسيطرة على نظام الحكم في البلاد ، فنظام الحكم الملكي في مصر يرتبط إستقراره بمفهوم الحفاظ على دورة أو مسار الشمس في العالم ، فإذا كانت الشعائر تهدف للحفاظ على مسيرة الشمس فذلك يؤدي إلى وجود ملكية مستقرة و تتميز بتحقيق بالعدالة مما يعم بالنفع و الخير على الجميع .
و كان إجراء هذه الطقوس السحرية الشمسية في المعابد المصرية القديمة يهدف فعليا لتحقيق أمرين هما :
1 – هي شعائر تعمل على الإبادة التامة لأعداء إله الشمس رع و هي موجهة في الأساس لثعبان الفوضى عبب ( الذي ظهر في نصوص الحضارة المصرية لأول مرة خلال عصر الإنتقال الأول ) . إن ظهور ذلك الثعبان كخطر يهدد المسيرة الشمسية في الكون يعني أن العالم لم يعد كما كان من قبل يتمتع بقيمة الخير وحده بل أصبح يتكون من قيمتين : الخير و الشر و هي صورة دراماتيكية تكونت لدى الفكر المصري بعد سقوط الملكية في نهاية عصر الدولة القديمة .
2 – لم تكن هذه الطقوس الشمسية السحرية موجهة فقط ضد أعداء الإله ، بل كانت موجهة أيضا ضد العدو السياسي للسلطة الملكية و تحديدا منذ بداية عصر الدولة الوسطى .
و لكن و من جانب آخر ينبغي أن نشير لأمر هام و هو : أن الطقوس السحرية لإبادة الأعداء ظهرت إرهاصاتها الأولى منذ فترة متأخرة من عصر الدولة القديمة و لاسيما فيما تعارف عليه الدارسون بإسم طقسة ( تحطيم الأواني الحمراء ) التي ورد ذكرها في متون الأهرام إلا أن هذه الظاهرة زادت خلال عصر الدولة الوسطى و أصبحت نموذج بارز للملكية خلال تلك الفترة . و تتمثل هذه الشعيرة في تحطيم مجموعة من الأواني الحمراء و التي نقش عليها أسماء أو كينونة أعداء الإله أو الملك كما ظهر عليها بعض النصوص الطقسية الموجهة ضد ( الأمراء الأجانب و حاشيتهم و كل المصريين من رجال و نساء من الذين يثيرون الفوضى ) حيث نقرأ وصفهم فيما يلي
" هم يتمردون و يثيرون الفتن و يضمرون العصيان في جميع أنحاء البلاد " بل إن هذه الطقوس التي سجلت كنص على هذه الأواني إتجهت ناحية كل ما يفكر فيه العدو أو المتمرد من شر داخل قلبه و لم يخرجه بعد إلى حيز التنفيذ ، فالفكرة السيئة يتم القضاء عليها قبل أن تدخل في نطاق التنفيذ بفضل هذه الشعائر فنقرأ النص التالي الموجه صراحة ضد :
" كل الكلمات السيئة و الشريرة و الصفات الدنيئة و كل الفتن السيئة و كل الخطط و الأمور السيئة و كل الأحلام السيئة و كل نوم سيء "
  و هنا يمكن لنا أن نستشف النتائج التالية و هي :
1 – إن الطقوس هنا تقوم و منذ عصر الدولة الوسطى برقابة سحرية حول الأمور التي لا تقبل الرقابة من أي جهة أو سلطة بصورة قاطعة مثل : صورة الملك في حديث معين بين الناس بل و حتى في أحلام الرعية ذاتها ، فإن تناول أحد الأفراد ذكر الملك بشكل سيء ، تم توجيه هذه الطقوس ضده .
2 – تظهر هذه الطقوس السحرية ( كعنصر مكمل ) و ليس ( كعنصر بديل ) لأجهزة و مؤسسات الرقابة الملكية ، فالطقوس السحرية تبدأ مفعولها عندما تعجز أجهزة الرقابة عن أداء عملها بكل فعالية ممكنة .
3 – تتجه هذه الطقوس السحرية ضد الخطر الذي تحاول الملكية صده و مواجته سواء من الخارج أو الداخل . فالأجانب و المصريون يتم وضعهم على مستوى واحد إذا كانوا من المتمردين و المعارضين
4 – إن فكرة الغضب الملكي العادل التي أشرنا إليها من قبل تتجه ضد ظلم علني و واضح و ظاهر ، و لكنه لا ينصب أبدا ضد أفكار و خطط و وجهات نظر مستترة ( خفية ) ، و من هنا تظهر أهمية هذه الطقوس السحرية التي توجه ضد حقد ( الذين يحقدون على الملك في قلوبهم ) - وفقا للتعبير المصري – فمن يفعل الشر و يرتكب جريمة ظاهرة للعيان يقع ضحية غضب الملك و من يكره الملك في قلبه ( و هي جريمة غير ظاهرة ) يستحق غضب الملك و عقابه السحري .
إن رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى و ما تلاها من عصور تاريخية لاحقة تمثلت في إبراز الحقيقة الفكرية التالية :
خضوع الجميع أمام الشعائر السحرية التي تحمي الملك من أحقاد الأجانب و المصريين من المتمردين . فالمسألة هنا تتعلق بأحقية الملوك الشرعية لهذه السلطة السياسية . و في نظر الفكر الملكي لا توجد سلطة دون تمرد و لا يوجد النور دون الظلام و كما أن الشمس تكافح خلال مسيرتها الكونية للقضاء على أعدائها ( و هي فكرة ظهرت تاريخيا و لأول مرة خلال عصر الأسرة صفر من خلال تصوير الزعيم أو الملك كواحد من المشاركين في القضاء على أعداء الشمس في صلايات تلك الفترة ) من خلال إصدار أشعتها المتوهجة و الحارقة نحوهم ، مما يعني أنها لا تتمكن من البقاء في العالم إلا من خلال التوهج المحرق للأعداء ، كذلك ينبغي أن تكون السلطة الملكية التي لن تتمكن من البقاء إلا من خلال القضاء على الأعداء المتمردين و الذين يسعون لإحداث الفوضى في البلاد .
و معنى ذلك أن لجوء الملكية للقتل يبرز أنها الحل الأخير الذي تلجأ إليه عند إنعدام أي وسيلة أخرى للإصلاح . و الملكية ظهرت منذ البداية و هي تعبر عن نفسها في صورة عدوانية ظاهرة ، ففي صلاية الملك نعرمر يظهر منظر قطع رؤوس الأعداء للتعبير عن العقاب الملكي الموجه ضد المتمردين و لكن ألا يمكن أن نعتبر هنا و في تلك الفترة تحديدا ( نهاية الأسرة صفر ) أن مثل هذا القرار كان أمرا مسموحا به نظرا لأن ( البا ) كانت حكرا على الملك نفسه و لم تكن فكرة وجود ( البا ) للجميع قد ظهرت في تلك المرحلة المبكرة ، و من هنا لم يكن هناك ضرر من تنفيذ قرار قطع رؤوسهم و عدم الخوف من محاسبة الملك من جانب هؤلاء المتمردين في العالم الآخر بل و تصوير ذلك الأمر فنيا على الصلاية ؟
و بالرغم من وجود البا لأي شخص بعد ذلك كفكرة ترسخت منذ عصر الدولة الوسطى ، إلا أن الملكية لم تستغي عن الصورة العدوانية القاتلة تجاه أعدائها ، فقد تكرر منظر قطع رؤوس الأعداء في مناظر كتب العالم الآخر في عصر الدولة الحديثة ، و كل التغيير الذي حدث أن هذا الحل لم يكن سوى حلا مرضيا عنه من جانب الآلهة و السلطة الملكية و ذلك عند إنعدام الحلول السلمية الأخرى و هنا يمكن إبراز الحقيقة الفكرية التالية :
إن ترسيخ ماعت ( النظام و الحق و العدالة و الخير ) في العالم من جانب السلطة الملكية لن يتم إلا من خلال قمع إسفت ( الفوضى و الباطل و الظلم و الشر ) حتى و لو تم ذلك بالقتل و قطع رؤوس الأعداء و المتمردين ، فعالم مصر لن يكون جدير بالثقة و لن يصبح قابل للسكن إلا من خلال تنفيذ هذه الوسيلة و هنا يسود السلام و الهدوء و النظام فتهيمن ( ماعت ) على العالم بل و تصبح مشاهد ضرب و قتل الأعداء قابلة للعرض و الرؤية من جانب الجميع و لا ينبغي لأحد أن يشعر بالرعب من وجود مثل تلك المناظر لأنها ضرورية فلولاها لما سادت ( ماعت ) في الكون بأسره . و لذلك هناك بعض الباحثين الذين تناولوا مشاهد أيادي و أعضاء الذكورة للأعداء و التي تم تصويرها و هي مقطوعة على جدران المعابد المصرية خلال عصر الدولة الحديثة ، حيث يرون أنه رغم التقدم و التنوير النسبي الذي حققه ملوك الدولة الحديثة ، إلا أنهم و من خلال إصرارهم على إبراز المشاهد الدموية لم يختلفوا كثيرا عن الملوك السابقين و أنه ليس هناك شك في صحة هذا التصوير و كما يبدو فإن عظمة نجاح أي معركة كانت تقاس بعدد قتلى الأعداء و تصويرهم صرعى في ميدان القتال بكل فخر و زهو . 
و لكن ينبغي لنا هنا في هذا الصدد أن نتناول أمرين في غاية الأهمية فيما يتعلق بمشاهد ضرب و قتل الأعداء أو المتردين و هما :
1 - إن هذه المناظر الفنية ليست بالضرورة تعبر عن واقع تاريخي فعلي ، فنحن نجد دائما أن عددا كبيرا منها كان يتم إستنساخه من نصوص و مشاهد أقدم زمنيا . فالمهم هنا هو ليس التعبير عن الحقيقة التاريخية و ليس من الضروري أن يكون هذا أو ذاك الملك قد قام بمعركة فعلية و إنما تهدف هذه المشاهد لعرضها للرؤية لكي تردع سحريا المتمردين و العصاة عندما يشاهدون مثل تلك المناظر و هي في ذات الوقت تشد من أزر المؤيدين للسلطة الملكية فيثقوا في قوة و حماية الملك لهم .
2 – ترتبط مشاهد ضرب و قتل الأعداء دلاليا بفكرة طقوس الإبادة السحرية الموجهة ضد الأعداء الخارجيين و المتمردين الداخليين و التي زادت خلال عصر الدولة الوسطى ( و منها على سبيل المثال طقسة تحطيم الأواني الحمراء ) فهي تتفق معها في نفس المعنى و ذات الهدف ، فهي عبارة عن تهديدات و لعنات سحرية أيقونية ( تصويرية ) تتقي بها السلطة الملكية أي تمرد من الخارج أو الداخل
و ينتقل الدارس هنا إلى معالجة فكرة الأعداء الأجانب و التأكيد على الصورة التي رسمتها الملكية المصرية خلال عصري الدولة القديمة و الوسطى لعالم مصر ، فمن خلال هذه الصورة تأخذ مصر مكانا في عالم النظام و الإستقرار الذي خلقه إله الشمس رع حيث وضع ممثله على الأرض و هو الملك لكي يضع ( الماعت ) بدلا من ( إسفت ) كما أن الحدود السياسية للمملكة المصرية تنتهي عند العالم الذي خلقه إله الشمس فقط أما الشعوب التي تعيش بجوار المملكة المصرية فهم لا ينتمون لمصاف العالم المنظم و المخلوق بل ينتمون لزمن الفوضى إلا أن الملكية المصرية و لا سيما خلال عصر الدولة الوسطى عرضت كيفية التعامل مع هذه الشعوب من خلال وصفهم بأنهم خارجين عن المجتمع المصري و لكن ليس هناك داع لإبادتهم و لا لإدماجهم في المجتمع المنظم ، فالشيء الهام هو الإبقاء على هؤلاء الأعداء خارج عالم مصر المنظم و هذا ما نجده في نص تعاليم الملك خيتي الثالث و الموجه لإبنه مري كارع حيث نقرأ ما يلي :
" إن الآسيوي بائس حقا بسبب المكان الذي يعيش فيه ، فالمياه لديه شحيحة جدا و هو لا يتمكن من الوصول إلى مصادر المياه هناك برغم تعدد الطرق المؤدية إليها بسبب الجبال التي تعيقه عن ذلك و هو لذلك لا يعيش في مكان واحد ، فقلة الغذاء لديه تجعله في حالة تنقل و ترحال دائم و هو في حروب منذ زمن الإله حورس و لا ينتصر و لا يمكن هزيمته و لا يعلن أبدا عن يوم الحرب و هو مثل اللص المنبوذ من قبل المجتمع "
يعكس هذا النص لإبراز النتائج التالية :
1 – يتناول هذا النص لأول مرة فكرة تعرف المصري القديم على الظروف الطوبوغرافية و البيئية لشعوب بلاد الشام و لاسيما بعد إحتكاكه بهذه الشعوب حضاريا .
2 – يشير هذا النص إلى هجرات هذه الشعوب و عدم إستقرارها في مكان واحد لقلة المصادر المائية و الغذائية و صعوبة الوصول إليها مما يجعلها دائما في حالة بحث دائم عن تلك المصادر .
3 – إن صورة الأجنبي هنا تعني رفض الملكية لإقامة أي سياسة خارجية معه ، فلا يمكن عمل تعاقد أو حلف سياسي مع ذلك الأجنبي و لا يمكن الإنتصار عليه كما أنه لا يهزم أبدا من أحد ، فهو ليس عدو و لا صديق ، لأن العدو يعلن الحرب في معاد متفق عليه أما هذا الأجنبي فهو مشغول دائما بالكفاح لأجل الحصول على الماء و الغذاء و لذلك ينبغي فقط تخويفه و الحد من خطره ، فيتم عزله في عالمه الخارجي حتى لا يقترب من مصاف العالم المنظم و هو عالم مصر الذي خلقه إله الشمس رع
و لذلك نجد الملك ( سنوسرت الثالث ) و هو يصف لنا سياسته تجاه النوبيين على نص لوحته الشهيرة قائلا :
" لقد كونت حدودي و ذلك بزحفي نحو الجنوب و حصلت على أكثر مما حصل عليه أسلافي و ذلك بذهابي بعيدا عن ما كلفت به ، و قد هاجمت المهاجمين لأن السكوت عن الهجوم تجاه العدو يعني دعوته للعدوان ، فالهجوم يعني القوة ، و التراجع يعني الضعف ، فالجبان هو الذي يذعن و يخضع لطرده من بلده و النوبي ينبغي إرجاعه إلى محله و سكنه ، فإذا هوجم يتراجع و هو لا ينتمي للبشر ( = المجتمع المصري المنظم ) و لا يستحق الإحترام فهو شقي و قلبه محطم "
فهذا النص يؤكد على أن الأجانب لا يعتبرون كطرف يمكن التعامل معهم سياسيا خلال عصر الدولة الوسطى و هو ما يمكن تأكيده من جانب آخر من خلال نص تعاليم مري كارع حيث نقرأ ما يلي :
" إن الآسيوي هو مثل التمساح الذي يقف على الضفة ، فهو يعض فقط في الطرق المعزولة ، إلا أنه لا يقوم بفعل ذلك في الأماكن المزدحمة "
فالأجنبي بسبب تمرده لا ينتمي أبدا لمصاف العالم المنظم و المخلوق من رع و لذلك ينبغي للملك و حاشيته أن يجعلوه في حالة خوف و فزع دائم بتأديبه من آن لآخر و لذلك ظهرت فكرة إنشاء القلاع و الحصون العسكرية بكثافة خلال عصر الدولة الوسطى سواء في الشمال أو الجنوب لمنع تقدم هؤلاء الأعداء ناحية مصر و توجيه ضربات عسكرية تجاههم أحيانا و ذلك للإبقاء عليهم في الخارج و لعزلهم عن عالم مصر المنظم .
و إذا كانت هذه هي السياسة الملكية خلال عصر الدولة الوسطى تجاه الشعوب الأجنبية في الخارج فإن السياسة الملكية نحو الداخل و كما أشرنا في أكثر من موضع في هذا المقال كانت تتجه نحو إقامة الماعت ، فملكية الدولة الوسطى هي التي تتعايش مع العالم المنظم ( عالم مصر ) و هي التي تضمن المعيشة في جميع أنحاء البلاد بأمان و سلام عند إقامتها للماعت . فماعت هنا تعني تحرير الضعفاء من سطوة و بطش الأقوياء و لاشك أن فكرة التحرر من الظلم تحمل في ثناياها مبدأ تحقيق العدل من جانب السلطة الملكية و تحقيق المساواة بين الجميع على الأقل من الناحية النظرية .
و هنا ظهرت متون التوابيت في عصر الدولة الوسطى لكي تعالج قضية في منتهى الأهمية و هي : هل عدم المساواة الموجود بين المصريين يرجع للنظام الذي خلقه إله الشمس رع منذ بداية الزمان ؟
إن نصوص التوابيت تتحدث عن إله الشمس رع الذي خلق الرياح و الماء و قام بتقسيمها على الجميع بالتساوي ثم وضع في قلوب البشر الخشية من الموت و ذلك لكي يقدموا القرابين للآلهة المحلية التي توجد في معابد المدن المصرية المختلفة و نقرأ على سبيل المثال ما يقوله إله الشمس عن نفسه في نص متون التوابيت التالي :
" لقد خلقت كل واحد مثل أخيه و منعتهم جميعا من الظلم و لكن قلوبهم تمردت و عصت أوامري "
و هنا ينبغي لنا أن نتوقف لكي نرصد الملاحظات التالية :
1 – إن عدم المساواة لا تعود على الإطلاق إلى النظام الذي خلقه إله الشمس رع في بدء الزمان و تلك ملاحظة في منتهى الأهمية إذا ما قورنت بما كان موجود في حضارات أخرى ، فعلى سبيل المثال إعتبرت أنثروبولوجية ( الدراسات الإنسانية ) الإغريق القدماء أن الفوارق بين الأحرار و العبيد هي فوارق طبيعية من صنع الآلهة
2 – على الرغم من أن المصريين في عصري الدولة القديمة و الوسطى إعتبروا أنفسهم هم ( البشر الوحيدين ) في هذا العالم و أن عالمهم هو العالم النظامي المطلق ، إلا أنه لم يكن يخلو من التفاوت وعدم المساواة بينهم و لكن عدم المساواة هنا ليس من إرادة الإله الخالق و إنما هو من صنع الإنسان الذي قام بإرادته الحرة و من قلبه برفع راية التمرد و العصيان ضد الإله .
3 – إن رفع راية التمرد و العصيان ضد الإله ينتمي للأعمال الجشعة التي سيطرت على الإنسان و هو ما عرفه المصري القديم في نصوصه و أطلق عليه تسمية ( جشع القلب ) و الذي لم يخلقه إله الشمس رع منذ البداية .
4 – إن جشع القلب هو الذي أدى لوجود التفاوت و عدم المساواة بين البشر و هو يمثل أحد ظواهر الفوضى ( إسفت ) التي جاءت السلطة الملكية خلال عصر الدولة الوسطى للقضاء عليها و هنا تكمن رسالة الملكية في ذلك العصر .
5 – إن إقامة الماعت تعني العودة لنظام الخلق الأول الذي لم يكن فيه أي تفاوت أو عدم مساواة و هنا فقط و عند تحقيق ذلك الهدف يصبح العالم ( عالم مصر ) قابلا للسكن و يسود الهدوء و السلام فيه مثلما كان في الزمن الأول الذي خلقه إله الشمس رع .
  و لهذا السبب يتم توجيه النصيحة للملك و ذلك لكي ينتقي موظفيه الذين سيسعون معه لإقامت الماعت ، فينبغي له أن يختار الموظفين طبقا لكفاءاتهم الفردية و ليس وفقا لمعيار الطبقة الإجتماعية التي ينمتون إليها و يجب تطبيق مبدأ المساواة بين الجميع أمام القانون و لذلك يؤكد الملوك دوما في نصوصهم بأنهم لم يفرقوا بين الغني و الفقير و بين القوي و الضعيف و بين الذين يعرفونهم و الذين لا يعرفونهم . كما تؤكد النصوص من ناحية أخرى أن التفاوت بين البشر لا يزول و لكن ينبغي أن يكون متوازنا في المجتمع و هذا التوازن يعني : إعطاء و رد الحق لأي إنسان مظلوم ، فهذا هو العمل الإنقاذي الذي تقوم به السلطة الملكية ، فهي تنقذ الضعيف من طغيان القوي و لذلك يظهر الإله الخالق ( و الذي لم يكن سوى الملك الحاكم في حقيقة الأمر ) في متون التوابيت و هو يقول :
" أنا أحكم بين القوي و الضعيف "
و هنا ندرك أنه بالرغم من أن هذا الخالق ( أو بمعنى أدق ممثله الملكي على ) لم يكن مسئولا عن الظلم الموجود في العالم ، إلا أنه مسئول عن عدم ترك الظلم يهيمن على العالم و هو يعمل بتصميم على إعادة نظام الخلق الأول الكامل و الذي قام الإنسان بإفساده و من أجل المحافظة على نظام الخلق الأول ، أعطى هذا الخالق للإنسان ( ملوك و هم في البيضة – بمعنى منذ الأزل - لكي يحمون الضعفاء من بطش الأقوياء ) - وفقا لنص متون التوابيت – و هنا تمكن رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى .
هل كان ملوك الدولة الوسطى هم أول من تناولوا مفهوم تحقيق العدالة و المساواة و عدم التفرقة بين الجميع ؟
هناك دلائل تشير إلى أن طبيعة الحكم الملكي العادل لم تكن موجودة منذ البداية ، فنصوص عصر الدولة القديمة و لا سيما نصوص الأهرام لا تتناول هذه الفكرة إلا بشكل نادر و سطحي إذا ما قورنت من ناحية الكم بنصوص التوابيت و نصوص أدبية أخرى في عصر الدولة الوسطى و لكن من ناحية أخرى لم تكن فكرة تطبيق الحكم العادل من إختراع ملوك الدولة الوسطى ، و إنما هي من نبت و إبتكار حكام الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول الذي وضعوا أنفسهم في صورة الزعماء و الأبطال الذين أنقذوا أقاليمهم من المجاعة و عملوا على تحقيق العدالة و المساواة بين الجميع ، فهم الذين قاموا بتكوين نظام حكم جديد في أقاليمهم كبديل لنظام الحكم الملكي الذي إنهار و سقط في نهاية عصر الدولة القديمة و إعتمد هذا النظام على مفهوم مواجهة الفوضى و الخطر و تحقيق الماعت و إفناء إسفت و لذلك فقد جاء ملوك الدولة الوسطى و إعتمدوا على نفس المفاهيم و أعادوا بناء السلطة الملكية المركزية من جديد بناءا على مفهومين أساسيين إرتبطا ببعضهما البعض و هما :
1 – إعادة تصوير الملكية ذات الطابع الإلهي المقدس و الذي كانت عليه خلال عصر الدولة القديمة .
2 – تصوير الملك و هو يقوم بنفس وظائف حاكم الإقليم خلال عصر الإنتقال الأول من تحقيق للماعت و إفناء للإسفت و إنقاذ الجميع من المجاعة و البؤس و الشقاء و الظلم .
و بهذا الشكل تكونت صورة الملك ( كراعي طيب ) للشعب و ذلك من خلال الرسالة الملكية الموجهة للرعية في عصر الدولة الوسطى فهو يحمي رعيته ليس فقط من الجوع و الفقر ، و إنما يتكفل في المقام الأول بحماية الضعفاء من ظلم و إستغلال ذوي السلطات
يتبين لنا مما تقدم أن رسالة ملكية الدولة الوسطى تسعى للتأكيد على شرعية تنفيذ مبدأ القوة القانونية فبدون هذا المبدأ لن تتحقق الماعت كما أن هذه القوة نتجت عن سبب ضعف قلب الإنسان الذي تمرد ، فالإنسان بطبيعته ليس عادلا و لكنه قادر على تقبل العدالة و إنجذابه نحوها إن قامت السلطة الملكية بفرضها ما عدا القليل من الأشرار الذين يصعب إصلاحهم و لذلك تظهر السلطة الملكية ( كمنظمة أخلاقية ) تسعى للعدالة و المساواة لإنقاذ ( الفضيلة الإجتماعية ) و إبعاد الأعداء عن عالم النظام ( عالم مصر ) الذي خلقه رع منذ البداية ، فيصبح واضحا لدى العقلاء أن الإنسان لا يمكن أن يعيش في سلام دون وجود هذه السلطة و تلك هي رسالة ملوك الدولة الوسطى