الثلاثاء، 7 يناير 2014

القبر و طريق الخلاص في الحضارة المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

القبر و طريق الخلاص في الحضارة المصرية القديمة


شكلت القبور و ما صاحبها من طقوس جنائزية فيالحضارة المصرية القديمة تراثا ضخما و عظيما ليس له نظير في حضارات العالم القديم. و قد لفتت هذه الظاهرة أنظار الرحالة الأجانب من بلاد الإغريق و الرومان فعلىسبيل المثال كتب ( هيكاتايوس فون أبديرا ) الذي عاش في مدينة الإسكندرية لمدة 15عاما و تمكن من زيارة جميع المدن المصرية ما يلي :  " لا يهتم المصريون بالوقت الذي يعيشونفيه ، لأنهم يضعون أكبر إهتمامهم على الوقت الذي يأتي بعد موتهم . فهم يحتفظونبالذكريات عن فضائلهم في أذهانهم حتى يتذكرها أحفادهم من بعدهم . أما عن قبورهمفيسمونها البيوت الأبدية و التي يقضون فيها الوقت الأبدي في العالم الآخر لذلم فهملا يفكرون كثيرا بتأثيث بيوتهم الدنيوية ، بينما لا يضعون أي حدود على مصاريفقبورهم " . هنا نستشف : أنه بالرغم من أن هذا النص يعكس فكر المصري القديم فيالعصور المتأخرة ، إلا أنه يكشف عن معتقدات دينية راسخة في وجدان المصريين وموروثة منذ أزمان بعيدة . و لعل أصدق دليل على ذلك ، هو شهادة مصرية قديمة ترجعلعصر الدولة الحديثة و هو نص من المقبرة رقم 131 في طيبة جاء فيها ما يلي :
" لقد شيدت لنفسي قبرا فاضلا في مدينتيالأبدية و قمت بالتفتيش بكل عناية عن مكان مناسب لقبري الصخري في صحراء الأبدية .و ليدوم إسمي فوقه و في أفواه الأحياء لكي تبقى ذكراي عند الناس جيدة بعد السنينالطويلة التي سوف تأتي . فالحياة الدنيا ليست سوى النزر القليل . إنه إله مجيد ذلكالذي يعمل لصالح المستقبل و الذي يفتش بقلبه ليبحث عن السلام فيدفن جسده و يحياإسمه و هو الذي يفكر في الأبدية " .
يتبين لنا من هذا النص الأخير عدد منالملاحظات الهامة و هي :
1 – أن الإنسان في مصر هو من يبحث بنفسه عنمكان مناسب لعمل مقبرته وفقا لإمكاناته المادية و طبيعة منصبه في الدولة .
2 – أن المقبرة هي الوسيلة التي تجعل للإنسانذكرى أبدية في عالم الأحياء ، فأولى طرق الخلاص : أن يظل إسم الإنسان في أفواهالبشر ، فالمقبرة هي مكان إستدامة ذكر الإنسان .
3 – يتحدث كاتب النص عن إمكانية تحول الإنسانإلى " إله مجيد " بمجرد دفنه في المقبرة ، و هنا ندرك أن العالم الآخرفي مصر هو مكان تواجد الآلهة و أن الإنسان و بفضل الطقوس الجنائزية التي تقام لهعند دفنه يكتسب طبيعة إلهية مجيدة تجعله يحيا للأبد .
4 – يعود سبب النفقات الضخمة على القبور فيمصر إلى مفهوم هام : أن الحياة الدنيا هي قصيرة للغاية إذا ما قورنت مع الحياةالأبدية التي يقضيها الناس في مملكة الموتى .
و لعل هذا النص الأخير يتوافق مع ما جاء فيتعاليم " خيتي الثالث لإبنه مري كا رع " حيث قال له : " قم بتجهيزبيتك في الغرب بكل ما هو جيد و اجعل مكانك الممتاز في مقبرة الموتى " .فالإنسان في عالم مصر مطالب بتجهيز بيته الأبدي بكل ما هو طيب . من الناحيةالأنثروبولوجية يقهر الإنسان هنا مفهوم الخوف من الموت ، فالموت ما هو إلا مرحلةإنتقالية و سيتحول بعدها الإنسان إلى طبيعة إلهية فيحيا مرتاح البال للأبد و يظلإسمه على الأرض دائما و أبدا .
إن المقبرة في الحضارة المصرية القديمة تمثل" الزمن المقدس " و الإنسان المصري عندما يقوم بتشييد مقبرته ، فهو يبني" الزمن المقدس " في " مادة الحجر " و يمكن القول بأن هذاالزمن المقدس يمتد لجميع المناظر و النقوش الخاصة بالمقبرة ، فالحجر المنقوش بسيرةالمتوفى يتحدى عوامل الفناء و من هنا يقتنع المرء فعليا بأن الحياة الدنيا هي ذاتقيمة ضئيلة جدا بل و تظهر له هذه الحياة و كأنها حلما خاطفا و لعلنا نتذكرالأنشودة الشهيرة للعازف على القيثار في المقبرة رقم 50 في طيبة حيث قال : "لماذا يساء إلى هذا البلد الخالد ؟ لماذا يتحدثون لرفع قيمة الحياة الدنيا ويقللون من قيمة العالم الآخر ؟ إن أسلافنا يرقدون هناك منذ أوائل الزمن القديم وسيظلون هناك إلى الأبد ، فالجميع سيرحل إلى هناك ( العالم الآخر ) و لن يبقى أحدهنا ( عالم الدنيا ) ، فالوقت الذي يمضي في الأرض ليس إلا حلما خاطفا و لكن مرحبافالراحة و البركة لمن يصل للغرب " .
يتضح لنا من هذا النص الشهير ما يلي :
1 – أن هناك تيار فكري في الحضارة المصريةالقديمة كان يسعى للتشكيك في مدى و جدوى فائدة الإيمان بالعالم الآخر فهو يقول" لماذا يتحدثون لرفع قيمة الدنيا و التقليل من قيمة العالم الآخر " وقد عبر هذا التيار عن أفكاره في أناشيد تم تسجيلها على جدران بعض المقابر فيالحضارة المصرية القديمة و هو ما يرجح وجود طائفة كانت لا تؤمن بمفهوم العالمالآخر و ما يحدث فيه . 
2 – آمن المصري القديم بأن مصر هي أرض الخلودو أن كل من يدفن فيها يحوز على الخلود و لا يفنى ، فهو يقول : أسلافنا يرقدون هناكمنذ أوائل الزمن القديم و سيظلون إلى منتهى السنين . و أنه لن يبقى أحد في هذاالعالم الدنيوي .
و لكن هل كان القبر هو طريق الخلاص الوحيدللإنسان في مصر ؟
تتحدث بردية " شيستر بيتي " في عصرالرعامسة عن طريق آخر للخلاص فنقرأ في بعض فقراتها : " لم يشيدوا لأنفسهمأهراما و م ينجبوا أطفالا لكي تبقى أسمائهم حية إلا أنهم كتبوا كتبا لكي يقرأهاالآخرون و وضعوا بكرات الكتابة للكهنة المرتلين و جعلوا من لوحة الكتابة الإبنالحبيب فكل ما كتبوه هي أهرامهم و قد بنيت لهم مقاصير صغيرة إلا أنها تهدمت وتركهم كهانهم الميتون و نسيت قبورهم و مقاصيرهم و لكن أسمائهم سميت في كتاباتهمالتي كتبوها و صاروا يذكرون للأبد " .
يتضح لنا من بردية شيستر بيتي و ما جاء فيهاأمورا هامة و هي :
1 – يقارن الكتاب هنا بمفهوم القبر و مايرافقه من طقوس جنائزية ، فالكتاب وفقا لهذا السياق أفضل من المقبرة أو الهرملصاحبه إذا ما أراد الخلود و إستدامة ذكره بين الناس فالمقبرة قد يتركها الكهنةالمرتلين الذين يعملون طقوسا لصالح المتوفى يوما ما و لكن ما يكتبه الإنسان لاينمحي أبدا
2 – هناك قاسم مشترك بين الكتاب و المقبرة (أو الهرم ) فمن يسمي الكتاب هرما ، لابد أن يرى في الهرم شيئا كتابيا فالقاسمالمشترك بينهما هو الخلود في أذهان الأجيال القادمة . فالقبر مثل الكتاب فهو يتجهنحو قراء الأجيال القادمة .
3 – يمكن القول بأن عددا لا بأس به من كتاباتالمقبرة كانت مادة مستوحاة من الأدب المصري القديم ، فالنداء المشهور الذي تمتسجيله على جدران القبور و هو : " نداؤء إلى زائري القبر " نجده فيالكتابات الأدبية المصرية القديمة .
4 – يقوم هذا النص بتشجيع الإنسان المصريالقديم على الكتابة و النبوغ في مجال الأدب إذا ما أراد لنفسه أفضل الطرق نحوالخلاص في العالم الآخر .
و نؤكد هنا أن هناك قاسم آخر يجمع بين الكتابو القبر و هو : تأليف مواضيع و أنشطة المقبرة ، فصاحب القبر يظهر كمؤلف فعليلكتابات و نقوش المقبرة ، فهو يظهر كمؤلف حقيقي لقبره و كتابة سيرة حياته في كلركن من أركان مقبرته ، فالكمقبرة هنا تعادل مفهوم الكتاب .
يظهر القبر بالنسبة للمصريين بوصفه أهم شيءيمتلكونه في هذا العالم فهو يفصح عن " هوية الإنسان الذاتية " و هو" العمل الأعظم " الذي يعيشون من أجله و يصرفون على إنشائه و إكماله كلما ليهم من مال و فكر و إعتقاد ، و هو المكان الذي يمثل " فضائلهم "عندما كانوا أحياء على الأرض و و يبني وجهاء القوم قبورهم خلال حياتهم و يكتبونفيها عن أنفسهم فنقرأ في قبور عصر الدولة الوسطى صيغة كتابية ثابتة تقول :
" أنا الذي قام بتعمير هذه الأرض لكيأكون في مدينة الأبدية و أنفذ فيها أمنيتي و قد إستنفذت إهتماماتي عندما كنت حيالأصل بعد ذلك إلى عمر متميز و بعدما قضيت وقتي بين الأحياء و في ظل مقام صاحبالقبر عند الملك " . كما نقرأ على جدار مقبرة أخرى في طيبة في عصر الدولةالوسطى النص التالي :
" لقد قضيت سنيني في الأرض و دخلت طريقمدينة الأبدية و بعدما أعددت كل الأمور المتعلقة بقبري و التي يجب أن تكون لصاحبالقبر الوقور " . كما نقرأ على جدران مقبرة " حقا إيب " في إلفنتين:
" لقد أكملت بناء هذا القبر و قمتبكتابة نقوشه شخصيا خلال أيام حياتي "
يتبين لنا من تلك النصوص السابقة بعضالملاحظات الهامة و هي :
1 – يتجه المصري القديم لتعيين الموقعالملائم لشكل مقبرته خلال حياته و ذلك لكي تكتمل بهجته و سعادته .
2 – يعتبر القبر في هذا السياق الحضاري المقرو النتيجة الذاتية لتحرياته فهو ينظر إلى مقبرته مثلما ينظر في المرآة إلى نفسه وبناءا على ذلك ينبغي أن تعكس المقبرة حالة مثالية يسعى لها صاحبها .
3 – بما أن المقبرة هي مكان يعكس حالة مثالية، فهي تعكس مفهوم " الماعت " – النظام و الحق و الخير و العدل – و لاوجود " لإسفت " – الفوضى و الباطل و الشر و الظلم – و لذا فلا نتوقعحديث عن أزمات إلا في سياق إظهار صاحبها كما لو كان البطل الأوحد الذي تمكن منالقضاء عليها ، فإسفت هنا إذا تم ذكرها في المقبرة ، فهي تذكر لكي يتم نفيها والقضاء عليها .
 هنايثور تساؤل هام : هل يمكن لنا أن نقول بأن القبور في هذا السياق تنتمي لعالمالأهرام و المسلات و المعابد و التماثيل و الأنصاب و اللوحات الجنائزية و كل ماشابه ذلك ؟ ..... نعم ، فالمصري هنا يسعى نحو خلق موقع مقدس لإستدامة ذكره بينالأجيال اللاحقة و على خلق نقطة إتصال بين عالم السلف و عالم الخلف ، فتلك الأماكنالمقدسة تعتبر إستمرارية لذكرهم على الأرض و لهذا يسجلون لأنفسهم بمادة الكتابة .و هذه الكتابة تجعل للقبور و ما شابهها " صوتا مقدسا " تجعل صاحبهاحاضرا أمام الأحياء فهو يتكلم مع و للأجيال اللاحقة و يسمع لهم و من هنا كان القبريربط صاحبه بشبكة من الذاكرة الثقافية الإجتماعية إلى الأبد .   

الأسطورة الشمسية و كبح جماح الفوضى في عصر الدولة الحديثة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الأسطورة الشمسية و كبح جماح الفوضى في عصر الدولة الحديثة

معطيات الفكرية الدينية الشمسية في عصر الدولة الحديثة ، لم يكن الكون الذي خلقه إله الشمس الخالق مكانا منظما و سليما للأبد ، كما لم تكن هذه المسألة تعني إكتمال خلق الكون . فالمصري القديم أو الفكر الكهنوتي أوجد مفهوم ديني يتمثل في : الحاجة المستمرة على الدوام لإعادة خلق الكون من جانب المعبود الخالق كل يوم ، فخلق الكون ينتمي طبقا لهذه الإعادة المتكررة لما يعرف " بالزمن الدوري " – الزمن الذي يتكرر فيه الحدث بشكل دوري و بالتالي تسير الأحداث فيه على هيئة دائرة .

و من هنا كان خلق الكون للمرة الأولى ، وفقا للتعبير المصري القديم ، عبارة عن فصل و تمييز قاطع بين فوضى ما قبل الخلق ( نون ) و بين فعل ظهور الإله الأول على مسرح الأحداث و الذي أوجد بعدها كل المخلوقات على الربوة السرمدية الأولى . و بعد إتمام هذه العملية تبدأ الشمس في السير في رحلتها اليومية لكي تخلق الزمن الدوري و لكي تعيد لحظة " المرة الأولى لخلق الكون مرة أخرى " عند كل إشراقة جديدة . و لم تكن هذه المسيرة الشمسية الدورية تتم من تلقاء نفسها بل هي تحتاج إلى :
مساعي و جهود قوية من جانب الملك و الكهنة الذين يقيمون الشعائر اللازمة التي تساعد على الشمس على إعادة إشراقتها من المياه الفوضوية الأولى و على إنتظام مسيرتها الدورية يوميا .
هناك تساؤل هام : ما الذي جعل المصري القديم يميل نحو إعادة خلق الكون من جديد في إطار ممارسة شعائرية ميثولوجية ( أسطورية ) ؟
كانت جميع حضارات الشرق الأدنى القديم تؤمن بحقيقة أسطورية هامة ألا و هي : شعورها الدائم بأن الكون بات مهددا بالدمار و الزوال بسبب تقدم الزمن فالزمن في داخله يحمل بذور التغيير و بناءا على ذلك آمنت هذه الحضارات بأن العالم في أزمة مستمرة و أن هناك مخاطر كونية طبيعية و هناك مخاطر سياسية تتعلق بتجارب التاريخ و لذا كان هدف الإعادة التقليدية لخلق الكون من جديد هو جعل الزمن قابلا للإعادة ، ففي كل إعادة يتم التغلب على جميع المخاطر و الأزمات سواء كانت كونية طبيعية أم سياسية تاريخية . و لذا فلا نبالغ إذا قلنا بأن فلسفة الشعائر تعكس وجود قلق أو توتر فالشعيرة هي القالب الذي نضع فيه حالة القلق التي تروادنا فنتغلب عليها بمزاولة الطقس و كلما زادت الشعائر كلما ترجمت هذه أو تلك الحضارة عن بالغ قلقها التي تشعر بها دوما و هذا هو ما حدث في عصر الدولة الحديثة التي أنتجت عددا هائلا من الكتب الدينية الجديدة التي وصفت رحلة العالم الآخر فضلا عن ظهور مناظر أخرى جديدة على جدران المعابد المصرية و التي كشفت عن حالة القلق الوجودي فإله الشمس رع يعيد نشأة الكون لأول مرة يوميا و ذلك بصعوده كل صباح من مياه نون الفوضوية ، مياه ما قبل الخلق . كما ذكرت الأناشيد الشمسية في تلك الفترة أن الإنسان في نومه يشابه الشمس التي تخترق مياه العالم الآخر ، فهو أيضا يغطس في تلك المياه ، و عندما يستيقظ صباحا يكون قد إسترجع شبابه و ذلك " بخلع الإنسان العجوز الذي في داخله فيتحول إلى إنسان جديد يتمتع بالشباب و الحيوية " . و هذا هو سر الزمن الدوري الذي يعمل على تجديد كل شيء في الكون .
من ناحية أخرى ينبغي لنا هنا أن نشير لأمر هام و هو :
إضافة ثعبان الفوضى " عبب " في كتب العالم الآخر في عصر الدولة الحديثة و رغم معرفة المصري القديم بهذه الثعبان في نصوص عصر اللامركزية الأول إلا أنه بدأ يظهر في تاريخ الفن المصري و لأول مرة في عصر الدولة الحديثة ، فقد كان هذا الثعبان المائي الضخم يهدد بإلتهام كل مياه نون الأولى و التي يسبح فيها معبود الشمس في قاربه و من هنا يمكن لنا أن نفرق بين فوضى و أخرى ، فمياه نون التي تجسد مفهوم عالم ما قبل الخلق و حدود العالم الخارجي تحمل في ثناياها مفهوم تجديد العالم و إلا لما رحل إليها رع كل يوم لكي يجدد نفسه أما ثعبان الفوضى " عبب " فهو يهدد وجود العالم بأكمله إذا إبتلع مياه " نون " .
أضافت المسرحية الميثولوجية الشمسية في عصر الدولة الحديثة عددا من المعبودات الشمسية في كتب العالم الآخر و التي عرفت بقدرتها على أداء أدورا فعالة لحماية الشمس خلال مسيرتها ، فلم يوضع إله واحد في قاربي الشمس ليلا و نهار إلا و كان له صلاحية أو قدرة تمكنه من أداء دورا لصالح الشمس ( المعبود الخالق ) . و تتميز كل مرحلة من مراحلة رحلة الشمس بحدث هام ، فهناك الإلهة الأم التي تضع مولودها الشمسي الصغير و هناك من يتولى رعاية الشمس و تربيتها من جانب إلاهات مرضعات ثم نرى بعد ذلك حدث إرتقاء رع لعرش مصر بكل تبجيل و تعظيم من جانب المعبودات التي تصفق له خلال التتويج ثم يخوض حربا قتالية ضد الثعبان الكوني " عبب " و يتمكن من الإنتصار عليه بعون الآلهة التي تقف معه في هذا الصراع ثم يذهب باحثا عن قبر أبيه أوزير بإعتباره حورس إبن إيزيس لكي يتحد به و يعمل على إحيائه من جديد . و المعبود الشمسي هنا " رع " هو " البا " التي تتحد بجسدها " جسد أوزير " . أليست هذه المراحل الخاصة بالرحلة الشمسية هي تجسيد لسياسة الملك الحاكم و ما يؤديه خلال حياته ؟
إن لكل مرحلة من مراحل الرحلة الشمسية مهمة خاصة تستدعي جهود مبذولة من جانب أنصار الشمس ( الملك و الكهنة ) و ذلك لكي تتمكن الشمس من نشر ضيائها في كل ساعة فيتغلب النور على الظلام و من هنا نفهم أن رحلة الشمس و ما يرافقها من طقوس دورية كانت و لابد أن تنتمي لمفهوم الزمن الدوري ، فالزمن الدوري في عالم مصر هو شكل حضاري لا غناء عنه ، فالعالم المصري أصبح دوريا لأجل المحافظة على بقاءه ، لأجل التغلب على زمن الحياة اليومية الذي يحمل في طياته بذور التغيير .
لقد كانت الرحلة الشمسية و ما يصاحبها من تراتيل و أناشيد و طقوس لها أبعاد هامة تتمثل فيما يلي :
1 – البعد الخاص بالسلطة السياسية التي تتمكن من وضع النظام ( ماعت ) بدلا من الفوضى ( إسفت ) و نشر الضياء في العالم بدلا من الظلام و التأكيد على حركة الشمس لإستمرارية الكون بدلا من ركودها .
2 – البعد الخاص بالمستوى الإجتماعي و هو أن مسار الشمس المنتظم يؤدي إلى إنتشار الحب بين الناس و إنتفاء الصراع بينهم .
3 – البعد الذاتي لكل إنسان و يتمثل في إنتصار كل فرد على شيخوخته و موته و ذلك بولادته من جديد مع الشمس المشرقة كل يوم .
و مما لاريب فيه أن المسئول الأول عن إنتظام الرحلة الشمسية هو شخص الملك الحاكم فهكذا نقرأ على لوحة الملك " رمسيس الرابع " في أبيدوس حيث يتقمص دور كاهن الشمس الأول و يقول لها :
" لقد قضيت على – عبب – من أجلك ، و جعلت مركبك تسير دون عائق فلا تقف أبدا على كومة رمال عبب في هذه الرحلة العظيمة " .
يتضح لنا حتى الآن و مما سبق بعض الملامح الهامة و هي :
1 – عبارة كومة الرمال التي وردت في النص السابق تعني : " وجود مجاعة إذا تمكن عبب من إبتلاع المياه ، فمياه نون الأولى هي فيضان مصر الذي ينبع منها " .
2 – هذا النص و غيره من نصوص الدولة الحديثة يشير إلى وجود بذرة الشر منذ الأزل فثعبان الفوضى يعيش منذ البداية في مياه نون الأزلية .  
3 – التغلب على الشر الذي يظهر في شكل ثعبان الفوضى " عبب " و الذي يهدد دائما مركب الشمس بالركود و بالتالي التغلب على الموت .
4 – يظهر معبود الشمس كملك لعالم مصر حيث يجود بالنظام و لا يقول إلا الحق و يعمل على توزيع الطعام على الجميع و يقضي على الشر .
5 – بعد أن كانت هناك قيمتين في هذا العالم و هما : الخير و الشر لا يتبقى سوى قيمة الخير فيصبح عالم مصر بقيمة واحدة فقط و هي قيمة الخير و من هنا يتمكن الناس من الحياة بسلام في هذا العالم و تصبح مصر قابلة للمعيشة
و لكن لا يعكس كل ما سبق أن مصر كانت عالما مثاليا بمزاولتها الشعائر الشمسية بل يعني : الإحتياج الدائم لإقامة هذه الطقوس حتى لا يسقط العالم المصري في براثن المخاطر و الأزمات و الفوضى .
 و من هنا كان الكون في الحضارة المصرية القديمة مسرح لعمليات شعائرية ميثولوجية مقدسة يخوضها أنصار الشمس ( الملك و الكهنة ) لكي يتم التغلب على الموت و لكي تنتعش الحياة و يظل النظام قائما بدلا من الفوضى . فالإنسان في مصر يكتشف نفسه من جديد هذا الكون ، فهو يتغلب على موته كل يوم ، و على قيمته الثنائية بين الخير و الشر و التي إنتهت إلى الخير ، و على عدمية النظام التي تغلب عليها و إسترد سلطته التي سلبت منه ، و كل ذلك بفضل إنتظام رحلة الشمس و لذا فقد كان لزاما على الملك الحاكم أن يعرف و يحفظ عن ظهر قلب الأنشودة الشمسية العظيمة فنقرأ في إحدى فقراتها الهامة ما يلي :
" الملك يتوسل لإله الشمس في الصباح الباكر و ذلك عندما يظهر في هيئة الجعران و يفتح كرته فيدخل في الفم و يخرج من الأفخاذ و عند ولادته في شرق السماء يقوم أبوه أوزير برفعه إلى أعلى ثم يستقر في مركب الصباح و الملك يعرف هذا الحديث السري الذي يحدث للباوات الشرقية عندما تعزف موسيقى و تهلل لإله الشمس و عندما يسلك إله الشمس بداية الطريق فهو يعرف من الذي في مركب النهار و من الذي في مركب الليل و هو يعرف ولادة رع و إن من يعرف ذلك كله يكون هو نفسه رع "
 فهذه الأنشودة تمكنه من معرفة طبيعة الأحداث الكونية و الإلمام بأدق التفاصيل الخاصة بالرحلة الشمسية و عليه أن يعرف كل صغيرة و كبيرة في رحلة الشمس ( بل هو نفسه يصبح رع في قارب الشمس ) و ذلك حتى يتمكن من مخاطبة المعبود الخالق و يتوسل إليه و يحرص على التأكد من إتمام الطقوس كل ساعة و يقوم لذلك بتعيين الكهنة المختصين لكل ساعة من ساعات الرحلة الشمسية نهارا و ليلا ( و لعل ذلك يفسر لنا ظاهرة تشييد المقاصير الشمسية في جميع معابد الدولة الحديثة ) فيقومون بترتيل الترانيم و الأناشيد الشمسية المتعددة ، و رغم أن بعض هذه الترانيم تعود لعصر الدولة القديمة إلا أنهم أضافوا عليها ترانيم أخرى فزادت من حيث الكم و الكيف فتنوعت الأفكار و تبلورت المفاهيم و ظهرت طقوس أخرى هامة و جديدة في تلك الرحلة الشمسية ، فالطقوس التي تقام في كل ساعة و ما يرافقها من تراتيل و ترانيم تقوم بترويض الفوضى الكونية و معها الفوضى التي في داخل كل إنسان و من هنا تكمن أهمية إقامة الشعائر يوميا من جانب أنصار الشمس و هذه هي رسالة الفكر الديني الشمسي في مصر .

وحدة مصر السياسية بين التاريخ و الذاكرة


بسم الله الرحمن الرحيم 

وحدة مصر السياسية بين التاريخ و الذاكرة



يتناول هذا المقال مفهوم تكون مملكة مصر من منظور أثاري أنثروبولوجي  حضاري أو بمعنىأدق كيف قام المصريون القدماء بتكوين و تشكيل هذا الحدث عندما عاصروه و كيف نظرواإليه بعد حدوثه أي كيف قاموا بتكوين ذكرى تستند على الماضي لهذا الحدث . و قبل أننخوض في غمار هذه الدراسة العلمية ، يود الدارس أن يهدي هذا المقال للزميلة والأخت العزيزة الأستاذة " نورا إبراهيم ناصيف " الباحثة في الآثارالمصرية و الشغوفة بمعرفة كل جديد عنها . لاريب أن وحدة مصر السياسية كانت هيالحدث الأبرز حضاريا و أنثروبولوجيا بالنسبة لجميع الأجيال التي عاصرت ذلك الحدثالتاريخي كما أنه ظل في بؤرة الضوء بالنسبة للأجيال اللاحقة التي قامت بتشكيل ذكرىخاصة بهذه الواقعة التاريخية ( تناول الدارس هذا الموضوع في أكثر من محاضرة فينقابة المرشدين فضلا عن كتابته لمقالات أخرى سابقة مرتبطة بتلك المسألة ) . و هناينبغي لنا أن نضع في الإعتبار أنه ليس بالضرورة أن تتطابق هذه الذكرى التي تشكلتفي زمن لاحق مع الواقع التاريخي نفسه ، فالواقعة هنا تم تسجيلها وفقا لرؤية ملوكالأسرة صفر ( لم تكن وحدة مصر السياسية كحدث تاريخي من عمل ملك واحد أو في عصرواحد ) و مدى نجاحهم في تحقيق ذلك الأمر . أما الذكرى المستقبلية الناشئة لدىالأجيال اللاحقة تناولت تلك الواقعة بشكل مختلف ، فالذكرى لا تتفق دائما معالتاريخ .
مما لاريب فيه أن ظهور التصوير الفني خلالعصر نقادة الأولى ( المرحلة الأولى لعصور ما قبل الأسرات و تبدأ من 3900 حتى 3600ق.م ) كان هو العامل الأبرز حضورا في رغبة الإنسان المصري القديم في تثبيت أهمالأحداث التي باشرها بنفسه خلال حياته ، و هو ما ظهر لدينا بشكل واضح على فخار تلكالفترة ، فجميع المناظر التي صورت على ذلك الفخار هي وسيلة لتسجيل " الحدثالأبرز لصاحبه " بل و محاولة تثبيت هذا الحدث كمادة " للذكرى المستقبلية" .
و من جانب آخر يمكن القول أن هذه الحاجةلتثبيت و تسجيل أحداث الزمن الحاضر جاءت بشكل صريح و مباشر على أحد أشهر آثار تلكالفترة و هي مقبرة الزعيم في نخن و التي تنتمي لنهايات عصر نقادة الثانية - 3400 –3300 ق.م - حيث ظهر و لأول مرة على جدران مقبرة مصرية مشهد " ضرب الأعداءبمقمعة الزعيم " و الذي تحول فيما بعد إلى مشهد تقليدي عند ملوك مصر و كانالغرض من تصويره هو : " الإعلان السياسي عن مفهوم الحاكم الذي يبطش بأعداءالبلاد لأجل تثبيت شرعيته " و هو المشهد الذي تصدر الوجه الرئيسي لصلايةالملك نعرمر في نهاية الأسرة صفر الأمر الذي يرجح أنه مشهد ينتمي للموروثاتالثقافية الملكية و التي كانت تعلن دائما عن أهم سياساتها وهي : إظهار مفهوم الملكحامي حمى البلد و قاهر الأعداء بغرض تثبيت شرعيته . فنحن هنا أمام وسيلة لإثباتالشرعية ، و لتحقيق ذلك كان لابد من إستخدام العنف بل و تصويره كمشهد في الزمنالحاضر و كمادة للذكرى المستقبلية .
 تميزتصلاية الملك نعرمر بظهور " المناظر الكبرى المعبرة عن أحداث تلك الفترة فضلاعن نشأة كلمات تصويرية ذات قيم صوتية تم تمثيلها بحجم صغير " . فظهور بعضالكلمات التي ترافق مثل هذه الصور الفنية الكبرى هو لاشك أحد أبرز إنجازات تلكالفترة ، حيث سعة الملك هنا لإيجاد طريقة كتابية محددة و واضحة لتحديد أسماء المدنو أهم الموظفين و المعبودات فضلا عن إسمه . و هنا يجوز لنا أن نقول أن ما سبق هوتعبير عن " يقظة التاريخ " ، حيث أصبح للتاريخ وعيا ، بالرغم من أن هذاالوعي لا ينطبق على الماضي و إنما على الحاضر ( و هو زمن تسجيل الحدث عند وقوعهمباشرة ) . فالغرض الرئيسي من هذا التصوير هو : تثبيت الحدث للأبد في ذكرىالمصريين .
كشفت آثار الأسرة صفر عن ملمح ديني و سياسييرتبط بالملكية المصرية و هو إرتباط الملك و توحده بالمعبود " حورس " ربنخن ( مع الوضع في الإعتبار أن هناك حكاما آخرين لم ينتسبوا في أسمائهم للمعبودحور رب نخن خلال عصر الأسرة صفر ) مما جعل هذا الحدث يستمر في ذكرى الملكية اللاحقةو حتى العصرين البطلمي و الروماني . و هو ذات المعبود الذي ظهر غالبا على صلايةالملك نعرمر ( هذا إذا تجاوزنا عن الرأي القائل بعدم معرفة هوية الصقر المصور علىالصلاية نظرا لعدم ذكر أي إسم مرافق له ) ، فهناك من يرى بأن الأحداث التي صورتعلى صلاية الملك نعرمر هي أحداث وقعت بالفعل و ليست مجرد مشاهد دينية رمزية أودعائية كما يعتقد فريق آخر من الباحثين . و لذا ينبغي لنا أن نشير إلى بعض الملامحالتالية :
1 – الرغبة في تدوين أحداث ذلك العصر نظرالمدى أهمية الواقعة نفسها و هي واقعة إتحاد المملكة
2 – و لكي تكون المادة المعروضة قابلة للرؤيةو العرض و الفهم و الإستيعاب لابد من إيجاد طريقة كتابية أخرى تتمثل في تصويرعلامات صغرى تعبر عن قيم صوتية و تدل على معنى لا علاقة له بما تمثله في الطبيعة ،و بمعنى آخر : وجود حاجة ماسة للكتابة التي تمكن الإنسان المصري القديم من خلالهامن تسمية الأماكن و الأشخاص و المعبودات بأسمائهم .
3 – ظهور مناظر جديدة و فريدة من نوعها علىمعظم مشاهد صلاية الملك نعرمر و هي تختلف تماما عن المناظر التي سبقتها من آثارالملوك الذين سبقوه ، فالفن هنا يعكس مشاهد جديدة تعبر عن حوادث فريدة و كان الهدفمن ذلك : ليس مجرد حفظها من النسيان بل وضعها في حيز العرض و الرؤية و لذلك فمشاهدالصلاية تعبر عن : أثر يكشف عن " تاريخ " و يتحول إلى مادة " للعرض" في الزمن الحاضر بعد أن يعاد صياغته في شكل تمثيلي فني يتناسب مع "الأهداف الأيدولوجية للملكية المصرية " و تصبح ايضا رؤية نموذجية مستقبليةقابلة للقراءة دوما .  
هناك تساؤل هام : " هل صلاية الملكنعرمر كانت قابلة للرؤية من جانب الجماهير المصرية ؟ و لاسيما و أنها كانت موضوعةفي المعبد ؟ " ...
لم يكن المستقبل ( بضم الميم و كسر الباء )الرئيسي لهذه الأحداث هو الجانب البشري ( مع عدم إغفال أهمية ذلك الجانب و تعريفهبطريقة أو بأخرى بطبيعة عمل و أهداف الملكية ) ، بل كان المستقبل لها هو جانبالآلهة ذاتها نظرا لأن هذه الوقائع سجلت على أثر تم إكتشافه في معبد فالهدفالرئيسي هنا يتجه نحو إخبار و تعريف الآلهة بما حدث و من هنا تتثبت هذه الإنجازاتفي الزمن الحاضر كرسالة للمستقبل و ذلك عندما يتحول هذا الحاضر " زمن وقوعالحدث " إلى ماضي و ذلك في إطار دائرة أبدية لا تزول و لا تفنى و بناءا عليهنقول :
" أن كتابة التاريخ تتم أولا في محيط عالمالمعبودات لإكساب صاحبها في الزمن الحاضر شرعية سياسية و دينية أبدية بل و يتحولإلى نموذج مستقبلي يحتذى به ثم إخبار الجانب البشري أيضا في الأزمان اللاحقة بماوقع في الزمن الماضي بشكل أو بآخر " . إن المعنى السياسي هنا و إرتباطه بعالمالآلهة هو الذي أنتج رموزا كتابية جديدة على صلاية الملك نعرمر و لهذا السبب يرىفريق من الباحثين أن معظم مناظر الصلاية كانت مثالا واضحا عن " تدوين التاريخالقديم " بكل ما تحمله الكلمة من معنى و طبقا للمنظور الثقافي المصري القديم.
و مهما كان تفسيرنا لمناظر الصلاية ( سيقومكاتب المقال بعمل دراسة أخرى في المستقبل عن صلاية نعرمر بإذن الله مع التنويهبأنه تناولها في مقال سابق ) فيمكن لنا أن نستشف الملامح التالية :
1 – ظهرت أربعة مناظر من الصلاية من أصل خمسمشاهد رئيسية مفهوم جبروت و بطش الملكية عند نشأة الوحدة المصرية ، فالعنف و القتلو الخضوع للملك هو الموضوع السائد في هذه المشاهد .
2 – أن توسع الملكية و محاولة ضم الجميع تحتراية و زعامة واحدة لم يكن توسعا سلميا بل هو مسألة تتصل بالعنف و إجبار الأطرافالمناوئة على الخضوع لشخص الملك و هو ما يشكل حدث فريد في الزمان و المكان .
3 – يظهر من تمثيل الأعداء على صلاية الملكنعرمر أن الملك هنا لا يقاتل ضد قبائل و إنما ضد عدو مستقر يعيش في قلاع و مدنمحصنة و هو ما يكسب مشاهد الصلاية وقائع تاريخية تعبر عن حدث في الزمن الحاضرالمعاصر لمشاهد الصلاية .
4 – يتوافق شكل المدينة المحصنة المصورة علىصلاية نعرمر مع ما كشفت عنه الآثار خلال عصر نقادة الثالثة أو الأسرة صفر حيث كانتالمدن المصرية في تلك الفترة عبارة عن قلاع عسكرية محصنة ، فطريقة ضرب العدو هناتتمثل في تحطيم قلعة المدينة و ذلك حتى يتم إخضاع من فيها من السكان و قد أثببتالتنقيبات و الحفائر عن وجود بقايا أسوار كبرى من الطوب اللبن تتكون من حصون وبوابات تحيط ببعض المدن المصرية خلال عصر نقادة الثالثة و هو ما يتوافق و ينسجم معمنظر حصن المدينة التي يقتحمها الملك في هيئة الثور على الصلاية .
5 – على هذا الضوء ، يمكن القول بوجود ممالكصغرى ذات سيادة إقليمية مستقلة تم إخضاعها بالقوة الأمر الذي أدى في النهاية لظهوردولة ذات سيادة مركزية و إقليمية كبرى هي الأولى من نوعها في تاريخ الحضاراتالبشرية و ذلك من خلال محاربة دول المدن المستقلة .
إن جميع آثار الأسرة صفر بما فيها صلايةالملك نعرمر هي : " رسالة فنية سياسية تعلن فيها عن ظهور مبدأ القوة الملكيةكنوع من إكتساب الشرعية فضلا عن حرص ملوكها على الظهور أمام أهم معبودات ذلك الزمنلإظهارهم في شكل المؤيدين لأعمالهم السياسية " .
و لهذا فلاغرابة من ظهور أسماء تعكس مفهومالقوة و البطش مثل " العقرب " و " نعرمر " ( حيث كانت الإلهةنعر ربة مقاتلة في آثار الأسرة صفر و العصر العتيق ) و " حور عحا " (حورس المحارب ) و غيرها من أسماء ملوك الأسرة الأولى و الثانية و هو ما يكشف عنالثقافة الملكية المصرية منذ نشأتها الأولى المتمثلة في هيئة الملك الحاكم كشخصيةحربية تقضي على الأعداء في الخارج و الداخل ، فهم الممثلين للفوضى و لذا فهي تحميالبلاد من خطرهم . فنحن هنا أمام " واقع تاريخي " في " الحاضر" يتم إستغلاله " كرسالة أيدولوجية " تنتقل إلى " المستقبل" حتى يتم الحفاظ على الملكية كضامن أوحد لإستقرار النظام في البلاد .
إن أقدم مادة معروفة لذكرى الوحدة المصرية هيطقسة " سما تاوي " بمعنى توحيد الأرضين ، و هي الطقسة التي وردت على حجربالرمو حيث كان الملك حور عحا هو أول من يقيم هذه الطقسة وفقا لما تم ذكره على ذلكالأثر . فهذه الشعيرة تهدف لإحياء ذكرى توحيد مصر لأول مرة كحدث وقع في الزمنالماضي على يد الملك حور عحا ( أول ملك في عصر الأسرة الأولى وفقا لحجر بالرمو ) فيالزمن الحاضر و في زمن المستقبل إلا أن ما ورد هنا عن هذه الطقسة لا يذكر بالتحديدمتى وقع هذا الحدث . و من ناحية أخرى يظهر لنا حجر بالرمو ( الذي تم كتابته في عصرالأسرة الخامسة ) أن هناك مجموعة من الملوك الذين يرتدون التاج الأحمر و التاجالمزدوج قبل عصر الأسرة الأولى ! و هنا يتضح لنا ما يلي 1 – كشفت الآثار عن مجموعةمن الملوك و الزعماء الذين إرتدوا التاج الأبيض و التاج الأحمر خلال عصر الأسرةصفر و هو ما يتوافق مع ما ظهر في حجر بالرمو أي أن الماضي هنا يتفق مع وثيقةبالرمو التي تمثل الزمن الحاضر ( أي زمن كتابتها في عصر الأسرة الخامسة ) .
2 – كان كاتب حجر بالرمو متسقا مع نفسه عندمالم يذكر أي عمل فعلي لملوك الفترة التي سبقت عصر الأسرة الأولى فذاكرته عن هؤلاءالأشخاص لم تسعفه لكتابة أي حوليات عنهم مثلما كتب عن حوليات ملوك العصر التاريخيمنذ عصر الأسرة الأول و حتى النصف الأول من عصر الأسرة الخامسة . ( و هناك منالباحثين من يرى أن السبب في ذلك عدم وجود كتابة تصويرية صوتية متكاملة الأركان أيكتابة ناضجة خلال فترة ما قبل الأسرات و لذا فلم يسجل كاتب بالرمو عنهم شيئا )
3 – يتضح لنا إذن أن الذاكرة المستقبلية هناو من خلال هذا السياق قد لا تعرف من هو أو من هم الذين قاموا بتوحيد مصر لأول مرة؟ فهناك ملوك يرتدون التاج المزدوج في حجر بالرمو لا نعرف عنهم شيئا فضلا عن ظهورطقسة سما تاوي في عصر حور عحا لأول مرة و التي لا تكشف عن إسم الملك الذي قامفعليا بتوحيد البلاد . فهنا نجد حالة إنقطاع حضاري واضح بين ما تم في "الماضي " و ما ظهر في " الحاضر " و " الذاكرة المستقبلية" ، فليس من الضروري أن كل ما وقع في الماضي يظهر في الحاضر و المستقبل .
4 – نلاحظ هنا أن حجر بالرمو و هو أقدم وثيقةتاريخية معروفة لنا من عصر الدولة القديمة ( هناك وثائق تاريخية أقدم من حجربالرمو و تسجل أعمال الملوك على البطاقات العاجية و ترجع للعصر العتيق ) لا يذكرإسم " مينا " على الإطلاق كمؤسس أول للوحدة المصرية و بمعنى آخر أنالمصريين خلال عصر الدولة القديمة كانوا يجهلون هذا الإسم فهو لم يظهر إلا فيالذكرى الثقافية المستقبلية لعصر الدولة الحديثة . كما لا فوتنا من ناحية أخرى أنإسم الملك " مينا " لا يظهر على الإطلاق لا على آثار الأسرة صفر و لاعلى آثار العصر العتيق مما يعني أن وثيقة بالرمو تتفق مع آثار تلك الفترة الماضيةفلا تذكر إسم ذلك الملك .
5 – لم يكن إسم " مينا " أو "مني " سوى نتاج لذكرى ثقافية أنثروبولوجية متأخرة و هنا نقول أن الجذرالأساسي لهذا الإسم هو : " من – بكسر الميم " و الذي يعني : يظل ثابتاأو يظل خالدا أو يؤسس . و نلاحظ من جانب آخر أن هذا الجذر يتفق مع جذر إسم المعبود" مين " رب الخصوبة و لذا فمن المرجح أن " منو " – و هو إسمالمعبود مين و " مني " – و هو الإسم الأسطوري لأول ملك مصري يكشف عنعلاقة ما بينهما و هي : أن الملك الأول الذي قام بتوحيد البلاد هو نفسه الخالقالأول – أنظر رسالة المرحوم دكتور محمد حسون عن الإله مين – فسلطة الملك هنا قديمةقدم العالم ، و التي تولاها الخالق نفسه منذ البداية حيث إرتبط المعبود مين بمفهومالثور الذي أنجب نفسه بنفسه من خلال تلقيحه لأمه البقرة البرية العظيمة ( قارن بينهذه الفكرة و مشهد الملك نعرمر في صلايته و هو يمسك المقمعة التي تمتد أفقيا" بما يشبه شكل عضو الخصوبة " و مشابهة هذا الشكل بشكل المعبود مين ربالخصوبة فضلا عن تصوير البقرات بات الأربعة على نقبة نعرمر حيث يقوم بتخصيبها فيأركان العالم الأربعة – و هو ما ظهر على بعض فقرات متون الأهرام أن الملك هو الثورمين الذي يخصب أمه البقرة البرية العظيمة من خلال نقبته الملكية -  و هو ما يؤكد أن الملك هنا متمقمص هيئة الثورالمخصب لأمه أو بمعنى أدق هيئة الإله مين رب الخصوبة و هو ما يرجح توحد نعرمر معشخصية " مني " الأسطورية في الذاكرة الثقافية التي ظهرت خلال عصر الدولةالحديثة بل و هيمنة ذلك الإسم " مني " على الذاكرة المصرية في مقابلالإختفاء التام لإسم الملك نعرمر ) . فالتركيز هنا يتم على الشخصية المؤسسةللملكية المصرية أكثر من المؤسس نفسه فضلا عن أن الذاكرة أحيانا قد لا تعي الوقائعالتاريخية التي حدث في الماضي الأول و لذا تظهر الحاجة لخلق ماضي ثاني قد يتفق أولا يتفق مع الماضي الأول .
يتبين لنا مما تقدم أن الذاكرة الثقافيةالأنثروبولوجية المرتبطة بمفهوم الوحدة المصرية ( و يمكن تطبيق هذه الفكرة على أيحدث تاريخي ) قد تعكس شيء من المصداقية التاريخية و لكنها لا تعكس التاريخ أوالماضي الأول بأكمله كما وقع ، بل هي تخلق ماضي ثاني يحل محل الماضي الأول و هذاالماضي الثاني يكشف عن رسالة هامة أو يعكس نقاط ثابته لا يمكن زحزحتها و هي : نشأةالملكية و قدمها قدم الخالق الأول نفسه الذي ما إن خلق الكون ، قام بخلق الملكيةذاتها و لاريب أن ظهور مثل هذه الفكرة تعكس إلى حد كبير وجود إنقطاع حضاري نسبيبين الماضي الأول و زمن الحاضر و زمن المستقبل مما أدى لتكوين ذكرى ثقافية مرغوبفيها تحكي عن التاريخ لا كما وقع بحذافيره و لكن تعكس رسالة تؤدي إلى الهدفالمطلوب . و لاريب أنه كلما إبتعد الحدث عن زمن وقوعه كلما زادت نسبة التغيير فيهفي الأزمان اللاحقة و كلما إختلفت الذاكرة الحاملة له و من هنا فإن التاريخ يختلف إلى حد كبير عن الذاكرة .