الثلاثاء، 7 يناير 2014

القبر و طريق الخلاص في الحضارة المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

القبر و طريق الخلاص في الحضارة المصرية القديمة


شكلت القبور و ما صاحبها من طقوس جنائزية فيالحضارة المصرية القديمة تراثا ضخما و عظيما ليس له نظير في حضارات العالم القديم. و قد لفتت هذه الظاهرة أنظار الرحالة الأجانب من بلاد الإغريق و الرومان فعلىسبيل المثال كتب ( هيكاتايوس فون أبديرا ) الذي عاش في مدينة الإسكندرية لمدة 15عاما و تمكن من زيارة جميع المدن المصرية ما يلي :  " لا يهتم المصريون بالوقت الذي يعيشونفيه ، لأنهم يضعون أكبر إهتمامهم على الوقت الذي يأتي بعد موتهم . فهم يحتفظونبالذكريات عن فضائلهم في أذهانهم حتى يتذكرها أحفادهم من بعدهم . أما عن قبورهمفيسمونها البيوت الأبدية و التي يقضون فيها الوقت الأبدي في العالم الآخر لذلم فهملا يفكرون كثيرا بتأثيث بيوتهم الدنيوية ، بينما لا يضعون أي حدود على مصاريفقبورهم " . هنا نستشف : أنه بالرغم من أن هذا النص يعكس فكر المصري القديم فيالعصور المتأخرة ، إلا أنه يكشف عن معتقدات دينية راسخة في وجدان المصريين وموروثة منذ أزمان بعيدة . و لعل أصدق دليل على ذلك ، هو شهادة مصرية قديمة ترجعلعصر الدولة الحديثة و هو نص من المقبرة رقم 131 في طيبة جاء فيها ما يلي :
" لقد شيدت لنفسي قبرا فاضلا في مدينتيالأبدية و قمت بالتفتيش بكل عناية عن مكان مناسب لقبري الصخري في صحراء الأبدية .و ليدوم إسمي فوقه و في أفواه الأحياء لكي تبقى ذكراي عند الناس جيدة بعد السنينالطويلة التي سوف تأتي . فالحياة الدنيا ليست سوى النزر القليل . إنه إله مجيد ذلكالذي يعمل لصالح المستقبل و الذي يفتش بقلبه ليبحث عن السلام فيدفن جسده و يحياإسمه و هو الذي يفكر في الأبدية " .
يتبين لنا من هذا النص الأخير عدد منالملاحظات الهامة و هي :
1 – أن الإنسان في مصر هو من يبحث بنفسه عنمكان مناسب لعمل مقبرته وفقا لإمكاناته المادية و طبيعة منصبه في الدولة .
2 – أن المقبرة هي الوسيلة التي تجعل للإنسانذكرى أبدية في عالم الأحياء ، فأولى طرق الخلاص : أن يظل إسم الإنسان في أفواهالبشر ، فالمقبرة هي مكان إستدامة ذكر الإنسان .
3 – يتحدث كاتب النص عن إمكانية تحول الإنسانإلى " إله مجيد " بمجرد دفنه في المقبرة ، و هنا ندرك أن العالم الآخرفي مصر هو مكان تواجد الآلهة و أن الإنسان و بفضل الطقوس الجنائزية التي تقام لهعند دفنه يكتسب طبيعة إلهية مجيدة تجعله يحيا للأبد .
4 – يعود سبب النفقات الضخمة على القبور فيمصر إلى مفهوم هام : أن الحياة الدنيا هي قصيرة للغاية إذا ما قورنت مع الحياةالأبدية التي يقضيها الناس في مملكة الموتى .
و لعل هذا النص الأخير يتوافق مع ما جاء فيتعاليم " خيتي الثالث لإبنه مري كا رع " حيث قال له : " قم بتجهيزبيتك في الغرب بكل ما هو جيد و اجعل مكانك الممتاز في مقبرة الموتى " .فالإنسان في عالم مصر مطالب بتجهيز بيته الأبدي بكل ما هو طيب . من الناحيةالأنثروبولوجية يقهر الإنسان هنا مفهوم الخوف من الموت ، فالموت ما هو إلا مرحلةإنتقالية و سيتحول بعدها الإنسان إلى طبيعة إلهية فيحيا مرتاح البال للأبد و يظلإسمه على الأرض دائما و أبدا .
إن المقبرة في الحضارة المصرية القديمة تمثل" الزمن المقدس " و الإنسان المصري عندما يقوم بتشييد مقبرته ، فهو يبني" الزمن المقدس " في " مادة الحجر " و يمكن القول بأن هذاالزمن المقدس يمتد لجميع المناظر و النقوش الخاصة بالمقبرة ، فالحجر المنقوش بسيرةالمتوفى يتحدى عوامل الفناء و من هنا يقتنع المرء فعليا بأن الحياة الدنيا هي ذاتقيمة ضئيلة جدا بل و تظهر له هذه الحياة و كأنها حلما خاطفا و لعلنا نتذكرالأنشودة الشهيرة للعازف على القيثار في المقبرة رقم 50 في طيبة حيث قال : "لماذا يساء إلى هذا البلد الخالد ؟ لماذا يتحدثون لرفع قيمة الحياة الدنيا ويقللون من قيمة العالم الآخر ؟ إن أسلافنا يرقدون هناك منذ أوائل الزمن القديم وسيظلون هناك إلى الأبد ، فالجميع سيرحل إلى هناك ( العالم الآخر ) و لن يبقى أحدهنا ( عالم الدنيا ) ، فالوقت الذي يمضي في الأرض ليس إلا حلما خاطفا و لكن مرحبافالراحة و البركة لمن يصل للغرب " .
يتضح لنا من هذا النص الشهير ما يلي :
1 – أن هناك تيار فكري في الحضارة المصريةالقديمة كان يسعى للتشكيك في مدى و جدوى فائدة الإيمان بالعالم الآخر فهو يقول" لماذا يتحدثون لرفع قيمة الدنيا و التقليل من قيمة العالم الآخر " وقد عبر هذا التيار عن أفكاره في أناشيد تم تسجيلها على جدران بعض المقابر فيالحضارة المصرية القديمة و هو ما يرجح وجود طائفة كانت لا تؤمن بمفهوم العالمالآخر و ما يحدث فيه . 
2 – آمن المصري القديم بأن مصر هي أرض الخلودو أن كل من يدفن فيها يحوز على الخلود و لا يفنى ، فهو يقول : أسلافنا يرقدون هناكمنذ أوائل الزمن القديم و سيظلون إلى منتهى السنين . و أنه لن يبقى أحد في هذاالعالم الدنيوي .
و لكن هل كان القبر هو طريق الخلاص الوحيدللإنسان في مصر ؟
تتحدث بردية " شيستر بيتي " في عصرالرعامسة عن طريق آخر للخلاص فنقرأ في بعض فقراتها : " لم يشيدوا لأنفسهمأهراما و م ينجبوا أطفالا لكي تبقى أسمائهم حية إلا أنهم كتبوا كتبا لكي يقرأهاالآخرون و وضعوا بكرات الكتابة للكهنة المرتلين و جعلوا من لوحة الكتابة الإبنالحبيب فكل ما كتبوه هي أهرامهم و قد بنيت لهم مقاصير صغيرة إلا أنها تهدمت وتركهم كهانهم الميتون و نسيت قبورهم و مقاصيرهم و لكن أسمائهم سميت في كتاباتهمالتي كتبوها و صاروا يذكرون للأبد " .
يتضح لنا من بردية شيستر بيتي و ما جاء فيهاأمورا هامة و هي :
1 – يقارن الكتاب هنا بمفهوم القبر و مايرافقه من طقوس جنائزية ، فالكتاب وفقا لهذا السياق أفضل من المقبرة أو الهرملصاحبه إذا ما أراد الخلود و إستدامة ذكره بين الناس فالمقبرة قد يتركها الكهنةالمرتلين الذين يعملون طقوسا لصالح المتوفى يوما ما و لكن ما يكتبه الإنسان لاينمحي أبدا
2 – هناك قاسم مشترك بين الكتاب و المقبرة (أو الهرم ) فمن يسمي الكتاب هرما ، لابد أن يرى في الهرم شيئا كتابيا فالقاسمالمشترك بينهما هو الخلود في أذهان الأجيال القادمة . فالقبر مثل الكتاب فهو يتجهنحو قراء الأجيال القادمة .
3 – يمكن القول بأن عددا لا بأس به من كتاباتالمقبرة كانت مادة مستوحاة من الأدب المصري القديم ، فالنداء المشهور الذي تمتسجيله على جدران القبور و هو : " نداؤء إلى زائري القبر " نجده فيالكتابات الأدبية المصرية القديمة .
4 – يقوم هذا النص بتشجيع الإنسان المصريالقديم على الكتابة و النبوغ في مجال الأدب إذا ما أراد لنفسه أفضل الطرق نحوالخلاص في العالم الآخر .
و نؤكد هنا أن هناك قاسم آخر يجمع بين الكتابو القبر و هو : تأليف مواضيع و أنشطة المقبرة ، فصاحب القبر يظهر كمؤلف فعليلكتابات و نقوش المقبرة ، فهو يظهر كمؤلف حقيقي لقبره و كتابة سيرة حياته في كلركن من أركان مقبرته ، فالكمقبرة هنا تعادل مفهوم الكتاب .
يظهر القبر بالنسبة للمصريين بوصفه أهم شيءيمتلكونه في هذا العالم فهو يفصح عن " هوية الإنسان الذاتية " و هو" العمل الأعظم " الذي يعيشون من أجله و يصرفون على إنشائه و إكماله كلما ليهم من مال و فكر و إعتقاد ، و هو المكان الذي يمثل " فضائلهم "عندما كانوا أحياء على الأرض و و يبني وجهاء القوم قبورهم خلال حياتهم و يكتبونفيها عن أنفسهم فنقرأ في قبور عصر الدولة الوسطى صيغة كتابية ثابتة تقول :
" أنا الذي قام بتعمير هذه الأرض لكيأكون في مدينة الأبدية و أنفذ فيها أمنيتي و قد إستنفذت إهتماماتي عندما كنت حيالأصل بعد ذلك إلى عمر متميز و بعدما قضيت وقتي بين الأحياء و في ظل مقام صاحبالقبر عند الملك " . كما نقرأ على جدار مقبرة أخرى في طيبة في عصر الدولةالوسطى النص التالي :
" لقد قضيت سنيني في الأرض و دخلت طريقمدينة الأبدية و بعدما أعددت كل الأمور المتعلقة بقبري و التي يجب أن تكون لصاحبالقبر الوقور " . كما نقرأ على جدران مقبرة " حقا إيب " في إلفنتين:
" لقد أكملت بناء هذا القبر و قمتبكتابة نقوشه شخصيا خلال أيام حياتي "
يتبين لنا من تلك النصوص السابقة بعضالملاحظات الهامة و هي :
1 – يتجه المصري القديم لتعيين الموقعالملائم لشكل مقبرته خلال حياته و ذلك لكي تكتمل بهجته و سعادته .
2 – يعتبر القبر في هذا السياق الحضاري المقرو النتيجة الذاتية لتحرياته فهو ينظر إلى مقبرته مثلما ينظر في المرآة إلى نفسه وبناءا على ذلك ينبغي أن تعكس المقبرة حالة مثالية يسعى لها صاحبها .
3 – بما أن المقبرة هي مكان يعكس حالة مثالية، فهي تعكس مفهوم " الماعت " – النظام و الحق و الخير و العدل – و لاوجود " لإسفت " – الفوضى و الباطل و الشر و الظلم – و لذا فلا نتوقعحديث عن أزمات إلا في سياق إظهار صاحبها كما لو كان البطل الأوحد الذي تمكن منالقضاء عليها ، فإسفت هنا إذا تم ذكرها في المقبرة ، فهي تذكر لكي يتم نفيها والقضاء عليها .
 هنايثور تساؤل هام : هل يمكن لنا أن نقول بأن القبور في هذا السياق تنتمي لعالمالأهرام و المسلات و المعابد و التماثيل و الأنصاب و اللوحات الجنائزية و كل ماشابه ذلك ؟ ..... نعم ، فالمصري هنا يسعى نحو خلق موقع مقدس لإستدامة ذكره بينالأجيال اللاحقة و على خلق نقطة إتصال بين عالم السلف و عالم الخلف ، فتلك الأماكنالمقدسة تعتبر إستمرارية لذكرهم على الأرض و لهذا يسجلون لأنفسهم بمادة الكتابة .و هذه الكتابة تجعل للقبور و ما شابهها " صوتا مقدسا " تجعل صاحبهاحاضرا أمام الأحياء فهو يتكلم مع و للأجيال اللاحقة و يسمع لهم و من هنا كان القبريربط صاحبه بشبكة من الذاكرة الثقافية الإجتماعية إلى الأبد .   

الأسطورة الشمسية و كبح جماح الفوضى في عصر الدولة الحديثة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الأسطورة الشمسية و كبح جماح الفوضى في عصر الدولة الحديثة

معطيات الفكرية الدينية الشمسية في عصر الدولة الحديثة ، لم يكن الكون الذي خلقه إله الشمس الخالق مكانا منظما و سليما للأبد ، كما لم تكن هذه المسألة تعني إكتمال خلق الكون . فالمصري القديم أو الفكر الكهنوتي أوجد مفهوم ديني يتمثل في : الحاجة المستمرة على الدوام لإعادة خلق الكون من جانب المعبود الخالق كل يوم ، فخلق الكون ينتمي طبقا لهذه الإعادة المتكررة لما يعرف " بالزمن الدوري " – الزمن الذي يتكرر فيه الحدث بشكل دوري و بالتالي تسير الأحداث فيه على هيئة دائرة .

و من هنا كان خلق الكون للمرة الأولى ، وفقا للتعبير المصري القديم ، عبارة عن فصل و تمييز قاطع بين فوضى ما قبل الخلق ( نون ) و بين فعل ظهور الإله الأول على مسرح الأحداث و الذي أوجد بعدها كل المخلوقات على الربوة السرمدية الأولى . و بعد إتمام هذه العملية تبدأ الشمس في السير في رحلتها اليومية لكي تخلق الزمن الدوري و لكي تعيد لحظة " المرة الأولى لخلق الكون مرة أخرى " عند كل إشراقة جديدة . و لم تكن هذه المسيرة الشمسية الدورية تتم من تلقاء نفسها بل هي تحتاج إلى :
مساعي و جهود قوية من جانب الملك و الكهنة الذين يقيمون الشعائر اللازمة التي تساعد على الشمس على إعادة إشراقتها من المياه الفوضوية الأولى و على إنتظام مسيرتها الدورية يوميا .
هناك تساؤل هام : ما الذي جعل المصري القديم يميل نحو إعادة خلق الكون من جديد في إطار ممارسة شعائرية ميثولوجية ( أسطورية ) ؟
كانت جميع حضارات الشرق الأدنى القديم تؤمن بحقيقة أسطورية هامة ألا و هي : شعورها الدائم بأن الكون بات مهددا بالدمار و الزوال بسبب تقدم الزمن فالزمن في داخله يحمل بذور التغيير و بناءا على ذلك آمنت هذه الحضارات بأن العالم في أزمة مستمرة و أن هناك مخاطر كونية طبيعية و هناك مخاطر سياسية تتعلق بتجارب التاريخ و لذا كان هدف الإعادة التقليدية لخلق الكون من جديد هو جعل الزمن قابلا للإعادة ، ففي كل إعادة يتم التغلب على جميع المخاطر و الأزمات سواء كانت كونية طبيعية أم سياسية تاريخية . و لذا فلا نبالغ إذا قلنا بأن فلسفة الشعائر تعكس وجود قلق أو توتر فالشعيرة هي القالب الذي نضع فيه حالة القلق التي تروادنا فنتغلب عليها بمزاولة الطقس و كلما زادت الشعائر كلما ترجمت هذه أو تلك الحضارة عن بالغ قلقها التي تشعر بها دوما و هذا هو ما حدث في عصر الدولة الحديثة التي أنتجت عددا هائلا من الكتب الدينية الجديدة التي وصفت رحلة العالم الآخر فضلا عن ظهور مناظر أخرى جديدة على جدران المعابد المصرية و التي كشفت عن حالة القلق الوجودي فإله الشمس رع يعيد نشأة الكون لأول مرة يوميا و ذلك بصعوده كل صباح من مياه نون الفوضوية ، مياه ما قبل الخلق . كما ذكرت الأناشيد الشمسية في تلك الفترة أن الإنسان في نومه يشابه الشمس التي تخترق مياه العالم الآخر ، فهو أيضا يغطس في تلك المياه ، و عندما يستيقظ صباحا يكون قد إسترجع شبابه و ذلك " بخلع الإنسان العجوز الذي في داخله فيتحول إلى إنسان جديد يتمتع بالشباب و الحيوية " . و هذا هو سر الزمن الدوري الذي يعمل على تجديد كل شيء في الكون .
من ناحية أخرى ينبغي لنا هنا أن نشير لأمر هام و هو :
إضافة ثعبان الفوضى " عبب " في كتب العالم الآخر في عصر الدولة الحديثة و رغم معرفة المصري القديم بهذه الثعبان في نصوص عصر اللامركزية الأول إلا أنه بدأ يظهر في تاريخ الفن المصري و لأول مرة في عصر الدولة الحديثة ، فقد كان هذا الثعبان المائي الضخم يهدد بإلتهام كل مياه نون الأولى و التي يسبح فيها معبود الشمس في قاربه و من هنا يمكن لنا أن نفرق بين فوضى و أخرى ، فمياه نون التي تجسد مفهوم عالم ما قبل الخلق و حدود العالم الخارجي تحمل في ثناياها مفهوم تجديد العالم و إلا لما رحل إليها رع كل يوم لكي يجدد نفسه أما ثعبان الفوضى " عبب " فهو يهدد وجود العالم بأكمله إذا إبتلع مياه " نون " .
أضافت المسرحية الميثولوجية الشمسية في عصر الدولة الحديثة عددا من المعبودات الشمسية في كتب العالم الآخر و التي عرفت بقدرتها على أداء أدورا فعالة لحماية الشمس خلال مسيرتها ، فلم يوضع إله واحد في قاربي الشمس ليلا و نهار إلا و كان له صلاحية أو قدرة تمكنه من أداء دورا لصالح الشمس ( المعبود الخالق ) . و تتميز كل مرحلة من مراحلة رحلة الشمس بحدث هام ، فهناك الإلهة الأم التي تضع مولودها الشمسي الصغير و هناك من يتولى رعاية الشمس و تربيتها من جانب إلاهات مرضعات ثم نرى بعد ذلك حدث إرتقاء رع لعرش مصر بكل تبجيل و تعظيم من جانب المعبودات التي تصفق له خلال التتويج ثم يخوض حربا قتالية ضد الثعبان الكوني " عبب " و يتمكن من الإنتصار عليه بعون الآلهة التي تقف معه في هذا الصراع ثم يذهب باحثا عن قبر أبيه أوزير بإعتباره حورس إبن إيزيس لكي يتحد به و يعمل على إحيائه من جديد . و المعبود الشمسي هنا " رع " هو " البا " التي تتحد بجسدها " جسد أوزير " . أليست هذه المراحل الخاصة بالرحلة الشمسية هي تجسيد لسياسة الملك الحاكم و ما يؤديه خلال حياته ؟
إن لكل مرحلة من مراحل الرحلة الشمسية مهمة خاصة تستدعي جهود مبذولة من جانب أنصار الشمس ( الملك و الكهنة ) و ذلك لكي تتمكن الشمس من نشر ضيائها في كل ساعة فيتغلب النور على الظلام و من هنا نفهم أن رحلة الشمس و ما يرافقها من طقوس دورية كانت و لابد أن تنتمي لمفهوم الزمن الدوري ، فالزمن الدوري في عالم مصر هو شكل حضاري لا غناء عنه ، فالعالم المصري أصبح دوريا لأجل المحافظة على بقاءه ، لأجل التغلب على زمن الحياة اليومية الذي يحمل في طياته بذور التغيير .
لقد كانت الرحلة الشمسية و ما يصاحبها من تراتيل و أناشيد و طقوس لها أبعاد هامة تتمثل فيما يلي :
1 – البعد الخاص بالسلطة السياسية التي تتمكن من وضع النظام ( ماعت ) بدلا من الفوضى ( إسفت ) و نشر الضياء في العالم بدلا من الظلام و التأكيد على حركة الشمس لإستمرارية الكون بدلا من ركودها .
2 – البعد الخاص بالمستوى الإجتماعي و هو أن مسار الشمس المنتظم يؤدي إلى إنتشار الحب بين الناس و إنتفاء الصراع بينهم .
3 – البعد الذاتي لكل إنسان و يتمثل في إنتصار كل فرد على شيخوخته و موته و ذلك بولادته من جديد مع الشمس المشرقة كل يوم .
و مما لاريب فيه أن المسئول الأول عن إنتظام الرحلة الشمسية هو شخص الملك الحاكم فهكذا نقرأ على لوحة الملك " رمسيس الرابع " في أبيدوس حيث يتقمص دور كاهن الشمس الأول و يقول لها :
" لقد قضيت على – عبب – من أجلك ، و جعلت مركبك تسير دون عائق فلا تقف أبدا على كومة رمال عبب في هذه الرحلة العظيمة " .
يتضح لنا حتى الآن و مما سبق بعض الملامح الهامة و هي :
1 – عبارة كومة الرمال التي وردت في النص السابق تعني : " وجود مجاعة إذا تمكن عبب من إبتلاع المياه ، فمياه نون الأولى هي فيضان مصر الذي ينبع منها " .
2 – هذا النص و غيره من نصوص الدولة الحديثة يشير إلى وجود بذرة الشر منذ الأزل فثعبان الفوضى يعيش منذ البداية في مياه نون الأزلية .  
3 – التغلب على الشر الذي يظهر في شكل ثعبان الفوضى " عبب " و الذي يهدد دائما مركب الشمس بالركود و بالتالي التغلب على الموت .
4 – يظهر معبود الشمس كملك لعالم مصر حيث يجود بالنظام و لا يقول إلا الحق و يعمل على توزيع الطعام على الجميع و يقضي على الشر .
5 – بعد أن كانت هناك قيمتين في هذا العالم و هما : الخير و الشر لا يتبقى سوى قيمة الخير فيصبح عالم مصر بقيمة واحدة فقط و هي قيمة الخير و من هنا يتمكن الناس من الحياة بسلام في هذا العالم و تصبح مصر قابلة للمعيشة
و لكن لا يعكس كل ما سبق أن مصر كانت عالما مثاليا بمزاولتها الشعائر الشمسية بل يعني : الإحتياج الدائم لإقامة هذه الطقوس حتى لا يسقط العالم المصري في براثن المخاطر و الأزمات و الفوضى .
 و من هنا كان الكون في الحضارة المصرية القديمة مسرح لعمليات شعائرية ميثولوجية مقدسة يخوضها أنصار الشمس ( الملك و الكهنة ) لكي يتم التغلب على الموت و لكي تنتعش الحياة و يظل النظام قائما بدلا من الفوضى . فالإنسان في مصر يكتشف نفسه من جديد هذا الكون ، فهو يتغلب على موته كل يوم ، و على قيمته الثنائية بين الخير و الشر و التي إنتهت إلى الخير ، و على عدمية النظام التي تغلب عليها و إسترد سلطته التي سلبت منه ، و كل ذلك بفضل إنتظام رحلة الشمس و لذا فقد كان لزاما على الملك الحاكم أن يعرف و يحفظ عن ظهر قلب الأنشودة الشمسية العظيمة فنقرأ في إحدى فقراتها الهامة ما يلي :
" الملك يتوسل لإله الشمس في الصباح الباكر و ذلك عندما يظهر في هيئة الجعران و يفتح كرته فيدخل في الفم و يخرج من الأفخاذ و عند ولادته في شرق السماء يقوم أبوه أوزير برفعه إلى أعلى ثم يستقر في مركب الصباح و الملك يعرف هذا الحديث السري الذي يحدث للباوات الشرقية عندما تعزف موسيقى و تهلل لإله الشمس و عندما يسلك إله الشمس بداية الطريق فهو يعرف من الذي في مركب النهار و من الذي في مركب الليل و هو يعرف ولادة رع و إن من يعرف ذلك كله يكون هو نفسه رع "
 فهذه الأنشودة تمكنه من معرفة طبيعة الأحداث الكونية و الإلمام بأدق التفاصيل الخاصة بالرحلة الشمسية و عليه أن يعرف كل صغيرة و كبيرة في رحلة الشمس ( بل هو نفسه يصبح رع في قارب الشمس ) و ذلك حتى يتمكن من مخاطبة المعبود الخالق و يتوسل إليه و يحرص على التأكد من إتمام الطقوس كل ساعة و يقوم لذلك بتعيين الكهنة المختصين لكل ساعة من ساعات الرحلة الشمسية نهارا و ليلا ( و لعل ذلك يفسر لنا ظاهرة تشييد المقاصير الشمسية في جميع معابد الدولة الحديثة ) فيقومون بترتيل الترانيم و الأناشيد الشمسية المتعددة ، و رغم أن بعض هذه الترانيم تعود لعصر الدولة القديمة إلا أنهم أضافوا عليها ترانيم أخرى فزادت من حيث الكم و الكيف فتنوعت الأفكار و تبلورت المفاهيم و ظهرت طقوس أخرى هامة و جديدة في تلك الرحلة الشمسية ، فالطقوس التي تقام في كل ساعة و ما يرافقها من تراتيل و ترانيم تقوم بترويض الفوضى الكونية و معها الفوضى التي في داخل كل إنسان و من هنا تكمن أهمية إقامة الشعائر يوميا من جانب أنصار الشمس و هذه هي رسالة الفكر الديني الشمسي في مصر .

وحدة مصر السياسية بين التاريخ و الذاكرة


بسم الله الرحمن الرحيم 

وحدة مصر السياسية بين التاريخ و الذاكرة



يتناول هذا المقال مفهوم تكون مملكة مصر من منظور أثاري أنثروبولوجي  حضاري أو بمعنىأدق كيف قام المصريون القدماء بتكوين و تشكيل هذا الحدث عندما عاصروه و كيف نظرواإليه بعد حدوثه أي كيف قاموا بتكوين ذكرى تستند على الماضي لهذا الحدث . و قبل أننخوض في غمار هذه الدراسة العلمية ، يود الدارس أن يهدي هذا المقال للزميلة والأخت العزيزة الأستاذة " نورا إبراهيم ناصيف " الباحثة في الآثارالمصرية و الشغوفة بمعرفة كل جديد عنها . لاريب أن وحدة مصر السياسية كانت هيالحدث الأبرز حضاريا و أنثروبولوجيا بالنسبة لجميع الأجيال التي عاصرت ذلك الحدثالتاريخي كما أنه ظل في بؤرة الضوء بالنسبة للأجيال اللاحقة التي قامت بتشكيل ذكرىخاصة بهذه الواقعة التاريخية ( تناول الدارس هذا الموضوع في أكثر من محاضرة فينقابة المرشدين فضلا عن كتابته لمقالات أخرى سابقة مرتبطة بتلك المسألة ) . و هناينبغي لنا أن نضع في الإعتبار أنه ليس بالضرورة أن تتطابق هذه الذكرى التي تشكلتفي زمن لاحق مع الواقع التاريخي نفسه ، فالواقعة هنا تم تسجيلها وفقا لرؤية ملوكالأسرة صفر ( لم تكن وحدة مصر السياسية كحدث تاريخي من عمل ملك واحد أو في عصرواحد ) و مدى نجاحهم في تحقيق ذلك الأمر . أما الذكرى المستقبلية الناشئة لدىالأجيال اللاحقة تناولت تلك الواقعة بشكل مختلف ، فالذكرى لا تتفق دائما معالتاريخ .
مما لاريب فيه أن ظهور التصوير الفني خلالعصر نقادة الأولى ( المرحلة الأولى لعصور ما قبل الأسرات و تبدأ من 3900 حتى 3600ق.م ) كان هو العامل الأبرز حضورا في رغبة الإنسان المصري القديم في تثبيت أهمالأحداث التي باشرها بنفسه خلال حياته ، و هو ما ظهر لدينا بشكل واضح على فخار تلكالفترة ، فجميع المناظر التي صورت على ذلك الفخار هي وسيلة لتسجيل " الحدثالأبرز لصاحبه " بل و محاولة تثبيت هذا الحدث كمادة " للذكرى المستقبلية" .
و من جانب آخر يمكن القول أن هذه الحاجةلتثبيت و تسجيل أحداث الزمن الحاضر جاءت بشكل صريح و مباشر على أحد أشهر آثار تلكالفترة و هي مقبرة الزعيم في نخن و التي تنتمي لنهايات عصر نقادة الثانية - 3400 –3300 ق.م - حيث ظهر و لأول مرة على جدران مقبرة مصرية مشهد " ضرب الأعداءبمقمعة الزعيم " و الذي تحول فيما بعد إلى مشهد تقليدي عند ملوك مصر و كانالغرض من تصويره هو : " الإعلان السياسي عن مفهوم الحاكم الذي يبطش بأعداءالبلاد لأجل تثبيت شرعيته " و هو المشهد الذي تصدر الوجه الرئيسي لصلايةالملك نعرمر في نهاية الأسرة صفر الأمر الذي يرجح أنه مشهد ينتمي للموروثاتالثقافية الملكية و التي كانت تعلن دائما عن أهم سياساتها وهي : إظهار مفهوم الملكحامي حمى البلد و قاهر الأعداء بغرض تثبيت شرعيته . فنحن هنا أمام وسيلة لإثباتالشرعية ، و لتحقيق ذلك كان لابد من إستخدام العنف بل و تصويره كمشهد في الزمنالحاضر و كمادة للذكرى المستقبلية .
 تميزتصلاية الملك نعرمر بظهور " المناظر الكبرى المعبرة عن أحداث تلك الفترة فضلاعن نشأة كلمات تصويرية ذات قيم صوتية تم تمثيلها بحجم صغير " . فظهور بعضالكلمات التي ترافق مثل هذه الصور الفنية الكبرى هو لاشك أحد أبرز إنجازات تلكالفترة ، حيث سعة الملك هنا لإيجاد طريقة كتابية محددة و واضحة لتحديد أسماء المدنو أهم الموظفين و المعبودات فضلا عن إسمه . و هنا يجوز لنا أن نقول أن ما سبق هوتعبير عن " يقظة التاريخ " ، حيث أصبح للتاريخ وعيا ، بالرغم من أن هذاالوعي لا ينطبق على الماضي و إنما على الحاضر ( و هو زمن تسجيل الحدث عند وقوعهمباشرة ) . فالغرض الرئيسي من هذا التصوير هو : تثبيت الحدث للأبد في ذكرىالمصريين .
كشفت آثار الأسرة صفر عن ملمح ديني و سياسييرتبط بالملكية المصرية و هو إرتباط الملك و توحده بالمعبود " حورس " ربنخن ( مع الوضع في الإعتبار أن هناك حكاما آخرين لم ينتسبوا في أسمائهم للمعبودحور رب نخن خلال عصر الأسرة صفر ) مما جعل هذا الحدث يستمر في ذكرى الملكية اللاحقةو حتى العصرين البطلمي و الروماني . و هو ذات المعبود الذي ظهر غالبا على صلايةالملك نعرمر ( هذا إذا تجاوزنا عن الرأي القائل بعدم معرفة هوية الصقر المصور علىالصلاية نظرا لعدم ذكر أي إسم مرافق له ) ، فهناك من يرى بأن الأحداث التي صورتعلى صلاية الملك نعرمر هي أحداث وقعت بالفعل و ليست مجرد مشاهد دينية رمزية أودعائية كما يعتقد فريق آخر من الباحثين . و لذا ينبغي لنا أن نشير إلى بعض الملامحالتالية :
1 – الرغبة في تدوين أحداث ذلك العصر نظرالمدى أهمية الواقعة نفسها و هي واقعة إتحاد المملكة
2 – و لكي تكون المادة المعروضة قابلة للرؤيةو العرض و الفهم و الإستيعاب لابد من إيجاد طريقة كتابية أخرى تتمثل في تصويرعلامات صغرى تعبر عن قيم صوتية و تدل على معنى لا علاقة له بما تمثله في الطبيعة ،و بمعنى آخر : وجود حاجة ماسة للكتابة التي تمكن الإنسان المصري القديم من خلالهامن تسمية الأماكن و الأشخاص و المعبودات بأسمائهم .
3 – ظهور مناظر جديدة و فريدة من نوعها علىمعظم مشاهد صلاية الملك نعرمر و هي تختلف تماما عن المناظر التي سبقتها من آثارالملوك الذين سبقوه ، فالفن هنا يعكس مشاهد جديدة تعبر عن حوادث فريدة و كان الهدفمن ذلك : ليس مجرد حفظها من النسيان بل وضعها في حيز العرض و الرؤية و لذلك فمشاهدالصلاية تعبر عن : أثر يكشف عن " تاريخ " و يتحول إلى مادة " للعرض" في الزمن الحاضر بعد أن يعاد صياغته في شكل تمثيلي فني يتناسب مع "الأهداف الأيدولوجية للملكية المصرية " و تصبح ايضا رؤية نموذجية مستقبليةقابلة للقراءة دوما .  
هناك تساؤل هام : " هل صلاية الملكنعرمر كانت قابلة للرؤية من جانب الجماهير المصرية ؟ و لاسيما و أنها كانت موضوعةفي المعبد ؟ " ...
لم يكن المستقبل ( بضم الميم و كسر الباء )الرئيسي لهذه الأحداث هو الجانب البشري ( مع عدم إغفال أهمية ذلك الجانب و تعريفهبطريقة أو بأخرى بطبيعة عمل و أهداف الملكية ) ، بل كان المستقبل لها هو جانبالآلهة ذاتها نظرا لأن هذه الوقائع سجلت على أثر تم إكتشافه في معبد فالهدفالرئيسي هنا يتجه نحو إخبار و تعريف الآلهة بما حدث و من هنا تتثبت هذه الإنجازاتفي الزمن الحاضر كرسالة للمستقبل و ذلك عندما يتحول هذا الحاضر " زمن وقوعالحدث " إلى ماضي و ذلك في إطار دائرة أبدية لا تزول و لا تفنى و بناءا عليهنقول :
" أن كتابة التاريخ تتم أولا في محيط عالمالمعبودات لإكساب صاحبها في الزمن الحاضر شرعية سياسية و دينية أبدية بل و يتحولإلى نموذج مستقبلي يحتذى به ثم إخبار الجانب البشري أيضا في الأزمان اللاحقة بماوقع في الزمن الماضي بشكل أو بآخر " . إن المعنى السياسي هنا و إرتباطه بعالمالآلهة هو الذي أنتج رموزا كتابية جديدة على صلاية الملك نعرمر و لهذا السبب يرىفريق من الباحثين أن معظم مناظر الصلاية كانت مثالا واضحا عن " تدوين التاريخالقديم " بكل ما تحمله الكلمة من معنى و طبقا للمنظور الثقافي المصري القديم.
و مهما كان تفسيرنا لمناظر الصلاية ( سيقومكاتب المقال بعمل دراسة أخرى في المستقبل عن صلاية نعرمر بإذن الله مع التنويهبأنه تناولها في مقال سابق ) فيمكن لنا أن نستشف الملامح التالية :
1 – ظهرت أربعة مناظر من الصلاية من أصل خمسمشاهد رئيسية مفهوم جبروت و بطش الملكية عند نشأة الوحدة المصرية ، فالعنف و القتلو الخضوع للملك هو الموضوع السائد في هذه المشاهد .
2 – أن توسع الملكية و محاولة ضم الجميع تحتراية و زعامة واحدة لم يكن توسعا سلميا بل هو مسألة تتصل بالعنف و إجبار الأطرافالمناوئة على الخضوع لشخص الملك و هو ما يشكل حدث فريد في الزمان و المكان .
3 – يظهر من تمثيل الأعداء على صلاية الملكنعرمر أن الملك هنا لا يقاتل ضد قبائل و إنما ضد عدو مستقر يعيش في قلاع و مدنمحصنة و هو ما يكسب مشاهد الصلاية وقائع تاريخية تعبر عن حدث في الزمن الحاضرالمعاصر لمشاهد الصلاية .
4 – يتوافق شكل المدينة المحصنة المصورة علىصلاية نعرمر مع ما كشفت عنه الآثار خلال عصر نقادة الثالثة أو الأسرة صفر حيث كانتالمدن المصرية في تلك الفترة عبارة عن قلاع عسكرية محصنة ، فطريقة ضرب العدو هناتتمثل في تحطيم قلعة المدينة و ذلك حتى يتم إخضاع من فيها من السكان و قد أثببتالتنقيبات و الحفائر عن وجود بقايا أسوار كبرى من الطوب اللبن تتكون من حصون وبوابات تحيط ببعض المدن المصرية خلال عصر نقادة الثالثة و هو ما يتوافق و ينسجم معمنظر حصن المدينة التي يقتحمها الملك في هيئة الثور على الصلاية .
5 – على هذا الضوء ، يمكن القول بوجود ممالكصغرى ذات سيادة إقليمية مستقلة تم إخضاعها بالقوة الأمر الذي أدى في النهاية لظهوردولة ذات سيادة مركزية و إقليمية كبرى هي الأولى من نوعها في تاريخ الحضاراتالبشرية و ذلك من خلال محاربة دول المدن المستقلة .
إن جميع آثار الأسرة صفر بما فيها صلايةالملك نعرمر هي : " رسالة فنية سياسية تعلن فيها عن ظهور مبدأ القوة الملكيةكنوع من إكتساب الشرعية فضلا عن حرص ملوكها على الظهور أمام أهم معبودات ذلك الزمنلإظهارهم في شكل المؤيدين لأعمالهم السياسية " .
و لهذا فلاغرابة من ظهور أسماء تعكس مفهومالقوة و البطش مثل " العقرب " و " نعرمر " ( حيث كانت الإلهةنعر ربة مقاتلة في آثار الأسرة صفر و العصر العتيق ) و " حور عحا " (حورس المحارب ) و غيرها من أسماء ملوك الأسرة الأولى و الثانية و هو ما يكشف عنالثقافة الملكية المصرية منذ نشأتها الأولى المتمثلة في هيئة الملك الحاكم كشخصيةحربية تقضي على الأعداء في الخارج و الداخل ، فهم الممثلين للفوضى و لذا فهي تحميالبلاد من خطرهم . فنحن هنا أمام " واقع تاريخي " في " الحاضر" يتم إستغلاله " كرسالة أيدولوجية " تنتقل إلى " المستقبل" حتى يتم الحفاظ على الملكية كضامن أوحد لإستقرار النظام في البلاد .
إن أقدم مادة معروفة لذكرى الوحدة المصرية هيطقسة " سما تاوي " بمعنى توحيد الأرضين ، و هي الطقسة التي وردت على حجربالرمو حيث كان الملك حور عحا هو أول من يقيم هذه الطقسة وفقا لما تم ذكره على ذلكالأثر . فهذه الشعيرة تهدف لإحياء ذكرى توحيد مصر لأول مرة كحدث وقع في الزمنالماضي على يد الملك حور عحا ( أول ملك في عصر الأسرة الأولى وفقا لحجر بالرمو ) فيالزمن الحاضر و في زمن المستقبل إلا أن ما ورد هنا عن هذه الطقسة لا يذكر بالتحديدمتى وقع هذا الحدث . و من ناحية أخرى يظهر لنا حجر بالرمو ( الذي تم كتابته في عصرالأسرة الخامسة ) أن هناك مجموعة من الملوك الذين يرتدون التاج الأحمر و التاجالمزدوج قبل عصر الأسرة الأولى ! و هنا يتضح لنا ما يلي 1 – كشفت الآثار عن مجموعةمن الملوك و الزعماء الذين إرتدوا التاج الأبيض و التاج الأحمر خلال عصر الأسرةصفر و هو ما يتوافق مع ما ظهر في حجر بالرمو أي أن الماضي هنا يتفق مع وثيقةبالرمو التي تمثل الزمن الحاضر ( أي زمن كتابتها في عصر الأسرة الخامسة ) .
2 – كان كاتب حجر بالرمو متسقا مع نفسه عندمالم يذكر أي عمل فعلي لملوك الفترة التي سبقت عصر الأسرة الأولى فذاكرته عن هؤلاءالأشخاص لم تسعفه لكتابة أي حوليات عنهم مثلما كتب عن حوليات ملوك العصر التاريخيمنذ عصر الأسرة الأول و حتى النصف الأول من عصر الأسرة الخامسة . ( و هناك منالباحثين من يرى أن السبب في ذلك عدم وجود كتابة تصويرية صوتية متكاملة الأركان أيكتابة ناضجة خلال فترة ما قبل الأسرات و لذا فلم يسجل كاتب بالرمو عنهم شيئا )
3 – يتضح لنا إذن أن الذاكرة المستقبلية هناو من خلال هذا السياق قد لا تعرف من هو أو من هم الذين قاموا بتوحيد مصر لأول مرة؟ فهناك ملوك يرتدون التاج المزدوج في حجر بالرمو لا نعرف عنهم شيئا فضلا عن ظهورطقسة سما تاوي في عصر حور عحا لأول مرة و التي لا تكشف عن إسم الملك الذي قامفعليا بتوحيد البلاد . فهنا نجد حالة إنقطاع حضاري واضح بين ما تم في "الماضي " و ما ظهر في " الحاضر " و " الذاكرة المستقبلية" ، فليس من الضروري أن كل ما وقع في الماضي يظهر في الحاضر و المستقبل .
4 – نلاحظ هنا أن حجر بالرمو و هو أقدم وثيقةتاريخية معروفة لنا من عصر الدولة القديمة ( هناك وثائق تاريخية أقدم من حجربالرمو و تسجل أعمال الملوك على البطاقات العاجية و ترجع للعصر العتيق ) لا يذكرإسم " مينا " على الإطلاق كمؤسس أول للوحدة المصرية و بمعنى آخر أنالمصريين خلال عصر الدولة القديمة كانوا يجهلون هذا الإسم فهو لم يظهر إلا فيالذكرى الثقافية المستقبلية لعصر الدولة الحديثة . كما لا فوتنا من ناحية أخرى أنإسم الملك " مينا " لا يظهر على الإطلاق لا على آثار الأسرة صفر و لاعلى آثار العصر العتيق مما يعني أن وثيقة بالرمو تتفق مع آثار تلك الفترة الماضيةفلا تذكر إسم ذلك الملك .
5 – لم يكن إسم " مينا " أو "مني " سوى نتاج لذكرى ثقافية أنثروبولوجية متأخرة و هنا نقول أن الجذرالأساسي لهذا الإسم هو : " من – بكسر الميم " و الذي يعني : يظل ثابتاأو يظل خالدا أو يؤسس . و نلاحظ من جانب آخر أن هذا الجذر يتفق مع جذر إسم المعبود" مين " رب الخصوبة و لذا فمن المرجح أن " منو " – و هو إسمالمعبود مين و " مني " – و هو الإسم الأسطوري لأول ملك مصري يكشف عنعلاقة ما بينهما و هي : أن الملك الأول الذي قام بتوحيد البلاد هو نفسه الخالقالأول – أنظر رسالة المرحوم دكتور محمد حسون عن الإله مين – فسلطة الملك هنا قديمةقدم العالم ، و التي تولاها الخالق نفسه منذ البداية حيث إرتبط المعبود مين بمفهومالثور الذي أنجب نفسه بنفسه من خلال تلقيحه لأمه البقرة البرية العظيمة ( قارن بينهذه الفكرة و مشهد الملك نعرمر في صلايته و هو يمسك المقمعة التي تمتد أفقيا" بما يشبه شكل عضو الخصوبة " و مشابهة هذا الشكل بشكل المعبود مين ربالخصوبة فضلا عن تصوير البقرات بات الأربعة على نقبة نعرمر حيث يقوم بتخصيبها فيأركان العالم الأربعة – و هو ما ظهر على بعض فقرات متون الأهرام أن الملك هو الثورمين الذي يخصب أمه البقرة البرية العظيمة من خلال نقبته الملكية -  و هو ما يؤكد أن الملك هنا متمقمص هيئة الثورالمخصب لأمه أو بمعنى أدق هيئة الإله مين رب الخصوبة و هو ما يرجح توحد نعرمر معشخصية " مني " الأسطورية في الذاكرة الثقافية التي ظهرت خلال عصر الدولةالحديثة بل و هيمنة ذلك الإسم " مني " على الذاكرة المصرية في مقابلالإختفاء التام لإسم الملك نعرمر ) . فالتركيز هنا يتم على الشخصية المؤسسةللملكية المصرية أكثر من المؤسس نفسه فضلا عن أن الذاكرة أحيانا قد لا تعي الوقائعالتاريخية التي حدث في الماضي الأول و لذا تظهر الحاجة لخلق ماضي ثاني قد يتفق أولا يتفق مع الماضي الأول .
يتبين لنا مما تقدم أن الذاكرة الثقافيةالأنثروبولوجية المرتبطة بمفهوم الوحدة المصرية ( و يمكن تطبيق هذه الفكرة على أيحدث تاريخي ) قد تعكس شيء من المصداقية التاريخية و لكنها لا تعكس التاريخ أوالماضي الأول بأكمله كما وقع ، بل هي تخلق ماضي ثاني يحل محل الماضي الأول و هذاالماضي الثاني يكشف عن رسالة هامة أو يعكس نقاط ثابته لا يمكن زحزحتها و هي : نشأةالملكية و قدمها قدم الخالق الأول نفسه الذي ما إن خلق الكون ، قام بخلق الملكيةذاتها و لاريب أن ظهور مثل هذه الفكرة تعكس إلى حد كبير وجود إنقطاع حضاري نسبيبين الماضي الأول و زمن الحاضر و زمن المستقبل مما أدى لتكوين ذكرى ثقافية مرغوبفيها تحكي عن التاريخ لا كما وقع بحذافيره و لكن تعكس رسالة تؤدي إلى الهدفالمطلوب . و لاريب أنه كلما إبتعد الحدث عن زمن وقوعه كلما زادت نسبة التغيير فيهفي الأزمان اللاحقة و كلما إختلفت الذاكرة الحاملة له و من هنا فإن التاريخ يختلف إلى حد كبير عن الذاكرة .  

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

المتغيرات الثقافية و الدلالات الحضارية لعصر اللامركزية الثالث


بسم الله الرحمن الرحيم 

المتغيرات الثقافية و الدلالات الحضارية لعصر اللامركزية الثالث


لا تهدف هذه الدراسة لتحليل و عرض الأحداث
التاريخية التي وقعت في مصر خلال عصر اللامركزية الثالث بشكل تفصيلي و إنما تسعى
لإلقاء الضوء على أهم المتغيرات الثقافية و الدلالات الحضارية المستجدة على ذلك
العصر فالدارس هنا يسلط بؤرة الضوء على " المتغير " و " الدلالة
" و ذلك من خلال " مجمل الأحداث التاريخية " . و لا يفوتني هنا أن
أهدي هذا المقال للأخ القدير و الصديق العزيز الأستاذ ( ماجد محجوب ) لتفوقه
العلمي و عزيمته الفولاذية و لشغفه بمعرفة كل جديد في مجال علم المصريات . تميزت
نهاية الدولة الحديثة بحدوث تغيرات تاريخية ذات طبيعة سياسية و دينية هامة ، حيث
تمكن كبير كهنة آمون ( حريحور ) من تسجيل ألقاب ملكية لنفسه على جدران معبد (
خونسو ) و صالة الأعمدة الكبرى بالكرنك و بدأ بتأريخ سياسي جديد لعهده تحت مسمى أو
صياغة : زمن أو عهد ( الوحم مسوت ) ، بمعنى : إعادة أو تكرار الميلاد . و جدير
بالذكر أن هذا المصطلح كان قد تم إستخدامه من قبل في عهد الملكين : أمنمحات الأول
و سيتي الأول و يكشف هذا المفهوم و بشكل ضمني عن الملامح التالية : 
1 - بداية عهد جديد ، فكلا الملكين قاما
بتأسيس فترة تاريخية زمنية جديدة و كلاهما إعتبر نفسه مؤسس لعهد جديد . 
2 – يشير هذا المفهوم إلى وجود : " زمن
فوضوي يتسم بالأزمات و الكوارث " يسبق عهد البداية الجديدة ، فذلك الزمن
الفوضي يمثل أحداث من المفترض أنها وقعت في : " ماضي قريب " غير مرضي
عنه و ينبغي تجاوزه أو تشويه ملامحه لأجل إبراز " زمن حاضر " يتميز
ببداية جديدة طيبة و إيجابية . 
3 – بناءا على هذه التسمية و ما تحملها من
معطيات أيدولوجية ثقافية قام الملك سيتي الأول بتوجيه الطعن و القدح لزمن العمارنة
و ما وقع فيه من أحداث سلبية وفقا للأيدولوجيا السياسية لعصر الرعامسة ( هنا يثور
تساؤلات حضارية هامة : من المسئول عن إبراز هذا الطعن الموجه ضد العمارنة في عصر
الملك سيتي ؟ هل هو الملك الحاكم ؟ أم البطانة الملكية ؟ أم الخطاب الديني المصري
القديم ؟ من يتحكم في حركة التاريخ ؟ و ما مدى تأثير كل الأطراف المشاركة في
المشهد السياسي آنذاك في إبراز تلك الصورة ؟ ) . 
4 – إن مفهوم إعادة أو تكرار الميلاد يعكس
إعادة الميلاد أو وجود ولادة جديدة لآلهة مصر و إعادة هذه الآلهة للوجود مرة أخرى
بعد طمسها في زمن العمارنة ، فصور و مناظر و تماثيل الآلهة وفقا لمعطيات الثقافة
الدينية المصرية تعتبر : " مولودة " و ليست مصنوعة لأنها لا تعبر عن
مواد جامدة و غير حية ، و إنما هي في حد ذاتها أجساد حية ، فتحطيم و تدمير و تجاهل
كينونة هذه المعبودات في زمن العمارنة يعني : إبطال فعاليتها و من هنا تبرز أهمية
مصطلح ( الوحم مسوت ) في عصر سيتي الأول الذي أعاد ميلادها من جديد و ذلك من خلال
برنامج معماري و ديني جديد يرنو لبداية جديدة . 
5 – مما لاشك فيه أن هذا الوصف يبرز مفهوم
ديني يرتبط بالخلق و يتمثل في أن كل ولادة جديدة لآلهة مصر تكشف عن عودة لزمن أول
، زمن الأصول الأولى و عهد الخليقة الأول و هو العصر الذي عاشت فيه الآلهة الأوائل
على الأرض و هو الزمن الذهبي الأول الذي كان فيه كل شيء يسير بنظام ، فالملكية هنا
تسعى لإستعادة ذلك الزمن و الذي يعرف من جانب علماء أنثروبولوجيا الماضي الحضاري
" بالماضي الأول البعيد " و الذي يظهر كزمن متفوق على " الماضي
القريب " و الذي يظهر كعهد سلبي و يتسم بالإنهيار التام .
يتضح لنا من تحليل هذا المفهوم أن - الوحم
المسوت - كان خطوة ثقافية ثورية ذات طابع سياسي أيدولوجي تكشف عن تنصل حريحور من
عصر الرعامسة و سياسته و بداية إعلان عهد ديني و سياسي جديد بل و التأريخ لسنوات
حكم جديدة و عدم الإعتراف بسلطة الملكية القائمة في العاصمة الشمالية ( بر- رعمسو
) و ظهور إنقسام السلطة و اللامركزية في الحكم و هي السياسة الإستراتيجية التي
ستميز معظم فترات عصر الإنتقال ( اللامركزية ) الثالث بداية من عصر الأسرة 21 و
حتى بداية عصر الأسرة 25 ؟ ( علامة الإستفهام هنا تشير إلى أنه لا يزال هناك جدل علمي
أكاديمي و عدم إتفاق واضح بين الباحثين حول التحديد الزمني القاطع لنهاية عصر
اللامركزية الثالث ) . فحريحور هنا لا يلزم نفسه بما تم من واجبات دينية أو إلتزامات
سياسية في عصر الرعامسة و يضع بناء سياسي و زمني خاص و مستقل بذاته كما يسعى من
جانب آخر نحو إحتكار أهم المناصب و لذلك فقد منح نفسه ألقاب : الملك ( أعلى سلطة
في البلاد ) و الوزير ( السلطة التنفيذية ) و القائد الأعلى للجيش ( السلطة
العسكرية ) و كاهن آمون الأول ( السلطة الدينية الأقوى في مصر آنذاك ) و لاشك أن
وضع جميع هذه المناصب في قبضة واحدة هو أمر يلفت الإنتباه لأنه لا ينتمي للأمور
الإعتيادية ، فالمتعارف عليه : أن معظم هذه المناصب تنفصل عن السلطة الملكية (
نستثني هنا فقط منصب القائد الأعلى للجيش و الذي كان حكرا على ولي العهد خلال عصر
الرعامسة ) . و من جانب آخر إتسمت إجراءات حريحور في هذا الصدد بأمر هام و هو :
أنها خلت تماما من أي محاولة لتدعيمها
بالإتجاه نحو " الأسفل " فوفقا لمعطيات علم الإجتماع أن حريحور لم يسعى
لتقوية الإجراءات السياسية و الدينية التي إتخذها بالتوجه نحو عامة الشعب ( أي
التوجه نحو الأسفل ) لكي يكتسب ولائهم ( علينا هنا أن نتذكر المحتوى الأدبي الملكي
لنصوص الدولة الوسطى و التي نادت بأن الملك هو الراعي الطيب الذي يسهر طوال الليل
من أجل حماية القطيع " = عامة البشر " و أنه يحرص تمام الحرص على تطبيق
العدالة لإرضائهم و لكي ينال الحظوة لدى المعبودات ) ، بل إتجه نحو " الأعلى
" ، أي توجه ناحية المعبود آمون و لجأ لظاهرة الوحي الإلهي الآموني الذي أصدر
قرارا لصالحه ، فالإله في مصر يتدخل في مجريات التاريخ و السياسة منذ عصر الدولة
الحديثة على أقل تقدير ( و هناك من يرى مفهوم تدخل الإله في مجريات التاريخ منذ
عصور ما قبل التاريخ ) و لهذا السبب نقول بأن شخصية " الإله الكاريزماتي
" أصبحت هي الأقوى على الإطلاق بمعنى أن الإله هنا يظهر و كأنه يحكم فعليا و
لذلك فلا يمكن رد أو رفض أحكامه التي تصدر من خلال وحي ، فحريحور طبقا لذلك
المفهوم يسعى لإقامة " دولة الإله " ( هل كانت إجراءات حريحور "
سياسة عملية طارئة " أملتها الحاجة و ظروف العصر و ما نتج عنه من وجود أزمات
في نهاية عصر الدولة الحديثة ؟ ) . و ما يهمنا في هذا الطرح هو التأكيد على أن ذلك
البناء السياسي الجديد هو الذي إنتهجته مصر لنفسها كنظام حكم خلال معظم فترات عصر
اللامركزية الثالث .
 و من
جانب آخر نجد أن هذا البناء السياسي المستقل يعمل على إمكانية تحويل العلاقات بين
مقاطعات و أقاليم و مدن مصر من سياسة داخلية إلى سياسة خارجية و ذلك لا يعني
بالضرورة أن العلاقات بين منطقة و أخرى لابد و أن تكون عدائية ، بل النقيض هو
الصحيح . فما حدث خلال عصر الأسرة 21 لم يكن تمردا قامت به منطقة ضد الأخرى ، بل
هو " إتفاق بابوي " بين حريحور في طيبة و سمندس في تانيس – و هنا ندين
بالفضل لعالم المصريات ديفيد أوكونور الذي إستخدم هذا التعبير " إتفاق بابوي
" و ذلك في دراسته الرائعة عن الأحداث السياسية لعصر الأسرة 21 – و لذا فإن
التجربة التاريخية العظيمة التي تعلمتها مصر خلال عصر الدولة الحديثة تكمن فيما
يلي :
1 – أن حدود العالم المنظم الذي خلقه رب
الشمس رع لا تنتهي عند حدود مصر 
2 – أن رب الشمس خلق مناطق و بلاد أجنبية
أخرى و يمكن التكيف معها ثقافيا و لو بشكل جزئي أو يمكن التأثير عليها لصالح مصر .
3 – في ظل هذا السياق الحضاري الجديد لم تكن
الحرب وحدها هي الطريقة الناجزة الوحيدة الفعالة في ممارسة السياسة الخارجية مع تلك
البلاد فتراوحت العلاقات مع " العالم الخارجي " ما بين السلم و ما بين
الحرب . و لهذا السبب ندرك كيف أجادت طيبة و تانيس في العام 19 من حكم الملك –
رمسيس 11 – في ممارسة سياسة سلمية بينهما و دون الدخول في صراع عسكري مسلح ، فلا
يسعى أي طرف منهما لفرض هيمنته على الطرف الآخر – مثلما حدث على سبيل المثال في
عصر اللامركزية الأول و الصراع الذي قام بين طيبة و إهناسيا – فلا تعجب إذن من
رؤية تحول العلاقات السياسية بينهما من داخلية إلى خارجية و هو ما يعني من وجهة
نظر الأنثروبولوجيا الثقافية : 
أن ثقافة المجتمع هي عبارة عن " خبرة
تراكمية " فالمعرفة هنا يتم تخزينها و تمريرها من جيل إلى آخر و في عملية
مرورها بين الأجيال لا تبقى ثابتة في عناصرها بل يضاف إليها عناصر و معلومات أخرى
جديدة . فالثقافة هنا تعمل على إيجاد حلول معينة للمشاكل التي تواجهها فتنقلها إلى
الأجيال اللاحقة التي تقوم بتعلمها و حفظها بل و يضيفون عليها حلولا أخرى مناسبة
لعصرهم إضافة إلى ما تسلموه من الأجيال السابقة . 
فلا غرابة إذن من وجود هذا الشكل السياسي
الجديد خلال عصر الأسرة 21 و هو : أن يحكم الملك في الشمال متمركزا تانيس و أن
يحكم كبير كهنة آمون في الجنوب متمركزا في طيبة و أن يتزوج كبير كهنة آمون من إبنة
الملك التانيسي ، و هكذا تتكون عائلة واحدة ، فإذا خلا الفرع التانيسي من خط
الذكور لحكم البلاد يتقدم أحد الذكور من الفرع الطيبي ليحل محله و إذا خلا خط
الذكور من الفرع الطيبي لكي يتولى زعامة كهنوت آمون يتقدم أحد الذكور من الفرع
التانيسي لتولى المهمة . 
  
 إن
الإنقسام السياسي الذي حدث في نهاية عصر الدولة الحديثة كان تمهيد حضاري لحركة
تاريخية أخرى لاحقة ألا وهي : تزايد تعدد السلطات السياسية و إتساع مفهوم
اللامركزية و بروز ذلك الحدث في الذكرى المستقبلية للثقافية المصرية الرسمية بوصفه
حدثا إيجابيا و ليس سلبيا و هنا يمكن لنا أن نعرض الملامح التاريخية و الحضارية
التالية : 
1 – لم تكشف الكتابات الأدبية الرسمية لعصر
اللامركزية الثالث – هنا يمكن تقسيم ذلك العهد إلى فترتين : الأولى و هي عصر
الأسرة 21 و التي تمتد من 1080 ق.م و حتى 820 ق.م و الثانية و هي زمن الأسرات 22 و
23 و 24 ) - عن مفاهيم الفوضى و الأزمات و الكوارث التي حلت بمصر بظهور اللامركزية
في الحكم و هو ما يميز ذلك العصر عن العصرين اللامركزيين السابقين الأول و الثاني
و حتى و إن وجدت بعض الكتابات الأدبية التي تناولت تلك الأفكار ، فهي قد ظهرت و
بشكل جزئي و لم يكن لها صدى مؤثر في المصادر الرسمية في النصف الثاني من عصر
اللامركزية الثالث ( من عام 820 ق.م و حتى عام 650 ق.م ) . 
2 – يتميز النصف الثاني من عصر اللامركزية
الثالث بتعدد السلطات المحلية في مصر و بقاء ذلك التعدد في الذاكرة الثقافية الرسمية
لمصر لدرجة أن هيرودوت وصف هذه الفترة بأنها حكم الإثنى عشر حاكما فكتب : "
فبعد تحرير مصر من حكومة و دولة كهنة الإله هيفاسيوس ( سيتي ) قام المصريون – حيث
لا يمكنهم العيش دون ملك - بتقسيم مصر إلى 12 مقاطعة و نصبوا عليهم 12 ملكا و قد
أصبح هؤلاء الملوك أقرباء بالمصاهرة كما وقعوا بينهم على عقد بعدم محاولة إسقاط
أحدهم للآخر أو إغتصاب أراضيه " . 
3 – لا يعكس نص هيرودوت بالضرورة صحة تاريخية
كاملة لحدث تاريخي فعلي بل يكشف عن ( نواة حقيقية ) لعصر اللامركزية الثالث و ذكرى
ثقافية رسمية صادقة لهذه ( النواة ) تتمثل في وجود إتفاق سياسي إلى حد كبير بين
زعماء ذلك العصر حول طبيعة الحكم آنذاك و الرضاء بمفهوم اللامركزية بل و إظهار تلك
الفترة في المصادر الرسمية كزمن إقطاعي و بطولي في ذاكرة المصريين في العصور
اللاحقة و هو ما كشف عنه نص هيرودوت .
هناك مجموعة من الأسباب التي دفعت بظهور
اللامركزية خلال ذلك العصر بل ربما يمكن رد جذورها إلى نهاية عصر الدولة الحديثة و
هي : 
1 – عدم تمكن سلطة الرعامسة في أواخر عهدها
من فرض سياسة فرض الرقابة الإقتصادية على جميع أقاليم مصر ، فلا وجود لسلطة
تنفيذية قادرة على جلب الضرائب من جميع أنحاء البلاد نحو القصر الملكي في الشمال
لأسباب تاريخية لعل من أبرزها ضعف الشخصية الكارزماتية الملكية فضلا عن تنامي
طموحات كهنة آمون سياسيا و دينيا في ذلك العهد . 
2 – إنهيار الأجهزة الإدارية للدولة و
المعنية بإستلام الضرائب أدى إلى وجود عجز إقتصادي في مخازن القصر الملكي مما نتج
عنه عدم تمكن هذه المخازن من أن تمون مناطق أخرى و هو ما كشفت عنه شواهد و نصوص
تلك الفترة التي تحدثت عن أزمات و مجاعات و إضرابات عمال و محاكمات فضلا عن إرتشاء
الموظفين المعنيين بهذه العملية و عجز السلطة الملكية عن مواجهة كل ذلك
 3 -
لم يكن هناك حل عملي سوى : ظهور تجربة تاريخية سياسية ثقافية جديدة تحل محل التجربة
القديمة و التي بدت هنا و كأنها شكل سلبي لممارسة الحكم ، فهنا لم يعد مفهوم
السلطة المركزية صالح للتطبيق و لم يكن هناك حل سوى وضع السلطات في قبضات ( أيدي )
سياسية متعددة ، و كلما إمتدت قدرة كل قبضة على التحكم في مجريات الأمور كلما
إمتدت سلطتها و بمعنى آخر أن هذه القبضة تتوقف عن فاعليتها و ممارستها للحكم في
منطقة نفوذ مختلفة تتحكم فيها قبضة أخرى مما يؤدي عمليا إلى تقسيم البلاد إلى
مناطق و مقاطعات و مراكز مستقلة سياسيا عن بعضها البعض . 
4 – من وجهة النظر الأنثروبولوجية السياسية :
أن العلاقات بين حكام و ملوك و زعماء ذلك العهد ستتحول من علاقات سياسية داخلية
إلى علاقات سياسية خارجية طالما كان هناك تأريخ مستقل لأحداث فترة كل حاكم داخل
منطقة نفوذه و طالما كان القانون في كل مقاطعة يختلف إلى حد كبير عن قانون
المقاطعة الأخرى و هو ما كشفت عنه بردية موسكو التي سيتناولها الدارس في الفقرة
القادمة مباشرة . 
تنتمي بردية موسكو لطراز الأدب الشعبي لعصر
اللامركزية الثالث فهي تحكي عن موظف كان ينتمي لمكانة إجتماعية مرموقة و كان يمتلك
سفينة و عربة و خدما و كان مقرب لأحد زعماء أو ملوك عصر اللامركزية الثالث إلا أن
الملك قام بعزله من منصبه و تجريده من كل ممتلكاته فذهب يتجول في البلاد من مدينة
إلى أخرى لكي يبدأ حياة جديدة و يسعى لتشكيل علاقات إجتماعية جديدة ، إلا أن كل
ذلك كان ينتهي حتما بالفشل و قبل أن نقرأ ما ورد في هذه البردية نشير إلى أمر هام
يجب توخي الدقة و الحذر عند التعامل مع هذه
النوعية من النصوص فلا ينبغي أن نصدر حكم " بتعميم ثقافي " لحالة
المجتمع المصري في أنحاء البلاد نظرا لأنها رؤية فردية و لا نملك نصوص أخرى مشابهة
لكي نصدر مثل هذا التعميم على حالة البلاد آنذاك و لنتذكر أنه حتى الآن هو نص شعبي
" فريد من نوعه " في عصر اللامركزية الثالث . و لكن و رغم ذلك فلا يجب
علينا أيضا أن نتجاهل ما ورد في هذه البردية فقد ورد فيها : 
" لقد كنت دوما في مدينة غير مدينتي و
في مكان لا أعرفه كنت أجتاز حدود كل مدينة بصعوبة بالغة و كنت دائما تحت قانون
أجنبي و قد فقدت جميع رفاقي القدامى و حتى الأصدقاء الجدد الذين حاولت الحصول
عليهم لم يبقوا معي إلا لمدة وجيزة و إبتعدوا عني بعد ذلك و قد حدث كل ذلك بسبب
حالتي البائسة ، فالجميع هرب مني بسبب فقري . لقد ظلمني حاكم هذه المدينة التي كنت
فيها و كانت ضرائبه شديدة و كان يقوم بسجن من لا يدفع ضرائبه و كان الناس يقولون
عنه أنه رجل ظالم فأقسم بالإله الواحد الأحد بأنه كان يسلب الناس " . ثم
يتابع و يقول : 
" لقد جاءني الشقاء و لم يسأل أحد عن
حالي و أنا هنا أتساءل : إذا تركت أشلاء الإنسان بمفردها عند حافة الصحراء ، فمن
يقوم بدفنها ؟ لم يكن هناك أحد يهمه حالي . أنظر ليس هناك من يهمه حالي لا من
الأموات و لا من الأحياء ، فما معنى آلامي في الزمن القادم ؟ " . 
هناك مجموعة من النتائج النسبية الهامة التي
يمكن الكشف عنها من خلال قراءة و تحليل ما سبق و هي : 
1 – شعور الرجل بالغربة بمجرد خروجه من
مدينته بل و أصبحت هناك رقابة حدودية طوبوغرافية و سياسية خاصة لكل مدينة و ذات
طبيعة صارمة حتى أنه يقول : " و كنت أجتاز حدود كل مدينة بصعوبة بالغة "
و هنا ينسجم ما ورد هنا و يتوافق مع آثار عصر اللامركزية الثالث بعد الكشف عن
بقايا أسوار من الطوب اللبن في معظم مدن مصر و تنتمي زمنيا لذلك العصر فلكل مدينة
أسوار خاصة . ( و هنا نسعى لإثارة تساؤل هام : ما هو السبب وراء ذلك الإجراء ؟ ) و
لعلنا نتذكر من قصة سنوهي لتي ترجع لعصر الدولة الوسطى أنه لم يشعر بالغربة إلا
عندما إجتاز حدود مصر بالكامل ، فضلا عن كونه أنه لم يشعر بأي صعوبة عند تنقله من
مكان لآخر داخل البلاد و هنا يكمن الفارق بين النصين . 
2 – لم يعد هناك قانون مشترك في مصر خلال ذلك
العصر فقد كان كل حاكم يسيطر على مدينته وفقا لقانونه الخاص . و أن القانون الخاص
لبعض المدن لم يحمي الضعفاء من الظلم . 
3 – لا يزال صدى التوحيد القادم من زمن
العمارنة مسموعا في هذا النص فهو يقول : " أقسم بالإله آتوم الواحد الأحد
" . و هو ما يعني : أن التأثير الثقافي لأي عصر سابق لا يختفي بشكل كامل على
الإطلاق حتى و لو سعت السلطة السياسية فيما بعد لطمس الهوية الثقافية لذلك الماضي
الغير مرضي عنه فالثقافة هنا لا تتلاشى بصورة تامة .
4 – يسعى صاحب النص – و بمعطيات علم الإجتماع
- لتصوير حالة من " الإنحلال الكامل في النسيج الإجتماعي " فآلامه التي
يعاني منها ليس هناك من يهمه أن يتفقدها و من الجائز جدا أن يفقد الإنسان أعلى
المناصب دون أن يهتم بما حدث له أي شخص ( و هنا نعقب على ذلك و نقول : أين نحن من
النصوص الأدبية لعصر الدولة الوسطى التي نادت بأن معنى الماعت هو " أن يعمل
الإنسان من أجل الآخرين ، فإذا عمل الإنسان من أجل الآخر سيتذكره الناس للأبد و لن
يختفي إسمه من الأرض " . شتان الفارق بين ما ورد في النصين إلا أنه من جانب
آخر يتشابه ما ورد في هذا السياق مع نصوص عصر اللامركزية الأول التي كشفت عن وجود
أزمات و كوارث إجتماعية ) .
5 – يكشف النص عن إستمرارية المعتقد و
الموروث الديني المصري القديم و الذي يتمثل في : تصور وجود تأثير من الأموات على
عالم الأحياء و أن الأموات يتدخلون أحيانا إما لصالح أو ضد الأحياء مما يعني أنهم
يهتمون برعاية مصالح الناس الذين لا يزالون أحياء على الأرض أحيانا و لذا فهو
" أي صاحب النص " يظن أن حالته لم تعد تهم الأموات التي كان يلجأ إليها
المصري القديم في وقت الشدة و الأزمات و هو وصف أدبي بلاغي يعكس مدى الأزمة التي
يمر بها بطل القصة . 
يتضح لنا من خلال هذا العرض أن بردية موسكو
تنتمي للطراز الأدبي الشعبي المعتاد لوصف الفوضى ( فهل يعكس ما ورد فيها أحداث
تاريخية حقيقية ؟ و ما مدى نسبة المصداقية و نسبة التضليل في محتوى النص ؟ هل يمكن
أن نرفض ما ورد فيها ؟ تلك تساؤلات و قضايا نقدية مشروعة و لكن لا مجال لمناقشتها
في السياق الحالي للدراسة ) فنحن هنا نرى عنف و تعسف و مجاعة و جباية ضرائب مجحفة
و تدهور العلاقات بين الناس و عزلة الإنسان و إنحلال التضامن الإجتماعي و إختفاء
مفهوم الذاكرة الحضارية الإجتماعية التي تدفع الإنسان للعمل من أجل الآخرين حتى
يتذكره الناس فضلا عن إضمحلال الأمل في وجود سلطة عليا عادلة تسعى نحو إرضاء الرعية
و هكذا نرى أن الأحوال السياسية في مصر في
نهاية عصر الدولة الحديثة و خلال عصر اللامركزية الثالث أدت إلى : تحويل مصر من
دولة مستقلة موحدة إلى عصبة من الدويلات الصغيرة حيث بدأت كل مدينة بتحصين نفسها
عن طريق تشييد القلاع التي يلجأ إليها المواطنون خلال أوقات الخطر ، فلم تعد هناك
سلطة مركزية وحيدة قادرة على حماية كل مدن و أقاليم مصر ( الإعتراض هنا يكمن في
هذه التساؤلات : هل بناء هذه القلاع أمر مستحدث خلال عصر اللامركزية الثالث ؟ هل
لم تكن هناك أسوار قلاع لمدن مصرية خلال عصر الدولة الحديثة ؟ و ماذا عن نص الملك
أمنتحب الثاني الذي ورد فيه تعليق الأسرى القتلى من أعداء مصر على أسوار مدينة
طيبة ؟ بل يمكن القول بأن فكرة بناء الأسوار حول المدن ظهرت منذ النصف الثاني لعصر
نقادة الثانية أي في المراحل الأخيرة لعصور ما قبل الأسرات ... من جانب آخر هناك
بالفعل وجود إمكانية لتصديق مفهوم إنعدام الأمن خلال ذلك العصر بسبب ما هو متاح
لدينا من شواهد أثرية و نصية تتمثل في شكوى عمال دير المدينة في نهاية الدولة
الحديثة بأن بدو الصحراء الغربية من " المشاشا " كانوا يغيرون على
قريتهم من آن لآخر فطلبوا تدخل السلطات لحل مشكلتهم ) .
ندرك مما سبق تناوله أن الموقف السياسي خلال
عصر اللامركزية الثالث إتسم بما يلي :
 1 -
دمج الوظائف الكهنوتية و العسكرية و المدنية في قبضة واحدة داخل كل مدينة 
2 - يمكن لنا أن نستشف إرهاصات تلك الفكرة عن
طريق الإجراء الذي إتخذه الملك ( با سبا خع إم نيوت ) - خلال الأسرة 21 – في تانيس
و المعاصر زمنيا لدولة الإله في طيبة حيث كان هو الآخر كبير كهنة آمون في الشمال و
إستحوذ أيضا على لقبي الوزير و القائد الأعلى للجيش 
 3 -
أنه رغم وجود " الإتفاق البابوي " الذي أشرنا إليه سابقا بين تانيس في
الشمال و طيبة في الجنوب و رغم وجود محاولات لخلق عائلة واحدة خلال الأسرة 21 من
خلال سياسية الزواج الدبلوماسي بين العائلتين إلى أن ذلك لم يمنع على المستوى
العملي من قيام " دولتين متشابهتين تماما من حيث التنظيم أو البناء السياسي
" . 
4 - هيمنة النمط الثقافي السياسي لنموذج
الحكم الذي إبتدعه حريحور بل و تنامي هذا النمط بشكل متسارع خلال الأسرات 22 و 23
و 24 ( لن تطرق هذه الدراسة لقضية مدى تصير الزعماء و الملوك و الحكام من ذوي
الأصل المهجن حيث سبق و أن تناولها الدارس في مقال سابق و مستقل إلا أن ذلك لا
يمنع من إعادة طرح هذه القضية مستقبليا مرة أخرى للمناقشة في ضوء المعطيات و
الشواهد الأثرية الجديدة ) حيث تعدد دويلات المدن و التي إحتكر فيها حكامها جميع
المناصب السابقة فانتحل كل حاكم لنفسه أعلى و أهم الألقاب داخل نطاق نفوذه و تحولت
العلاقات السياسية بينهم من داخلية إلى خارجية مع الوضع في الإعتبار ظهور قانون و
جيش خاص لكل مدينة .
و بدلا من إحتكار السلطات و المناصب الهامة
من جانب الدولة ( السلطة المركزية ) ظهرت أنظمة سياسية و إجتماعية متعددة في مصر
خلال النصف الثاني من عصر اللامركزية الثالث ( و تحديدا خلال الأسرات 22 و 23 و 24
) كما زادت ظاهرة الزواج الدبلوماسي بين هؤلاء الحكام و الزعماء ( يمكن لنا هنا أن
نتخذ من تنامي و زيادة تلك الظاهرة مؤشر ثقافي سياسي واضح على طبيعة العلاقة بين
هؤلاء الحكام بأنها علاقة سياسة خارجية و ليست داخلية ) . إن هذا الشكل السياسي
الجديد يمكن لنا أن نرجح وجوده بسبب عاملين و هما : 
1 – العامل الأول : و هو ما سبق و أن طرحناه
و يتمثل في الإجراءات السياسية الجديدة التي إتخذها حريحور ( إذن نتحدث هنا عن
عامل داخلي ) 
2 – العامل الثاني : أن هذا التقسيم السياسي
للبلاد في شكل دويلات المدن و إحتكار كل حاكم مدينة لأعلى المناصب في مدينته و عمل
الزواج الدبلوماسي بين الحكام و وجود جيش لكل مدينة فضلا عن وجود دستور خاص لكل
منطقة و إحتكار كل حاكم الضرائب لنفسه بل و التعبير عن الرضاء التام عن هذه
الأوضاع و عدم ظهور مفهوم الفوضى في النصوص الرسمية و ظهور ذلك العصر و كأنه زمن
بطولي حتى العصر الذي جاء فيه هيرودوت لمصر يعكس نتيجة هامة و هي : أن تمصير هؤلاء
الملوك و الزعماء و الأمراء من ذوي الأصل المهجن الذي يجمع بين " المشاشا
" و " الليبو " و " السبد " و " التمحو " (
الذين حكموا خلال الأسرات 22 و 23 و 24 ) بشكل تام أو كامل هو أمر يحتاج لإعادة
نظر نظرا لأن هذا النمط الثقافي يناسب أكثر العقلية الخاصة بهؤلاء القوم فلكي
نتوخى الدقة ينبغي هنا أن نتحدث – طبقا لمعطيات الأنثروبولوجيا الثقافية - عن وجود
متغيرات خارجية أثرت جزئيا على النمط العام للثقافة المصرية المحلية أو بمعنى أدق
هناك تأثير ثقافي و حضاري متبادل بين الحضارة المصرية و حضارة الملوك من ذوي الأصل
المهجن ( لعلنا هنا سنطرح  قضية مدى و درجة
التمصير لهؤلاء الملوك و الزعماء مرة أخرى للدراسة في الوقت المناسب بإذن الله
وفقا لشواهد مادية و أثرية و لغوية جديدة ) مما يعني أننا هنا نتحدث عن عامل خارجي
.
و قبل أن ننتقل للفقرة اللاحقة من هذا المقال
ينبغي لنا هنا أن نؤكد على طرح علمي هام فيما يتعلق بمفهوم التبادل الحضاري و
التأثير و التأثر ما بين حضارتين . لا يوجد حضارة ناقلة لأخرى . الحضارات كائنات
حية ، لكل منها إستقلالها الذاتي و حياتها الخاصة و شخصيتها المتميزة . لكل منها
جوهرها و بؤرتها و محاورها و قيمها و تصورها للعالم و لذلك فإن علاقتها بالحضارات
المجاورة تحكمه " قوانين إلتقاء الحضارات و منطقه " و الذي تم صياغته في
علم " أنثروبولوجيا الثقافة " . و الواقع أن كل حضارة تتفاعل مع غيرها
من الحضارات المجاورة و تأخذ منها طبقا لإحتياجها الخاص و تتمثل منها ما تريد و
تعيد توظيفه من منظورها و طبقا لإحتياجاتها . لا يوجد نقل حرفي أو تقليد قردي من حضارة
لأخرى . فهذا إفتراض نظري لا وجود له يدل على عقلية الرائي و أهدافه أكثر مما يكشف
الموضوع المرئي و تكوينه . و من هنا يمكن القول أن مفهوم " التأثير و التأثر "
هو أمر واقعي و منطقي و لكن له قوانينه التي تحكمه و لا يأتي بشكل عشوائي و لا
يمكن فهمه على أنه نوع من فرض نمط ثقافي على نمط ثقافي آخر . كما أن ذلك لا يعني
أيضا عدم أصالة الحضارة التي تقتبس ما يناسبها من معطيات حضارية من الثقافات
المجاورة و من جانب آخر لا يمكن تصور وجود حضارة مستكفية بذاتها فلا تقتبس من
غيرها فذلك أيضا إفتراض نظري ليس له أي دليل علمي ، فالحضارات تأخذ و تقتبس من
بعضها البعض ما يناسبها في زمان معين و في مكان محدد .
لقد أفضى إذن ظهور ذلك النظام السياسي الجديد
إلى نتيجة أخرى خلال النصف الثاني لعصر اللامركزية الثالث و هي :
ظهور " المبدأ الأرستقراطي للنسب "
في تعيين الأفراد في الوظائف الهامة بدلا من " مفهوم الكفاءة البيروقراطية
الإجتماعية المصرية " ، فلا شك أن الجماعات البشرية من ذوي الأصل المهجن التي
دخلت البلاد منذ عصر الرعامسة لم تندمج بشكل كامل في معطيات الثقافة المصرية
المحلية فقد كان التعيين في الوظائف الهامة و فقا لمفاهيم القرابة و النسب عنصر
أساسي من عناصر العقلية الثقافية و الحضارية لهذه المجتمعات فقد كانت القرابة
عاملا هاما من عوامل " التشابك الإجتماعي الأفقي " أي إقامة مجموعة من
العلاقات و الشبكات الإجتماعية على خط أفقي واحد بين مختلف الأسر و العائلات التي
تربط مصالحها مع بعضها البعض من خلال تحالفات سياسية مشتركة أو إقامة زواج
دبلوماسي و من هنا أصبح نسب الإنسان و حسبه هما الأساس الثقافي لتحديد المكانة
الإجتماعية لأي فرد خلال عصر اللامركزية الثالث ( التساؤلات هنا تتمثل فيما يلي :
هل المبدأ الأرستقراطي للنسب لم يكن ممارسا قبل عصر اللامركزية الثالث ؟ أم أن
الظاهرة نفسها كانت موجودة و لكن بشكل جزئي ؟ هل نتحدث هنا عن فارق في درجة
الظاهرة من عصر إلى آخر أم فارق في النوعية بمعنى آخر أن الظاهرة في حد ذاتها كانت
إلى حد ما معترف بها في مصر قبل عصر اللامركزية الثالث و لكنها لم تكن قانونا إلا
أن ما حدث بعد ذلك أنها زادت بشكل بارز - الفارق هنا في الدرجة فقط - في ذلك الزمن
؟ ) . 
إن النتيجة السياسية المستحدثة أدت إلى ظهور
" نماذج إجتماعية جديدة " مسيطرة على المجتمع المصري خلال ذلك العصر و
ما يؤكد ذلك الطرح العلمي الهام ما يلي : 
1 – كشفت نصوص ذلك العصر عن أن الحسب أو
النسب كان يمثل الركيزة الأساسية لشغل أي مناصب كبيرة كما أكدت النصوص على الألقاب
التي يحملها " فلان إبن فلان إبن فلان "  
2 – إزدادت ظاهرة وحي الإله الذي يبارك
إنتقال المنصب و وراثته من إبن لإبن آخر فلا يتمكن الإنسان في مصر من شغل مكانة
" إجتماعية مرموقة " خلال ذلك العصر دون الإستناد على " أيدولوجيا
دينية بارزة " 
3 – إستمر هذا النظام الإجتماعي الوراثي لمدة
إمتدت زمنيا إلى مئات السنين و ظهر مفهوم " شجرة العائلة " التي تضرب
بجذورها إلى زمن عتيق و تتوارث المناصب من جيل إلى آخر و ذلك برز مفهوم الأنساب
العائلية العريقة على جدران المقابر حيث صار الإنسان ذي المكانة الإجتماعية
المرموقة يفتخر بجذره العائلي الممتد إلى زمن بعيد و كان سبب تدوين ذلك على جدران
المقبرة هو " الحاجة الأيدولوجية لتثبيت النسب و الحسب للأبد " 
و من هنا يمكن القول بأن الزمن الذي كانت فيه
المملكة المصرية ذات حكم مركزي قوي ، كانت السلطة الملكية تقوم أحيانا و من خلال
لجنة نظام مركزي تعليمي بإختيار و إنتقاء " و لو بشكل جزئي أو هامشي " الموظفين
وفقا للكفاءة المهنية و القدرات التعلمية و المهارات المكتسبة و التي تختلف من فرد
لآخر و قد إستمر هذا الوضع حتى الزمن الذي زار فيه هيرودوت ( عصر الأسرة 27 ) أرض
مصر لدرجة أنه يتحدث و يقول ما يلي : 
" فقد كان للمصريين سبعة طوائف مختلفة ،
الأولى هي طائفة الكهنة و الثانية الطائفة العسكرية و بعدها تأتي طوائف رعاة البقر
و رعاة الخنازير و التجار الصغار و المترجمين و الملاحين " . 
يلاحظ هنا فيما ورد لدى هيرودوت أمورا هامة و
هي : 
1 – ذكر طائفة الكهنة كأولى و أهم طوائف
المجتمع المصري في عصر اللامركزية الثالث بل و في العصر المتأخر بأكمله حيث سيطرت
هذه الطائفة دينيا و سياسيا على مجريات التاريخ في ذلك الزمن في ظل إنهيار مفهوم
الملكية المركزية ذات الصبغة المقدسة . 
2 – بداية وجود إنفصال وظيفي واضح بين
الطائفة الكهنوتية و الطائفة العسكرية التي تلتها مباشرة في العصر المتأخر (
تحديدا خلال عصر الأسرة 27 ) و هو ما لم يكن كذلك خلال عصر اللامركزية الثالث فقد
فضل الحاكم الفارسي المحتل ( في عصر الأسرة 27 ) أن يتعامل مع النخب الكهنوتية
لإحكام قبضته على البلاد ( أنظر نص السيرة الذاتية لكاهن الإلهة نيت " وجا
حور رس نيت " الذي عاصر بداية الغزو الفارسي و مدى تعاونه مع المحتل الأجنبي )
و أن يتجاهل النخب العسكرية التي ظهرت في الأسرة 26 و إنفصلت عن النخب الكهنوتية
لأسباب و ظروف تاريخية قد نتناولها في دراسة تفصيلية مستقبلية أخرى بإذن الله . 
3 – لم يذكر هيرودوت في هذا النص طوائف
إجتماعية أخرى من المجتمع المصري القديم مثل طائفة " الفلاحين " و طائفة
" النحاتين أو الفنانين " فأين كان موقعهم من الإعراب ؟ - للرد على هذا
التساؤل نحتاج هنا لنصوص إدارية و آثار أخرى للكشف عن حقيقة تلك الحالات
الإجتماعية و هو ما يخرج عن نطاق إهتمامنا بالنسبة لموضوع و أهداف هذه الدراسة 
و هنا نجد أنفسنا أمام " بناء إجتماعي
جديد " يرتكز على مفهوم " التبعية الإجتماعية " القائمة على مفهوم
" الحسب و النسب " و قد حل هذا البناء خلال عصر اللامركزية الثالث محل
البناء الإجتماعي القديم و الذي إنهار تماما في نهاية عصر الدولة الحديثة .
 و
لعلنا نراجع في هذا السياق و في عجالة سريعة ما حدث خلال نهاية عصر الدولة القديمة
( نهدف هنا إلى عمل مقارنة بين ظرفين تاريخيين في عصرين مختلفين و هما زمن
اللامركزية الأول و زمن اللامركزية الثالث و المقارنة هنا تهدف للكشف عن المتغيرات
الثقافية بين العصرين ) عندما نشأ نظام جديد تمثل في مفهوم " ولي الأمر
المحلي – و هم حكام الأقاليم و كبار الأفراد " القادر على صد الخطر و حماية
المجتمع من الكوارث و الأزمات و توفير الرخاء للجميع مما أفضى لنشأة و تكون  أيدولوجية " الولاء المطلق لولي الأمر
المحلي – حاكم الإقليم الذي حل محل الملك " الذي يتعلق الجميع به و يرتبط
مصيرهم به – تناول الدارس في أكثر من مقال سابق مفهوم ولي الأمر المحلي خلال عصر
اللامركزية الأول – فضلا عن إبراز صورة " التدين و الورع و التقوى الشخصية
" للإنسان في مصر تجاه الإله المحلي للإقليم . أما الصورة التي صارت عليها
الأمور في عصر اللامركزية الثالث فقد تمثلت في هاتين النتيجتين : 
1 -  تبعية الإنتساب لسلسلة من الآباء من ذوي أصحاب
المناصب العالية في الزمن الماضي . 
2 – مدى و أهمية الورع الشخصي الذي يجمع بين
الإنسان في مصر و بين آلهة المدن المحلية التي أصبحت مسئولة عن تحديد "
المكانة الإجتماعية " للفرد بل و صارت تحدد نوعية مسكنه و طريقة حياته من جهة
أخرى . 
و بعكس ما حدث خلال عصري اللامركزية الأول و
الثاني نجد هنا و بصورة ملفتة للنظر عدم وجود أصوات تشكوا من إنهيار الوحدة
السياسية لمصر و مانتج عنه من تغيرات إجتماعية و ذلك على الأقل في النصوص و
المصادر الرسمية فلا وجود لكلمة الفوضى و يظهر للعيان أن الوضع السياسي الجديد و
المتغيرات الإجتماعية في ذلك الزمن لا تدعو للنقد أو القدح أو الطعن . و من ناحية
أخرى سعت نصوص العصر في إظهار إيجابيات و محاسن هذا النظام السياسي الجديد بشكل
يقتنع به الإنسان في مصر فلا يتمرد و بحيث تظهر الوحدة السياسية للبلاد كخسارة
للجميع .
إن ظاهرة التدين الشخصي و إظهار الورع و
التقديس للمعبود المحلي زادت إلى حد كبير خلال زمن اللامركزية الثالث ، فقد كان
الإله الشخصي في ذلك العصر هو إله المدينة نفسه ( تماما مثلما حدث في عصر
اللامركزية الأول ) كما تحول إله المدينة إلى حاكم محلي لمدينته و أصبح له مجال
لممارسة السلطة السياسية من خلال أعياده المحلية و ممارسة ظاهرة الوحي الإلهي
" و هي الظاهرة التي تنامت في نهاية عصر الرعامسة " فالعيد المحلي في
مصر هو المناسبة التي تتيح للإنسان أن يتصل بالإله حتى يعمل على تحسين مستوى حياته
، فالإله هنا يتنبأ و يعد بالأفضل من خلال " وحي " . و ظاهرة الوحي هي
نوع من أنواع العرض الديني المسرحي ، إلا أن الوعي الشعبي المصري القديم لم يكن
يرى في مثل هذه العروض أي صورة خادعة ، فالوحي الذي يمارس خلال عيد المعبود لم يكن
عرضا خادعا في الذهنية النفسية الشعبية ، بل هو " إخراج مسرحي لإستحضار الإله
" في الزمن الحاضر مثلما كان حاضرا و بشكل مباشر في الزمن الأول . العيد هنا
هو عودة للزمن الأول الذي كان يحكم فيه الإله مباشرة أرض مصر . 
من جانب آخر يمكن لنا أن نستشف السبب الرئيسي
الذي جعل اللامركزية تظهر و كأنها الحل السياسي الأمثل و الأفضل خلال ذلك العصر ،
فمع وجود سلطة مركزية لا يتمكن الملك من تموين الأقاليم و المدن بما تحتاجه فيظهر
كبار المدن و الأقاليم من ذوي المكانة الإجتماعية المرموقة لكي يسدوا هذا الفراغ .
فظهور السلطة المحلية المستقلة في هذا السياق التاريخي لا يكتس أي شرعية سياسية أو
دينية إلا من خلال " سد حاجات المجتمع المحلي " و لم يكن عصر اللامركزية
الثالث في هذه النقطة تحديدا يختلف كثيرا عن عصر اللامركزية الأول . و لذلك السبب
لا نندهش على الإطلاق عندما نجد نصوص السير الذاتية في مقابر كبار الأفراد في زمن
اللامركزية الثالث و قد تم إقتباسها بشكل حرفي من نصوص السير الذاتية لحكام
الأقاليم في زمن اللامركزية الأول . و لعل ذلك الأمر يعكس حقائق بارزة الأهمية و
هي : 
1 – أن عصر اللامركزية الثالث وضع البذور
الأولى لمفهوم العودة للماضي بزيارة و إنتقاء مقابر قديمة و إقتباس نصوص منها تكشف
عن إحساس الإنسان بتميزه الإجتماعي ، فلم تكن هذه المقابر تنتمي  لا لعصر الدولة القديمة و لا الوسطى و لا
الحديثة نظرا لأن النصوص التي تحتويها تخالف أيدولوجيا زمن اللامركزية الثالث . 
2 – كان المرء و من خلال قراءته الجيد لتلك
النصوص يشعر بأن له قرابة مع الجماعات البشرية التي عاشت خلال زمن اللامركزية
الأول كما كان يرى فيهم " قدوة إجتماعية و أدبية " فاتخذ من صورتهم شكلا
إجتماعيا وجيها لتصوير و عرض نفسه أمام الجماهير . 
3 – إستمرت هذه الوجاهة الإجتماعية خلال
الزمن اللاحق أي خلال العصر المتأخر و إنتقلت إلى " النخب الكهنوتية "
التي سعت و بشكل مباشر لإظهار تميزها الإجتماعي أمام الداخل " عامة الشعب
" و أمام الخارج " الأجنبي الفارسي المحتل " . 
4 – إحياء نصوص و أفكار و مفاهيم و معتقدات
زمن اللامركزية الأول لأول مرة في الحضارة المصرية و ذلك بعد أن كان ذلك الزمن غير
مرضي عنه في ذاكرة الثقافة المصرية منذ الدولة الوسطى و حتى نهاية الدولة الحديثة
. " علينا هنا أن نتذكر كيف سعت النصوص الرسمية لعصر الدولة الوسطى لإبراز
صورة سلبية عن شكل الحكم اللامركزي و ما نتج عنه من أزمات إجتماعية " – إلا
أن ذلك لا يعني أيضا أنهم إكتفوا بإحياء مفاهيم ذلك العصر فقط بل يمكن القول بأنهم
إتجهوا كذلك ناحية إحياء المفاهيم الثقافية لعصر الدولة الحديثة فاقتبسوا من ذلك
الماضي القريب " و هو زمن الدولة الحديثة " ما يثبت و يدعم سلطتهم
السياسية و الدينية و الإجتماعية بين الناس
هل يمكن لنا أن نحدد و بشكل أكثر وضوحا ماهية
الديناميكية التاريخية للسياسة المصرية القديمة قبل و خلال عصر اللامركزية الثالث
و ما طرأ عليها من متغيرات تاريخية و ثقافية ؟ ......
تأرجت هذه الديناميكية ما بين نموذجين
سياسيين و هما : 
1 – النموذج التقليدي للسلطة الملكية و الذي
يتمثل في مفهوم " الوحدة " السياسية المركزية و " و التعدد "
و " التميز " على مستوى الوظائف و المناصب فلا يظهر الملك وفقا لهذا
النموذج و هو محتكر لكل المناصب بل يقوم بتعيين أفراد بعينهم في وظائف محددة
يدينون له بالولاء . 
2 – نموذج " التوازي السلطوي " وهو
النموذج الذي إبتدعه حريحور و سار عليه معظم ملوك و أمراء عصر اللامركزية الثالث و
يتمثل في مفهوم وجود " سلطات محلية متوازية " و تحتكر كل سلطة منها جميع
الوظائف و المناصب الهامة على نمط واحد وتيرة متشابهة .
و يمكن القول أن النموذج الأول كان يمكن
تطبيقه في بعض الأحيان خلال زمن اللامركزية الثالث و لا سيما في عصر الأسرة 21 و
تحديدا في عهد " باي نجم " الأول في طيبة و " با سبا خع إم نيوت
" في تانيس . فهنا نجد كبير كهنة آمون " باي نجم " و قد إستخدم لقب
الملك و بصورة واضحة أما " با سبا خع إم نيوت " فقد إتخذ لنفسه لقب كبير
كهنة آمون في تانيس و بهذه الطريقة تمت الموازاة السياسية و الدينية بين طيبة و
تانيس و قد أتى هذا النموذج بثماره و ذلك بسبب أن كلا الحاكمين كانت لهما قرابة
تجمعهما من خلال الزواج الدبلوماسي ( فقد كان باي نجم متزوجا من بنت با سبا خع إم
نيوت ) . و لهذا السبب يمكن طرح هذه النتيجة : 
لا يمكننا إعتبار ذلك العصر بأنه كان لا
مركزيا طوال الوقت ، فهناك بعض الحالات التاريخية الإستثنائية التي حاولت العودة
للنوذج السياسي الأول و من أمثال تلك الحالات الإستثنائية كان هناك الملك "
شاشانق الأول " مؤسس الأسرة 22 و الذي سعى بكل ما أوتي من قوة نحو سياسة
القضاء التام على مفهوم " الحكم الفردي المستقل لدولة الإله في طيبة " و
ذلك من خلال إتباع الإجراءات التالية : 
1 – منع وراثة منصب كبير كهنة آمون في طيبة
من الأب إلى الإبن . 
2 – قام بتطبيق قاعدة سياسية جديدة : أن
يعتلي هذا المنصب أحد أبناء الملك الحاكم و الذي كان مستقرا في الشمال .  
 3 –
منع زواج كبير كهنة آمون " و هو إبن الملك الحاكم في الشمال " من زوجة
الإله آمون و كاهنته الأولى " و التي كانت أيضا بنت الملك نفسه " فأصبحت
ذات شأن كبير في طيبة و لاسيما و أنها كانت تتولى بنفسها إقامة الطقوس و تقديم
القرابين لزوجها المعبود آمون . 
لقد كان الهدف من هذه الإجراءات هو : القضاء
على نفوذ كهنوت آمون و عدم إعطاء الفرصة للعائلات الكهنوتية القديمة أن تعود مجددا
للمشهد السياسي أو الديني . 
إلا أن نموذج " التوازي السلطوي "
عاد و بقوة في عصر الملك " تاكلوت الثاني " في الأسرة 22 و ذلك بعد
إندلاع حرب أهلية بين تل بسطة و طيبة فبعدما قام هذا الملك بإرسال إبنه "
أوسركون " لكي يشغل منصب كبير كهنة آمون في طيبة واجه مقاومة عسكرية شرسة
بقيادة كهان آمون الذين قادوا شعب طيبة للوقوف ضد هذا الأمير و جيشه . و عندما وصل
" أوسركون " بجيشه لمدينة طيبة واجه " حور سا إيسه " الثاني
حفيد " حور سا إيسه " الأول و الذي شغل منصب كبير كهنة آمون في النصف
الثاني من الأسرة 21 فاندلعت حرب أهلية بين الفريقين دامت عشر سنين و هناك نص
الكرنك الشهير الذي تناول هذه الواقعة بعد إنتصار أوسركون المؤقت و الذي يتحدث عن
قيام إنتفاضة في طيبة ضد " حماة البلد " و عن وصول أوسركون إلى طيبه و
تحقيقه الإنتصار بل و إستقباله الحافل – وفقا لما ورد في النص – من جانب الكهنة ،
فنقرأ خطاب الكاهن الطيبي الموجه لأوسركون قائلا له : 
" أنت الحارس الشجاع لكل الآلهة و قد
إختارك آمون كأكبر إبن منحدر من سلالته . لقد إصطفاك من بين مئات الألوف و ذلك لكي
يحقق رغبته القلبية و لقد بعثك إلينا لتدفع عنا السوء و أن تنهي العاصفة التي
تهددنا فقد كاد أن يغرق هذا البلد و كادت تنهار قوانينه بسبب المتمردين الذين
تمردوا على سيدهم فقد أباد كل كاتب في معبده أوامره و كل ذلك قد حدث دون علم الملك
" ثم " جاءوا بالسجناء كحزمة مربوطة فصرعهم أمام آمون و أحرقهم بالنار
في مكان جريمتهم " .
هناك مجموعة من الحقائق يمكن لنا أن نستشفها من هذا النص و هي :
1 – يكشف هذا النص عن تمرد فعلي قام به كهنة
و شعب طيبة ضد الملك الشمالي بل و يعكس وجود صراع عسكري مسلح تم و لأول مرة في
مدينة تمتعت بشهرة عالية و مكانة دينية مقدسة لدى أهلها مما كان له أثرا نفسيا
سلبيا ظل في ذاكرة هذه المدينة لفترة طويلة من الزمن . 
2 – عوقب مجموعة من الكهنة الطيبيين الذين
تمردوا على حكم ملك الشمال " مثلما ورد في النص و لأول مرة " بإحراقهم و
هم أحياء و ليس هناك مثيلا لهذا النوع من القتل و عدا ذلك فإن العقاب بالنار يأتي
فقط في شعائر قتل و حرق الأعداء رمزيا في المعابد المصرية القديمة . " و
التساؤل هنا : ما هو مدى السيطرة الفعلية لملوك الأسرة 22 على مدينة طيبة ؟ من هم
ملوك الأسرة 22 الذين سجلت أسمائهم على آثار طيبة ؟ 
3 – منذ أن ذكر هذا النص مفهوم عقاب الأعداء
و حرقهم بالنار و بشكل فعلي ، إنتشر أدب " ضروب اللعنات " و "
الحرق بالنار " في الكتابات و النصوص الخاصة بعصر اللامركزية الثالث فنقرأ في
كتابات ذلك الزمن : " إن الذي يطعن في المرسوم الذي سنيته أنا ، يجب أن يحال
إلى غضب آمون رع ليستعر بنار الإلهة موت عندما تستعر و يجب أن لا يخلفه إبنه
"
4 - على ضوء هذه الإجراءات التي وردت في النص
، يمكن أن ندرك كيفية تعامل ملوك ( تل بسطة و تانيس ) مع المعارضة الطيبية و
محاولتهم تثبيت مثل هذه النصوص على جدران المعابد لإدخال الرعب و الفزع في قلوب
المتمردين بل و تثبيت و تسجيل مثل هذا العقاب في موقع مقدس بهدف " إضفاء
شرعية قانونية ذات صبغة دينية " على عقاب المتمرد ضد الحاكم ( نشير هنا أيضا
إلى أن تسجيل عقاب الأعداء كنصوص و مناظر هي فكرة معروفة منذ عصر الدولة القديمة
على أقل تقدير ) . 
5 – ظهور بعض العبارات غير التقليدية في هذا
النص تكشف عن وجود متغيرات ثقافية لغوية مثل " أنت الحارس الشجاع لكل الآلهة
" و " فقد إختارك آمون كإبن أكبر من سلالته " و غيرها من العبارات
التي تكشف عن وجود تغير فعلي في الثقافة الملكية المصرية في عصر اللامركزية الثالث
و يتزامن هذا التغير مع وجود ملوك و أمراء ظلوا يحتفظون بأسماء شخصية غير مصرية
مثل " شاشانق " و " تاكلوت " و " أوسركون " فضلا عن
إحتفاظهم بريشة الزعماء التي كانت توضع على رؤوسهم و ظهرت في التصوير الأيقوني
الفني لذلك العصر و هي بلا شك معطى حضاري غير تقلديدي و لا ينتمي للأيدولوجية
الملكية المصرية . فأسركون لم يظهر في طيبة بوصفه " ملك مصر العليا و السفلى
" بل ظهر بصفته زعيما للمشاشا ( أو الماشواش ) و يستخدم عبارات غير تقليدية
في نفس النص قائلا لآمون : " أنت سوف تشكل نسلي ، النطفة التي تخرج من أعضائي
، حكاما كبارا لمصر ( نلاحظ هنا عدم إستخدامه للقب النسو بيتي على الإطلاق ) و
أمراء و كهانا أوائل لآمون رع ملك الآلهة ( يحتكر المعبود آمون لقب الملك بمفرده )
و زعماءا كبارا للمشاشا ( يعترف أوسركون هنا بوجود زعماء آخرين في مناطق أخرى بل و
يسعى لتثبيت ذلك النظام في المعبد ) و كهانا للإله حور سا إيسة " و هنا
نتساءل مرة أخرى : هل يمكن لنا أن نخدش السطح الظاهري للتركيبات الثقافية للسلطة
آنذاك لكي نتعرف على مدى تمصر هؤلاء الملوك فعليا ؟ ... 
على أية حال يمكن لنا أن ندرك حقيقة هامة
وفقا لما ورد في مضمون هذا النص و تتمثل في : 
 أن التمرد
هنا قادم من " أعلى " و ليس من " أسفل " فمعظم نصوص عصر
اللامركزية الثالث تتحدث عن تمرد قام به الكهنة ضد الإله نفسه ! و لم نعد نسمع هنا
عن تحدي أو تمرد قام به الشعب المصري ضد الملك أو الإله ، فالملك يسعى لمكافحة من
يريدون أن يتمردوا على الإله في معبده و لهذا يقول : " فقد أباد كل كاتب في
معبده أوامره " و لاشك أن ذلك يحمل في طياته المفاهيم الأيدولوجية السياسية
لذلك العصر . 
هل أصاب التمرد الطيبي ضد ملوك الأسرة 22
قدرا - و لو يسيرا - من النجاح ؟ ... يمكننا أن نستشف الإجابة من خلال تسجيل
إرتفاع منسوب فيضان النيل عند مرسى الكرنك في عصر الأسرة 22 حيث نجد أن غريم
أوسركون و هو حور سا إيسة الثاني كان لا يزال يشغل منصب " كبير كهنة آمون "
حتى العام السادس من حكم الملك " شاشانق الثالث " و نستنتج من ذلك بأن
التمرد المذكور كان ناجحا بالفعل . ( تناول الدارس في مقال سابق مظاهر الصراع
التاريخي بين طيبة و ملوك الأسرة 22 ) . 
أدت هذه الحرب الأهلية إلى توابع و حركات
تاريخية هامة و هي : 
1 – قيام الأمير " شاشانق الثالث "
بالخروج عن سلطة تانيس و تل بسطة و إعلانه عن تأسيس سلطة ملكية جديدة ( تأسيس
الأسرة 23 ) في تل المقدام ( محافظة الدقهلية ) و إنشائه لتقويم ملكي جديد و
تتويجه كملك هناك . 
2 – تحالف هذا الملك مع كهنة طيبة ضد ملوك
الأسرة 22 و هو ما أدى لإعتراف كهنة آمون بملوك الأسرة 23 بتسجيل أسمائهم على
جدران الكرنك بل و إنشائهم المقصورة الشهيرة للمعبود أوزير " حقا جت " و
التي صور فيها كهنة آمون ملكي من ملوك الأسرة 23 و هما " أوسركون الثالث
" و " تاكلوت الثالث " مع بعضهما البعض على شجرتي الإيشد حيث تم
تصوير أحدهما أمام آمون و الآخر أمام آتوم حيث كان يهدف مثل هذا التصوير إلى تثبيت
شرعية هؤلاء الملوك في طيبة و ضمان نقل و توارث الملكية بشكل شرعي من الأب (
أوسركون الثالث ) إلى الإبن ( تاكلوت الثالث ) . 
3 – ظهرت " إنقسامات سياسية مختلفة
" أفضت إلى وجود " ملكيات و زعامات متعددة " حيث ظهرت أكثر من 20
عائلة في الحكم و منهم من حمل لقب " ملك " و هم الأقل عددا و منهم من ظل
يعبر عن سلطته بلفظ " زعيم الما " أي زعيم الماشواش ( المشاشا ) . و
نذكر هنا أيضا قيام الأسرة 24 في منطقة سايس و التي إنشقت هي الأخرى عن الأسرة 22 –
أنظر مقال دكتور جاب الله و كتشين عن التفاصيل التاريخية لعصر اللامركزية الثالث .
4 - رغم وجود تحالف سياسي بين ملوك الأسرة 23
و كهنة طيبة إلا أن ذلك لا يعني أن ملوك تلك الأسرة تركوا منصب " كبير كهنة
آمون " للعائلة الكهنوتية الطيبية القديمة ، بل قام الملك " أوسركون
الثالث " – الذي تم تصويره كملك في مقصورة " أوزير حقا جت " –
بتعيين إبنه الأمير " تاكلوت الثالث " ( حيث كان يشغل منصب كبير كهنة
هيراكليوبوليس – إهناسيا ) ككاهن أول للمعبود آمون فضلا عن إحتفاظه بمنصب كبير
كهنة إهناسيا . 
5 – سعى ملوك الأسرة 23 لإعادة تنظيم "
دولة الإله في طيبة " بهدف : منع عودة الإضطرابات السياسية مرة أخرى و ذلك من
خلال وضع شكل جديد لمنصب ( زوجة الإله آمون – و هو لقب معروف منذ عصر الدولة
الحديثة على أقل تقدير ) فقام الملك أوسركون الثالث بتعيين إبنته " شب إن وبت
" التي صورت في مقصورة المعبود " أوزير حقا جت " كزوجة لآمون و كان
ذلك هو أعلى منصب في دولة الإله في طيبة و إحتكرت لنفسها سلطة إقامة الشعائر
بمفرها للمعبود آمون كقرينة له و لم يكن يحق لأي فرد أن يتزوجها و لذلك فقد ظلت "
عذراء " و عندما قام تاكلوت الثالث بالإشتراك في الحكم مع أبيه أوسركون
الثالث تعمد الملك أوسركون الثالث أن يترك منصب كبير كهنة آمون شاغرا و وضع إبنته
في منصب قرينة الإله و كانت هذه الإجراءات تهدف إلى منع أنصار آمون نحو العودة
لمنصب الكهنوت مرة أخرى .
و هنا نشير إلى أن الملك أوسركون الثالث لم
يكن في حسبانه أنه بعدما قام بتجريد أتباع آمون من منصب كبير الكهنة ، أنهم
سيتجهوا لشغل الوظائف المدنية و العسكر