الخميس، 20 يونيو 2013

أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الخامس


بسم الله الرحمن الرحيم 


أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الخامس









ما هو الدافع الذي جعل زعماء الأسرة صفر و أنصارهم من الشمسو حور يلجأون للتعبير عن سلطتهم السياسية و الدينية في فترة التوحيد السياسي بمفردات الديانة الشمسية ؟ .... هل لعبت عين شمس أو ( إيونو ) دورا سياسيا و دينيا هاما خلال ذلك العهد ؟ .... كان ذلك هو التساؤل الذي طرحه الدارس في الفقرة الأخيرة من الجزء الرابع السابق لهذا المقال . و لاريب أن ( إيونو ) عين شمس قد إكتسبت أهمية دينية كبيرة خلال عصور ما قبل الأسرات في مصر و يرجح ذلك عدد من الأمور الهامة التي ينبغي أن نلاحظها و هي :
1 – حرص المصري القديم في العصور التاريخية على تأليف و صياغة مذهب التاسوع الشمسي و رد هذا المذهب إلى مدينة عين شمس على الرغم من إيونو لم تكن على الإطلاق عاصمة مصر السياسية طوال العصر العتيق و خلال عصر الدولة القديمة الأمر الذي يرجح مكانتها السياسية منذ عصور ما قبل الأسرات و ظلت محافظة على هذه المكانة فيما بعد و طوال العصور التاريخية . 
2 – الغياب التام للمعبود ( حور ) في التاسوع الشمسي القديم ، فذلك المعبود لم يظهر إلا من خلال إحتضان المذهب الشمسي للمعبود ( أوزير ) و إقتحامه لهذا التاسوع بدلا من العضو القديم ( جحوتي ) الذي كان الزوج الأول للمعبود إيزيس وفقا لما ورد في متون الأهرام . و على الرغم من أن المعبود ( حور ) كان قد أصبح رب الملكية الأول خلال عصر الأسرة صفر و إله الدولة الرسمي منذ بدايات العصر العتيق و ذلك مما يرجح في وجهة نظر البعض من الباحثين أن مذهب التاسوع الشمسي كان قد تم تأليفه قبل أن تتضح شهرة و مكانة المعبود حور نفسه خلال عصر الأسرة صفر و العصر العتيق و إلا لماذا لم يظهر حور في التاسوع الشمسي القديم وفقا لما ورد في متون الأهرام برغم كونه رب الملكية الأشهر و الأبرز و الأقوى و حيث توحدت مصر سياسيا تحت رايته ؟
3 – يرى بعض الباحثين أن مذهب التاسوع الشمسي القديم لم يتم تأليفه إلا في عصر النصف الثاني للأسرة الثانية و ذلك في الفترة التي علا فيها نجم المعبود ست فاتخذه الملك برإيب سن ربا للملكية بدلا من حورس و هو ما يفسر لنا إختفاء حورس تماما من التاسوع الشمسي القديم . و لكن هناك تساؤل يطرح نفسه : هل قوة و نفوذ كهنة المعبود ست بلغت فعليا هذا الحد الذي مكنهم من عدم وضع المعبود حورس في التاسوع الشمسي في عين شمس ؟ ألم تكن هناك صلات تربط بين حور و الديانة الشمسية منذ عصر الأسرة صفر ؟ ... يتبقى لنا نقطة هامة و هي أن أعضاء التاسوع الشمسي ظهروا لأول مرة كتصوير فني في عهد الملك إري نتر خت ( زوسر ) حيث تم تصوير أعضاء التاسوع الشمسي في مقصورة دينية بالغة الأهمية و معروضة حاليا في متحف تورينو بإيطاليا مما يرجح إلى حد ما صحة الرأي القائل بتأليف المذهب الشمسي خلال النصف الثاني من عصر الأسرة الثانية إلا أن هذا الطرح لم لم يبلغ بعد مرتبة اليقين . 
4 – إعتراف أهل الثقافة و الفكر في العصور التاريخية لمدينة إيونو بزعامة دينية و فكرية واسعة على الرغم من أنها لم تكن في يوم من الأيام عاصمة مصر السياسية حيث أشارت متون الأهرام إلى ما يعرف بإسم ( باوات إيونو ) بمعنى أرواح إيونو مما يشير إلى وجود طابع مقدس لهذه الباوات التي في إيونو و هو ما قد يدل على ( باوات ) أرواح ملوكها أو زعمائها القدماء في عصور ما قبل الأسرات و الذين ربما كان لهم سيطرة أو سلطان سياسي أو ديني فكري على مناطق متعددة في مصر إلا أننا نعلم بالتحديد و بشكل قاطع مدى هذا السلطان الذي تمتع به زعماء إيونو في عصور ما قبل الأسرات . 
5 – أشارت النصوص الدينية و الأسطورية في متون الأهرام إلى وجود قصر عتيق في إيونو سمته ( قصر الحاكم ) و ( القصر الكبير ) بل و أكدت أن مجالس الأرباب كانت تعقد في رحابها في مناسبات سياسية و قضائية حاسمة بل و إعتبار إيونو منذ بدايات العصر العتيق من ضمن مدن ( الحج المقدسة ) في الدلتا و التي كان يحرص المصري القديم على زيارتها خلال حياته و بعد مماته فكانت إيونو و سايس و بوتو من أهم مدن الحج المقدسة لدى المصري القديم بل و حرص ملوك العصر العتيق و بعض ملوك الدولة القديمة على تسجيل زيارتهم المقدسة لهذه الأماكن و هو ما يجعلنا نرجح وجود أهمية دينية و مكانة سياسية كبيرة لهذه المدن في الدلتا منذ عصور ما قبل الأسرات . 
هناك تساؤل هام : هل يجوز لنا أن نعتمد على النصوص الأسطورية التي ورد ذكرها في متون الأهرام لإستخراج حقائق تاريخية ؟ ما مدى جدارة الأسطورة في تشكيل و تكوين التاريخ ؟ ... في واقع الأمر أن الأسطورة تظل دائما مصدر لإبراز الجانب الدعائي الديني و السياسي في نصوصها و هي تدل على تدخل الآلهة في عالم البشر و هي لا تتناول التاريخ بشكل مباشر ( بمعنى أنها لا تتحدث عن افنسان بوصفه صانع تاريخه و مصيره ) ، بل هي تتحدث عن التاريخ بطريقة غير مباشرة ، فهي تحتوي على ( نواة صغيرة حقيقة ) تراكم فوقها أحداث غير حقيقية . و لذلك يرى الدارس أن أسطورة إيونو و ما إرتبطت به من باواتها و أهمية ربها التي ورد ذكرها في نصوص الأهرام هي ظلال غامضة لذكرى هذه المدينة التي كانت تتمتع بمكانة فعلية كبيرة ربما منذ ما قبل عصر الأسرة صفر و ما قبل بداية عصر نقادة الثالثة و لعل ما يرجح صحة هذا الطرح من الناحية الأثرية هو إنتشار رموز الديانة الشمسية بشكل واضح على رسوم فخار نقادة الثانية فضلا عن تصوير الأسد ( كرمز شمسي ) في مقابر زعماء الجنوب و الشمال منذ عصر نقادة الثانية بل و ظهور الأسد كقوة كونية بارزة على فخار عصر نقادة الأولى و هي أولى مراحل عصور ما قبل الأسرات التي تبدأ تقريبا منذ 3900 ق.م .
و عطفا على ما تناوله الدارس في الجزء الرابع السابق لهذا المقال و بعدما كان قد طرح مجموعة من التساؤلات الهامة التي ترتبط بفن الملكية الناشئة خلال عصر الأسرة صفر و مدى إمكانية التفريق و التمييز بين زعماء و ملوك الأسرة صفر الذين إنتسب معظمهم للمعبود ( حور ) كرب للملكية المصرية الناشئة و بين أنصارهم من الشمسو حور ( أتباع حورس ) الذين آزروهم في توحيد البلاد سياسيا بل و ظهورهم أحيانا في تصوير فني مساو و مطابق لهيئة زعماء الأسرة صفر و هو ما تناوله الدارس في الأجزاء الأربعة السابقة لهذا المقال و لاسيما بعد ظهور أحد ملوك أو أتباع حورس في عصر الأسرة صفر و لأول مرة بالتاج الأبيض و التاج الأحمر و لاسيما في عصر الملك ( بي حور ) ، فهل كان بي حور هو أول ملك توحدت مصر في عهده سياسيا و لأول مرة ؟ أم كان مجرد واحد من الشمسو حور ( أبتاع حورس ) خلال فترة التوحيد السياسي ؟ 
هنا ينبغي لنا أن نشير لمجموعة من الحقائق الهامة و هي : 
1 – ظهر النقش الذي يصور هذا الملك و لأول مرة بتاج الأبيض و بالتاج الأحمر على مبخرة من مقبرة في جبانة قسطل ( النوبة السفلى ) – أنظر المنظر الخاص بهذا التصوير في أسفل المقال – حيث يظهر الصقر حور و هو يعلو علامة تصويرية رأى البعض أنها تعبر عن واجهة القصر الملكي ( السرخ ) و في رأي البعض الآخر هي علامة تصويرية تدل على وجود إسم الزعيم ( بي حور ) و لكن يرجح الدارس الرأي الأول و هي أنها علامة تصويرية تدل على شكل السرخ و ليس علامة ( بي ) نظرا لأن علامة بي هي عبارة عن خطوط رأسية متقاطعة مع خطوط أفقية تدل على المنطوق اللفظي ( بي ) أما الشكل المصور فهو يدل على وجود خطوط رأسية بسيطة مما يرجح كونه سرخ فضلا عن تصوير الصقر حور بحجم كبير وراء الملك بالتاج الأبيض و هو يمسك بهيئة شبيهة بشكل السرخ و هو نفس الوضع الفني الذي ظهر على بطاقة عاجية للملك حور عحا من عصر الأسرة الأولى . 
2 – إن حاكم قسطل النوبي الذي دفن في المقبرة التي ظهر فيها هذا التصوير تبنى لنفسه ذلك المؤثر الثقافي الفني المصري للتعبير عن زعامته في قسطل التي كانت من المحتمل عاصمة النوبة السفلى في ذلك العهد ؟ ... إن ما تم إكتشافه من آثار في مقبرة حاكم قسطل يؤكد أن صاحبها كان حاكما محليا في النوبة و لكنه متأثر ثقافيا و إلى حد ما بالثقافة الملكية المصرية خلال عصر الأسرة صفر و ربما لعب دور الوسيط التجاري بين زعماء مصر العليا ( أبيدوس و نقادة و نخن ) و بين النوبة العليا و لهذا السبب قام ذلك الحاكم المحلي بالتعبير عن سلطته في النوبة بمعطيات الثقافة المصرية فصور نفسه بالتاج الأبيض و التاج الأحمر . 
3 – هل يدل وجود تصوير التاج الأبيض و التاج الأحمر في مقبرة قسطل على قيام وحدة مصرية سياسية في جنوب و شمال مصر خلال عصر الأسرة صفر ؟ .... 
ظهر التاج الأحمر و لأول مرة في فخار مدينة نقادة في الجنوب منذ بداية عصر نقادة الثانية ( ثاني مراحل عصور ما قبل الأسرات و تبدأ زمنيا بحوالي 3600 ق.م تقريبا ) – أنظر شكل هذا التاج على فخار نقادة في الجزء السفلي للمقال – فقد ظهر تصوير هذا التاج و لأول مرة على أثر من الصعيد و ليس من الدلتا مما يعني أنه كان يعبر عن زعامة نقادة و ربها ( ست ) منذ بداية عصر نقادة الثانية على أقل تقدير و لعل ذلك التصوير هو السبب الرئيسي الذي جعل العديد من علماء المصريات يرجح وجود ملكية أو زعامة لنقادة ربما إمتدت على مناطق أخرى في الصعيد منذ بداية عصر نقادة الثانية . 
4 – جدير بالذكر أنه قد ظهر شكل مماثل للتاج الأحمر على رأس شخص في نقش صخري من وادي قاش في الصحراء الشرقية – أنظر هذا النقش في الجزء السفلي للمقال – حيث يظهر رجل يرتدي جراب عورة و نقبة و يمسك عصا الراعي المععقوفة و التي ستصبح صولجانا يمسك به الملك حيث عثر عليها فعليا في مقبرة الملك العقرب في جبانة أبيدوس و يقف الرجل في وسط مشهد صيد لأفراس نهر و تماسيح في وضع يشير إلى ضرورة وجوده لإنجاح عملية الصيد و من هنا يمكن إفتراض أن هذا الرجل زعيم ( نظرا لوجود النقبة و التاج الأحمر الذي يضعه على رأسه فضلا عن العصا التي تدل على علامة حقا ) و يؤرخ هذ النقش أيضا ببداية عصر نقادة الثانية و هو يدل على وجود علاقات حضارية متبادلة بين مملكة نقادة في الجنوب و بين الصحراء الشرقية و هنا نشير إلى الرأي الذي يعتقد بأن أصل التاج الأحمر من صحراء مصر الشرقية ثم إستقر بعد ذلك في منطقة أو مملكة نقادة منذ عصر نقادة الثانية بفضل التبادل التجاري و الحضاري . ينبغي لنا هنا أيضا ان نشير لنقش المجاور للزعيم الذي يرتدي التاج الأحمر و هو نقش لزعيم آخر محتمل يمسك هو الآخر بعصا الراعي و يظهر كما لو كان يرتدي قناع حيوان على وجهه و يرتدي فوق رأسه التاج الأبيض ؟ 
5 – من جانب آخر إرتبط ظهور التاج الأبيض لأول مرة في التصوير الفني خلال عصر نقادة الثالثة على مبخرة أخرى في مقبرة زعيم في جبانة قسطل في النوبة السفلى حيث ظهر ذلك الزعيم بالتاج الأبيض – أنظر مناظر هذه المبخرة و شكل الزعيم المصور فيها في الجزء السفلي للمقال – حيث ظهر ذلك الزعيم جالسا على العرش في مركب تتوسط مركبتين أخرتين و بالتاج الأبيض و قد صور أمامه المعبود الصقري حور و هو يعلو واجهة مبنى ( ربما كان سرخ ؟ ) و بما أن جبانة قسطل في النوبة السفلى كشفت عن وجود علاقة قوية و مباشرة بين زعماء قسطل و مملكة نخن خلال عصر الأسرة صفر فذلك يشير إلى أصل مرجح للتاج الأبيض في مدينة نخن ( مملكة هيراكونبوليس ) و هو ما يدل على تأثير ثقافي مصري من مملكة نخن في مصر العليا على زعيم قسطل في النوبة السفلى حيث إستعار ذلك الزعيم هذه الموتيفة الفنية لكي يعبر عن زعامته في منطقة النوبة السفلى . 
6 – إذا كان التاج الأحمر قد ظهر لأول مرة في نقادة التي تقع ( شمال ) مدينة نخن فذلك يعكس وجود قوة شمالية بالنسبة لزعماء مملكة نخن و يصبح التاج الأبيض تعبيرا عن وجود قوة جنوبية بالنسبة لزعماء مملكة نقادة ، إلا أننا نؤكد هنا أن المملكتين عبرت عن سلطة زعمائهما في مصر العليا و لم يكن للتاج الأحمر في باديء الأمر أي علاقة بالشمال في تلك الفترة . 
7 – تشير بقايا حجر بالرمو الذي يرجع لعصر الدولة القديمة إلى وجود مجموعة من الملوك الذين تم تصويرهم بالتاج المزدوج ( الأبيض و الأحمر ) قد حكموا البلاد قبل الأسرة الأولى – أنظر السطر العلوي لنقش منظر حجر بالرمو في الجزء السفلي للمقال – و يمسك كل واحد منهم بمذبة . فإذا ما وضعنا في الإعتبار ان تاج نخن هو التاج الأبيض و تاج نقادة هو التاج الأحمر في عصور ما قبل الأسرات فذلك يرجح وجود وحدة سياسية أولى محتملة في الصعيد بين مملكتي نقادة و نخن ؟ و ما يرجح و يعزز الطرح السابق هو النقش الموجود في مقبرة قسطل و الذي ظهر فيه زعيم قسطل بالتاج الأبيض و التاج الأحمر يشير إلى إتحاد نقادة مع نخن و قد إستعار زعيم قسطل هذا الشكل الفني للتعبير عن سلطته في النوبة السفلى أي أن نقش حجر بالرمو يشير على النقيض مما ينادي به العديد من علماء المصريات إلى وحدة اولى بين مملكتين في الجنوب و ليس بين الجنوب و الشمال . إلا أننا من جانب آخر نشير إلى قيام هاتين المملكتين و إتحادهما ببعضهما البعض في فترة سبقت سيطرة و هيمنة مملكة أبيدوس على كليهما في ظروف غامضة - لمزيد من التفاصيل حول منشأ معظم زعماء الأسرة صفر و إنحدارهم من أبيدوس انظر الأجزاء السابقة لهذا المقال – و الدليل على ذلك : قيام جبانة كبرى و ثرية في بداية عصر نقادة الثالثة في أبيدوس و ذلك في مقابل إنحسار أهمية جبانة نقادة و نخن في نفس العصر الأمر الذي يؤكد على إنتقال مركز الثقل السياسي في أبيدوس . 
8 – ظهر التاج الأحمر لكي يعبر عن ملكية الشمال لأول مرة فنيا في عصر الملك العقرب و ذلك في مقمعته الصغرى – لمزيد من التفاصيل أنظر مقال علمي موجز عن مقمعة العقرب الصغرى للدارس منشور في جميع الجربات في قسم الصور – كما ظهر في صلاية الملك نعرمر لكي يشير لملكية نعرمر على الشمال و بمعنى أدق لم يعبر التاج الأحمر عن الشمال إلا في الفترة التي كانت قد تبلورت فيها الوحدة السايسية بشكل كبير جدا أما عن كيفية إنتقال تاج نقادة في الجنوب إلى منطقة سايس و بوتو في الشمال فيرجح الدارس - بناءا على ما تم طرحه من معطيات و أدلة خلال الأربع أجزاء السابقة لهذا المقال – أنه قد تم من خلال التبادل التجاري و علاقات النسب و المصاهرة المشتركة بين الجنوب و الشمال بل و الإننتساب لنفس المعبودات التي إنتشرت عبادتها في الشمال و الجنوب فعلى سبيل المثال نجد الربة نيت معبودة سايس و قد قدست في نقادة و أبيدوس منذ عصر نقادة الثانية على أقل تقدير و هو ما ظهر فعليا على رسوم فخار نقادة الثانية التي ظهر فيها وجود مركز عبادة لنيت في نقادة كما لا ينبغي أن ننسى وجود ملكات إنتسبن في أسمائهن لهذه الربة و اللاتي تم دفنهن في نقادة في نهاية عصر الأسرة صفر فضلا عن أميرات البيت المالك اللاتي إنتسبن لها في أبيدوس في عصر الأسرة الأولى بل و ظهور الملك الحاكم منذ عصر الأسرة الأولى كما ظهر على بطاقة الملك حور عحا و هو يزور معبد الإلهة نيت في الشمال في سايس لكي يكتسب شرعية الحكم منها . 
9 – ظهور الملك العقرب بالتاج الأحمر و التاج الأبيض كتاجين يعبران عن قيام وحدة سياسية لا يعني أنه كان أول ملك بالضرورة قام بتوحيد مصر فحدث الوحدة كما أشرنا لم يكن قد تم في عهد ملك واحد و لا في فترة زمنية واحدة بل ان هناك إحتمال مرجح لوجود ملك سابق على عصره يدعى ( كا ) قد تم تتويجه بالتاج الأبيض و التاج الأحمر كإنعكاس لملكيته على الجنوب و الشمال و ذلك بسبب تصوير إسمه الذي ظهر مسجلا في سرخ يعلوه الصقر حور – أنظر شكل الانية و ما تم تسجيله عليها في الجزء السفلي للمقال – وقد ظهر لأول مرة نبات الجنوب و نبات الشمال كرمز معبر عن سيطرة سياسية واضحة على الصعيد و الدلتا و يمكن القول بأن هذين الشعارين يشيران إلى أقدم تقسيم إداري ملكي مزدوج معروف حتى و الشمال الأحمر قبل العقرب و نعرمر 
10 – وجود هذه الآنية في ممرات الهرم المدرج للملك زوسر – إري نتر خت – يعني ان زوسر قد إعتبر أن سلفه القديم الملك ( كا ) هو أقدم سلف تولى ملكية البلاد و أقام تقسيم ملكي إداري مزدوج بين الجنوب و الشمال ، فلاريب أن الإهتمام بهذا الأثر و وضعه في ممرات الهرم المدرج مع آلاف الأواني الأخرى للملوك السابقين يعني تقديس آثار الأسلاف و ان من يستولي عليها يصبح هو الوريث الشرعي للبلاد فلا يمكن تصور أن زوسر قد وضع هذه الآنية أسفل هرمه المدرج دون أن يكون ( كا ) ملكا فعليا مسيطرا على جزء كبير من مصر العليا و السفلى و أن هذه السيطرة قد ترجمت في عمل التقسيم الإداري الملكي المزدوج و لا يمكن ان نتصور وجود مثل هذا التقسيم الإداري دون تتويج الملك نفسه بتاج الجنوب الأبيض و تاج الشمال الأحمر . 
ينبغي لنا هنا أن نشير إلى أمر هام فيما يخص التاجين و هو : 
أن العقرب و نعرمر يظهران بحجم صغير عندما يرتديان التاج الأحمر على المقامع و الصلايات في نهاية عصر الأسرة صفر – أنظر حجم نعرمر على صلايته بالتاج الأحمر و انظر حجم العقرب على مقمعته الصغرى بنفس التاج – و ذلك على النقيض من حجم كلا منهما عندما يرتديان التاج الأبيض فيظهران بحجم كبير و هو ما لم نجد له تفسير سوى التأكيد على أهمية التاج الأبيض مقارنة بالتاج الأحمر أو بمعنى أدق ربما كان يشير ذلك غلى منشأ زعماء الأسرة صفر ذي الأصل الجنوبي و الذين صوروا أنفسهم بحجم أكبر عند إرتدائهم للتاج الأبيض . 
هنا يتبقى لنا ان نطرح هذه التساؤلات : في الفترة التي تبلورت فيها سيطرة العقرب و نعرمر على معظم الأراضي المصرية كيف ظهر الشمسو حور – أتباع حورس فنيا على آثارهما ؟ وما هو التحول الذي طرأ في تصوير الشمسو حور قبل و بعد عصر العقرب و نعرمر ؟ و ما هي أهم الموتيفات الفنية التي ميزت عصر كلا من هذين الملكين عن ما سبقهما من زعماء الأسرة صفر ؟ ... سيتناول الدارس هذه القضايا في الجزء السادس في وقت قريب بإذن الله
الجزء الاول من المقالة

الجزء الثانى من المقالة

مقال علمي موجز عن قناع ( نخن )


بسم الله الرحمن الرحيم 


مقال علمي موجز عن قناع ( نخن )



- مرفق بالمقال منظر للقناع ...... يبلغ طول هذا القناع 25 سم - من الفخار - عثر عليه في هيراكونبوليس ( نخن ) - في المتحف المصري بالقاهرة في الدور الثاني بجوار صالة المومياوات الحيوانية ..... تعد الأقنعة من أهم موضوعات الفن التي عبرت عن وجود ( فكر ديني جمعي ) في عصور ما قبل التاريخ . و لم يكن ظهور الأقنعة أمرا جديدا في حضارات ما قبل التاريخ في العالم ، فقد ظهرت أقدم تمثيلاتها الفنية منذ العصر الحجري القديم الأعلى في أوروبا في كهفي لاسكو و الإخوة الثلاثة و كانت أقنعة على هيئة حيوانية . في عام 1998 عثر على قناع في جبانة ( النخبة ) في موقع المقبرة رقم : ( 18- hk 6 ) في وادي أبو سفيان في هيراكونبوليس ( نخن ) . كما تم العثور على جزء لقناع آخر في مقبرة أخرى و هي : ( hk 6 - 16 ) . و يعد هذان القناعان هما الوحيدان المعروفان من ما قبل التاريخ في مصر . 
نشأ جدل بين علماء ما قبل التاريخ في مصر حول تأريخ هذين القناعين . هناك من يرجح نسبتهما لبداية عصر نقادة الثالثة ( آخر مراحل عصور ما قبل الأسرات في مصر و تبدأ منذ 3300 ق.م ) لأسباب أسلوبية تمثيلية فنية ( نمط فني مميز لعصر نقادة الثالثة ) . و هناك من يرى أن القناعين يرجعان لعصر نقادة الثانية ( المرحلة الثانية لعصور ما قبل الأسرات و تبدأ منذ حوالي 3600 ق.م ) مقارنة بأعمال فن مختلفة تحمل تشابهات فنية شكلية مع هذين لقناعين و هو ما يتفق مع تأريخ المقبرة رقم : hk 6 - 18 التي تنسب لعصر نقادة الثانية و يحتمل أن القناع الذي نتحدث عنه كان جزء من الأثاث الجنائزي للمقبرة نفسها ، و ربما إستخدم في طقس إلى جوار القبر قبل إلقاءه بجوار المتوفى . هنا ينبغي لنا أن نشير لمجموعة من الحقائق الهامة تتمثل فيما يلي : 
1 - إستخدم الفنان الفخار المخلوط بالقش في تشكيل قناعي هيراكونبوليس و لم يكن ذلك الأمر غريبا نظرا لأن خبرة الفنان هنا بخصائص الفخار كانت قد تجاوزت حدود إستخدامه في عمل الأواني إلى تشكيل بعض أعمال النحت المجسم و لهذا السبب تبلورت و نضجت خبرة الفنان في نهاية عصر نقادة الثانية الذي تمكن من تحقيق تقوس في القناع ليناسب الوضع على الوجه البشري بإنسيابية . 
2 - إتخذ القناع شكلا بيضاويا طويلا نظرا لإتساع الجبهة و تراجعها للخلف و بروز الذقن . و يلاحظ كذلك أنه تم عمل ثقب على جانبي القناع خلف الأذنين عند الحافة الخلفية السفلى و بناءا على ذلك يمكن تصور أن القناع كان يركب على وجه إنسان و يتم ربطه من الخلف . 
3 - من جانب آخر يشير سمك و وزن القناع و شكله إلى عدم إمكانية تثبيته على رأس المتوفى المسجي على جانبه بسهولة و ربما إرتداه مستخدمه ( صاحبه ) في إحتفال ديني أو طقسي بجوار قبره ؟ 
4 - عثر على خصلة شعر آدمي مجدول جانب القناع مما يشير إلى تثبيت الشعر في القناع بوسيلة ما ، فقد عرف الفنان فكرة تثبيت الشعر المستعار على التماثيل الآدمية من عصور ما قبل الأسرات في مصر بل و منذ العصر الحجري الحديث ( مثال : رأس مرمدة بني سلامة في المتحف المصري بالقاهرة ) 
5 - أطال الفنان منطقة الذقن في القناع بما يعكس وجود لحية طويلة مدببة و يذكرنا ذلك بأعمال نحت تمثل رؤوس بلحية مماثلة تميزت بها بعض التماثيل الحجرية ( مثال تمثال الإله مين في المتحف المصري و يرجع لعصر نقادة الثالثة ) 
6 - تم إعتبار هذه الذقن المدببة تعبيرا عن اللحية كملمح ثانوي يعبر عن الذكورة إلا أن بروز الذقن في في فن ما قبل الأسرات في مصر لا يكفي وحده دليلا على تمثيل الذكر ، فقد إقترنت بعض الرؤوس ذوات الذقن المدببة بتصوير النساء و الرجال على السواء في عصر نقادة الثانية ، إلا أن تمثيل اللحية بلون أحمر جعل البعض من الباحثين يقطع بنسبة القناع إلى ذكر لا إلى أنثى ؟ 
7 - على الرغم من المبالغة في تمثيل العينين إلا أن ذلك لا يحول دون الرؤية عبر فتحتيهما و قد أشير إلى الفم المفتوح بلون أحمر أرجواني و ظهرت الشفتان ببروز خفيف كما يلاحظ أن الأنف في قناع نخن يتشابه مع مع أنف النسر 
8 - جدير بالذكر أن الفنان هنا إهتم بتمثيل فتحتي الأنف اللتين أهمل الفنان عادة تمثيلهما في التماثيل الآدمية في مصر في عصور ما قبل التاريخ كما إهتم الفنان هنا بتحديد الحاجبين مثلما هو الحال دائما في فن ما قبل الأسرات في مصر و إن ظهرا هنا في موضع أعلى من موضعهما الطبيعي . 
هناك تساؤل هام : إلى ماذا يشير هذا القناع ؟ ... إن أعمال الفن هنا لا يمكن فهمها في إطار ثقافة غير كتابية إلا من خلال موضع العثور عليه و معطيات الثقافة التي ينتمي إليها و بمعنى أدق السعي وراء فهم العمل الفني من خلال معطيات الزمان و المكان . 
القناع هو تجسيد للرأس الإنسانية الذي اسندت إليه وظيفة خاصة ( كجزء يعبر عن كل ) و ( لتحديد الماهية في عالم الفن ) و في ظل معتقدات إتصلت بعالم الروج و بوجود عالم آخر موازي لعالم الدنيا منذ العصر الحجري القديم الأوسط ( و يبدأ هذا العصر في مصر منذ 90000 قبل الميلاد ) في العالم بأكمله حيث يرجح أن إنسان نياندرتال إعتبر الرأس مقرا للروح و من هنا أعطى عناية خاصة بحماية الرأس بل و توجيهها في حفرة الدفن ناحية إتجاه معين . 
حظى رأس الإنسان في مصر في دفنات عصور ما قبل التاريخ بأهمية يستدل عليها من خلال توجيهه بل و رعايته بشكل ظاهر و واضح و ينبغي أن نتذكر في هذا السياق رأس مرمدة بني سلامة منذ العصر الحجري الحديث كأحد أقدم أعمال النحت المجسم في مصر . كما يتبين في العصور التاريخية أن الرأس هو ذلك الجزء من جسد المتوفى الذي ينبغي إتصاله بالجسد كما ظهر في متون الأهرام منذ عصر الدولة القديمة حتى يتحقق البعث . 
يتبين لنا مما تقدم أن قناعي نخن ربما كانا من الأثاث الجنائزي للمقبرة و ربما إستخدما من جانب كهنة في طقس جنائزي تم تأديته بجوار المقبرة قبل إلقائهما بجوار المتوفى و هنا يرتبط القناع بمفهوم ( الفكر الديني الجمعي ) حيث أن جثمان المتوفى لم يقم بطقوس دفنه بل قام بها آخرون ( جماعة ) و وضعوا هذا القناع ( الذي كان رمز ديني مشترك يدل على معنى متفق عليه بين أفراد الجماعة ) بجواره . 
هناك تساؤلات أخرى هامة : هل هذا القناع - نظرا لندرته الشديدة - يدل على وجود كاهن أم زعيم يمتلك الحق في تمثيل جماعته في نخن بإقامته للشعائر الدينية ؟ هل هذا القناع يشير إلى ما تم التعارف عليه في العصور التاريخية بلفظ " أرواح نخن " الذين ظهروا بأقنعة حيوانية منذ بداية العصور التاريخية و كانوا يشيرون إلى زعمائهم من الأسلاف الذين حكموا مصر العليا و إتخذوا من نخن عاصمة أسطورية للصعيد في عصور ما قبل الأسرات ؟ لاحظ أن شكل ملامح القناع تقترب من الهيئة الحيوانية أكثر من الهيئة الآدمية ... هل صاحب القناع هو أحد زعماء نخن في عصر نقادة الثانية ؟

أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الرابع


بسم الله الرحمن الرحيم 


أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الرابع






يسعى الدارس في هذا الجزء بالتحديد نحو تناول قضية الوحدة السياسية من الوجهة الفنية و لاسيما خلال عصر الأسرة صفر أو في الفترة التي بدأ فيها زعماء تلك الفترة في السيطرة السياسية على معظم الأراضي المصرية جنوبا و شمالا و التعبير عن أنفسهم و سلطتهم و كيانهم بشكل بارز . إن الأمر الذي يستلفت النظر هو أن زعماء عصر التوحيد السياسي قد إنتسبوا للمعبود ( حور ) و هناك من يرى أن ذلك هو الدليل على أن منشأهم كان من مدينة نخن ؟ نظرا لأن المعبود الرئيسي الذي تم تقديسه هناك هو الصقر ( حور ) ... و لكن هناك مجموعة من الحقائق التي تحول دون التسليم المطلق بأن هؤلاء الزعماء ينحدرون فعليا من هناك و هي : 
1 – لم تتركز آثار زعماء الأسرة صفر في منطقة نخن وحدها بل أن بعضهم لم نتأكد حتى الآن من إنتسابه لمدينة نخن رغم العثور على بعض آثاره هناك مثل الملك العقرب و الملك نعرمر .
2 – لو كان هؤلاء الزعماء جميعهم قد إنحدروا من مدينة نخن ، فلماذا لم ينتسبوا من البداية إلى المعبود حور في أسمائهم ؟ لماذا إنتسب أحد أهم زعماء الأسرة صفر إلى الربة التي صورت على هيئة العقرب ( الملك العقرب ) ؟ لماذا إنتسب الملك نعرمر إلى المعبودة ( نعر ) و هي على هيئة السمكة ؟ ... لا ننكر هنا أنهم وضعوا أسمائهم في السرخ الذي يعلوه الصقر حور أحيانا و ذلك لأن الموروث الديني و السياسي السائد في البلاد آنذاك هو الذي أجبرهم على الإنتساب لهذا المعبود حتى يضفوا شرعية على حكمهم و لكن إنتسابهم له لا يعني على الإطلاق أنهم كانوا منحدرين من مدينة ( نخن ) .
3 – إن العثور على بعض آثار زعماء الأسرة صفر في أساسات معبد حور في نخن مثل صلاية نعرمر و مقمعة العقرب لا ينبغي أن نحمله معنى أكثر مما يحتمل فالمعبود حور رب نخن هو المعبود الذي إنتسب إليه زعماء الأسرة صفر مع أرباب أخرى في الشمال أخذوا نفس هيئة الصقر حور فكان لابد من توجيه الشكر و العرفان لذلك المعبود الذي آزر زعماء الأسرة صفر في توحيد البلاد دون ان يعني ذلك أن هذا أو ذاك الملك ينحدر من ذات المدينة التي يقدس فيها حور رب نخن . 
4 – لم تحتوي مدينة نخن على آثار ملكية متعددة في بداية عصر نقادة الثالثة مقارنة بأبيدوس كما أن معظم و أهم زعماء الأسرة صفر دفنوا في أبيدوس و لم يدفنوا في نخن بل أن طبقة الصفوة التي دفنت في نخن منذ عصر نقادة الثانية بدأت تنحسر في عصر نقادة الثالثة بشكل واضح فقلت مقابر الصفوة هناك بينما زادت مقابر النخبة السياسية في أبيدوس . 
5 – هناك بعض الزعماء الذين إنتسبوا صراحة في أسمائهم للمعبود ( حور ) و رغم ذلك لم يعثر على آثارهم في مدينة نخن . فعلى سبيل المثال هناك الزعيم المعروف بإسم ( بي حور ) الذي عثرنا على نقش له في الصحراء الغربية و نقش بمقبرة في جبانة قسطل في النوبة السفلى و لم يعثرله على أثر واحد حتى الآن في نخن ، كما أنه يوجد زعيم آخر بإسم ( ني حور ) حيث عثرنا له على مخربشات سجلت على أواني في طرة فقط أي أن منطقة نفوذه لم تتعدى ( طرة ) فيما نعلم حتى الآن . 
و لذلك فإن الطرح العلمي الأكثر بروزا على الساحة هو إنتساب معظم زعماء الأسرة صفر للمعبود ( حور ) خلال فترة التوحيد السياسي بصرف النظر عن مكان منشأهم الأول بل إن هذا الإنتساب لم يشمل فقط هؤلاء الزعماء بل ضم معهم أنصارهم و حلفائهم من الشمسو حور ( أتباع المعبود حورس ) الذين آزروهم لتوحيد مصر سياسيا جنوبا و شمالا . 
هناك حقيقة هامة ينبغي لنا أيضا أن نشير لها : إن زعماء الأسرة صفر و من إتبعهم من حكام المناطق الأخرى لم يكتفوا بالإنتساب للمعبود حور بل إرتبطوا بالديانة الشمسية و عبروا عن أنفسهم من خلال معطيات و مفردات ديانة الشمس بشكل خاص و مميز حيث ظهرت في تلك الفترة صلايات تعارف الباحثون عليها بإسم صلايات حيوانات الشمس و التي ظن البعض من الباحثين في البداية أنها مجرد مناظر ترتبط بعالم الحيوان و النبات و الحياة الطبيعية ، و لكن ظهور بعض الأشكال الحيوانية المركبة من أكثر من عنصر و التي جعلتها تبدو في هيئات خرافية الشكل يؤكد أن مناظر تلك الصلايات كان و لابد أن يكون لها غرض عقائدي مرتبط بهدف سياسي و ليس الغرض من هذه الدراسة مناقشة كل تفاصيل الفن في تلك الفترة ، فقد ناقشها الدارس في أكثر من مقال سابق و لكنه سيلقي الضوء على أهم العناصر فيها و ما دلت عليه معاني إرتبطت بشكل مباشر أو غير مباشر بأحداث الأسرة صفر سياسيا و دينيا . 
فعلى سبيل المثال نجد في صلاية صيد الأسود – أنظر شكل الصلاية و مناظرها في أسفل المقال – تصوير لمجموعتين من الرجال إنتظموا في صفين على حافتي الصلاية و حملوا أسلحة مختلفة مثل الأقواس و المقامع و العصى المعقوفة و حبال الصيد و البلط ذات الحدين و الحراب ذات الرأسين و التروس البيضاوية و ظهر بين الصفين ساحة صيد واسعة تفرقت فيها الوعول و النعام و الأرانب و الأسود و الثعالب . إن ما يثير إهتمامنا في هذه الصلاية هو تصوير رجلين يتقدم كل منهما صف من هؤلاء الرجال و يحمل أسلحته فضلا عن لواء معبود صقري ! مما يعني أن الصقر هنا تم تصويره مرتان و هو مايجعلنا نرجح أن هذه الصلاية ترجع لبداية عصر نقادة الثالثة و هي الفترة التي بدأ فيها زعماء تلك الفترة يصورون أنفسهم في شكل السرخ الذي يعلوه صقران ( لمزيد من التفاصيل عن هذا الشكل أنظر الجزء الثالث السابق لنفس المقال ) . نلاحظ من جانب آخر أن هناك رجلا قد تم تصويره في الجزء العلوي للصلاية و قد خرج لملاقاة أسد هائج و كاد أن يقع فريسة له لولا تدخل أقرب زملائه إليه الذي أطلق سهمين على الأسد فأصابه بسهمين في رأسه بينما نشاهد على الصف الأيمن رجلين يقومان بصيد الوعول . 
هناك مجموعة من الملاحظات التي ينبغي لنا أن نتناولها عند الحديث عن مناظر هذه الصلاية الهامة و التي ترجع لبداية عصر نقادة الثالثة ( 3300 ق.م ) و هي :
1 – تمثل مناظر هذه الصلاية رحلة صيد تذكارية قام بها مجموعة من الرجال و قد تم الإتفاق على تصويرهم بنفس الهيئة و ربما كان الهدف من هذا التصوير هو القضاء على الوحوش التي كانت تهدد منطقة بعينها في الدلتا . 
2 – ظهرت مقصورة ( البر نو ) فوق الأسد المضروب بسهمين و هي عبارة عن معبد ذي سقف مقبي ، شيده أصحابه من البوص و فروع الأشجار و دعموا أركانه بجذوع الأشجار و مما لاشك فيه أن مقصورة ( البر نو ) هو الشكل المميز لمقاصير الدلتا مما يؤكد على أن حدث الصيد هنا قد تم في الدلتا . 
3 – إن ( البر نو ) تمثل مقصورة مدينة بوتو بشكل خاص و هو ما يرجح أن هذا الحدث قد تم في بوتو ، فضلا عن ذلك فقد قام الفنان بتصوير الفحل ( الثور ) ذي الرأسين المتدابرين و هو الفحل المعروف بثور ( خنس ) الذي ورد ذكره و تصويره بنفس الهيئة في متون الأهرام و كان هذا الثور هو أحد أرباب بوتو . 
4 – تمثل بؤرة الصلاية الدائرية مشهد ( الشمس ) بينما يمثل الرجال المصورين في هذا المشهد أتباع و أصدقاء الشمس الذين يقومون بالقضاء على أعداء الشمس و هم الحيوانات الأخرى المصورة في الصلاية . فالرسالة هنا واضحة و هي : القضاء على أعداء الشمس من خلال هذا الحدث الطقسي لأجل إنتظام دورة الكون و مسيرة الشمس . 
5 – إن الثور ( خنس ) هنا بما أنه ظهر بنفس هذا الشكل كعلامة تصويرية في متون الأهرام فذلك يشير إلى ان شكله في اللاصية يعبر عن علامة تصويرية ذات قيمة صوتية و أنها أحد أقدم العلامات الكتابية في بداية عصر نقادة الثالثة و التي إستمرت حتى عصر الدولة القديمة و هو ما يعني : أن أحد العوامل التي ساهمت في نشأة الكتابة المصرية القديمة هو الحاجة لكتابة أسماء المعبوادت و كتابة الهيئة المميزة للمعبد ( مثل المنطوق اللفظي لكلمة - بر نو – التي تدل على مقصورة الشمال بشكل عام أو مقصورة بوتو ) . 
6 – ظهر كل رجل من الرجال المصورين على الصلاية بشعر مستعار و لحية مستعارة و نقبة نصفية تم تخطيطها بما يشبه خطوط سعف النخيل و تدلى خلف ظهره ذيل ذئب أو إبن آوى فضلا عن تصوير ريشة أو ريشتين فوق رأسه مما يؤكد أن جميع هؤلاء الرجال كانوا من طائفة الحكام . 
7 – إذا ما وضعنا في الإعتبار أن ما يتقدم كل صف من هؤلاء الرجال الحكام هو لواء صقري مقدس خاص بالمعبود حور ، فذلك يعني أن وجود الصقر هنا ضوروري لإتمام عملية الصيد بنجاح و أنهم من أنصاره أو بمعنى أدق هم يمثلون ما يعرف بإسم ( الشمسو حور – أتباع حورس ) الذين ينتمون لصقر ( الجنوب ) و صقر ( الشمال ) و ربما كان زعيمهم الأكبر في هذا المشهد الطقسي هو ذلك الرجل الذي تمكن من صيد الأسد بسهامه كما يلاحظ من جانب آخر أن الفنان قام بتصوير هؤلاء الحكام جميعا – بما فيهم ذلك الحاكم الذي تمكن من صيد الأسد – بنفس الهيئة و نفس الشارات و الرموز و الأسلحة و دون أن يميز أو يفرق بين حاكم أو الآخر و ذلك أمر جدير بالملاحظة و الإنتباه لأن ذلك يعني بأن الشمسو حور أحيانا كاوا يصورون انفسهم و يعبرون فنيا عن سلطتهم بنفس الشارات و الرموز الملكية التي إستخدمها زعماء الأسرة صفر خلال بداية فترة التوحيد السياسي . 
و مما سبق إستعراضه أن بوتو كمدينة في هذه الصلاية تلعب دورا بارزا في هذا الحدث الطقسي و هو ما يذكرنا بما تناولناه في مقال سابق عن دورها في مقمعة العقرب الكبرى خلال فترة التوحيد السياسي ( لمزيد من التفاصيل أنظر مقال مقمعة العقرب الكبرى و هو مقال منشور في جميع الجروبات ) .
و هنا ننتقل إلى صلاية أخرى تعرف بإسم صلاية الأسد و العقبان – أنظر مناظر هذه الصلاية أسفل المقال – حيث ظهر فيها أسد يمزق صدر عدو عاري يتلوى جسده في قسوة بالغة على الأرض و ظهر أمام الأسد شخصة ذات مقام لم يبق منها سوى نصفها الأسفل و ردائها طويل و ربما تمثل معبود أو معبودة ؟ ... الأمر اللافت للنظر أن هذه الشخصية تدفع أمامها أسيرا عاريا إلا من جراب العورة و قد قامت كذلك بثني ذراعيها خلف ظهره و ظهر فوق الأسد من اليسار لواءان مقدسان للمعبودين ( حور ) و ( جحوتي ؟ ) و إمتدت من كل منهما يدان بشريتان كبلتا أسيرا ذا لحية كثيفة و شعر مفلفل . و قد ترامى بجانب الأسد و من تحته أفراد آخرون من نفس جنس الأعداء و هم عراة بذقون طويلة و شعور مفلفلة و قد إنقضت على جثثهم أسراب من كبار و صغار طيور جوارح منها عقبان و منها غربان ، فأخذت تنهش أيديهم و أرجلهم و تفقأ عيونهم و تنقر رؤوسهم . 
هناك مجموعة من الحقائق ترتبط بهذه الصلاية وتتمثل فيما يلي : 
1 – جمع الفنان هنا جميع المناظر في وحدة تصويرية واحدة توسطها الأسد و فريسته دون أن يفصل بين جزء منها و آخر بفواصل أو خطوط الأمر الذي يعني أن هذه الصلاية لابد و أن ترجع لبداية عصر نقادة الثالثة . 
2 – إن بؤرة الصلاية الدائرية أو ما تبقى منها هي تجسيد لشكل الشمس كما أن الأسد هنا هو أهم و أكبر رمز لحيوانات الشمس التي تدل على زعيم أو ملك بعينه عبر عن نفسه في هيئة أقوى حيوانات البر لكي يفتك بأعدائه و الذي لم يكونوا سوى أعداء الشمس المنهزمين في سياق معركة ما . 
3 – يظهر من ملامح أعداء الشمس من الآدميين الذين إنهزموا من الحاكم الأسد أنهم لا ينتمون عرقيا لوادي النيل و لا الدلتا ، و من هنا تظهر أيدولوجيا جديدة عبرت عن رسالة هامة و هي : أن الزعيم الشمسي المصور في هيئة الأسد يقوم يشارك بنفسه للقضاء على أعداء الشمس الذين لا ينتمون لمصر . 
4 – إن المعبودين المصورين في أعلى الصلاية هما الصقر ( حور ) و المعبود ( جبعوتي ) على هيئة طائر يتشابه إلى حد ما مع شكل أبي منجل و لكنه لا يمثل المعبود جحوتي في هذا السياق . و كان المعبود ( جبعوتي ) هو أحد الأرباب الرئيسية لمدينة بوتو و قد بدأ يتوحد مع المعبود ( حور ) نخن في بداية الأسرة الأولى فاتخذ هيئة الصقر تدريجيا إلى أن ثبت شكله كصقر في نهاية عصر الدولة القديمة و هو ما يجعلنا نرجح أن الصقر المصور هنا هو ( حور نخن ) و المتحالف مع ( جبعوتي ) بوتو مما يرجح وجود تحالف بين زعيم بوتو و زعيم نخن ( أو ربما أبيدوس ؟ ) للقضاء على مجموعة من الأفراد الذين لا ينتمون عرقيا لسكان وادي النيل أو سكان الدلتا . 
5 – إن الشكل الخاص بوضع العدو المقتول في الجزء السفلي يمينا يتشابه إلى حد كبير مع نفس وضع الأسيرين المصورين على الجزء السفلي لصلاية نعرمر في الوجه الأول الأمر الذي يعني أن أسيرين صلاية نعرمر في حالة سكون و ليسا في حالة حركة أي أنهما مقتولين و لا يهربان مثلما كان مرجح في السابق . 
6 – أن المعبودين ( حور نخن ) و ( جبعوتي بوتو ) يقدمان الأسيرين لبؤرة الشمس من خلال تزويدهما بأذرع بشرية و هو نفس الأمر الذي تكرر تصويره على صلاية نعرمر عندما تم تصوير الصقر حور بأذرع بشرية و هو ما يعني أن هذه الموتيفة الفنية لم تكن غريبة في عصر نعرمر فضلا عن ذلك تعتبر هذه الصلاية ( الأسد و العقبان ) هي واحدة من أقدم الصلايات التي ظهرت فيها فكرة أنسنة المعبودات أي إضفاء سمات بشرية على شكل و وظيفة المعبود مما يؤهل هذه المعبودات لكي تقوم بأدوار أسطورية أو بمعنى أدق يصبح لدى أنصار المعبود القدرة على إدخاله في الأسطورة و إعطائه دورا بعينه في أسطورة ما . 
7 – نلاحظ هنا أن حور ( نخن ) يتساوى في الحجم مع جبعوتي ( بوتو ) و ذلك على النقيض من الزعيم الأسد الذي تصدر بؤرة المشهد بحجم كبير .
8 – إن العلامة التصويرية الصغيرة التي ظهرت أمام الأسير العلوي ربما كانت تدل على على المنطقة التي ينحدر منها هؤلاء الأعداء ؟ 
أما عن صلاية المتروبوليتان ( أنظر مناظر الصلاية في الجزء السفلي من المقال ) فلن يتناولها الدارس بكل تفاصيلها نظرا لأنه قد كتب عنها مقالا موجزا في السابق ( لمزيد من التفاصيل أنظر مقال صلاية المتروبوليتان منشور في جميع الجروبات ) و سيكتفي هنا بإبراز أهم الحقائق المرتبطة بمناظر هذه الصلاية و هي : 
1 – ظهر في هذه الصلاية شكل خرافي مركب لحيوان ( و هو من حيوانات الشمس المدافعين عنها ) يتكون من رأس و جسد نمر ذي رقبة ثعبانية يحمل ذيلا ثعبانيا ملتفا حول نفسه يمثل بؤرة الشمس ( لاحظ في صلاية نعرمر الذيل الدائري الملتف عند طرفي الحيوانين الخرافيين حيث عبر كل ذيل دائري منهما عن شمس المغرب و شمس المشرق – أنظر مقال أيدولوجيا المشاهد الملكية المبكرة في صلاية نعرمر منشور في جميع الجروبات ) 
2 – تحمل بؤرة الشمس فوقها شكل لعلامة تصويرية تعبر عن إسم الزعيم أو الملك المعروف ( بي حور ) الذي ظهر في نقش مقبرة قسطل لأول مرة بالتاج الأبيض و التاج الأحمر جالسا على العرش و مدثر في رداء يتشابه مع الحب سد ( لمزيد من التفاصيل أنظر نقش مقبرة قسطل للملك بي حور منشور في جميع الجروبات ) و هو ما يؤكد على وجود إرتباط بين العبادة الصقرية للرب ( حور ) و ما بين ديانة الشمس و كل ما يتعلق بمفرداتها خلال عصر التوحيد السياسي . 
3 – يجسد إبن آوى المصور على طرفي الصلاية واحد من حيوانات الشمس القوية و المدافعين عنها و هو رب ( الأطراف ) حيث تم تصويره مرتان على ( طرفي ) الصلاية ربما لكي يشير إلى مكان سكناه فهو يسكن على أطراف الوادي حيث الأراضي المروعة و أطراف الصحراء حيث الجبانة ، إلا أن هناك رأيا آخر للعالم الألماني القدير ( فيستندورف ) يرجح فيه أن إبن آوى المصور مرتان هنا يمثل السماء بأفقيها الشرقي و الغربي و أن صغار بنات آوى أو الضباع المصورة على هذه الصلاية و كما نشاهد جيدا يرضعن من أمهاتهم ( الذين يمثلون هنا إبن آوى المصور مرة على الطرف الأيمن و مرة على الطرف الأيسر ) اللائي يمثلن السماء بأفقيها الشرقي و الغربي و هو أحد الدوار الدينية التي نسبت لإبن آوى خلال عصر التوحيد السياسي .
4 – يظهر الحيوان الخرافي المركب هنا و هو يسير متجها من الشرق نحو الغرب الأمر الذي يعكس وجود رحلة شمسية هي الأقدم في التصوير في صلايات عصر التوحيد و تكرر نفس الأمر في صلاية نعرمر عند تصوير الحيوانين الخرافيين بذيلين دائريين يمثلان شمس المشرق و شمس المغرب و بينهما بؤرة الصلاية التي تعبر عن شمس منتصف الليل مع الوضع في الإعتبار أن حركة الشمس في صلاية نعرمر تسير عكس حركة الشمس في هذه الصلاية ، فعند نعرمر تسير من جهة الغرب حتى جهة الشرق . 
5 – إحتوت هذه الصلاية على فكرة الرضاعة من إبن آوى و هي فكرة فنية فريدة من نوعها لم تتكرر على الإطلاق في صلايات عصر التوحيد و هو ما يمنح صلاية المتروبوليتان أهمية خاصة فضلا عن إختفاء مشاهد العنف و الصيد في هذه الصلاية فلا وجود لأعداء الشمس الذين كان يتم تصويرهم في صلايات أخرى ترجع لنفس الفترة الزمنية . 
6 – إختلف شكل الحيوان الخرافي المركب هنا عن جميع الحيوانات الخرافية الشمسية التي ظهرت في صلايات أخرى و لم يتكرر هذا الشكل الخرافي على أي أثر آخر – قارن شكل الحيوان الخرافي في هذه الصلاية بشكل الحيوان الخرافي في صلاية نعرمر على سبيل المثال أو صلايات أخرى صورت الحيوان الخرافي المركب بشكل مزدوج حيث تستطيل الرقبة الثعبانية بجسم أسد أو نمر و يتداخل جسد كل حيوان مع الآخر لكي يلتحما حول بؤرة كما ظهر في صلاية نعرمر . 
7 – هل كان الملك أو الزعيم بي حور ملك متوج على مصر العليا و السفلى ؟ أم كان مجرد واحد من الشمسو حور ( أتباع حورس ) في ذلك العهد ؟ هل ظهوره بالتاج الأبيض و التاج الأحمر في نقش مقبرة قسطل يدل على سيطرته الكاملة على مصر العليا و السفلى ؟ و إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تظهر له آثار متعددة في الصعيد ؟ لماذا لم يدفن في أبيدوس مثل معظم زعماء الأسرة صفر ؟ لماذا لم يظهر له أثر في الشمال يؤكد سيطرته عليها ؟ هل تصويره بالتاج الأبيض و الأحمر يدل على سيطرته على مصر العليا و السفلى ؟ هل إرتبط التاج الأبيض بمصر العليا و هل إرتبط التاج الأحمر بمصر السفلى في تلك الفترة ؟ ... سنعالج تلك القضية في الجزء الخامس القادم من المقال بإذن الله . 
هناك تساؤل آخر هام : ما هو السبب الذي جعل زعماء الأسرة صفر و أنصارهم من الشمسو حور يلجأون للتعبير عن سلطتهم السياسية و الدينية في فترة التوحيد السياسي بمفردات الديانة الشمسية ؟ هل لعبت مدينة عين شمس دورا سياسيا أو دينيا في ذلك العهد ؟ ... سيسعى الدارس لطرح إجابة ممكنة على هذا التساؤل في جزء تالي من هذا المقال فضلا عن تكملة شرح أهم النقاط الممكنة بآثار و فنون عصر التوحيد السياسي الذي بدأ منذ بداية نقادة الثالثة في وقت قريب بإذن الله
الجزء الاول من المقالة

الجزء الثانى من المقالة

أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم 

أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الثالث


توقفنا في الجزء الثاني ( السابق ) لهذا
المقال عند طرح هام تمثل في تحرك و إنتقال زعماء أبيدوس منذ بداية عصر نقادة
الثالثة ( منذ حوالي 3300 ق.م ) نحو حلوان ( منف ) و بداية تحويلهم لقرية حلوان من
مجرد قرية زراعية بسيطة إلى مدينة تجارية كبرى ذات أسوار محصنة و هي السياسة التي
سار عليها زعماء الأسرة صفر خلال عصر نقادة الثالثة و ظهرت دلائله الأثرية من خلال
ما يعرف خطأ بإسم صلاية الحصون و الأسلاب و التي ظهرت فيها الرموز الحيوانية
الملكية و هي تمسك فأسا ( كرمز للبناء و ليس الهدم – تناول الدارس هذه الفكرة في
مقال سابق عن صلاية الحصون و الأسلاب ) لكي تشيد مدنا أو أسوار حول مدن مما يكشف
عن التبلور المعماري للمدن المصرية و تحولها من قرى إلى مراكز دينية و سياسية كبرى
آنذاك . من جانب آخر تمثلت أهمية حلوان و ما تم إكتشافه من آثار في مقابر صغار
الموظفين و الحرفيين في حقيقة هامة و هي : إنتقال عدد كبير من عمال و حرفيين الجنوب
و الشمال للسكن و الإقامة في منف منذ بدايات عصر نقادة الثالثة على أقل تقدير ،
فقد سعى زعماء الأسرة صفر ذي المنشأ الجنوبي على إجتذاب خبرات الحرفيين من الجنوب
و الشمال للعمل في تلك المدينة و هو ما يفسر لنا إزدياد نشاط الحركة التجارة بشكل
قوي و مفاجيء منذ بدايات نقادة الثالثة و بعد وجود إنقطاع حضاري ظاهر منذ بداية
عصور ما قبل الأسرات ( 3900 ق.م ) و حتى بدايات نقادة الثالثة . و ضح لنا إنتشار
هؤلاء الحرفيين في حلوان من ذوي المنشأ الجنوبي و الشمالي من خلال ما يلي :
أ – وجود فخار الجنوب ذي الجودة الجيدة و المميز
في مقابر منفصلة عن مقابر أخرى إحتوت على فخار الشمال الرديء الصنع
ب – ذكر أسماء معبودات الجنوب في مقابر محددة
و إنفصالها عن الأسماء الخاصة بالمعبودات الشمالية التي ورد ذكرها في مقابر أخرى 
ج – وجود أدوات حجرية بصناعة جنوبية مميزة في
مقابر محددة صنعت في ورش محلية في حلوان و عدم إختلاط هذه الأدوات بأدوات الشمال
الحجرية التي عثر عليها في مقابر أخرى 
إن أحد أهم الدلائل الت تشير لإنتقال زعماء
الجنوب نحو الشمال هو وجود ملك بإسم التمساح قام بالسيطرة على طرخان و حلوان و هنا
يمكن لنا أن نطرح مجموعة من الحقائق حول هذا الملك الشهير بالتمساح و هي : 
1 – لم يكن هذا الملك مناوئا أو منافسا
لزعماء أو ملوك أبيدوس خلال عصر الأسرة صفر كما إقترح الباحث الألماني ( جونتر
دراير ) و كما إقترح الباحث الإيطالي ( فرانشيسكو رافائيلي ) فلا وجود لأي آثار
تدل على إستخدام العنف ضد التمساح كما لا وجود لأي تصوير فني يرجع للنصف الأخير من
عصر الأسرة صفر يشير إلى ذلك من قريب أو من بعيد . 
2 – وجدت لهذا الملك آثار تؤكد سيطرته على
طرخان و حلوان و منشأة أبو عمر التي تقع في شمال شرق الدلتا من خلال وجود مخربشات
أواني من طرخان و طبعة ختم أسطواني من حلوان من المقبرة رقم 160 ومخربشات أواني من
منشأة أبو عمر مما يشير إلى سيطرة التمساح على هذه المناطق . 
3 – نستشف من طبعة ختم حلوان أن الملك
التمساح أقام إحتفالا دينيا في منف حيث قام بتصوير السرخ الذي يعلوه الصقر حور و
قام بتسجيل إسمه خارج السرخ مما يؤكد إنتساب و إنتماء التمساح للمعبود حور في حكمه
في منف رغم منشأه المرجح من طرخان ( مركز عبادة المتساح آنذاك ) .
4 – ظهر على طبعة ختم حلوان ما يشير إلى
توحيد الجنوب و الشمال من خلال تصوير ( زرافتين تتلاقيان أمام نخلة باسقة ) الأمر
الذي يرجح هنا أن الزرافتين مع النخلة كانت تمثل مفهوم إقامة السلام في الأرضين و
يصبح هذا التمثيل الفني المبكر هو الأصل السابق لطقسة – سما تاوي – توحيد الأرضين
و التي ستظهر لأول مرة في عصر الملك حور عحا مؤسس الأسرة الأولى . 
5 – إن آثار التمساح في طرخان و تطابقها مع
آثار زعماء أبيدوس يرجح كونه إمتدادا شماليا لعائلة أبيدوس الملكية التي إستقرت في
طرخان و لم يكن التمساح هو الملك الوحيد الذي إنتهج هذه السياسة بل وجدت كذلك آثار
لملوك آخرين في منطقة طرخان ترجح إقامتهم فيها مثل ( جحوتي مر ) و ( حات حور ) و (
كا ) و ( نعرمر ) 
هناك تساؤل هام : هل لعبت طرخان دورا هاما في
إضفاء الشرعية السياسية و الدينية على زعماء النصف الأخير من عصر الأسرة صفر ؟ 
و من هنا يمكن لنا أن نطرح هذه النتيجة : إذا
كانت طرخان هي الإمتداد الحضاري لثقافة ( جرزة ) – عند مدخل بني سويف – منذ نهاية
عصر نقادة الثانية ( 3300 ق.م ) فمن المرجح سيطرة زعماء أبيدوس الجنوبيين عليها عن
طريق علاقات النسب و المصاهرة التي تمت في إطار التبادل التجاري الذي لعبه زعماء
الجنوب و الشمال . من جانب آخر حافظ زعماء أبيدوس على صلاتهم مع زعماء مدينة سايس
في الشمال و ربتها ( نيت ) في النصف الأخير من عصر الأسرة صفر من خلال إستقرار
عبادة الإلهة نيت في أبيدوس و نقادة في الجنوب فضلا عن وجود زوجات ملكيات دفن في
أبيدوس من عصر الأسرة الأولى و إنتسبن في أسمائهن للمعبودة نيت ربة سايس ، بل و
تصوير الملك ( حور عحا ) على بطاقته العاجية و هو يتجه لزيارة معبد الإلهة نيت في
سايس لأخذ الشرعية السياسية و البيعة الملكية فيقدم لها العطايا و المنح الملكية
حيث إعتمدت سياسة زعماء الأسرة صفر على تأكيد شرعيتهم في الشمال من خلال زيارة و
عبادة أرباب الشمال و إنشاء معابد جديدة لهم فضلا إقامة أعيادهم و تقديم القرابين
لهم و هو ما سبق و أن تناوله الدارس من خلال مقال سابق عن الملك العقرب و زيارته
لبوتو لإنشاء معابد و إقامة إحتفالات دينية هناك الأمر الذي يؤكد الحقيقة التالية
و هي : 
حرص زعماء أبيدوس في الجنوب على تقوية صلاتهم
بعائلات و أرباب الشمال و أنهم إستمدوا من آلتهم الشرعية الملكية في أقاليمهم و هو
الأمر الذي سيتبلور بشكل واضح في عصور الأسرات الأولى و الثانية و الثالثة من خلال
معطيات و فاعليات العيد الملكي الشهير بالحب سد و زيارة الملك لمقاصير آلهة الجنوب
و الشمال حيث يتجه لها الملك لتجديد شرعيته السياسية و الدينية .
من ناحية أخرى إعتمدت الملكية المصرية
الناشئة على أيدولوجيا دينية سياسية تبرر شرعيتها من خلال تمثيل نفسها في محور فني
معروف بإسم صلايات حيوانات الشمس و التي سنتناولها في الجزء القادم لهذا المقال
بشكل تفصيلي بإذن الله . و لايمكن أن نتصور بروز هذه الأيدولوجيا الملكية بشكل
مفاجيء و غير معروف لسكان وادي النيل و الدلتا بل نجد إرهاصاتها الأولى منذ عصري
نقادة الأولى ( منذ بداية عصور ما قبل الأسرات من 3900 ق.م و حتى 3600 ق.م ) و عصر
نقادة الثانية ( من 3600 ق.م و حتى 3300 ق.م ) حيث قامت الزعامات المحلية منذ هذين
العصرين بتصوير أنفسها بوصفها المحافظة على النظام العام داخل المدينة فصورت كل
زعامة محلية نفسها و هي تقوم بضرب الأعداء ( مقبرة الزعيم في نخن التي ترجع لنهاية
عصر نقادة الثانية و نسيج الجبلين في متحف تورينو ) الذين يهددون الأمن المحلي
للمدينة فضلا عن الإهتمام بتصوير الرخاء الذي عم على جميع سكان المدينة بفضل
الزعيم . إلا أنه و منذ النصف الأخير لعصر الأسرة صفر طرأ تغير فني جديد و بالغ
الأهمية على صلايات تلك الفترة و هو : 
تغير الشكل الفني للعدو المصور ، فقد كان
هناك عادة فنية تصور شكل العدو بوصفه مشابهها في ملامحه مع سكان المدينة سواء في
الوادي أو في الدلتا حتى نهاية عصر نقادة الثانية . أما و عند تناول صلايات بداية
عصر نقادة الثالثة و الأسرة صفر ( مثل : صلاية الأسد و العقبان و صلاية نعرمر و
مقمعة العقرب الصغرى ) ظهر تمثيل فني جديد لشكل عدو بملامح لا تنتمي عرقيا لا
لسكان وادي النيل و لا الدلتا بل هو عدو يقترب بملامحه لسكان بدو الصحراء الغربية
أو بدو الصحراء المتاخمين لمنطقة شمال غرب الدلتا . و لم يظهر هذا المفهوم الفني
التصويري إلا بعد وجود وحدة سياسية شبه مركزية أو بمعنى أدق بعد ظهور زعامة كبرى
يتبعها زعامات محلية صغرى و لذلك السبب يمكن لنا طرح النتيجة التالية التي تتمثل
فيما يلي : 
قامت الملكية الناشئة خلال عصر الأسرة صفر
بخلق أيدولوجيا فنية و دينية تتمثل في الإستغناء عن تصوير شكل العدو المحلي و
التحول ناحية تصوير العدو الغير منتمي عرقيا لسكان الوادي أو الدلتا ( سكان مصر )
و إبراز الملك في صورة المدافع عن الوادي و الدلتا ( و هو ما تبلور بشكل واضح في
صلاية نعرمر ) حيث يسعى الملك لضرب العدو الخارجي الذي يهدد البلاد و لاسيما
الدلتا الغربية المتاخمة للصحراء و تحول الملك إلى مدافع عن النظام العالمي الشمسي
من خلال تصوير نفسه كواحد من حيوانات الشمس التي تدافع عن الشمس و تحمي مسيرتها ضد
الأعداء ( و هو ما سيتناوله الدارس إن شاء الله في الجزء الرابع لهذا المقال ) حيث
بدأ زعماء أبيدوس و حلفائهم و أفرع عائلاتهم الممتدة في الشمال في تصويرهم كقوى
شمسية تقضي على خطر كوني متمثل في أعداء للشمس تسعى لإعاقتها في مسيرتها و من هنا
يظهر الربط الديني بين مفهوم توحيد البلاد الذي سعى نحوه زعماء الجنوب مع أنصارهم
في الشمال و بين إستقرار و إستمرار الدورة الشمسية في الكون و ربط هذا العنصر بذاك
. و لم تكن صلايات حيوانات الشمس المكتشفة في مراكز و ممالك الشمال تحديدا سوى
تعبير عن سلطة زعماء الشمال و المرتبطين بزعماء أبيدوس في الجنوب في التأكيد على
سيطرة ملك و حلفائه من حيوانات الشمس على مصر و القضاء على أعداء يهددون مصر من
الخارج و يهددون حركة و مسيرة الشمس . 
و في ذات الفترة التي ظهر فيها هذا التصوير
الفني خلال بداية عصر نقادة الثالثة ظهر كذلك زعماء ممالك و مراكز الشمال بنفس
الشارات و الرموز التصويرية لملوك أبيدوس في الجنوب فعندما تم تصوير السرخ دون أي
تصوير آخر يرافقه على أواني الفخار ، كان ذلك تعبيرا عن منزل أو واجهة قصر الزعيم
و إنتشرت في معظم مراكز الشمال و لم توجد في الجنوب إلا في أبيدوس فقط الأمر الذي
يؤكد على وجود ملك واحد في الجنوب و حلفاء له في الشمال منحدرين عرقيا من ذات
العائلة الجنوبية أو على أقل تقدير تجمعهم الروابط التجارية و السياسية المشتركة
ثم بدأ هؤلاء الزعماء جميعهم في تصوير أنفسهم ربما في مرحلة لاحقة بشكل السرخ الذي
يعلوه علامتي الصقرين المتقابلين ، فربما كانت عبادة الصقر حور كانت أكثر العبادات
إنتشارا في البلاد و الرأي الأرجح هنا أن الزعيم و حلفائه هو ( تجسيد لحور الجنوب
و حور الشمال ) . 
إن علامة الصقرين المتقابلين فوق السرخ
يشيران لحقائق هامة و هي : 
1 – هو تعبير فني صريح عن علامة متفق عليها
بين زعماء أبيدوس في الجنوب و زعماء ممالك و مراكز الشمال .  
2 – تشير هذه العلامة لأقدم تمثيل فني ملكي
لوحدة سياسية تمت من خلال الصقر حور في الجنوب و الصقر حور في الشمال . 
3 – تعتبر هذه العلامة التصويرية هي السابقة
الأولى للفكرة الأسطورية التي ستتبلور في بداية عصر الأسرة الأولى بأن الملك
الحاكم هو ملك على مملكتين كانتا منقسمتين في باديء الأمر و هما مملكة الجنوب و
مملكة الشمال إلى أن جاء الحاكم و قام بتوحيد المملكتين و سيتم إعتبار توحيد مصر كنتيجة
لوجود مملكتين كانتا منفصلتين فجاء حاكم و قام بتوحيدهما و يغلب على هذه الفكرة
طابع أسطوري أكثر منها فكرة فعلية أو حقيقية وفقا لآثار و معطيات الأسرة صفر . 
4 – ظهر هذا التصوير في نفس الفترة التي بدأ
فيها زعماء الجنوب و الشمال يعبرون عن أنفسهم و هم في صحبة زعيم أكبر يرافقونه في
رحلات الصيد في الدلتا فقد ظهر في صلاية صيد الأسود صفين من الزعماء يظهرون بنفس
شارات الزعيم الأكبر ( شارات ملكية و أسلحة قتالية ) و يتقدم كل صف منهما لواء
المعبود حور و بمعنى أدق حور الجنوب و حور الشمال و يتكمن الزعيم الأكبر من إصطياد
أسد بمفرده بجوار عند مدينة بوتو حيث تم تصوير ثور المعبود ( خنس ) الشهير و بجوار
مقصورة ( البر نو ) و هي مقصورة ( البر نو ) المميزة لبوتو . 
5 – لم يكن هؤلاء الزعماء الذين صوروا على
صفين و يرافقون الزعيم الأكبر و ظهروا بنفس شاراته الملكية و أسلحته القتالية و
يتقدمهم صقر الجنوب و صقر الشمال سوى ( الشمسو حور ) أتباع المعبود حورس في الجنوب
و الشمال و الذين صوروا أنفسهم بنفس العلامة التصويرية الملكية ( الصقران فوق
السرخ ) في مراكز و ممالك الشمال كإمتداد عائلي لزعماء أبيدوس في الجنوب و ممثلين
لسلطتهم الشرعية في الشمال بإعتبار الملك هو صقر الجنوب و صقر الشمال 
6 – يلاحظ أن هذه العلامة التصويرية لم ترتبط
بأسماء ملكية على الإطلاق بل وجدت في مقابر في أبيدوس ترجع زمنيا لعصر أقدم من عصر
النصف الأخير من الأسرة صفر فضلا عن أن هذه الصلايات ترجع هي الأخرى لبداية الأسرة
صفر و لا تنتمي هذه العلامة لأي من ملوك : التمساح أو إري حور أو كا أو العقرب أو
نعرمر أو غيرهم من الملوك مما يعني وجود وحدة سياسية شبه مركزية ذات زعامة كبرى
يتبعها زعامات محلية صغرى قبل النصف الثاني لعصر الأسرة صفر 
و من هنا يتبين و من خلال ما تم إستعراضه حتى
الآن أن الملك الحاكم هو تجسيد للصقر حور ( كأيدولوجيا لفن الملكية الناشئة ) على
الأرض و أيا ما كان منشئه و بصرف النظر عن مكان ٌإقامته و أن الملك هو الصقر في
الجنوب و هو الصقر في الشمال و أن الزعماء الشماليين اللذين إنتسبوا للصقرين هم
أيضا هم غالبا منحدرين من عائلة زعماء أبيدوس أو على أقل تقدير على علاقة تحالف
سياسي و ديني و إقتصادي معهم . و بعد أن إستقرت فكرة إنحدار الملك إلهيا من الصقر
حور خلال عصر الأسرة صفر قام الملك العقرب لأول مرة بتصوير نفسه فنيا على مقمعته
الصغرى و هو متوج بتاج الشمال و يظهر أمامه الصقر حور و هو يحضر له أسير بملامح
أجنبية ثم جاء الملك نعرمر و أكد على ذات المفهوم فنيا كأيدولوجيا إستقرت بعد فترة
زمنية طويلة من الأسرة صفر فتحول المعبود حورس إلى رب الملكية الذي يختص بالحرب و
القتال و الإنتصار على الأعداء الأجانب و هي الفكرة التي إستمرت كذلك كموروث طوال
عصور التاريخ المصري القديم . و ينهي الدارس عند هذا الحد ما تم طرحه في هذا الصدد
و لنا بإذن الله جزء رابع لهذا المقال .

الجزء الاول من المقالة
http://ahmedfaheem.blogspot.com/2013/06/blog-post.html

الجزء الثانى من المقالة
http://ahmedfaheem.blogspot.com/2013/06/blog-post_4471.html

أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الثانى

بسم الله الرحمن الرحيم 

أضواء جديدة على قيام الوحدة السياسية بين الجنوب و الشمال و نشأة الملكية المصرية - الجزء الثانى

من خلال ما تم إستعراضه في الجزء الأول من
هذا المقال تبين لنا وجود شبكة تجارية ضخمة في منطقة الشرق الأدنى القديم بدأت من
الأناضول و شمال بلاد الرافدين و إنتهت بالنوبة السفلى مرورا بالشام و مصر السفلى
نخبة السياسية في جنوب و شمال مصر من اناحية الإقتصادية – أنظر الجزء الأول الساب
و العليا كما وجدنا عرفنا كذلك مدى تأثير هذه الشبكة التجارية في تعزيز مكانة طبق
ةق من هذا المقال لمراجعة جميع التفاصيل المرتبطة بموضوع الشبكة التجارية – و في واقع
أفراد المجتمع نجدها منذ العصر الحجري الحديث في مصر ( و يبدأ في الدلتا منذ حوالي
الأمر إن بداية ظهور كيانات إجتماعية و سياسية مميزة و متفوقة على غيرها من الكثير من
6000 ق.م أما في وادي النيل فهو يبدأ منذ 5000 ق.م ) فقد تم العثور على دفنات لنخبة إجتماعية مميزة في حضارة البداري في أسيوط حيث وجد أن 8% من دفنات
نائزي .
البداري إحتوت على أثاث جنائزي ثري و مميز و ذلك على النقيض من بقية الدفنات الأخرى في البداري و تبلغ نسبتها 92% و التي كانت دفنات فقيرة في أثاثها ال
ج
وجد كذلك إشارات لوجود تميز إجتماعي في حضارة
حلوان في الشمال التي ترجع هي الأخرى للعصر الحجري الحديث ، و لاسيما في الدفنة رقم
35 التي إحتوت على عصا من خشب الأثل طولها 30 سم و قد تم وضعها أمام وجه لهيكل
مر الذي يرجح أنها كانت قرينة على التميز الإجتماعي لهذا الرجل في قرية حلوان و د
عظمي مدفون في وضع القرفصاء لرجل بالغ و كانت يداه ممدوتان ناحية هذه العصا ال
أون أن ينصرف للأذهان بالضرورة أنها عصا تدل على وجود سلطة سياسية في حلوان في ذلك
الوقت المبكر مثلما إقترح بعض الباحثين القدامى .
زاد ذلك التميز الإجتماعي في بداية العصر
الحجري النحاسي ( بداية عصور ما قبل الأسرات في مصر و تبدأ منذ حوالي 4000 ق.م ) حيث
تبلور في ظهور مراكز حضارية و ممالك سياسية صغرى إنتشرت في الوادي ( مصر العليا )
تهم الإجتماعية تحديدا في عصر نقادة الثانية ( المرحلة الثانية لعصور ما قبل
و الدلتا ( مصر السفلى ) و أخذ أصحاب و وجهاء تلك المراكز يعبرون عن أنفسهم و مكا
نالأسرات في مصر – و حول تواريخ هذه العصور الزمنية أنظر الجزء الأول السابق لهذا
مزخرف بتقنية و حرفية عالية و أدوات حجرية مصقولة في غاية الدقة في صنعها و تدل ع
المقال ) و لاسيما مع وجود و إكتشاف أثاث جنائزي متطور و مكون من فخار جيد النوع 
ولى مهارة و خبرة عالية حيث تم إكتشاف تلك المنتجات في مقابر الصفوة الإجتماعية و السياسية في الجنوب و خاصة في أبيدوس و نقادة و الموقع رقم 6 في نخن و من فحص
تقرار السكني السلمي في تلك المناطق مما أدى لزيادة عدد السكان الذي نستدل عل
مساحة هذه المدن الجنوبية و ما تم إكتشافه فيها تبين لنا أنها تحولت من ( قرى صغيرة ) خلال عصر نقادة الأولى إلى ( مدن كبيرة ) خلال عصر نقادة الثانية بعد الإ
سيه من زيادة عدد الدفنات من عصر إلى آخر الأمر الذي أدى إلى ظهور ( ممالك سياسية
) في أبيدوس و نخن و نقادة في الجنوب منذ عصر نقادة الثانية على أقل تقدير .
جدير بالذكر أن هذا التميز الإجتماعي لم
يختفي في مصر طوال عصر الأسرة صفر و طوال العصر العتيق حتى مع قيام سلطة الملكية
المصرية و إعلان الوحدة السياسية في البلاد . حيث وجدنا في مقبرة الملك العقرب – و
هو الملك قبل الأخير في الأسرة صفر و لمزيد من التفاصيل أنظر الجزء الأول السابق
سايس و عين شمس و غيرهم ، حيث كانت هي حلقة الوصل التجارية بين جنوب مصر و جنوب
لهذا المقال – آثار تدل على وجود ممالك و مراكز سياسية كبرى في الشمال مثل بوتو 
وبلاد الشام فهي التي قامت بإستيراد أواني شامية و تحديدا من سوريا و فلسطين ثم وضعت هذه الأواني كأثاث جنائزي في مقبرة الملك العقرب في أبيدوس . و من هنا تبين
كتابة أسماء مدنها و زعمائها و أربابها التي تم تسجيلها جميعا على بطاقات عاجية
لنا أن ممالك الشمال أشرفت بشكل مباشر على التجارة الخارجية مع مدن تقع في الشام عند سواحل البحر الأبيض المتوسط و قد تم الإعتراف بهذه الممالك الشمالية من خلا
ل مكتشفة
العقرب في أبيدوس .
في مقبرة
لا يفوتنا في هذا الصدد أن نتحدث عن واحدة من
كبرى حضارات و مراكز الشمال السياسية ، و التي كانت لاتزال تمارس دورها السياسي و
الحضاري الكبير منذ نهاية عصر نقادة الثانية و بداية نقادة الثالثة مروا بالأسرة
على بعد 40 كم جنوب منف . هناك مجموعة من الحقائق ينبغي لنا أن نشير إليها عند ا
صفر و حتى النصف الأول من الأسرة الأولى ، و هي مدينة أو ( مملكة طرخان ) حيث تق
علحديث عن مملكة طرخان في النصف الثاني من عصور ما قبل الأسرات و هي :
1 – لم يكن ظهور طرخان كمركز حضاري كبير و
مملكة سياسية في الشمال أمر مفاجيء في النصف الأخير من عصر نقادة الثانية فهي
إمتداد ثقافي لحضارة جرزة عند مدخل بني سويف ( تبعد طرخان عن جرزة حوالي 10 كم ) و
التي كانت واحدة من أكبر المراكز الدينية و السياسية في مصر طوال عصر نقادة
الثانية فطرخان هي الإمتداد الشمالي لحضارة جرزة .
2 – تم إكتشاف 1300 دفنة في طرخان تنتمي
زمنيا لنهاية الأسرة صفر و بداية الأسرة الأولى مما يدل على إرتفاع معدل الزيادة
السكانية في طرخان و كانت تعتبر واحدة من أعلى معدلات الكثافة السكانية في مصر .
3 – مملكة طرخان كانت هي واحدة من أولى
المراكز التجارية التي كانت تستقبل بضائع و منتجات الشمال لكي تتولى إرسالها
للجنوب و العكس صحيح مما ترك تأثيره الطيب على ثراء زعمائها في ذلك العصر فضلا عن
وجودها الجغرافي المميز هي و جرزة في موقع إستراتيجي يتسم بوجود زراعة و إمكانية
إستصلاح أراضي زراعية كبيرة
4 – من أهم المقابر التي إكتشفت في طرخان هي
المقبرة رقم 315 و التي بلغ عرضها أكثر من 6 متر و إحتوت على أواني فخار متعددة و
نقش عليها إسم الحاكم المحلي لمملكة أو مدينة طرخان و هو ( جحوتي مر ) و الذي كان
المحليين الذين ساعدوا و آزروا السلطة الملكية في أبيدوس في السيطرة على إحدى الم
على صلات بأحد ملوك أبيدوس خلال عصر الأسرة صفر مما يرجح أنه كان واحدا من الحكام
داخل الهامة لمنطقة مصر الوسطى التجارية .
5 -  ما
يؤكد أهمية طرخان كمملكة سياسية كبرى و مركز حضاري و تجاري كبير هو وجد أكثر من
إسم لزعماء بارزين الأهمية سيطروا عليها و هم :
1 – ( الزعيم جحوتي مر ) 2 – ( الزعيم
التمساح ) 3 – ( الزعيم حات حور )
4 – ( الزعيم الملك كا ) 5 – ( الزعيم الملك
نعرمر )
6 – لم تنحسر أهمية طرخان السياسية بعد النصف
الأول من عصر الأسرة الأولى كما ظن العديد من الباحثين بل وجدت فيها آثار حتى
نهاية اعصر العتيق فضلا عن كونها الحد الجغرافي الجنوبي لمدينة منف أي أنها أنها
ظلت طوال العصر العتيق كحد جنوبي للعاصمة منف . هناك تساؤل هام : هل كان هناك
ى ؟ و من هنا سيتم إعتبار كلا من ( جحوتي مر ) و ( التمساح ) و ( حات حور ) أنهم
إمتداد لعائلة زعماء مملكة أبيدوس الجنوبية في منطقة طرخان عند مدخل مصر الوس
طلم
وا من أبيدوس و لكنهم على صلات قرابة و نسب بتلك المملكة الجنوبية ؟
يكو
ن
7 – ظهر في طرخان أقدم تمثيل معروف لنا
للمعبود ( بتاح ) يوجد على إناء من الألباستر حيث عثر عليه في طرخان و هو يرجع
لعصر الأسرة صفر و يظهر فيه المعبود ( بتاح ) برأس حليق و بدون لحية واقفا داخل
مقصورة مفتوحة مرتديا رداءا ضيقا و يداه ممدودتان أمام صدره ممسكا صولجان ( الواس
) و الذي يظهر هنا كذلك لأول مرة في تاريخ الفن المصري القديم كما تتدلى دلاية قلادة
الرقبة على ظهره . و جدير بالذكر أنه ظهرت واحدة من أقدم العلامات التصويرية
آنية .
المصرية القديمة ذات القيم الصوتية و التي مثلت حروف إسم المعبود بتاح على ا
ل
8 – تزامن ظهور المعبود بتاح في طرخان و هو
ممسكا بصولجان السلطة الإلهية ( واس ) مع ظهور سلطة ملكية أو سلطة حاكم محلي في
طرخان الأمر الذي يكشف عن إرتباط بتاح منذ البداية بالزعامة و السلطة السياسية و
الملكية فضلا عن إرتباطه الشهير بوظائف الفن و الفنانين و المهنيين و الحرفيين .
9 – إرتباط المعبود بتاح منذ البداية بوظيفة
الفن و الصناعة و المهن الحرفية الأخرى يعكس مدى التقدم الحضاري لمملكة أو مدينة
طرخان التي تركز و إستقر فيها أكبر عدد ممكن من الصناعات و الحرف المختلفة في ذلك
العصر .
أما عن أكبر المراكز السياسية و الحضارية على
الإطلاق هو مدينة ( حلوان ) حيث تم إكتشاف أكثر من عشر آلاف ( 10000 ) دفنة و
مقبرة تؤرخ بعصر الأسرة صفر و بداية الأسرة الأولى . و هنا يجب علينا أن نلقي مزيد
من الضوء على مدينة حلوان الحضارية من خلال الحقائق التالية و هي :
1 – ترجع البدايات الأولى لحضارة حلوان
لنهايات العصر الحجري القديم الأعلى أي منذ حوالي 13000 ق.م فوجد فيها أدوات حجرية
ميكروليثية ( صغيرة ) و هي الأدوات المميزة لذلك العصر .
2 – إستمرت حضارة حلوان خلال العصر الحجري
الوسيط و الذي يرجع زمنيا إلى 10000 ق.م بل و كانت من إحدى أوائل القرى التي تمكنت
من الدخول زمنيا في العصر الحجري الحديث في مصر منذ الأف الثامن قبل الميلاد 8000
معرفة بصناعة الفخار .
ق.م بعد أن عرف أهلها الإستقرار بممارسة الزراعة و بناء المساكن البسيطة و لكن دو
ن
3 – تقدت حضارة حلوان خلال مرحلة أخرى و
متطورة من العصر الحجري الحديث في الأف الخامس قبل الميلاد 5000 ق.م فعرفت لأول
مرة إستخدام الحجر خلال ذلك العصر المبكر و على نطاق واسع في القرية حيث وضع أهلها
بضعة أحجار صغيرة غير مهذبة فوق كل مقبرة من مقابرهم لكي تدل عليها و تحدد مكانها
الدوائر بجوار منطقة المدافن الأمر الذي جعل بعض علماء ما قبل التاريخ يرجح أن هذ
كما وضعوا أحجارا أخرى غير مهذبة على هيئة الأكوام الصغيرة و أحجارا أخرى على هيئ
ةا المكان كان لإقامة شعائر تقديس الموتى في منطقة حلوان ؟ أو ربما كان مكانا مخصصا لتجهيز القرابين و نحر الأضاحي ؟ أو ربما كان مطبخ عام لأهل القرية بناءا على ما
هذه الحضارة عن جميع حضارات الشمال و الجنوب خلال العصر الحجري الحديث .
تم إكتشافه من بقايا أواني فخار و مخلفات وقود و حرق في تلك الأماكن ؟ ... على أي
حال يمكن القول بأن ظاهرة إستخدام الأحجار الصغيرة الغير مهذبة في حلوان تميزت به
ا
4 – هناك فترة إنقطاع حضاري في حلوان ، فبعد
نهاية العصر الحجري الحديث هناك لا وجود آثار لحلوان حتى الآن تعاصر البداية
الزمنية لعصور ما قبل الأسرات ( بداية عصر نقادة الأولى 3900 ق.م ) كما لا وجود
فيها لآثار ترجع لبداية عصر نقادة الثانية ( و تبدأ من 3600 ق.م ) حتى الآن . إلا
أنها تظهر فيها آثار لمقابر متميزة مع نهاية عصر نقادة الثانية ( حوالي 3400 ق.م )
و مع بداية عصر نقادة الثالثة ( حوالي 3300 ق.م ) و طوال عصر الأسرة صفر ( من 3150
بحتة حيث لم يكتشف فيها حتى الآن ما يدل على وجود تواصل زمني مباشر بين نهاية ال
ق.م إلى 3000 ق.م ) و طوال العصر العتيق . فهل يرجع ذلك الإنقطاع الحضاري للصدفة ا
لعصر الحجري الحديث و بداية عصور ما قبل الأسرات ؟ أم أنها فقدت أهميتها الحضارية
ظلت كقرية صغيرة في موقعها المحلي حتى نهاية عصر نقادة الثانية ؟
بعد نهاية العصر الحجري الحديث فاضطر أهلها لهجرها لأسباب ما مجهولة لنا ؟ أم أنه
ا
5 – تم إكتشاف مقبرة بالغة الأهمية في حلوان
ترجع لنهاية عصر الأسرة صفر و هي المقبرة رقم 536 و يبلغ عرضها أكثر من 8 متر و هي
أكبر مقبرة في حلوان في تلك الفترة و إحتوت على الكثير من الأواني الحجرية الشامية
ا يلفت النظر هو أن هذه المقبرة تعاصر زمنيا مقبرة جحوتي مر في طرخان مما يؤكد أن
فضلا عن أواني الفخار المصرية و كان الجزء العلوي منها مشيدا بالطوب اللبن إلا أن 
م مملكة حلوان لعبت دورا سياسيا بارزا تماما مثل طرخان خلال نهاية الأسرة صفر و
بداية الأسرة الأولى .
6 – وجدت مقابر الصفوة في حلوان و التي تؤرخ
زمنيا بنهاية الأسرة صفر و بداية الأسرة الأولى حيث إحتوت على أسماء و ألقاب
النخبة السياسية في حلوان و كانت المفاجئة أن بعضهم أشار لنفسه أنه إبن أو بنت
الملك ! و هو أقدم دليل كتابي معروف على ظهور لقب إبن الملك في الحضارة المصرية
القديمة و قد ظهر في حلوان . أما المفاجئة الأخرى ظهور مقابرهم مشيدة على الطراز
الملكي المعروف بالدخلات و الخرجات التي نفذت على واجهاتها الخارجية مما يعني أن
مقابر الصفوة التي وصف أصحابها أنفسهم بأنهم أبناء و بنات الملك في حلوان .
الطراز المعماري الملكي لم يكن حكرا على ملوك أبيدوس بل ظهرت له شواهد مماثلة في
7 – مع منتصف الأسرة الأولى إنتقلت جبانة
كبار القوم و النخبة من حلوان إلى سقارة فظلت حلوان جبانة لمقابر صغار الموظفين طوال
العصر العتيق بينما أصبحت سقارة هي جبانة الصفوة في منف و التي إحتوت على ثراء
الملوك في أبيدوس خلال عصر الأسرة الأولى لدرجة أن العديد من علماء المصريات ا
كبير من الأثاث الجنائزي فضلا عن أحجامها الضخمة مما جعلها تناهض و تنافس مقاب
رلقدامى إعتقد أن مقابر سقارة هي مقابر ملوك الأسرة الأولى الحقيقية و أن مقابر
أبيدوس كانت مقابر رمزية وهمية .
8 – من أهم المقابر المكتشفة في سقارة ،
المقبرة رقم 3505 و هي مقبرة الموظف الكبير في منف ( مر كا ) الذي عاش في عصر
الملك ( قاعا ) آخر ملوك الأسرة الأولى و كان من أهم و أخطر ألقابه على الإطلاق هو
لقب ( إري بعت ) و هو حرفيا يعني : المنتمي إلى الصفوة و ضمنيا يعني : نسيب أو
لك ( دن ) في منتصف الأسرة الأولى و كان يحمل لقب ( حامل ختم ملك مصر السفلى ) بم
قريب الملك و كذلك مقبرة الموظف الشهير ( حم كا ) في سقارة الذي عاش في عصر ال
معنى من
م السلطة التنفيذية للملك في مصر السفلى
يقوم مق
ا
يتبين لنا من ذلك العرض السابق أنه إذا وضعنا
في الإعتبار أن حلوان هي الحد الشرقي لمنف فذلك يعني أن الإرهاصات الأولى للحضارة
المنفية ترجع لنهايات العصر الحجري القديم الأعلى كما سبق ذكره و أن حضارة منف
ار حضارتها خلال النصف الأول من عصور ما قبل الأسرات حتى تبدأ في الإزدهار مرة أخ
إستمرت خلال العصرين الحجري الوسيط و الحديث و لكن لا يوجد ما يوحي الآن بإستم
ررى في النصف الثاني من عصور ما قبل الأسرات و تصل للذروة الحضارية خلال عصر الأسرة
سكانها من حلوان على البر الشرقي إلى سقارة على البر الغربي – الحد الغربي لمنف
صفر و تصبح أعلى مدينة ذات كثافة سكانية في مصر و تزداد مساحتها و يتحول عدد كبير م
ن- و يدفن فيها كبار القوم .
و من خلال عرض النقاط السابقة يمكن لنا أن
نرجح النتيجة التالية :
وجود زعماء أو ملوك ذي منشأ جنوبي دفنوا في
جبانة أبيدوس و معترف بشرعيتهم في مراكز الشمال و أن هذه العائلة الملكية ذات
المنشأ الجنوبي إنتسب إليها فرع عائلي آخر إنحدر منها و إستقر في حلوان و طرخان أي
أن هذا الفرع إستقر في منف منذ عصر الأسرة صفر . و من غير المستبعد على الإطلاق أن
ذه الأفرع في بوتو و سايس و عين شمس في الشمال و نخن و نقادة في الجنوب منذ عصر ا
العائلة الملكية في أبيدوس كان لها أفرع أخرى منحدرة منها و تنتمي إليها و إستقرت 
هلأسرة صفر مع الوضع في الإعتبار أن هذه الأفرع العائلية الأخرى كانت أقل درجة في المكانة السياسية من عائلة منف التي إرتبطت برباط وثيق بعائلة أبيدوس الملكية
فكانت هي الأكثر قربا و نسبا منها .
بناءا على ما تم طرحه حتى الآن في هذا المقال
، نجد أن الممالك و المراكز السياسية في الشمال و الجنوب ساعدت و آزرت مملكة
أبيدوس في السيطرة على معظم مصادر و مواد و طرق التجارة هنا و هناك . إلا أننا
نطرح هنا مجموعة من التساؤلات الهامة في هذا الصدد :
1 – ما هي الأسباب الفعلية التي جعلت زعماء
المراكز السياسية الأخرى يتبعون سياسيا مملكة أبيدوس و يرضون لأنفسهم هذا الرضوخ
السياسي و بشكل يغلب عليه الطابع السلمي دون الحربي ؟ - ملحوظة هامة : قبل الإجابة
عن هذا التساؤل ينبغي أن نتذكر : أ – معظم هؤلاء الزعماء كانوا من أقارب العائلة
اسية و الدينية و الإقتصادية في ممالكهم التي حكموا فيها حتى مع قيام الملكي
الملكية في أبيدوس ...... ب – لم تفقد هذه العائلات و زعماء المراكز سلطاتها الس
ية
برى في أبيدوس و مع نشأة الوحدة السياسية .
ال
ك
2 – بالرغم من المنشأ الجنوبي لزعماء الأسرة
صفر ، هناك تساؤل هام : هل إستقر زعماء الأسرة صفر مثل : إري حور  و كا و العقرب و نعرمر معظم أوقات السنة في
أبيدوس ؟
3 – هل إستقر ملوك الأسرة الأولى الذين دفنوا
في جبانة أبيدوس الملكية هناك و طوال الوقت خلال بداية عصر الأسرات المبكر ؟
في واقع الأمر إن إنتشار آثار هؤلاء الملوك و
تركزها بشكل مكثف و كبير في حلوان و سقارة يرجح إقامتهم الملكية بشكل شبه دائم في
منف خلال عصري الأسرتين صفر و الأولى بالرغم من منشأهم الجنوبي حيث كانت منف ( من
نذ بداية عصر نقادة الثالثة ( حوالي 3300 ق.م ) على أقل تقدير فمنف كانت قنطرة و
طرخان في الجنوب إلى حلوان في الشمال ) أكبر مركز حضاري و تجاري معروف في البلاد 
م جسر يربط بين الوادي ( مصر العليا ) و الدلتا ( مصر السفلى ) و كان هذا الجسر هو
منتجات جنوب الشام و مصر السفلى نحو مصر العليا و النوبة السفلى و هو الأمر الذي
معبر لبضائع النوبة السفلى و مصر العليا نحو شمال مصر و جنوب الشام كما كانت معبر 
لجعل زعماء الأسرة صفر ذي المنشأ الجنوبي يفضلون الإستقرار شبه الدائم في تلك
المدينة .
هناك أمر جدير بالملاحظة و شديد الأهمية و هو
: أن مقابر النخبة في حلوان إحتوت على آثار و منتجات متطابقة مع منتجات و آثار
أبيدوس المتمثلة في الأختام الملكية و أواني الفخار و حجم و شكل المقابر و هو ما
يرجح إنتقال زعماء أبيدوس للسيطرة على منف خلال عصر الأسرة صفر بل و تحويل القرية
القديمة لحلوان و سقارة إلى مدينة بعد زيادة عدد السكان فيها و إحاطتها بسور ضخم
لها لإستقبال بضائع الجنوب و الشمال فضلا عن إقامة قصور ملكية في نطاقها أكدت
كبير و إنشاء ميناء تجاري كبير عند ضفة حلوان الشرقية و ضفة سقارة الغربية مما أ
هعلى وجودها الأختام العاجية المكتشفة في مقابر النخبة في حلوان التي كشفت عن وجود قصور
ح أن إعادة تأسيس منف مرة أخرى كمركز تجاري كبير في الشمال بعد فترة الإنقطاع
ملكية للتمساح و إري حور و كا و العقرب و نعرمر و ملوك الأسرة الأولى و هو ما يجعلنا نر
ج الحضاري يرجع الفضل فيه لزعماء الجنوب الذين سعوا لإعادة إكتشاف هذا المكان و تحويله لمركز تجاري كبير و ذلك لتأكيد هيمنتهم الإقتصادية و مكانتهم
ت و بضائع جميع ممالك الجنوب و الشمال لن تمر من وادي النيل إلى الدلتا و من
الإجتماعية مما كان له الأثر الأكبر في زيادة ثرائهم و سلطتهم فكان رضوخ بقية زعماء الشمال و الجنوب لهم لم يكن سوى تحصيل حاصل و ذلك نظرا لأن منتج
االدلتا إلى و الوادي إلا من خلال منف بل و يمكن ترجيح أن زعماء المراكز الأخرى سعوا بأنفسهم لعمل أواصر نسب و مصاهرة مع زعماء أبيدوس بعد سيطرتهم على منف الذي أدى لزيادة ثرائهم
يدوس على جميع مصادر و طرق التجارة مع النوبة السفلى و إلى هنا نكتفي بهذا الحد و
و سلطتهم و قد تزامن ذلك سيطرة زعماء أبيدوس في الجنوب على طرق التجارة في الصحراء الغربية و الشرقية و بمساعدة مملكتي نخن و نقادة في الجنوب الأمر الذي أدى لإحكام سيطرة زعماء أ
بسنكمل الجزء الثالث في وقت قريب بإذن الله    
 
الجزء الاول من المقالة 

http://ahmedfaheem.blogspot.com/2013/06/blog-post.html