الاثنين، 30 يوليو 2012

مظاهر القانون الحضاري للمعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني


بسم الله الرحمن الرحيم 

مظاهر القانون الحضاري للمعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني ............................................................
.................  لم يكن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني مجرد منشأة معمارية  دينية ضخمة ، و أن ما حدث فيه من تطورات معمارية و فنية و دينية لا يمكن  النظر إليها على أنها مجرد نهايات لتطور طبيعي للتراث الديني و المعماري  المصري القديم الذي يضرب بجذوره نحو عصور عتيقة ، فهو لا يظهر كصورة طبق  الأصل من المعابد المصرية القديمة ، كما أن ظروف نشأته السياسية و  الإقتصادية إختلفت كثيرا عن أحوال و ظروف تشييد المعابد المصرية الأقدم  زمنيا و تاريخيا ، فالمعبد المصري في العصور المتأخرة تم بنائه في زمن  إحتلال أجنبي و لذا ينبغي علينا أن نفرد دراسة كاملة عن المعبد المصري في  العصرين البطلمي و الروماني  و حتى نتفهم السمات الدينية و السياسية و  المعمارية للمعبد المصري في ذلك الوقت نطرح التساؤل التالي : لماذا إتجه  المصري القديم لتشييد معابد متعددة في زمن الإحتلال البطلمي و الروماني ؟
 1 – إرتبطت ظاهرة بناء المعبد المصري في العصور المتأخرة بظاهرة الكتاب  الديني المقدس ، فقد ورد في معبد حورس بإدفو العبارات التالية " تم إعادة  بناء المعبد في عصر بطلميوس الثالث وفقا لخطة البناء العظيمة في ذلك الكتاب  الذي هبط من السماء إلى شمال منف " . يتضح لنا من خلال هذا النص – و هناك  أمثلة أخرى تعطي  معنى مشابه لبقية المعابد التى ترجع للعصرين البطلمي و  الروماني – أن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني أصبح ترجمة  عملية واقعية لمفهوم الكتاب الديني المقدس أو بمعنى أدق تحول إلى ما يعرف  بالقانون الحضاري ، فهو كتاب يشبه الوحي الذي نزل من السماء ، فلا يجوز أن  يضاف إليه شيئا و لا يجوز أن ينتقص منه شيئا ، و ذلك هو المقصود بمصطلح  القانون الحضاري . و بما أن الكتاب الديني المقدس هو أساس بناء المعبد ،  فقد أصبح المعبد بالتالي يحتوي في داخله على ذلك الكتاب فهو يقوم بحفظه من  الضياع و من النسيان .
2 – أصبح المعبد المصري في العصرين البطلمي و  الروماني وحدة معمارية و فنية ثابتة و واحدة ، فكانت خطة بنائه تخضع لقانون  حضاري ثابت لا يقبل التغيير أو الإضافة أو النقص و بشكل صارم يختلف تماما  عما كان يحدث في العصور السابقة ، فجميع المعابد التى شيدت في العصور  المتأخرة لا تعدو كونها مجرد صور متنوعة لنمط معماري نموذجي واحد . و هذا  النمط تجسد أفضل ما يكون في معبد إدفو ، فنلاحظ في تشييد ذلك المعبد أنه  تحول إلى مقاصير معمارية دينية متداخلة في بعضها البعض ( مثل مقاصير الملك  توت عنخ آمون ) ، و ذلك من خلال تصوير نمط الكورنيش المصري في قمة كل واجهة  أو كل وحدة معمارية للمعبد بحيث تصبح كل وحدة معمارية كما لو كانت مستقلة  بمناظرها و طقوسها و شعائرها . فقدس أقداس معبد إدفو على سبيل المثال يشكل  وحدة معمارية دينية مستقلة و في ذات الوقت تظل محجوبة عن العالم الخارجي من  خلال الوحدات المعمارية الأخرى التي تتقدمها و تحتويها في آن واحد .  فالمعبد تم بنائه على شكل سبع مقاصير بسبع بوابات متداخلة ، و كل بوابة  مقصورة ( نقصد بالمقصورة هنا أي عنصر من عناصر المعبد التي تظهر في أشكال  متعددة مثل الفناء – صالة الأعمدة الأولى – صالة الأعمدة الثانية -  صالة  تقدمات القرابين ... إلخ ، حيث تم تشكيل هذه العناصر معماريا و فنيا على  هيئة مقاصير ) تفصل بين عالمين : عالم خارجي و آخر داخلي .
3 – إن  الهدف من هذه الصورة المعمارية التى كشفها كهنة العصرين البطلمي و الروماني  هو تصوير عالم مطلق القداسة موجود على الأرض و ينبغي حمايته ولذا فيجب حجب  هذا العالم المقدس و بكل الوسائل الممكنة عن سياق العالم الدنيوي الخارجي  الدنس . فعمارة المعبد في ذلك العصر كانت تتميز بإجراءات أمنية ( مثل  المقاصير المتداخلة و عدم الدخول إليها من جانب أي فرد عادي ) أملاها إحساس  دفين بالخطر ، فالمعبد هنا يعكس حالة الخوف من تدنيسه و إنتهاك حرمة  قدسيته المهددة من العالم الخارجي ، و من هنا كان الإبتعاد عن ذلك العالم  الخارجي الدنس هو الوسيلة لحفظ المعنى المقدس في المعبد .
4 – نلاحظ  هنا وجود قاعدتين أساسيتين قامت عليهما بناء المعبد المصري في العصرين  البطلمي و الروماني و هما : ( الحفاظ على شيء مقدس في الداخل ) من جانب و(  التعرض للخطر من الخارج ) من جانب آخر . و من خلال الجمع بين هذين  المتناقضين ، نستشف ملمحا هاما يسترعي الإنتباه و هو : النفور الشديد من  الأجانب و الذي نراه واضحا في خشية الكهنة آنذاك من تدنيس المقدسات مما  ينتج عنه وجود نزعة قوية ( للإنطواء على النفس في عالم داخلي مقدس – المعبد  ) و ذلك في مقابل ( العالم الخارجي الدنس ) الذي يسيطر عليه الأجنبي  المحتل . و من هنا جاءت نصوص المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني  لكي تؤكد على أن الأجنبي الغريب ( نجس ) و ( غير طاهر ) ، و لهذا توصي هذه  النصوص بحرمانية إقتراب الأجانب من المعبد و عدم  رؤيتهم لشعائر العبادة و  أصبحت هذه القاعدة لكهنة المعبد قانونا حضاريا أو بمعنى أدق تعليمات دينية  مطلقة القداسة و واجبة التنفيذ و ثابتة المعالم و لا يجوز تغييرها أو حتى  مجرد التفكير في تعديلها .
5 – تحول المعبود ( ست ) في المعبد المصري  للعصرين البطلمي و الروماني إلى إله العالم الخارجي الدنس و رب الغرباء و  الأجانب الذين يسعون لتدنيس عالم مصر المقدس ( عالم المعبد ) و أصبحت صورة (  ست ) تمثل من الآن فصاعدا صورة الأجنبي الشرير الذي يسعى لهدم معابد مصر و  نشر الفساد في البلاد و طمس الهوية الحضارية لها ، و بما أنه كان ربا  للرياح الشديدة و الأعاصير و الزوابع الرملية المخيفة ، إنتقلت هذه الصورة  للأجانب الذين تحولوا إلى ( كائنات و مخلوقات إعصارية مخيفة تتجه للهجوم  على مصر )  فلا غرابة من وجود مناظر و شعائر ضرب و تدمير ( ست ) في المعبد  المصري آنذاك و تعميم تلك الطقوس على جميع المعابد المصرية التي تنتمي لنفس  الفترة مما يعني أن هذه الشعائر تحولت إلى قانون حضاري ، فهي طقوس واجبة  التنفيذ و لا يجوز إهمالها أو نسيانها و إلا تعرضت مصر لخطر الزوال .
6  – ليس هناك شك في أن ( معاداة و مقت الأجانب ) و ( الخوف الشديد من تدنيس  المقدسات ) هي أفكار نشأت في عصر شهدت فيه البلاد إحتلال أجنبي بدءا من  العصر الفارسي و حتى العصرين البطلمي و الروماني ، فهي تجارب تاريخية و  سياسية و فكرية سلبية مما جعلها تترك آثار و ذكريات مؤلمة ، فلا يمكن أن  تنشأ هذه الأفكار و هي معلقة في فراغ فضائي ، بل لا بد و أنها ترجمت ما وقع  في البلاد من أحداث صادقة عبرت عن خشية الكهنة من تأثير الغزو الأجنبي  الفكري للبلاد و زوال الثقافة المصرية فضلا عن عدم إحترام العديد من هؤلاء  الأجانب لمعطيات الحضارة المصرية .
7 – تحول المعبد المصري في ذلك  العصر لكي يجسد ذكرى الماضي المجيد ، فهي تعطي إنطباعا بأنها تمثل الجوهر  الفني و المعماري الكلاسيكي للحضارة المصرية القديمة ، فكل ما تم بنائه أو  تصويره في المعبد هو هو تمثيل لأصل ديني مقدس قديم . و هذه الظاهرة لاشك  أنها ملفتة للنظر عندما نعلم أن جميع بلاد الشرق القديم في العصر  الهللينستي بدأت تتجه لتبني الرموز الدينية و الأشكال الفنية اليونانية  داخل معابدها الرسمية ، حيث بدأت تسود و تهيمن في بلاد الشرق القديم و حوض  البحر المتوسط ، و كانت مصر هي البلد الوحيد التى ظلت محتفظة برموزها  الدينية و أشكالها الفنية و نمطها الحضاري القديم و لاسيما في معابدها  الرسمية . فلا غرابة عندما نقول أننا  هنا أمام إصلاح ديني كهنوتي شامل  يتجه نحو العودة إلى الأصول و المنابع الأولى المقدسة ، ثم يتم إستعراض هذا  الإصلاح في شكل جديد . و لا يخفى علينا أن ما كان يروج له الكهنة آنذاك من  إستعادة و إسترجاع الماضي المجيد يهدف إلى تثبيت ميراث الأسلاف القديم ، و  عند تثبيته يتحول هذا الميراث إلى قانون حضاري لا يمكن تغييره أو الإضافة  عليه مما يعني الحفاظ عليه للأبد فلا يضيع أبدا .
8 – أصبح المعبد  المصري في ذلك الوقت موسوعة للعلم و المعرفة و الثقافة ، و هي قفزة نوعية  كيفية ملفتة للنظر ، فما كان يتم نقشه و تخليده على جدران المعبد لم يعد  مجرد طقوس دينية ، بل تعدى ذلك الهدف القديم ، فظهرت نصوص و مناظر تقوم  بوصف الكون و تتحدث عن جغرافيا مصر و ما حولها من البلاد ، فضلا عن قص  أساطير دينية متعددة تحكي عن ما حدث في سالف الزمان ، كما ظهرت نصوص طويلة  تصف التعاليم الأخلاقية و السلوكية للكهنة و ما ينبغي لهم أن يتبعوه عند  دخولهم للمعبد ، و زادت هذه النصوص في وصف ممتلكات و ثروات المعبد و قوائم  كاملة بما ينبغي أن يتم تقديمه من جانب الملك من قرابين يومية ، و بإختصار :  إتجه كهنة مصر في ذلك العصر لخلق موسوعة شاملة لحضارة و ثقافة مصر داخل  المعبد بوصفها قانونا حضاريا واجب الإتباع .
9 – إزداد عدد العلامات  التصويرية ( الهيروغليفية ) المنقوشة على جدران المعبد المصري في العصرين  البطلمي و الروماني بشكل لم يسبق له مثيل ، فقد تجاوزت لأكثر من 7000 علامة  تصويرية جديدة و من هنا يمكن القول بأن الكتابة المعبدية إتجهت هي الأخرى  لكي تكون موسوعة لغوية تحتوي في داخلها كل شيء ، فكانت كل علامة تصويرية  تجسد ( صورة لشيء ما ) موجود في ( العالم الخارجي ) و بهذه الطريقة تصبح كل  ( كائنات و موجودات العالم الخارجي ) مصورة و منقوشة في ( العالم الداخلي –  عالم المعبد ) و بمعنى أدق أصبحت كتابة المعبد ترنو نحو وضع العالم بأكمله  ( داخل المعبد ) و بما أن المعبد هو مكان الخلق الأول و مقر سكن المعبودات  الأولى ، نشأ تصور جديد مؤداه أن العالم الداخلي المقدس ( المعبد ) ما هو  إلا الكتابة التي سطرتها الآلهة في بدء الزمان ، وبرغم إستيحاء هذه  العلامات التصويرية من ( العالم الخارجي ) فوضعت في ( عالم المعبد الداخلي )  إلا أن المعبد يظل هو ( العالم الحقيقي ) ، فهو الصورة الفعلية للعالم  المقدس و الذي ينبغي أن لا يتحول و لا يتبدل و لا يتغير على الإطلاق ،  فالنصوص التى تصف العالم الفعلي داخل المعبد تزعم لنفسها الصحة المطلقة و  لذا تكتسب هذه النصوص صفة القانون الحضاري .
10 – تحول المعبد المصري في العصر المتأخر إلى نمط حياتي و سلوكي عام و ملزم للجميع ، فقد وصفت نصوصه ما ينبغي عمله كأسلوب حياة و معيشة لا يقتصر فقط على المعبد و لا على الكهنة بل هو نمط و نموذج حياتي ملزم للجميع ، و بمعنى أدق أصبحت تعاليم المعبد الأخلاقية و السلوكية ( معيارا صارما للحياة العملية ككل ) ، فما يسود داخل المعبد من نماذج سلوكية ينبغي أن يهيمن على سلوك المجتمع بأكمله خارج المعبد ، و بما أن هذه القواعد الأخلاقية و السلوكية نابعة من محيط ديني مقدس ( المعبد ) أصبحت الحياة هنا خارج المعبد تتسم هي أيضا بالقداسة و لا نقصد بالحياة المقدسة خارج المعبد بأنها ذلك العالم الخارجي الدنس الذي تحدثنا عنه سابقا ، فالعالم الخارجي الدنس هو كل من لا ينتمي لمصر و حضارتها و هو كل من لا يبجل معبودات مصر و هو كل من يهدد معابد مصر ، أما الحياة خارج المعبد تتسم بقدسيتها النابعة من قدسية إتباع التعاليم و الأخلاق الحميدة المسجلة على جدران المعبد ، و هكذا تتحول مصر إلى بلد مقدس بفضل إتباعها لتعاليم الآلهة المسجلة على جدران المعبد بل و تصبح أقدس بلدان العالم ، لدرجة وصفها بأنها ( معبد العالم ) و بتعبير آخر كشف المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني عن قانون حضاري ثابت و دائم يهدف إلى تعميم القدسية المطلقة على مصر و أن المصري القديم لديه وعي خاص بالتفرد و التميز و أنه وحده من بين شعوب الأرض الذي يقدس الآلهة و أن المعبودات لا تعيش إلا في مصر و أنه لا يزال يحيا حياة جماعية و مشتركة مع آلهة مصر و من هنا خلعت القداسة على شعب و أرض مصر و في المقابل كان الدنس أمرا حتميا لكل من لا يقبل بعالم مصر .

غياب مفهوم التاريخ في الإطار الفكري للحضارة المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

غياب مفهوم التاريخ في الإطار الفكري للحضارة المصرية القديمة ............................................................
.................
 هل عرف المصري القديم فن كتابة التاريخ طوال عصور الحضارة المصرية القديمة  ؟ .............. يهدف هذا المقال لدراسة الرؤية الفكرية للمصري القديم  نحو الأحداث التي وقعت في ماضيه القديم و مدى تناوله و تصوره لما كان يحدث  في ماضيه التليد و هل كانت لديه القدرة على رصد التاريخ بمفهومه الزمني  الذي يعني ( إدراك وجود تغير في الحاضر يختلف عن ما وقع في الماضي ) ؟
لم تكن الحضارة المصرية تجهل على الإطلاق فن حفظ السجلات و تدوين أهم  الأحداث بارزة الأهمية في البلاد ، فقد كان لدى المصري القديم ميلا شديدا  لتدوين أهم الوقائع يوما بعد يوم و شهرا إثر شهر على مدى قرون متعددة و ذلك  بهدف تقويم أوجه الأنشطة المتعددة في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة ، بل و  نجد أحيانا كثيرة مختلف البيانات المتعلقة بأملاك الدولة و عقاراتها و  أراضيها و هي مدونة بدقة متناهية و منقطعة النظير .
و من جانب آخر لم  تكن الحضارة المصرية القديمة بمنأى عن التغيرات السياسية و الإقتصادية و  الإجتماعية و الدينية ، فالدولة القديمة إنتهت بتحلل و إنهيار السلطة  المركزية مما جعل البلاد تدخل في إطار مرحلة تاريخية جديدة عرفت بإسم عصر  الإنتقال الأول . و لا ريب أن ذلك العصر قد ترك متغيرات فكرية على الحضارة  المصرية القديمة إستمرت خلال الدولة الوسطى . كما لم يخلو التاريخ المصري  القديم من الأزمات السياسية و الإقتصادية و لا سيما تلك التي وقعت خلال عصر  الإنتقال الثالث و العصر المتأخر . و لكن المصري القديم إتخذ موقفا فكريا و  ثقافيا تجاه ما وقع من أحداث في الماضي مغايرة تماما لما يفترض من إدراكه و  رصده لهذه المتغيرات و حقيقة الأمر أن الحضارة المصرية القديمة و برغم  تبنيها للكثير من المتغيرات الفكرية و السياسية و الدينية عبر تاريخها  الطويل إلا أنها لم تعترف بوجود هذا التغيير فتجاهلته في معظم الأحيان  تماما مثل موقف المصري القديم من قضية الموت الذي لم يقر به و إنما إعتباره  مرحلة إنتقالية نحو عالم آخر أبدي .
و لا يمكن تناول أى مظهر من مظاهر  الحضارة المصرية القديمة دون التطرق لمفهوم الملكية المؤلهة و التي سعت  قدر الإمكان لمعالجة مفهوم التاريخ وفقا لمعطياتها الخاصة . فالملكية في  مصر القديمة و منذ نشأتها خلال عصر الأسرة صفر جعلت كل عمل و نشاط تقوم به  مكرس لأجل الديمومة و الأبدية و كان كل شكل يعبر عنها في مختلف المجالات  الفكرية و المادية يرنو نحو الثبات و الخلود ، و لذلك كانت أعمال العمارة و  الفن الملكي و كل ما يرتبط بهما لا تقع في إطار التغيير الجوهري وفقا  لمعطياتها الفكرية ، بل هو تغير في الشكل و ليس في الجوهر ، فالملكية تحافظ  على المعطيات الدينية المقدسة التي ورثتها من أزمان عتيقة و ذلك عندما  كانت الآلهة تحكم بنفسها على الأرض و قامت بقولبتها و تقديمها فقط في صورة و  هيئة جديدة .   و لعل التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد : ما هي سمات  كتابة الماضي لدى المصري القديم ؟
1 – كانت معظم الأحداث المدونة و  المصورة على جدران المعابد المصرية القديمة تقع في إطار ( الزمن الدوري )  أي الزمن القابل للتكرار و الإعادة ، فهذه الأحداث ليست سوى تكرارا لوقائع  قديمة وقعت في بدء الزمان و يتم إعادة تسجيلها و تدوينها في العصور اللاحقة  مع تغيير شكلي لإسم صاحب الحدث ( الملك ) الذي يحل محل إسم صاحب الحدث  القديم و ذلك في مقابل الزمن المستقيم أى الزمن الغير قابل للإعادة و غير  قابل للتكرار ، فجميع أحداثه تقع مرة واحدة فقط و لا تتكرر و يتم أيضا  تصويره وقائعه على جدران المعابد و أحيانا في المقابر و لكن مع الوضع في  الإعتبار حقيقة هامة و هي : هيمنة و سيطرة الزمن الدوري على الزمن المستقيم  في الحضارة المصرية القديمة ، فالزمن الدوري هو الطابع الغالب و الزمن  المستقيم هو الطابع النادر
2 – جميع مناظر الأعياد و الطقوس الدينية  فضلا عن معظم مناظر المعارك الحربية تنتمي للزمن الدوري الذي لا يحكي عن  تاريخ بقدر ما تظهر مفهوم الديمومة و الأبدية للأعمال الخالدة في محيط ديني  مقدس و ثابت ( المعبد أو المقبرة ) و لذا فلا غرابة من تكرار تصوير مشاهد  الأعياد اليوبيلية ( الحب سد ) و مناظر إنتصار الملوك على الأعداء  التقليدية و مناظر التتويج المتكررة على جدران المعابد هنا و هناك ، فكل ما  سبق يقع في إطار الزمن الدوري و لا يقع في إطار الزمن المستقيم .
3 –  يبدأ التاريخ عند المصري القديم في اللحظة التى تدخل فيها الآلهة مسرح  الأحداث و عند هذه اللحظة أيضا ينتهي التاريخ بكونه حوادث وقعت و إنتهت في  زمن الآلهة الأوائل و من هنا يكون التاريخ مجرد مرآة عاكسة للأسطورة . فعصر  الآلهة هو زمن الأحداث الكبرى ، فهو العصر الذي شهد كل التحولات و  التغيرات و الإنقلابات الكبرى ، ثم جاء فيما بعد زمن الملوك و الذي كان هو  الزمن الذي يلتزم فيه كل ملك بما حدث في عصر الآلهة فلا يحيد عنه أبدا ،  فجميع الشعائر و الطقوس التي كانت تجرى في المعابد المصرية القديمة كانت  تهدف للحفاظ على العالم من الإنهيار و السقوط و كانت تهدف لأن يقلد الملوك  ما فعله الآلهة الأوائل عندما حكموا في الزمن الأول ، و لذا و من أجل تحقيق  هذا الهدف كان لابد من إستبعاد أية متغيرات يمكن أن تحدث و ذلك لأن أى نوع  من الإنقطاع و عدم الإستمرارية يفضي بالضرورة لنهاية العالم . و من هنا  نلاحظ أن التاريخ الفعلي في الحضارة المصرية القديمة هو كل ما وقع في زمن  المعبودات الأولى ( الأسطورة ) ثم يجيء دور الإنسان لكي يحاكيه و يجعله  دائما حاضرا في ذاكرته .
4 – لم يكن الملوك في مصر القديمة يقصون  الأحداث التى وقعت في عصرهم دون أن تبرأ بفكرة إرتباطها بزمن الآلهة  الأوائل ، فالملك ( أوسركون الثالث ) يصف فيضان النيل القوي في عصره بشكل  مبالغ فيه و كأن المشهد برمته إعادة لمشهد الفيضان الأول أو المياه الأزلية  الأولى التى كانت تحيط بالكون بأكمله عندما كان العالم يخلق لأول مرة .  فهنا و إن كان الحدث حقيقيا إلا أنه يتم رده لزمن أسطوري عتيق بهدف الترويج  و الإعلان عن بداية جديدة للعالم و الخلق مليئة بالخيرات و السعادة في عصر  أوسركون ، فيختفي التاريخ و ينسحب خلف الأسطورة و يصبح كل حدث مجرد إعادة  لما وقع في سالف الزمن .
5 – لم تكن قوائم الملوك في عصر الدولة  الحديثة مادة لكتابة التاريخ فهي لم تنشأ لهذا الغرض ، فهي قد تم وضعها  داخل المعابد لأهداف دينية طقسية إتجهت نحو تأكيد نقاطا هامة و هي :
أ  – أن الملكية في مصر نشأت في زمن الآلهة الأوائل و قامت بتوريثها للملوك  اللاحقين الذين تقدس أسمائهم و تماثيلهم داخل المعبد و أن هذه الملكية لن  تنقطع عن البلاد أبدا .
ب – إتجهت هذه القوائم إلى سرد تتابع الملوك ،  الملك تلو الآخر ، و تتابع العصور ، العصر إثر الآخر ، دون إبراز أى  إنقطاع قد حدث بين حكم ملك و آخر و بين عصر و آخر . فالدولة الوسطى تلي  مباشرة الدولة القديمة دون إظهار فترة الإنقطاع الحضاري التي تمثلت في عصر  الإنتقال الأول ، فهناك إرتباط وثيق بين جميع الفترات و كل الملوك مما يعكس  مضمون فكري هام تمثل في تغطية و عدم إظهار أى إنقطاع قد حدث و أى تغيير قد  وقع .
ج – تغافلت هذه القوائم عن عمد و لدوافع دينية و سياسية أسماء  بعض الملوك الذين حكموا البلاد ، مما يجعلها قوائم أيدولوجية لا تقع في  إطار التاريخ المجرد .
6 – إن معظم ما تم تسجيله على جدران المعابد أو  المقابر حتى و إن أشار إلى أحداث تاريخية فعلية وقعت في عهد ملك بعينه لم  تكن تهدف لرواية التاريخ بقدر ما كانت تتجه نحو إبراز دعاية سياسية و دينية  لصاحبها فيؤطر ذكره في دائرة الخلود و تحكى إنجازاته أمام الآلهة للأبد و  لا علاقة بذلك بفن كتابة التاريخ .
7 – إن حجر بالرمو و بردية تورين و  كتابات مانيتون تبدو مبهمة فيما تقدمه من بيانات و معلومات ، فيعوزها  الكثير من فن كتابة التاريخ المتمثلة في دقة الكتابة و تنظيم الوقائع و  إظهار التفاصيل المرافقة للأحداث و عدم الإكتفاء بالخطوط العامة . و برغم  ذلك تعتبر هذه الوثائق محاولة إيجابية مبكرة من المصري القديم في عملية  تدوين الأحداث الماضية دون إعتبارها وثائق تتمع بدرجة عالية من الدقة  التاريخية .
8 – برغم تدوين أحداث و وقائع متعددة في السجلات الملكية و  الفردية ، إلا أننا نلاحظ أن اللغة المصرية القديمة لا تتضمن كلمة ( تاريخ  ) أو ( مؤرخ ) و لم تكن هناك هيئة داخل المجتمع المصري القديم على معرفة  بالعلوم التاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معاني . و ربما يرجع ذلك إلى  إتجاه المصري القديم ناحية الثوابت و اللامتغيرات في معظم الأحيان و لذا  يصبح المفهوم التاريخي وفقا لما تقدم أمرا غريبا عن نظام الملكية المصرية  القديمة التى تميزت بالفكر الثيوقراطي ( الديني الإلهي ) و الذي يلتزم  بفكرة التطابق بين الماضي و الحاضر ، فما وقع في الماضي هو ما سيقع في  الحاضر و هو أيضا ما سوف يحدث في المستقبل .
9 - قام الفكر المصري  القديم عند كتابته لماضيه و عند رؤيته لما وقع في عصره بتطوير القديم بحيث  يبدو جديدا ، فيقوم بقولبة الشكل القديم في إطار شكلي جديد و مبدع دون أن  يعتبر أنه قام بتغيير الجوهر ، و يتمكن بذلك من الإنسجام مع القديم حتى و  إن كانت هناك مدة شاسعة تفصل بين القديم و الجديد ، فكلما تطور القديم و  ظهر في صورة جديدة ، أصبح القديم حاضرا و كأنه لم يكن قديم ، فتزول غرابته  مع مرور الزمن . و من هنا ندرك لماذا كان الملوك يسنسخون آثار أسلافهم أو  يفكوها و يقومون بإعادة وضعها في آثارهم الحديثة أو يقومون بإعادة وضع  أسمائهم على آثار أسلافهم القديمة ، فالماضي هنا صفة و سمة نموذجية  للإستنساخ و إعادة البناء ، فالماضي هنا يصبح و كأنه لم يكن ماضيا على  الإطلاق .
و لهذه الدوافع السابقة لم تترك مصر ماضيها و لم تجعل منه حوادثا قابلة للرواية

السبت، 28 يوليو 2012

تحليل نص السيرة الذاتية لعميد الموظفين ( بتاح شبسس )



بسم الله الرحمن الرحيم 

 تحليل نص السيرة الذاتية لعميد الموظفين ( بتاح شبسس ) ............................................................
.................يعتبر  ( بتاح شبسس ) واحد من أهم الموظفين الذين عاشوا بدءا من النصف الثاني  لعصر الأسرة الرابعة و حتى عصر الملك ( ني أوسر رع ) سادس ملوك الأسرة  الخامسة ، حيث قضى حياته الطويلة خلال عهد ثمانية ملوك على أقل تقدير و شغل  العديد من الوظائف الدينية و الإدارية مما جعل المرحوم سليم حسن يطلق عليه  لقب ( عميد الموظفين ) كما يعتقد العديد من علماء المصريات أن الزمن الذي  قضاه ( بتاح شبسس ) في خدمة أولئك الملوك يبلغ حوالي ثمانين عام و يهدف هذا  المقال إلى تحليل نص سيرته الذاتية و التمييز بين ما هو جدير بالتصديق  كوقائع تاريخية لا يرقى إليها الشك و بين ما هو دعائي لا صلة له بكتابة  التاريخ المصري القديم .
 ترك لنا بتاح شبسس نصا في غاية الأهمية في  مقبرته في أبوصير يكشف فيه عن سيرته الذاتية بداية من مولده في عصر الملك (  من كاوو رع ) الملك قبل الأخير في الأسرة الرابعة و حتى وفاته في عصر  الملك ( ني أوسر رع ) سادس ملوك الأسرة الخامسة و ورد فيه ما يلي :
1 – " ولد في عهد الملك منكاوورع الذي رباه مع أطفال الملك في جناح الحريم الملكي و كان مقربا لدى الملك أكثر من أى ولد آخر "
يرى علماء المصريات في هذه الفقرة أن الملك منكاورع باشر سياسة جديدة في  عصره بأن قام بتبنى عدد كبير من أبناء كبار رجال الدولة حتى يتم تربيتهم  على نمط و ثقافة و سياسة البلاط الملكي فيصبحوا مؤهلين لتولي مناصب إدارية و  دينية هامة في البلاد و ذلك بسبب إتساع النشاط الإداري و الديني للدولة  المصرية في نهايات عصر الأسرة الرابعة و ظهور الحاجة لموظفين جدد من أهل  الثقة يخضع ولائهم التام للقصر الملكي و هو طرح مقبول و لكن لا يمكن الجزم  بأن ذلك أمرا جديدا في سياسة الملوك نظرا للنقص الواضح و الغياب الشبه تام  لوثائق و نصوص السيرة الذاتية الكاملة قبل عصر الملك منكاورع و التى لم تكن  تشير إلى بيانات واضحة حول أصول و منشأ أصحاب المقابر مما يجعل المقارنة  بين ما حدث في عصر منكاورع و ما سبقه من عصور أمرا في غاية الصعوبة أما عن  عبارة أن بتاح شبسس كان مفضلا لدى أطفال الملك أكثر من أى طفل آخر فذلك  يدخل في إطار الدعاية الشخصية .
2 – " في عهد الملك ( شبسس كاف ) لقى  حظوة عند جلالته و قام بتزويجه من كبرى بناته ( خع ماعت ) لأن جلالته أراد  أن يكون بصحبته أكثر من أى رجل آخر "
و نلاحظ هنا أنها المرة الأولى  فيما نعلم حتى الآن التى يسمح فيها لواحد من كبار رجال الدولة بتسجيل نص  زواجه من كبرى بنات الملك على جدران مقبرته و لكن التساؤل الذي يطرح نفسه :  ألم يكن زواج ( بتاح شبسس ) من كبرى بنات الملك ( شبسس كاف ) و هي الأميرة  ( خع ماعت ) كافيا لأن يطمح هو نفسه للوصول إلى العرش ؟ و هل الأميرة ( خع  ماعت ) كانت حاملة للدم الملكي النقي لكي تنقل لزوجها شرعية الحكم ؟
حقيقة الأمر أن النصوص تصمت عن ذكر الوضع الحقيقي للأميرة ( خع ماعت ) ،  فنحن لا نعلم علم اليقين إن كانت بالفعل حاملة للدم الملكي النقي و الشرعية  الكاملة لكي تقوم بنقلها لزوجها أم لا ؟ فضلا عن عدم رغبة بتاح شبسس نفسه  لمناهضة البيت المالك و إقحام نفسه في تلك القضية و هو ما يؤيده نص السيرة  الذاتية فيما بعد و الذي يكشف عن علو شأنه و تزايد مكانته و أهميته بشكل  تدريجي خلال عصر الأسرة الخامسة الأمر الذي يكشف أنه لم يفكر و لم يسعى على  الإطلاق في تولي زمام الأمور كملك حاكم و هو ما يجعلنا نرجح أن زواجه من  الأميرة خع ماعت لم يكن يهدف لذلك أبدا و لم يعدو سوى محاولة للتقرب من  البيت المالك في تلك الفترة .
3 – " المقرب من أوسركاف كبير كهنة منف  المبجل لدى الملك أكثر من أى خادم ، كان ينزل في كل سفينة تابعة للبلاط و  دخل الأجنحة الجنوبية للقصر أثناء أعياد التتويج "
يلاحظ من خلال هذه  الفقرة أن بتاح شبسس أصبح كبير كهنة المعبود بتاح في منف و بالتحديد في عصر  الملك أوسركاف مؤسس الأسرة الخامسة و طبقا لما ورد في النص فقد كان مشرفا  على شعائر تتويج الملك الحاكم منذ تلك الفترة في الأجنحة الجنوبية للقصر . و  يبدوا من الواضح أن دخول هذه الأجنحة لم يكن مسموحا به لأى موظف في الدولة  إلا المقربين من الملك . كما يبدو كذلك مرافقته للملك في كل سفينة ملكية  لإقامة شعائر خاصة للملك في كل مكان يتوجه إليه .
4 – هل إنتقل العرش  من نهايات الأسرة الرابعة إلى بدايات الأسرة الخامسة بشكل سلمي ؟ ..... لا  يمكن معرفة و إستنتاج ذلك من خلال نصوص السيرة الذاتية لكبار رجال الدولة ،  فالملكية درجت على تغطية ذاتها بإطار من القداسة و السرية التامة ، فإن  وقع صراع ما حول العرش فيصعب تدوينه على جدران مقابر الأفراد و لذا نحن هنا  لا نعتمد على النص و إنما نعتمد على الآثار و التى كشفت عن إنتقال سلمي  للعرش من الأسرة الرابعة للأسرة الخامسة و أن ملوك الأسرة الخامسة ينحدرون  من البيت المالك للأسرة الرابعة – انظر مقال للباحث بعنوان الفترة  الإنتقالية ما بين نهايات الأسرة الرابعة و بدايات الأسرة الخامسة – فضلا  عن عدم صحة معظم البيانات التى وردت في بردية وستكار التى تأثر بها  المؤرخون في البداية و ظنوا من خلال ما ورد فيها أن الأسرة الخامسة لم تكن  تنحدر من البيت المالك للأسرة الرابعة – أنظر مقال للباحث بعنوان شكوك حول  بردية وستكار .
5 – تجاهل بتاح شبسس في نص السيرة الذاتية ملكا ورد  ذكره في بردية تورين بإسم ( جدف بتاح ) و كان قد تم تسجيله بإعتباره آخر  ملوك الأسرة الرابعة ، إلا أن ذلك لم يكن موقف بتاح شبسس وحده بل كان هو  نفس الموقف لجميع الموظفين الذين عاشوا في ذات العصر فتجاهلوا ذلك الملك و  الذي لا نعرف عنه أى شيء مما يعنى أن نص السيرة الذاتية لبتاح شبسس لم يبرأ  من الأيدولوجيا التى قامت بإنتقاء ملك دون الآخر وفقا لمعايير معينة و هو  ما يجعلنا لا نسلم دائما و بشكل مطلق بصحة و تصديق كل ما ورد في نصوص  السيرة الذاتية لكبار رجال الدولة إلا بعد التأكد من خلوها من السمات  الأيدولوجية و من خلال مقارنتها بما جاء على الآثار الغير مغرضة
6 –  يبدو من المرجح أن بتاح شبسس و نظرا لأنه كان هو كبير كهنة منف أنه قد شارك  و أشرف على تتويج أوسركاف بنفسه مما يعني أنه كان حريصا على الإنتقال  السلمي للعرش لأول ملوك الأسرة الخامسة دون أن ينافسه في ذلك الأمر . و قد  تبين لنا أن شبسسكاف – آخر ملوك الأسرة الرابعة - كان أخا لأوسر كاف - أول  ملوك الأسرة الخامسة ، انظر مقال الفترة الإنتقالية ما بين نهايات الأسرة  الرابعة و بدايات الأسرة الخامسة – و هو الأمر الذي يعكس عدم وجود علاقة  بين مفهوم إنتهاء الأسرة و بين صعود أسرة أخرى على العرش .
7 – " التابع لساحورع المبجل لدى الملك أكثر من أى خادم و الصديق الأوحد لجلالته "
إن لقب المبجل من خلال هذه الفقرة يعكس أمورا هامة و هي :
أ – أن صاحبه له الحق في عمل مقبرة لنفسه من خلال منحه الإذن الملكي بعمل ذلك
ب – أن تقام له شعائر و طقوس تقديس داخل مقبرته أو في مقصورته الجنائزية من جانب كهنة مكلفين بذلك العمل
ج – أن إبنه له الحق في أن يرث وظيفته و ألقابه بعد مماته
و من جانب آخر ، يعكس لقب الصديق الأوحد ما يعادل وظيفة المستشار الخاص الذي يشاوره الملك في كل عمل يريد إنجازه .
8 – " التابع للملك نفر إير كا رع  و عندما كان جلالته يثني عليه لأمر ما يسمح له بتقبيل قدمه و لم يرض جلالته أن يقبل الأرض "
تعكس هذه الفقرة الأخيرة ما إعتاد و درج عليه كبار رجال الدولة من تقاليد  دينية هامة تتمثل في تقبيل الأرض التي يسير عليها الملك كنوع من إظهار  التقديس و الولاء التام لشخص الملك الحاكم إلا أن ذلك لا يعني بالطبع أنهم  كانوا يقيمون ذلك العمل طوال الوقت و في جميع المناسبات . و لكي يظهر بتاح  شبسس مكانته الكبرى التى بلغها ، زعم أن الملك لم يرضى له بما كان يفعله  الآخرون و سمح له بمفرده بتقبيل قدمه و ذلك كنوع من التقدير و الإعزاز الذي  منحه الملك لموظفه و تابعه الأثير مقارنة ببقية الموظفين . يظل ذلك أمرا  غير مستبعد و لكن لا سبيل لنا للتأكد من ذلك نظرا لكتابة هذه الفقرة في  إطار الدعاية الشخصية .
9 – " التابع للملك نفر إف رع – و كان ينزل في السفينة المقدسة في كل أعياد التتويج و المحبوب من سيده "
يستمر بتاح شبسس هنا في مهمته العظمى التى تنحصر في تتويجه لملوك الأسرة  الخامسة ، كما يؤكد النص على وجود أكثر من عيد للتتويج الأمر الذي يرجح  إقامة عيد التتويج الملكي مرة كل عام . و من جانب آخر يتجاهل بتاح شبسس مرة  أخرى ملكا آخر ورد ذكره في القوائم الملكية بإسم ( شبسسكارع ) و كان قد  تولى زمام الأمور قبل ( نفرإف رع ) فضلا عن كشف بقايا هرم صغير له في أبو  صير مما يؤكد أنه حكم البلاد و أعطت له بردية تورين 7 سنوات من الحكم !  فإذا صح كل ما سبق ، كيف تجاهله بتاح شبسس في نص السيرة الذاتية و هو الذي  تولى عملية تتويج ملوك الأسرة الخامسة ؟
من المرجح وقوع تنافس و صراع  بين أعضاء البيت المالك للأسرة الخامسة إنتهى بغلبة طرف على آخر ، فكان من  نتيجة ذلك تجاهل الطرف المهزوم و إسقاطه من نص السيرة الذاتية لبتاح شبسس و  هو ما يشير إلى حقيقة هامة : أن نصوص السير الذاتية لكبار رجال الدولة في  عصر الدولة القديمة يغلب عليها الطابع المثالي و تقل فيها الصبغة الواقعية ،  فلا وجود لأزمات و لا وجود لإشكاليات إلا في حالات قليلة و نادرة ، فكل  شيء كان يتم في إطار مثالي طوباوي .
10 – " المقرب من قلب سيده (نى أوسر رع ) ، المبجل لدى بتاح ، لقد فعل كل ما يرضيه و أرضى كل صانع من صناع الملك "
و هنا نصل لآخر ملك عاصره بتاح شبسس و هو نى أوسر رع و أهم ما ورد في تلك  الفقرة هو ذكر إسم الملك قبل المعبود بتاح مما يؤكد علو و تفوق الملكية في  عصر الدولة القديمة و هي الفقرة الوحيدة في النص التي يرد فيها ذكر المعبود  بتاح . كما نجد إرتباط رضاء المعبود بتاح عنه برضاء صناع و عمال الملك عن  ما فعله تجاههم و بصرف النظر عن مدى مصداقية ذلك الكلام إلا أننا نستنتج من  ذلك وجود ربط واضح بين السلوك الحميد و الأخلاق الطيبة للإنسان و بين رضاء  المعبود بتاح عن ذلك السلوك و هو ما نشهده لأول مرة في نصوص السير الذاتية  في ذلك العصر .
11 - يتبين لنا مما تقدم أن هذا النص أعطى لنا قائمة  ملكية تتكون من عدد من الملوك بداية من ( منكاورع ) و حتى ( ني أوسر رع ) و  أن هذه القائمة تجاهلت عن عمد إسمي ملكين تماما مثلما حدث فيما بعد في  القوائم الملكية اللاحقة التى كانت تتجاهل بعض الملوك و هو ما يضع نص  السيرة الذاتية لبتاح شبسس في إطار القوائم الملكية . و من جانب آخر نجد أن  ذكر أسماء سبع ملوك في نص السيرة الذاتية ( و هو في واقع الأمر عاصر تسع و  ليس سبع ملوك ) يعكس أمرين هامين و هما :
أ – أن بتاح شبسس عاش لفترة طويلة من الزمن قد تبلغ ثمانين عاما أو ما يزيد قليلا .
ب – أن مدة حكم كل ملك من الملوك الذين عاصرهم لم تكن طويلة الأمد ، و هو أمر هام لمن أراد أن يؤرخ لفترة حكمهم .

الجمعة، 27 يوليو 2012

الدلالات الدينية و السياسية لأسطورة مذهب الخلق في طيبة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الدلالات الدينية و السياسية لأسطورة مذهب الخلق في طيبة .............................................................................
هذه الدراسة الموجزة هي صورة مصغرة لبحث قام بتقديمه كاتبه عندما كان طالبا في دبلوم الدراسات العليا لقسم الآثار المصرية لجامعة القاهرة في عام 2006 في مادة التاريخ المصري القديم . و من هنا فقد قرر إعادة كتابته مرة أخرى في صورة موجزة بعدما قام بتعديله و إضافة بعض النقاط الهامة التى طرأت على هذا الموضوع 
يتناول هذا المقال تحليل أسطورة مذهب الخلق في طيبة و الكشف عن أهم الأهداف الدينية و السياسية لذلك المذهب و الذي تم تسجيل صياغته الأولى على جدران معبد هابو الصغير في عصر الإنتقال الثالث بدءا من عصر الأسرة الحادية و العشرين و إكتملت صياغته في العصر المتأخر و لا سيما في عصر الأسرة الخامسة و العشرين . قام أنصار المعبود ( آمون ) في طيبة بصياغة أسطورة مذهبهم الخلقي على عدد من المراحل و الخطوات و الهامة تمثلت فيما يلي :
1 – قام معبود الخلق الأول بخلق نفسه من نفسه عندما كان وحيدا في المياه الأزلية الأولى ثم قضى وقتا من الزمن بمفرده إلى أن إستقر في مكان مقدس يأوي إليه إلى الأبد و لم يكن هذا المعبود الأول سوى ( آمون ) بمعنى الخفي أو المستتر أى خفاء هيئته الأولى التى ظهر عليها . كما أطلق عليه كهنة طيبة لقب ( آمون رن إف ) بمعنى خفي هو إسمه .
2 – لما أتم هذا المعبود الأول زمنا قضاه بمفرده و إتجه ليسكن و يستقر في عالم آخر سفلي بعيد ، أطلق عليه كهنته لقب ( كم آت إف ) بمعنى الذي أكمل زمنه أو الذي أتم عهده . كما منحوه مجازا هيئة الثعبان الصغير و تصوروا أن مأواه و مقره الأخير الذي إستقر فيه بعدما إكتمل عهده يوجد في عالم سفلي بعيد يقع مدخله عند معبد مدينة هابو الصغير الذي أطلقوا عليه لقب ( إيات جامت ) بمعنى ( تل جامت الأزلي ) و هو أقدم تل أزلى ظهر للوجود طبقا لما ورد في مذهب الخلق في طيبة 
3 – إن إتجاه ( كم آت إف ) إلى مأواه الذي إستقر فيه لم يكن يعني موته النهائي . بل هو الكمون المؤقت لفعاليات الإله حتى يسترد بعثه و إعادة إحيائه و بث النشاط فيه من جديد ، و لذا فقد قام بخلق كيان آخر خرج من نفسه و لم يكن سوى المعبود ( إير تا ) بمعنى خالق الأرض و الذي تجسد في صورة ثعبان آخر أطلقوا عليه لقب ( آمون ) أيضا و تولى عملية خلق الأرض أو التل الأزلي الأول . 
4 – قام ( إير تا ) بخلق أرباب الثامون من نفسه و ذلك في ذات المكان الذي تم فيه تشييد معبد الأقصر على البر الشرقي للنيل بعد إنتقاله إليه من ( تل جامت – معبد هابو الصغير ) و من هنا تم إعتبار ( إير تا ) إبنا ( لكم آت إف ) و ( أبا للثامون )
5 – غادر ( إير تا ) رب طيبة مقره القديم و إتجه في صحبة الثامون إلى حيث نشأت مدينة الأشمونين في مرحلة لاحقة – طبقا لمعطيات الأسطورة – و تجلى هناك في صورة أحد أعضاء الثامون و الذي كان يدعى أيضا بإسم ( آمون ) ، و استمرت له الهيمنة و السيطرة على بقية أعضاء الثامون في الأشمونين فكان هو ( الصورة المثلى لهم ) و لم يكونوا هم سوى مجرد صفات له . 
6 – أصبح آمون الأشمونين ربا للهواء هناك ( و هي الصفة التى كان أنصاره قد منحوها له في بداية عصر الدولة الحديثة على جدران معابد طيبة ) فكان واهبا لنفس الحياة و شريكا في خلق الشمس ، كما إندمج و إتحد بإله الأشمونين الرئيسي المعبود ( جحوتي ) و نظرا لما وصل إليه آمون في تلك المرحلة إتجه أتباعه إلى منحه لقبا هاما و هو ( آمون رع ) و الذي لم يكن سوى إشارة مستترة لربوبيته للشمس 
7 – قرر أرباب ثامون الأشمونين ان ينصبوا معبود الشمس في هيئته الجديدة ( آمون رع ) خليفة لهم . فإتجهوا معه إلى زيارة المدن التى أصبحت على قدر من المكانة الدينية و الأهمية السياسية في تاريخ مصر القديم ، فذهبوا أولا إلى ( عين شمس ) و قضوا فيها زمنا و جعلوا فيها لآمون رع شأنا كبيرا ثم إتجهوا إلى ( مدينة الأشمونين ) و هناك زعموا له ربوبية الهواء ثم إنطلقوا معه إلى ( مدينة منف ) فمنحوه هناك عرش ربها ( بتاح ) .
8 – بعد أن إكتملت الجولات الثلاث لأرباب الأشمونين في تلك المدن و أتموا عهدهم إلى رب الشمس ( آمون رع ) عادوا مرة أخرى إلى طيبة و إستقروا عند العالم السفلي البعيد في معبد هابو الصغير حيث إستقر قبلهم ( كم آت إف ) و هو أصلهم الأزلي القديم . 
يتضح لنا مما سبق أن الصور و الهيئات المختلفة التى نسجها أصحاب أسطورة مذهب الخلق في طيبة للمعبود آمون رع و الجولات الثلاث التى إفترضوا قيامه بها لم تكن سوى مزاعم أسطورية أيدولوجية ، إبتغوا من خلالها أن يؤكدوا على عدد من الدلالات الدينية و السياسية التى تمثلت فيما يلي : 
1 – ان معبود عين شمس الذي قام بخلق الكون في بدء الزمان لم يكن ( رع آتوم ) – طبقا لما ورد في أسطورة الخلق لعين شمس التى نسجها أتباعه – و إنما كان ( آمون رع ) الذي كان منشأه الأصلي من مدينة طيبة و ليس عين شمس .
2 – أن كل القدرات و الصفات الإلهية الخارقة التى منحها أصحاب مذاهب الخلق الأخرى في عين شمس و الأشمونين و منف لأربابهم آلت في نهاية المطاف لآمون رع بعدما زعم أنصاره أنها منحت له في تلك المدن و إستقر بها في طيبة . 
3 – برغم ظهور آمون رع في أسطورة المذهب الطيبي كخليفة لمعبودات الخلق الأوائل و وريثا لعروشهم ، إلا أنه لم يكن سوى التجلي الأول لأقدم معبود خالق عرفوه بإسم ( كم آت إف ) – الذي أكمل زمنه – فذلك المعبود الخفي هو الصورة الأزلية الأولى لآمون رع بعدما تجلى في هيئة الثعبان الأول في المياه الأزلية الأولى . و من هنا يصبح آمون أقدم زمنيا في الظهور من أرباب عين شمس و الأشمونين و منف 
4 – لم يكن الجوهر الإلهي لمعابد طيبة كلها مثل الكرنك و الأقصر و هابو و غيرها سوى جوهر واحد تعددت أشكاله و صفاته و قدراته و ألقابه ، إلا أنها ترتد جميعا لمنشأ واحد و هو ( آمون رع ) 
5 – لم يكن أصل أرباب الثامون من مدينة الأشمونين – طبقا لما نادى به مذهب الخلق في طيبة – بل كان منشأهم من مدينة طيبة ، فكما نرى فقد خلقهم أبيهم ( إير تا ) في الموقع الذي تم تشييد معبد الأقصر فيه ، و ماكان ذهابهم و تواجدهم في الأشمونين فيما بعد إلا لتثبيت مكانة آمون رع و إعلاء شأنه و إضفاء عدد من القدرات و الصفات العظيمة عليه ، فهناك أصبح ربا للحياة و الهواء و واهبا لنفس الحياة و شريكا في خلق الشمس مما جعله مؤهلا لأن يأخذ لقب ( آمون رع ) إعلانا لسيطرته و ألوهيته على معبود الشمس ( رع ) 
6 – لا ينبغي لنا أن نغفل أن الثامون قد إستقر في نهاية المطاف و دفن أعضائه في مدينة طيبة – وفقا لمزاعم كهنة آمون – بمعنى أنهم لم ينشئوا في الأشمونين مثلما كان يعتقد كهنتها و أن آمون كان أهم أعضاء الثامون و صورتهم المثلى الأولى و ذلك في مقابل أسطورة الأشمونين التى تجعل آمون مجرد عضو من أعضاء آلهة الثامون الذي إشتركوا جميعا في خلق الكون . فالثامون هم أبناء للمعبود إير تا و الذي لم يكن سوى تجلي قديم لصورة أزلية أقدم للمعبود كم آت إف و الذي لم يكن في حقيقة أمره سوى صورة آمون الأولى في بدء الزمان . 
7 – أن الإله الأزلي القديم ( كم آت إف ) الذي ظهر في هيئة الثعبان المجازية لم يكن سوى با أوزير ) بمعنى الروح العظيمة للمعبود أوزير و هو ما ذكرته نصوص معبد هابو الصغير . فإذا ما وضعنا في الإعتبار أن المعبود أوزير كان يجسد فيضان النيل منذ عصر الدولة القديمة – مثلما أشارت نصوص الأهرام إلى ذلك – فإن ذلك يعني أن كم آت إف أو صورة آمون الأولى هو العنصر الفعال و الكامن في الفيضان نفسه و هو ما يعنى أنه السبب الرئيسي في وهب الخصوبة للأرض و هو ما كان دافعا لأتباعه لكي يمنحوه لقب ( با إن كمت ) بمعنى روح مصر أو في ترجمة أخرى قدرة مصر . 
8 – أن المعبود آمون في صورته الأزلية الأولى ( كم آت إف ) حتى و إن إتجه نحو عالم سفلي آخر بعيد إلا أن تأثيره على عالم الدنيا لم ينقطع ، فهو السبب الرئيسي الذي يأتي بالفيضان من العالم السفلي عند ( تل جامت – معبد هابو الصغير ) إلى أرض مصر حيث يوجد عالم الأحياء . 
9 – نلاحظ هنا بداية إتحاد و إندماج المعبود ( آمون ) مع ( أوزير ) في عصري الإنتقال الثالث و المتأخر و ذلك من خلال وصف ( كم آت إف ) صورة آمون الأولى بأنه ( با أوزير ) مما يرجح إزدياد نفوذ و شعبية المذهب الأوزيري في ذلك العصر و لا سيما في طيبة و هو أمر يشهد عليه وجود مقاصير للعبادة الأوزيرية في معابد الكرنك تم تشييدها خلال عصري الإنتقال الثالث و المتأخر فضلا عن إنتشار فكرة القبور ذات السمات المعمارية الدينية الأوزيرية في مصر كلها ، مما كان سببا في وضع أوزير كجيل أول مع آمون الخالق و إشتراكه في خلق الكون و هو الأمر الذي لم يحدث في مذاهب الخلق الأخرى .
10 – إن أسطورة مذهب الخلق في طيبة ترتبط إرتباطا وثيقا بالملكية ( مثلما كان الحال في جميع مذاهب الخلق الأخرى ) ، فقد كانت هناك علاقة قوية بين خلق الكون و السلطة الملكية ، فقد كان ذلك أحد الأهداف الرئيسية من تأليف و صياغة أى أسطورة تتناول كيفية خلق الكون في مصر . فقد ذكرت نصوص معبد هابو الصغير أن الثامون و قبل أن يستقر في تل جامت ( معبد هابو الصغير ) قام بمنح ملكية مصر و ميراث الأرضين إلى حورس إبن إيزيس وريث الثامون و لم يكن حورس إبن إيزيس في حقيقة أمره سوى تجسيد و تجلي فعلي لأى ملك يتولى زمام الأمور في البلاد . 
11 – إرتبط مذهب الخلق في طيبة بأعياد المدينة في عصري الإنتقال الثالث و المتأخر . فقد قام ( إير تا ) بخلق الثامون عند معبد الأقصر قبل أن يتجهوا سويا للمدن الدينية الثلاث – عين شمس و الأشمونين و منف – و عندما عادوا من جولاتهم و قبل أن يستقروا مع أبيهم إير تا في ( تل جامت ) معبد هابو الصغير ، خرجت صورة أخرى لإير تا من نفسه لم تكن سوى ( آمون كا موت إف ) رب معبد الأقصر و الذي يعني آمون فحل أمه أو بمعنى أدق الثور الذي يعيد إنجاب نفسه من جديد بتخصيبه لأمه ، ( فآمون كا موت إف ) و ( إير تا ) وجهان لعملة واحدة . و هو لقب يدل على نشأة ذاتية و أزلية متفردة ، فلم يكن سبب وجوده في العالم ، إله آخر سابق عليه في الوجود زمنيا مما يحقق أحد الأهداف الرئيسية لمذهب الخلق في طيبة و نظرا لظهور آمون كا موت إف في معبد الأقصر و هو مكفن بالرداء الأوزيري فضلا عن انتصاب عضو الخصوبة لديه فقد كان ذلك قرينة على إحتوائه لصفتي موته و إعادة ميلاده من جديد من خلال قدرته الإخصابية . و لهذا السبب تم إعتباره حلقة وصل بين عالم الأحياء و الأموات ، فاتجه أنصاره لأن يقيموا له عيدا دينيا هاما كان يمارس مرة كل عشرة أيام ، يتمكن من خلاله أن يربط ما بين الأحياء و الأموات و أن يصل الماضي بالحاضر و أن يعمل على ربط الوحدات الزمنية ببعضها البعض مما يعنى إستمرارية و تواصل الزمن في الكون . و لذا فقد كان يخرج ( آمون كا موت إف ) من معبده في الأقصر في موكبه و يعبر النيل لكي يتجه إلى معبد هابو الصغير ( تل جامت ) في البر الغربي لزيارة أبيه ( كم آت إف ) و أبنائه ( أعضاء الثامون ) الذين تم خلقهم من صلبه ، فيصب لهم مياه الحياة ( عنخ ) و القوة ( واس ) و يقدم لهم القرابين فيعيد بذلك إحيائهم من جديد ، فتصبح لديه القدرة على دخول العالم الآخر عند معبد هابو الصغير و العودة منه إلى عالم الدنيا مرة أخرى

الخميس، 26 يوليو 2012

مفهوم التوسعة الكونية و مبدأ مد الوجود في الملكية المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

مفهوم التوسعة الكونية و مبدأ مد الوجود في الملكية المصرية القديمة  ............................................................
.................  يتناول هذا المقال واحدة من أهم المفاهيم الفكرية و الدينية للحضارة  الصرية القديمة فيما يتعلق برؤية الملكية المصرية القديمة لما يعرف بتوسعة  الحدود الكونية و مد الوجود و مدى تطبيقها لهذا المبدأ الفكري عمليا على ما  أنتجته عبر العصور المختلفة و لاسيما في مجالات الفن و العمارة و الحروب  العسكرية .
 تمثل هذا المفهوم في إقامة منشآت معمارية و أعمال فنية  تفوق حجما أو ثراءا مما صنعه الأسلاف . فكل ملك يسعى نحو إبراز توسعة  الحدود الدينية و الكونية لمنشأته المعمارية أو صنيعه الفني بشكل يظهر فيه  التفوق و العلو على آثار السلف . و هو ما يبرز أحد الدعائم الفكرية للمصري  القديم و المتمثلة في ( إظهار تفوق الخلف على إنجازات السلف ) و أحيانا ما  كان ذلك المبدأ يتم تطبيقه عمليا بهدف إضفاء شرعية سياسية و دينية مقدسة  على حكم الملك الحاكم .
تجلت مظاهر الترجمة العملية لتوسعة الحدود الكونية و مد الوجود من خلال عدد من التجارب التاريخية الملكية الهامة تمثلت فيما يلي :
1 - بدأ ملوك الدولة القديمة - و لاسيما ملوك الأسرة الرابعة - في تطبيق  هذا المفهوم عمليا من خلال إقامة مقابر ملكية تفوقت أحجامها على مقابر  أسلافهم – من ملوك الأسرة الثالثة – فظهرت المقبرة الهرمية بواجهاتها  الأربعة و هى تمتد نحو أركان الكون الأربعة ، فأصبحت المقبرة الملكية  الأرضية ترتبط بعالم السماء و مسيرة الشمس و مواضع النجوم و أصبحت أركانها  تجسد أركان الكون نفسه ( مثال : إسم هرم الملك خوفو : آخت خوفو – بمعنى أفق  خوفو و هي تسمية تربط المقبرة الملكية بالحدود الكونية الشمسية ) . و من  هنا نجد إرتباط قوي بين حدود المنشأة المعمارية الدينية و حدود الكون . و  كلما جاء ملك و عمل على توسعة حدوده المعمارية ، فهو يهدف لإبراز مد الوجود  الخاص بأثره الخالد .
2 - لم  يشذ ملوك الأسرة الخامسة عن تطبيق هذه  القاعدة حتى و إن أصبحت مقابرهم الملكية أصغر حجما من مقابر ملوك الأسرة  الرابعة بل قاموا بتطبيق ذلك المبدأ على نحو آخر ، تمثل في إقامة معابد  شمسية فائقة الحجم ، لم يظهر لها مثيل من قبل فيما نعلم حتى الآن ، فضلا عن  الزيادة الكمية و النوعية لمناظر و شعائر تم تصويرها على جدران تلك  المعابد لأول مرة فتفوقوا بذلك في إظهار أعمالهم – من وجهة نظرهم – على  ملوك الأسرة الرابعة . و لم تكن سياستهم المعمارية و الفنية الجديدة سوى  ترجمة لكشف ولائهم التام لمعبودهم الشمسي الأثير ( رع ) ، فعملوا على إبراز  السيطرة الكونية لربهم الخالق من خلال مناظر و شعائر المعابد الشمسية و  إستفادوا من تلك الظاهرة بتوحيد و إدماج أنفسهم به في نهاية المطاف .
3  - إن المد الوجودي و توسعة الحدود الكونية لمعابد الشمس هي أعظم قرينة  عملية تؤكد على الترجمة الفعلية لتلك القاعدة مع الوضع في الإعتبار حقيقة  هامة : لم يكن مفهوم الكون في عصر الدولة القديمة قد تخطى عالم مصر ، فإله  الشمس و ممثله الأرضي ( الملك ) لايحكم سوى مصر ، فقد كانت الأيدولوجية  الملكية في ذلك العصر تروج لصورة مصر في مصاف العالم المنظم الذي خلقه رب  الشمس و كلف ممثله الأرضي – الملك - بوضع الماعت ( النظام و الخير و  العدالة ) بدلا من الإسفت ( الفوضى و الشر و الظلم ) ، فلم تعترف الملكية  المصرية خلال عصر الدولة القديمة بأنها دولة واحدة تقع في محيط دول أخرى  متعددة و إنما هي البلد الوحيد و المنظم القائم في العالم و يحيط بها مناطق  و بلاد أخرى غير معروفة و تتسم بالفوضى و لا يسكنها سوى الأعداء  .
4 –  لما تولى الملك ( ونيس ) زمام الأمور في البلاد ، أتى بما لم يأت به  الأسلاف ، فأوجد تقليدا دينيا جديدا تمثل في تسجيل نصوص الأهرام الملكية  على جدران الحجرات الداخلية لمقبرته الملكية . فكانت هذه النصوص تهدف  لتحقيق السعادة الأبدية للملك الحاكم في عالم السماء و إندماجه برب الشمس  رع و تأكيد سيطرته الكونية الشمسية على الكون بأكمله . و من هنا ندرك أن  النصوص الدينية الملكية لعبت دورا هاما في إظهار مفهوم توسعة الحدود و مد  السيطرة الكونية للملك و ذلك كناحية تعويضية لإبتعاد الملكية عن سياسة  تشييد المعابد الشمسية الكبرى في ذلك العصر .
5 – لم يختفي هذا المفهوم  الفكري عمليا خلال عصر الإنتقال الأول برغم ضعف السلطة المركزية السياسية .  فقد قام حكام الأقاليم و كبار رجال الدولة بالتعبير صراحة عن رغبتهم في (  التوسع و التواجد ) فنقرأ على سبيل المثال نص في تعاليم ( خيتي الثالث )  الموجهة لولده ( مري كا رع ) أنه ( يريد أن يأتى بملك من الأسلاف فينظر إلى  ما صنع و يتفوق عليه و يزيد مما حققه هو ) . كما نقرأ من جانب آخر نصوصا  أخرى تعود لذات الفترة في مقابر حكام الأقاليم تتحدث عن إعادة بناء مقاصير  الأسلاف و ترميم تماثيلهم المقدسة و إعادة تصوير المناظر داخل مقابرهم و  توسعة أساساتها و مد وجودها المكاني و وضع أبواب جديدة من الحجر لها و ذلك  لإعادة إحياء منشآتهم القديمة و حتى تكون مكانتها أعلى من مكانة جميع  الأشراف و الرجال الآخرين مما يؤكد أن مبدأ التوسعة الكونية و مد الوجود  خلال ذلك العصر بدأ تطبيقه على نطاق أشمل و أوسع مما سبق فكان ذلك داعيا  لإبرازه في نصوص عصر الإنتقال الأول .
6 – عندما عرفت مصر الإستقرار  السياسي في عصر الدولة الوسطى ، زادت من إنجازاتها الفكرية و الدينية و  المعمارية و الفنية و اللغوية ، و كانت تلك الإنجازات تعبيرا صادقا عن مبدأ  التوسعة الكونية و مد الوجود في جميع المجالات التى عملوا على تطويرها  عمليا . فنجد الملك ( سنوسرت الأول ) يقول ( لقد صنعت أعمالا عظيمة و زدت  ما ورثته عن أسلافي ) . كما شيد من ناحية أخرى المقصورة البيضاء في الكرنك و  التى كشفت مناظرها و طقوسها على توسعة السيطرة الكونية للمعبود ( آمون رع )  و مد وجوده هو و ممثله الأرضي ( الملك ) على عالم مصر . و من جانب آخر شيد  المك ( سنوسرت الثالث ) مجموعة من القلاع العسكرية في بلاد النوبة تنظيم  التجارة مع النوبة العليا و حماية الحدود من الجنوب فعمل على ( توسعة رقعة  الحدود المصرية ) و أقام ( لوحات الحدود الشهيرة ) عند هذه القلاع ،  فإعتبرت حدود مصر الجنوبية منذ ذلك العصر و عند أقصى مكان شيدت فيه القلاع  المصرية من ( دعائم السماء و أقصى الحدود الكونية )
7 – أصبح هذا  المبدأ أكثر وضوحا من الناحية العملية في عصر الدولة الحديثة و لاسيما عند  قيام الإمبراطورية المصرية في آسيا  فأصبح الملك يوصف بكونه ( هو الذي يمد  حدود مصر ) ، فهو بذلك لم يحافظ فقط على ما ورثه من أسلافه و لكنه قام  بزيادة هذا الميراث . كما نجد الملك ( تحتمس الثالث ) و هو يقول ( إنني  أفعل أكثر مما فعله الملوك من قبلي و لم لا ؟ ألم يعتبره المؤرخون – طبقا  لما تركه في حوليات الكرنك – صاحب أعظم إنتصارات حربية في الشرق القديم ؟ و  من هنا أصبحت حدود مصر الخارجية تقع في إطار عالمها الداخلي  المقدس فوصلت  إلى ( أركان و حدود الكون ) على حد تعبير المصري القديم و لذلك لم تعد مصر  وحدها هي الدولة الوحيدة القائمة في العالم ، بل هي واحدة من مناطق و دول  أخرى متعددة و تحول إله الشمس رع كرب خالق لشعب مصر و الشعوب المجاورة لها و  ظهر منظر شعوب الأرض الأربعة في مقبرة الملك ( حورمحب ) في وادي الملوك ( و  هم شعوب مصر و النوبة و ليبيا و بلاد الشام ) و تم وصفهم بعبارة ( ماشية  رع )   ..... و من ناحية أخرى سعت الملكة ( حتشبسوت ) على إظهار ذلك المبدأ  عمليا من خلال وضع مسلتين عملاقتين في حرم الكرنك في أكثر الأماكن ضيقا  للمعبد ، و كانتا في ذلك الوقت من أكبر المسلات المصرية حجما مما يرجح  حقيقة هامة و هي : سعت الملكية في الحضارة المصرية القديمة لإبراز مفهوم  التوسع الكوني و المد الوجودي لإسباغ شرعية سياسية و دينية على حكم الملك و  إظهار إنجازاته و تفوقه على ما أتى به الأسلاف .
8 – أصبحت المعابد  المصرية خاضعة لذلك المفهوم في عصر الدولة الحديثة – و لاسيما معابد الكرنك  – بشكل لم يسبق له مثيل . فلم تعتبر هذه المعابد و لفترة طويلة مكتملة  النشأة و التكوين . فقد كان كل ملك يعقد العزم على أن يضيف معماريا و دينيا  و شعائريا لتلك المعابد ، كما كان عنصر إبراز الضخامة المعمارية ظاهرا  فيها  و كانت توسعة حدود الكرنك ترجمة أخرى لمبدأ التوسعة الكونية و مد  الوجود و إبراز تفوق الخلف على السلف .
9 – تمثل المقابر الصخرية  الملكية للدولة الحديثة واحد من أبرز التطبيقات الفعلية للتوسع و مد الوجود  ، فأقدم المقابر في الوادي و التى ترجع لعصر الملك ( تحتمس الأول ) لم تكن  سوى مقبرة متواضعة الحجم و قليلة الغرف و لكن بدأ الملوك اللاحقون فيما  بعد في زيادة الحجم الإجمالي للمقبرة الملكية ، فزادت الغرف و الأعمدة و  كثرت المناظر تدرجيا إلى أن بلغ التوسع ذروته في عصر الرعامسة ، حيث إمتدت  أحيانا إلى ما يزيد على مائة متر أسفل الصخور و تم زخرفتها كلها بنقوش و  ألوان زاهية و تميزت أحيانا بعض المقابر بموضوعات و مناظر دينية قد لا  نجدها في مقابر أخرى . و عندما قام الملك ( رمسيس الرابع ) بإختصار حجم  مقبرته مقارنة بحجم المقابر الملكية السابقة ، و أزال الأعمدة و كثيرا من  المناظر الدينية ، لم يتخلى عن مبدأ التوسع و مد الوجود داخل مقبرته و إنما  ترجمه عمليا على نحو مختلف ، فقام بعمل ممرات أعلى و أوسع بشكل ملحوظ من  تلك التي في مقابر الأسلاف .
10 – يتبين لنا مما تقدم أن المصري  القديم كان يضع حدودا في باديء الأمر و على سبيل التجربة لجميع منشآته  الدينية و المعمارية و الفنية ثم يقوم في فترات لاحقة بعمل تغييرات و  توسعات متعددة لكل ما تم عمله في السابق تحقيقا عمليا لمبدأ التوسع الكوني و  مد الوجود إلى أن يصل في نهاية المطاف لحد معين لا يتجاوزه فقام بوصفه  بالحد الأقصى و النهائي المقدس و الثابت و كانت هذه الحدود القصوى النهائية  تعتبر في آخر الأمر حدودا مطلقة تنتمي لحدود و بنية العالم نفسه .
11 – إن مبدأ التوسع الكوني و مد الوجود و إبراز تفوق الخلف على إنجازات السلف يعكس عددا من الحقائق الهامة تمثلت فيما يلي :
أ – أن المصري القديم كان لا يؤمن بمبدأ القناعة كنز لا يفنى و مبدأ  الرضاء بالقليل ، فقد أدرك أن التقدم الحضاري و العلمي لا يتأتى إلا من  خلال السعي الدؤوب نحو العمل المتواصل و تحدي الذات و عدم الإكتفاء بما تم  إنجازه من جانب الأسلاف و أن السلف لم يتوفق على الخلف فلم يترك له شيئا  لكي يحققه .
ب – لا يعني مبدأ التوسع و مد الوجود و التفوق على السلف  أن المصري القديم كان لا يحترم الأسلاف ، بل على النقيض تماما ، فهو  لايكتسب أية شرعية في أعماله و إنجازاته إلا إذا كان مؤديا لطقوس تقديس  السلف مقلدا لما فعلوه من سلوك و أخلاق يقتدى بها و مرمما لآثارهم القديمة .  فهو هنا يقتدي بهم سلوكيا و أخلاقيا و يحافظ على آثارهم القديمة و في ذات  الوقت يتفوق عليهم حضاريا فيزيد من ميراثه المادي و العملي ،  ولا يكتفي  بما تحقق في زمانهم .
ج – لا ينبغي أن نأخذ دائما بما قاله الملوك عن أنفسهم فنعتبره في إطار الحقائق التاريخية - من خلال التطبيق العملي لمفهوم التوسع و مد الوجود و التفوق على السلف – فهذا المفهوم كان ساريا على الأقل من الناحية النظرية بين جميع الملوك ، فالملك ( توت عنخ آمون ) وصف نفسه ( أو أغلب الظن البطانة الملكية التى كانت حوله ) أنه أتى بما لم يأت به الأسلاف ! كما ذكرت الملكة ( حتشبسوت ) في الدير البحري أنها أرسلت لرحلتها الشهيرة لبلاد بونت التي لم يصل إليها المصري القديم من قبل ! فالأمر في هذه الحالات لا يعدو كونه دعاية سياسية ملكية لا تتطابق مع الواقع التاريخي .

الأربعاء، 25 يوليو 2012

معابد الشمس في عصر الأسرة الخامسة


بسم الله الرحمن الرحيم 

‎( معابد الشمس في عصر الأسرة الخامسة )
 إتجه ملوك الأسرة الخامسة لبناء معابد مكرسة لعبادة رب الشمس ( رع ) و لا  سيما و أنها كانت أقوى العبادات الدينية و السياسية المعروفة في مصر منذ  عصر نقادة الثالثة – الأسرة صفر – على أقل تقدير ( 3200 ق.م – 3000 ق.م ) ،  و لاريب أن بناء هذه المعابد الشمسية و إحتوائها على مناظر تتعلق بتتويج و  إعادة إحياء الملك مرة أخرى كانت من أكبر القرائن على وجود إلتحام و  إندماج مباشر بين مفردات العقيدة الملكية و مظاهر الديانة الشمسية .
عكف علماء المصريات على دراسة هذه المعابد الشمسية ساعين قدر الإمكان  لإستجلاء الأهداف الحقيقية من وراء تشييدها في ذلك العصر بالتحديد فخرجوا  بنتائج عدة كان من أهمها :
1 – شيد أول ملوك الأسرة الخامسة معبده  الشمسي في منطقة أبوصير لأول مرة مما كان سببا بارزا لجميع الملوك اللاحقين  نحو إقامة مقابرهم الملكية في ذات المنطقة بالقرب من أول معبد شمسي تم  إقامته في ذلك المكان كما إستمروا بأنفسهم في توجيه شطرهم ناحية رب الشمس (  رع ) و شيد كل ملك منهم ( ما عدا آخر ثلاث ملوك من هذه الأسرة ) معبدا  شمسيا في منطقة أبو غراب التى تبعد عن أبوصير كيلو متر نحو الشمال .
2 –  تشابه التخطيط المعماري لهذه المعابد الشمسية مع التخطيط المعماري لمعابد  الأهرام الملكية فكانت تحتوي على نفس العناصر المعمارية المعروفة لدى  المجموعة الهرمية من معبد وادي و معبد جنزي و طريق صاعد يربط بينهما مما  كان دافعا قويا للتأكيد على مفهوم الإلتحام الوثيق بين الديانة الشمسية و  العقيدة الملكية في ذات الفترة
3 – تصور عدد كبير من علماء المصريات  أن معابد الشمس التى تم بنائها على الجانب الغربي للنيل أنها كانت تناظر و  تقابل معبد الشمس العظيم في هليوبوليس و أن تصميم معابد أبوصير كان يحاكي و  يطابق معماريا معبد الشمس في عين شمس و ذلك بالرغم من عدم وجود أدلة أثرية  كافية ترجح هذه النظرية ، فنحن لانعرف التصميم الفعلي لمعبد الشمس في عصر  الدولة القديمة حتى هذه اللحظة . فضلا عن عدم الوضع في الإعتبار أن كثيرا  ما كانت مفردات الديانة و العمارة المصرية القديمة تستلهم معطياتها من  الملكية و ليس بالضرورة أنها تستوحي معطياتها دائما من المعبودات المصرية  القديمة ، فالملكية و لاسيما في عصر الدولة القديمة كانت هي المبدأ الأول  الموحي و الملهم لأي مبادرة سياسية أو دينية .
4 – ظن البعض من  الدارسين أن بداية تشييد معابد الشمس في مصر لم تظهر إلا مع عصر الأسرة  الخامسة و هو أمر لايستقيم لدى الباحث للأسباب و الإعتبارات التالية :
أ – ظهرت البذور و الإرهاصات التصويرية الأولى للديانة الشمسية في مصر منذ  عصر نقادة الأولى ( 3900 – 3600 ق.م ) و ذلك على طبق نقادة الشهير الموجود  في المتحف المصري حيث تم تصوير شمس المشرق و شمس المغرب و بينهما التل  الأزلي و مياه مصورة في أعلى و أسفل الطبق مما يرجح وجود تأملات فكرية  دينية شمسية في ذلك العصر و بدايات التعبير عن مفهوم الكون الذي كان عبارة  عن مياة سرمدية أزلية ثم ظهر التل الأزلي للوجود فكانت شمس المشرق و شمس  المغرب التى أتمت الدورة الكونية النهارية على العالم و هو ما يرجح أنها  التأسيس الأول لمذهب الخلق الشمسي الذي سيتبلور فيما بعد في عصر الأسرة  الخامسة
ب – ظهور مراكب المعبودات على فخار نقادة الثانية ( من 3600  ق.م و حتى 3200 ق.م ) و كان من رموز هذه المعبودات قرص الشمس الذي يعلو  كابينة المركب مما يؤكد وجود مقاصير شمسية في مصر منذ عصر نقادة الثانية  على أقل تقدير
ج – ظهر ملوك الأسرة صفر في عصر نقادة الثالثة في سمات  دينية شمسية واضحة و لاسيما في الصلايات التى عبرت رسوما و نقوشها عن وجود  زعامة و ملكية ناشئة تروج لنفسها من خلال تصوير الزعيم في صورة أحد حيوانات  الشمس مثل الثور أو الأسد أو الصقر أو إبن آوى و هو يفتك بأعداء الشمس  الذين هم في ذات الوقت أعداء الملك في صورة حيوانات ضعيفة مثل الظباء و  الغزلان و الوعول . د – تسمى ثانى ملوك الأسرة الثانية بلقب ( رع نب )  بمعنى رع هو الرب ، فهل من المنطقي أن ينتسب الملك للمعبود الشمسي في ذلك  العصر دون أن يكون له معبد أو مقصورة مستقلة ؟
ه – مقصورة تورين  الشمسية التى ترجع لعصر الملك زوسر أكدت على وجود عبادة واضحة لرب الشمس و  التاسوع الشمسي في عصر الأسرة الثالثة و ما يميز هذه المقصورة أن التاسوع  الشمسي ظهر في هيئة آدمية واضحة حيث كان كل معبود منهم يظهر في هيئة ملك  بهيئة بشرية خالصة جالسا على العرش و هو ما يعكس مفهوم أن الملك الحاكم  يظهر كوريث شرعي للتاسوع الشمسي
5 – كان الشكل التخطيطي الأول لمعبد  الشمس في عصر الملك أوسركاف بسيط جدا ، فقد كان عبارة عن سور خارجي على شكل  المربع بزاويا دائرية و يحتوي في داخله على بناء يشبه المصطبة و هو ما  يذكرنا بعقيدة التل الأزلي الأول التى تجلى عليها معبود الشمس في بداية خلق  الكون . ثم تغير الشكل التخطيطي للمعبد في عهد خلفائه و تحول إلى نفس  الشكل التخطيطي و المعماري للمجموعة الهرمية فضلا عن وضع أهم الرموز الدالة  على عبادة الشمس و هي المسلة التى لم تخلو منها معابد الشمس فتم وضعها في  الجزء العلوي لتلك المعابد الشمسية الذي يعادل الجزء العلوي لمعابد الأهرام  الجنزية
لماذا تم تشييد معابد الشمس في عصر الأسرة الخامسة ؟ و ما هي  علاقتها بالمجموعات الهرمية التى شابهتها في تخطيطها ؟ و لماذا شيدت هذه  المعابد على البر الغربي للنيل ؟ ما هي طبيعة و أهداف الشعائر داخل المعابد  الشمسية ؟ و هل ترتبط تلك الطقوس بمعابد الأهرام الملكية ؟ و هل شيدت هذه  المعابد الشمسية لعبادة معبود الشمس فقط ؟
و من خلال ما ورد على حجر  بالرمو الذي يعود لعصر الأسرة الخامسة ، فضلا عن برديات أبوصير المعروفة  التى كانت سجلا يوميا لنشاط الكهنة داخل المعابد الشمسية ، و ما تبقى من  مناظر صورت على جدران معابد الشمس و ما تم تسجيله في مقابر كهنة الشمس في  أبوصير و سقارة ، يمكن لنا أن نستنتج عدد من الحقائق و النتائج الهامة و هي  :
1 – إرتبطت هذه المعابد الشمسية قلبا و قالبا بالعبادة الملكية ،  فتختلط فيها شعائر الشمس التى ترمي لإظهار فضل رب الشمس على الدنيا و تتابع  دورة فصول السنة الثلاثة و شعائر تجديد الملكية و إعادة إحياء الملك  الحاكم مما ينتج عنه في نهاية المطاف توحد  الملك الحاكم بمعبود الشمس رع و  ظهور صورة الإله ( رع حور آختى ) لأول مرة على جدران تلك المعابد و هو  المعبود الذي يجسد إلتحام الملكية بإعتبارها ( حور ) مع رب الشمس ( رع )  عند ظهوره من الأفق الشرقي و حتى الأفق الغربي في هيئة آدمية برأس صقر  تعبيرا عن إكتمال الدورة الكونية الشمسية التى يشارك فيها الملك بوصفه صورة  ( رع ) المقدسة على الأرض و التى تهب نعمها و أفضالها على الكون بأكمله .
2 – كشف حجر بالرمو و مقابر كهنة الشمس في سقارة و برديات أبوصير عن قيام  نفس الشعائر في معابد الشمس و معابد الأهرام الملكية بل و تقديم نفس  القربان لذات الأماكن الأمر فقد كان القربان يتجه أولا من معابد الشمس ثم  يؤول لمعابد الأهرام الملكية الأمر الذي يدل على أن هذه الشعائر تكمل بعضها  البعض في مكانين منفصلين عن بعضهما و هو ما يفسر لنا أيضا التطابق الكبير  في التخطيط المعماري لمعابد الشمس مع معابد الأهرام الملكية ، فتشابه  الطقوس في أماكن مختلفة يفضي بشكل كبير إلى تطابق معماري بين ذات الأماكن
3 -  كشفت هذه الوثائق السابقة عن قيام فعل و طقوس العبادة داخل  معابد الشمس و معابد الأهرام الملكية خلال حياة الملك الحاكم و ليس فقط بعد  وفاته كما كان يعتقد عدد كبير من الباحثين و أن الكهنة المشرفين على  العبادة الملكية في معابد الأهرام هم أنفسهم الكهنة المكلفين بعمل الشعائر  داخل المعابد الشمسية
4 – كشفت مناظر و شعائر معابد الشمس في الجزء  المعروف بمعبد الوادي أن الملك يظهر في معبد الوادي الشمسي كحورس على الأرض  ثم يتجه نحو الطريق الصاعد الذي يؤهله للصعود نحو السماء حتى يصل للجزء  العلوي لمعبد الشمس المعادل للمعابد الجنزية في المجموعات الهرمية فيظهر في  سمات شمسية بارزة و يتحد صراحة بمعبود الشمس رع مما يؤهله للظهور في هيئة  المعبود ( رع حور آختى )
5 – من العناصر الأساسية في معبد الشمس ما  يعرف إصطلاحا بإسم حجرة الكون و هي حجرة صغيرة الحجم مظلمة تقع إلى الجنوب  مباشرة من المسلة المشيدة من الحجر الحجر الجيري و يوجد في الجدار الشمالي  لهذه الحجرى مدخل يؤدي مباشرة إلى داخل قاعدة المسلة التى يوجد بداخلها درج  يمكن الصعود عليه إلى قمة المسلة و مما يسترعي الإنتباه أنه قد تم تسجيل  على جدران تلك الحجرة الصغيرة المظلمة مناظر شتى تعبر عن مظاهر الطبيعة  المختلفة في عالم النبات و الحيوان و لعل أهم ما في ذلك أن تلك المناظر  تسجل نشاط الطبيعة في فصلي الجفاف و الفيضان فقط دون أية إشارة إلى فصل  الإنبات ؟
6 – يبدو هذا الإختيار متعمدا و هو يكتسب هنا أهمية خاصة  لأن كلا الفصلين يرتبطان هنا بمكان مظلم تماما وهو حجرة الكون المسقوفة كما  أنه يؤدي مباشرة إلى رمز الضوء أى المسلة التي ترمز إلى ديانة الشمس و هي  هنا مسلة مبنية و بها سلم داخلي يمكن الإرتقاء عليه إلى قمة المسلة .
7  – من الواضح أن إجتماع تلك العناصر الى جوار بعضها البعض لم يكن مجرد  مصادفة بل كان أمرا مقصودا لذاته ، حيث تعبر حجرة الكون المظلمة عن مرحلة  الموت المرتبط بالإخصاب ( و هما فصلي الجفاف و الفيضان ) و لذلك ظهرت في  ذات الحجرة مناظر تخصيب أنواع من الحيوانات لبعضها البعض ، في حين تعبر  المسلة عن مرحلة الميلاد المرتبط بالشمس و بالإرتقاء لأعلى نحو السماء ( من  خلال الدرج الداخلي للمسلة ) . و من هنا نفهم لماذا أصرت الملكية على  تصوير مناظر و شعائر الحب سد داخل حجرة الكون المظلمة على نطاق واسع .  فالملك يظهر في المرحلة الأولى كملك مكفن و ميت في العالم الآخر ثم يظهر في  المرحلة الثانية و هو قد تخلص من كفنه و إتجه لعمل شعيرة الركض المعروفة  في فناء واسع دليلا على تجدد نشاطه . إن شعائر الحب سد الملكية تلاحمت و  تجاورت مع شعائر الشمس لكي تؤكد على المصير المشترك لكلاهما
8 – حجرة  الكون المظلمة تقع دائما ناحية جنوب مسلة معبد الشمس و بالتالي فإن مرحلتى  الموت ( المرتبط بالإخصاب ) و الولادة و إعادة الإحياء تخضع لدى معبود  الشمس للإتجاه الجغرافي من الجنوب إلى الشمال . و حيث أن المرحلة النهائية  هنا ( الولادة و إعادة الإحياء ) تتجسد في رمز الشمس ( المسلة ) فإنها تعبر  أيضا عن إتجاه الشرق . و من هنا يمكن القول بأن الدور الذي يؤديه رب الشمس  – و الملك – للإنتقال من مرحلة الموت إلى إعادة الإحياء و الولادة يرتبط  بالإتجاه الجغرافي من الجنوب إلى الشمال ( حيث إتجاه فيضان النيل في مصر )  ثم إلى الشرق ( حيث شروق الشمس و صعودها نحو السماء )
9 – لا يخفى على  هذا البحث وجود علاقة قوية بين نصوص الأهرام الملكية التى ظهرت في نهاية  عصر الأسرة الخامسة و العناصر المعمارية المميزة لمعابد الشمس . فنصوص  الأهرام داخل هرم الملك ونيس تعبر حسب موقعها عن ثلاث مراحل متتابعة تتجه  من الغرب إلى الشرق ثم إلى الشمال . حيث تعبر نصوص حجرة الدفن ( في الغرب )  عن عالم الموتى – دات – بينما تعبر نصوص الحجرة الأمامية ( إلى الشرق من  حجرة الدفن ) عن الشروق و الميلاد – آخت – في حين تعبر نصوص الممر الخارجي (  الواقع إلى أقصى شمال الأجزاء الداخلية للهرم ) عن السماء – بت .
و  لعل هذا الإتجاه الجغرافي ( من الجنوب إلى الشمال – إتجاه الفيضان - و من  الغرب إلى الشرق – إتجاه عودة الشمس للشروق ) يتفق مع نفس الإتجاه الجغرافي  في معابد الشمس في الأسرة الخامسة ( من حجرة الكون في الجنوب إلى المسلة  التى تقع في الشمال و هي في ذات الوقت رمز شروق الشمس و إرتقائها لأعلى )  حيث يعبر هذا الإتجاه عن التحول من الموت إلى الحياة و هو التحول الذي  يرتبط بفاعلية الإخصاب .
10 – لعل ذلك الإتفاق في الموضوع و الوظيفة  بين حجرة الكون و المسلة في ترتيبها و مضمونها من ناحية و بين نصوص الأهرام  في ترتيبها و مضمونها من ناحية أخرى يلفت إنتباهنا إلى حقيقة هامة : و هى  أن معابد الشمس من الأسرة الخامسة تنتمي جميعا إلى فترة زمنية محدودة تقع  بين بداية الأسرة الخامسة و سادس ملوك نفس الأسرة حيث تتوقف القرائن عن  بناء أى معابد أخرى للشمس بعد ذلك و يبدو الأمر هنا و كأن إنقطاع معابد  بناء معابد الشمس كان إيذانا ببداية تسجيل نصوص الأهرام و التى بدأ تسجيلها  مع آخر ملوك الأسرة الخامسة ونيس و التى تعبر كما تقدم عن نفس الوظيفة و  المضمون التى كانت تؤديها معابد الشمس ( مع بقاء الملك جد كا رع إسيسي حلقة  مفقودة بين المرحلتين ) و يعنى ذلك أن نصوص الأهرام كانت بديلا طبيعيا عن  بناء معابد الشمس و تؤدي نفس وظائفها و لعل ذلك يمكن أن يقدم إجابة للتساؤل  المحير عن سبب بناء معابد الشمس على غير المألوف على البر الغربي للنيل  حيث الموقع التقليدي للجبانة .
11 – إن معابد الشمس لم تكن بالضرورة  مكرسة لتقديس ملك بعينه في صورته الشمسية ، بل هي معابد تجسد ( المبدأ  العام لمفهوم الملكية الخالدة التى لا تفنى ) و الملكية هنا ترتبط إرتباط  وثيق بالشمس الخالدة حيث أنها لا تتقاسم مصيرها مع رع فقط في العالم الآخر  بل هي تتقاسم مصيرها مع المعبود الشمسي في العالمين : عالم الدنيا و العالم  الآخر و من هنا نفهم الحقيقة التالية : لم تكن عبادة الملك المتوفى هي  الغرض الأول في معابد الشمس أو على الأقل لم تكن هي الهدف الأوحد و لم تكن   أيضا عبادة إله الشمس في صورته الميته لحظة الغروب هي الهدف الأساسي من  تلك المعابد كما ظن العديد من الدارسين . بل كان الغرض من هذه المعابد هو  التأكيد على إحياء و تجديد الملكية كمبدأ عام و خالد لا يفنى في صورتها  الشمسية لذلك كان كل معبد شمسي تقام فيه الطقوس خلال حياة الملك و بعد  وفاته كما أن كل معبد لم يقتصر على عبادة ملك واحد فقط و هو ما يفسر لنا  تلك التعديلات المعمارية التى كان يقوم بها الملوك الملوك اللاحقين على نفس  المعبد فضلا عن وجود كهنة يقيمون الشعائر لأكثر من ملك في معبد شمسي واحد .
12 – كان إتجاه الملوك ناحية الديانة الشمسية بقوة خلال الأسرة الخامسة أدى إلى زيادة الشعائر الشمسية و هو الأمر الذي أدى لوجود حاجة لمنشآت معمارية دينية مستقلة تمثلت في المعابد الشمسية حتى تتمكن من إستيعاب الطقوس و الشعائر التى إستجدت خلال الأسرة الخامسة مما أدى لإنفصال تلك الشعائر الشمسية عن معابد الأهرام الملكية التى أصبحت مكرسة لشعائر ملكية ذات طابع أوزيري و هو الأمر الذي دللت عليه وجود مناظر جنزية أوزيرية في معابد الأهرام الملكية في الوقت الذي شهدت فيه البلاد إزدياد أهمية الديانة الشمسية و هو ما عبرت عنه النتيجة التالية : أصبحت معابد الأهرام الملكية تدل على إتحاد الملك بالمعبود أوزير أما المعابد الشمسية فهي المعابد التى يكتسب فيها الملك المصير الشمسي و لم تختلط الطقوس الأوزيرية إلا بالطقوس الشمسية في نهاية عصر الأسرة الخامسة فى عصر ونيس عندما إنتهت سياسة تشييد المعابد الشمسية فعادت الطقوس الشمسية مثلما حدث من قبل في معابد الأهرام الملكية و هو ذات العصر الذي شهد تسجيل نصوص الأهرام الملكية في نهاية الأسرة الخامسة حيث شهدت الملكية صيغة توفيقية و مصالحة دينية و سياسية بين العقيدة الشمسية و المذهب الأوزيري مما نتج عنه ظهور الملكية في هيئتين و مصيرين : مصير شمسي و مصير أوزيري .

الأهداف العملية لمناظر ( الحوت بحسو ) في المعابد المصرية القديمة - حول شعيرة إقتياد الملك للعجول الأربعة


بسم الله الرحمن الرحيم
الأهداف  العملية لمناظر ( الحوت بحسو ) في المعابد المصرية القديمة - حول شعيرة  إقتياد الملك للعجول الأربعة 




............................................................
.................يتناول  الباحث من خلال هذا المقال الأهداف العملية الدينية و السياسية لواحدة من  أهم الشعائر المصرية القديمة التى صورت و نقشت على جدران المعابد المصرية  منذ عصر الدولة القديمة و حتى العصرين البطلمي و الروماني ، و هي الشعيرة  التي عرفت بتسمية ( الحوت بحسو ) بمعنى : قيادة العجول . و لا يفوتني في  هذا الصدد إهداء هذه الدراسة لزميلتي القديرة و الأخت العزيزة الأستاذة (  مايسة مصطفى ) و التى لا تتردد في تقديم المساعدة للجميع .
 جاءت أقدم  المناظر المعبرة عن هذه الطقسة منذ عصر الدولة القديمة و بالتحديد على  جدران المعبد الجنزي للملك ( ساحورع ) من عصر الأسرة الخامسة في أبوصير . و  إستمر تصويرها بشكل متكرر و في أكثر من موضع على جدران المعابد في عصر  الدولة الحديثة إلا أن إعادة نقشها على جدران المعابد المصرية في العصرين  البطلمي و الروماني كان ذو أهمية كبرى نظرا لأن مناظر الدولتين القديمة و  الحديثة لا تقدم شروحا أو تفسيرا لمغزى تلك الشعيرة و لكن مناظر العصرين  البطلمي و الروماني تقدم الكثير في هذا الشأن .
أما عن وصف هذا المنظر فينبغي لنا أن نلاحظ مايلي :
1 – تكاد جميع المناظر المعبرة عن هذه الطقسة لا تتغير معالمها طوال جميع العصور إلا في تفاصيل طفيفة
2 – يظهر فيها الملك و هو يرتدي عادة تاج الآتف و يقود أربعة عجول صغيرة  مختلفة الألوان ( الأسود – الأبيض – المختلط – الأحمر ) و قد تم تسجيل فوق  كل عجل منها إسم اللون الذي يعبر عنه
3 – تجري وقائع هذه الشعيرة عادة  أمام معبود الخصوبة في صورة ( مين ) أو ( آمون رع ) أو ( كا موت إف – فحل  أمه ) أو ( حورس ) و في حالة فريدة تم تصويرها أمام المعبود ( أوزير )
4 – يمسك الملك بالعجول الأربعة من خلال أربعة حبال بحيث يلتف أحد طرفيها  حول الساق الأمامية لكل عجل من العجول الأربعة بينما تتجمع الأطراف الأخرى  للحبال الأربعة – و التى ينتهي كل منها برمز الحياة – و تلتف حول إحدى يدي  الملك . و في اليد الأخرى يمسك الملك بعصا يوجهها نحو أحد العجول الأربعة  فوق ظهره  و يلاحظ أن تلك العصا ينتهي طرفها الأمامي برأس تحاكي رأس الحية
ما هي الأهداف العملية الدينية و السياسية المصاحبة لهذه الشعيرة ؟
من خلال دراسة النصوص المرافقة لمناظر تلك الطقسة من العصرين البطلمي و  الروماني يتبين لنا أنها تتحدث عن ثلاثة مفاهيم تختلف عن بعضها البعض حيث  يعبر كل منها عن مضمون عملي ديني أو سياسي مستقل عن الآخر ، و لكنه ليس  غريبا عنه تماما و هي :
1 – المفهوم الأول يعبر عن مضمون طقوس زراعية  حيث تتناول النصوص ( و عددها ثلاثة ) هذا المضمون و تصف مكان إجراء الشعيرة  على أنه ( الجرن الخاص بدرس الحبوب ) – حيث تهدف هذه العملية لفصل الحبوب  عن القشر المغلف لها - فتتم عملية الدرس بواسطة العجول الأربعة . و الموضوع  الرئيسي لهذا المضمون يدور حول ( ضمان حصاد وفير ) حيث أنه في مقابل  إمتلاء مخازن الإله بالحبوب ، فإن الملك يتلقى وعدا منه بحقول مثمرة و  محصول وفير فضلا عن تكاثر الماشية
2 – المفهوم الثاني ذو صبغة جنزية ،  حيث تشير النصوص إلى أن العجول الأربعة تدوس بحوافرها فوق مقبرة المعبود (  أوزير ) لإخفائها عن عدوه ( ست ) و يوصف الملك الذي يقود هذه الطقسة بأنه (  حورس ) و قد وجد ذلك المفهوم في ستة نصوص .
3 – المفهوم الثالث يعد  تحريفا للمفهوم الثاني ، فهو يصف الملك الذي يقوم هذه الشعيرة بإعتباره  حورس الذي قام بدفن أبيه أوزير و من هنا نفهم أن المفهوم الثالث ذو مغزى  سياسي حيث يضفي الشرعية على الملك الحاكم الذي يقوم بعمل إجراءات الدفن  لأبيه أوزير طبقا لما ورد في الأسطورة الأوزيرية فاستحق عرش البلاد
هناك مجموعة من الحقائق الهامة و التى كشفت عن المغزى العميق للأهداف العملية المرافقة لهذه الشعيرة تتمثل فيما يلي :
1 – فيما يتعلق بالمفهوم الأول المرتبط بالأحداث و الطقوس الزراعية و درس  الحبوب يلاحظ أن الملك الذي يقوم بقيادة العجول الأربعة أمام معبود الخصوبة  يتم وصفه بالراعي و الفلاح العظيم و من هنا فإنه يرتبط بالمعبود ( أنوبيس )  حيث يتم تلقيبه بنفس لقبه و هو ( سيد الماشية ) . و في مقابل ذلك فإن  الإله الذي تتم أمامه الشعيرة يعد الملك بأن العجول سوف تجد طعاما وفيرا و  أن قطعان الماشية الخاصة به ستتكاثر و تنمو بأعداد كبيرة .
إن المضمون  الخاص بالمفهوم الأول ربما يعكس الأصول و المنابع الأولى لهذه الطقسة التى  كانت تجرى من جانب المصريين في عصور الترحال ( عصور ما قبل التاريخ ) و  كانت تهدف في ذلك العصر للتأكيد على خصوبة الأراضي التى كان يقوم المصريون  بزراعتها فضلا عن خصوبة و تكاثر مواشيهم في عصور ما قبل التاريخ و هو ما  ترك أثرا في العصور التاريخية بوصف الملك عند إقامته لهذه الشعيرة بلقب (  الراعي )
2 – أما فيما يتعلق بالمفهوم الثاني ، نجد أن النصوص تشير إلى  أن العجول الأربعة تسير فوق الحبوب بهدف إخفاء مقبرة المعبود أوزير الذي  تم دفنه في هليوبوليس – المركز الرئيسي لعبادة الشمس - ففي أحد تلك النصوص  يظهر الملك الذي يؤدي الشعيرة بإعتباره هو من يطأ على مقبرة من أنجبه . و  في نص آخر نقرأ " لكي تكون أرضك المقدسة خالية من كل شر و يكون مكان دفنك  خافيا عن أعدائك في هليوبوليس " مما يشير إلى دفن أوزير و إخفاء مقبرته في  هليوبوليس و أن الملك من خلال أدائه للشعيرة يجسد دور المعبود حورس
3 –  يرتدي الملك ( تاج الآتف ) عند إقامته هذه الطقسة لسبب يتعلق بالأسطورة  الأوزيرية ، فطبقا لكهنة أوزير كان المعبود ( جب ) أبو ( أوزير ) هو أول من  وضع ذلك التاج على رأسه عندما تولى عرش البلاد و زادت بعض الأساطير في ذلك  الأمر و قالت بأنه تاج رع الذي أورثه لأبناءه ثم إنتقلت وراثة التاج من  جيل إلى جيل حتى وصل للمعبود ( أوزير ) ، فلما إنتقل أوزير للعالم الآخر و  تولى ملكية البلاد هناك قال أنصاره أن ( جب ) قرر توريث التاج لإبن إبنه أى  حفيده ( حورس ) مما يعني إضفاء الشرعية الدينية و السياسية على من يرتدي  ذلك التاج . فهنا نجد الملك الذي يقوم بوضع التاج على رأسه هو ملك شرعي  بوصفه حورس الذي قام بدفن أبيه أوزير و إرتدى تاج الملكية الذي ورثه من جده  ( جب ) .
4 – بما أن هذه الشعيرة إرتبطت بتتويج الملك و إضفاء  الشرعية على حكمه و تأكيد الخصوبة الزراعية للبلاد و دفن أوزير فلا غرابة  إذا علمنا أنها كانت واحدة من ضمن الشعائر الرئيسية لإحتفالات ( الحب سد ) –  العيد اليوبيلي – و إحتفالات التتويج الملكي و عيد الإله مين و طقوس تعميد  و تطهير الملك بالمياه المقدسة و لاسيما عند كل مناسبة دينية ذات أهمية (  مثل زيارة المعبد ) و هو ما يفسر لنا تكرار تصوير هذه الشعيرة في أكثر من  موضع و مكان داخل المعبد الواحد طبقا لمناسبة الإحتفال ذاتها .
5 –  تميل أغلب الآراء إلى ربط هذه الطقسة في الواقع بعملية درس الحبوب في الجرن  بعد الحصاد . و لكن يبدو من المرجح أن الأمر لا يتعلق هنا بدرس الحبوب  نظرا لأن النصوص تشير إلى أن العجول تطأ ( و لا تقوم بالدرس ) الحبوب  بحوافرها بهدف إخفاء قبر الأب أوزير عن عدوه ست . و الواضح لنا أن النصوص  هنا تتحدث عن إخفاء الحبوب ( التى ترمز لأوزير ) في باطن الأرض ( التى تمثل  رمزيا قبر أوزير ) و هذا المعنى يختلف تماما عن درس الحبوب و التى تهدف  فقط إلى فصل الحبوب عن قشورها و ليس إخفاء الحبوب في باطن الأرض
6 –  إرتبطت هذه الشعيرة أحيانا بفصل الحصاد ، حيث يقوم الملك و بعد حصاده  للنباتات بدفن السنابل أو الحبوب مرة أخرى في باطن الأرض ثم يقود العجول  للسير عليها . أما الدافع وراء غرس حبوب حصدت للتو في باطن الأرض فهو يهدف  لضمان تكرار دورة الحياة الزراعية في البلاد مرة أخرى و حقيقة الأمر أن  مناظر الطقسة تعبر بصورة رمزية بليغة عن مفهوم إعادة دورة الحياة . فإذا  تأملنا معظم تلك المناظر نجد أن الملك يقود العجول من خلال أربعة حبال ،  بحيث يلتف طرف كل حبل منها حول الجزء السفلي من الساق الأمامية لكل عجل من  العجول الأربعة بينما يمسك الملك بالطرف الآخر لتلك الحبال حيث ينتهي هذا  الطرف الأخير بعلامة الحياة ( عنخ ) .
و هكذا فإن كل حبل من هذه  الحبال يصل بين الساق الأمامية لأحد العجول و بين علامة الحياة ( عنخ )  ليعبر بذلك عن العلاقة الرمزية بينهما . فالنصف الأسفل من الساق الأمامية  للعجل يعبر في واقع الأمر عن العلامة التصويرية الهيروغليفية ( وحم ) بمعنى  ( تكرا ر  ) أو ( إعادة ) . و هذا يعني أن طرفي هذه العلاقة ( الساق  الأمامية و علامة الحياة ) يشكلان معا تعبير :  - وحم عنخ – بمعنى تكرار (  دورة ) الحياة . و طبقا لهذا المعنى فإن إعادة بعض الحبوب إلى باطن الأرض  بعد الحصاد يعني إعادة طاقة و روح و قدرة المعبود الأب أوزير إلى باطن  الأرض لضمان إعادة بقاء فاعليته المنتجة في العالم الآخر . فهو المعبود  الذي ظل حيا في عالمه الآخر يواصل فعاليته في خصوبة و إنماء النباتات من  الأرض طبقا لأسطورته .
7 – من المعروف أن إخفاء الحبوب في التربة إنما  يهدف إلى الحفاظ عليها من التلف بإعتبارها باكورة حصاد العام و تجسيدا  رمزيا لجثمان أوزير و لذلك فهي شعيرة ذات طابع أوزيري ، كانت تقام أيضا في  طقوس الإحياء الأوزيرية في جميع المعابد المصرية و عبر جميع العصور في  أواخر شهر كهيك و هو آخر شهر من فصل الفيضان و ذلك على إعتبار أن الحبوب  عندما يتم إنباتها من جديد فهي أقوى قرينة على بعث و إحياء أوزير من جديد .  حيث يعتبر ظهور النباتات الخضراء من التربة دليلا على عودة الحياة للإله  أوزير .
8 – قام المصري القديم بإختيار أربعة عجول بألوان مختلفة لكي  يعبر عن جهات الكون الأربعة و هي الجهات التي تضم عادة أعضاء جسد الإله  المتوفى أوزير المتمثلة في الحبوب . و هي التي يتم فيما بعد تجميعها خلال  طقوس إحياء أوزير .
9 – إن هذه الشعيرة يتم إجرائها على النحو التالي :  العجول الأربعة تقوم بإخفاء و حراسة قبر أوزير ( إخفاء الحبوب في باطن  الأرض ) في نهاية فصل الإنبات و بداية فصل الجفاف ( الذي يعبر عن الموت )  ثم يتم إعادة تجميع أعضاء جسد  أوزير من أجل إحيائه ( أى تجميع تلك الحبوب و  إستنباتها ) في نهاية فصل الفيضان و بداية فصل الإنبات ( الذي يعبر عن  عودة الحياة ) و كان يتم تجميع هذه الحبوب في صناديق أربعة عرفت بإسم  صناديق ( المرت ) التى تحتوي في داخلها على أعضاء ( حبوب ) الجسد الأوزيري و  لذلك إرتبط منظر صناديق ( المرت ) الأربعة التى يتم تصوير الملك أمامها  بمنظر العجول الأربعة الذي يسبق منظر الصناديق . فهذه الصناديق تعتبر رمزيا  توابيت تحتوي في داخلها على أعضاء جثمان أوزير .
يتبين لنا مما تقدم  أن تكرار دورة الحياة الزراعية يشمل شعيرتين تكملان بعضهما البعض فهما  يجمعان بين الحصاد و إخفاء و تخزين الحبوب في باطن الأرض بواسطة العجول  الأربعة ثم تجميعها مرة أخرى بواسطة الصناديق الأربعة ثم إستنباتها من جديد  في نهاية فصل الفيضان و بداية فصل الإنبات . و هنا يمكن القول أن النصوص و  المناظر ألبست تلك الأحداث ثوبا أسطوريا رمزيا حيث تعبر الحبوب خلال تلك  الطقستين المتتابعتين عن المعبود أوزير في مراحل موته ثم دفنه ثم تجميع  أعضاء جسده ثم إحيائه مرة أخرى و كل ذلك يتم تحت إشراف الملك بوصفه المسؤول  المباشر عن قوت الشعب المصري القديم كما تتم هذه الشعيرة أمام رب الخصوبة (  آمون رع – أو – مين - أو – كا موت إف - ) كمسؤول هو الآخر عن تجديد دورة  الحياة في الكون و الطبيعة
و من هنا يمكن لنا أن نستشف الحقيقة التالية : إن شعيرة ( الحوت بحسو ) – قيادة العجول الأربعة – و أى شعيرة أخرى في الحضارة المصرية القديمة إرتبطت بأهداف عملية بحتة ، فلا معنى لإقامة شعيرة دون أن يكون لها مردود مادي و نفعي على الملكية و على الشعب المصري القديم .

الاثنين، 23 يوليو 2012

مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة و النتائج المترتبة عليه في عصر الإنتقال الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم



(  مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة و النتائج  المترتبة عليه في عصر الإنتقال الثالث )
 ............................................................
.................
 يتناول الدارس في هذا البحث الموجز مظاهر و أشكال الصراع و التنافس  السياسي و الديني بين ملوك الأسرة الثانية العشرين و كهنة طيبة خلال عصر  الإنتقال الثالث بإعتبارها واحدة من الفترات التاريخية التى تركت آثارا  بارزة على المستويات السياسية و الدينية و الإجتماعية و التى لا يمكن  إنكارها بأى حال من الأحوال . و أود هنا أن أهدي هذه الدراسة للأستاذ  القدير و المحترم – محمد جادالله – الكاتب ذو الرؤية الثاقبة و الباحث  العلمي الجاد و الدؤوب و صاحب العطاء الذي لا ينتهي .
أطلق البعض من  الباحثين على ملوك الأسرات الثانية و العشرين و الثالثة و العشرين و  الرابعة و العشرين تسمية ( ملوك العصر الليبي ) و لا تزال هذه التسمية  تتأرجح بين القبول و الرفض من جانب علماء المصريات ( أنظر مقال للباحث  بعنوان – إشكالية تمصير الملوك ذوي الأصل الليبي خلال عصر الإنتقال الثالث  بين الحقيقة التاريخية و الأيدولوجيا السياسية ) ، فهناك من يعتبر أن وصف  حكام هذا العصر بإسم ( الليبيين ) ، أو إطلاق إسم ( العصر الليبي ) على تلك  الفترة هو أمر غير دقيق من الناحية العلمية للإعتبارات التالية :
1 –  هؤلاء الحكام لم يكونوا من منشأ و أصل واحد حتى يتم وصفهم بصفة واحدة . فقد  كانوا خليطا من سكان الصحراء الغربية الأقدمين المكونين من عشائر (  الماشواش ) و ( الليبو ) و ( السبد ) و غيرها من القبائل الأخرى الذين  دخلوا مصر بشكل سلمي و على فترات طويلة
2 – إستقرت هذه القبائل في مصر  و لفترات طويلة مما جعلها تتمصر تمصيرا تاما ( و هو ما لا يتفق معه الباحث  بعدما تناول هذه الإشكالية في مقاله السابق ذكره أعلاه ) دما و ثقافة و  سلوكا حتى نسيت منشأها الأول القديم .
3 – إنضم الكثير من قبائل  الماشواش للجيش المصري كمرتزقة و هو ما ساعد على إنصهارهم و ذوبانهم في  الثقافة المصرية و أصبحوا من المدافعيين الوطنيين عن البلاد . إلا أن  الدارس هنا و من خلال عرضه لتفاصيل الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و كهنة  طيبة سيترك الحكم للقاريء على مصداقية هذا الطرح .
و حقيقة الأمر أن  قلة المعارك العسكرية في النصف الثانى من عصر الأسرة العشرين و خلال الأسرة  الحادية و العشرين و ضعف السلطة الملكية نتيجة الأزمات الإقتصادية التى  مرت بها البلاد في نهايات عصر الرعامسة ، أفضى إلى زيادة نفوذ تلك العشائر و  القبائل الأجنبية في البلاد ، بل و أصبح العديد منهم يعيث في الأرض فسادا و  لاسيما في منطقة مساكن عمال دير المدينة في طيبة التى توقف العمل فيها  أكثر من مرة نتيجة للقلاقل التى كان هؤلاء ( المشواش ) يحدثونها ، الأمر  الذي يعكس عدم الإنصهار الثقافي التام لذلك التكوين السياسي في المجتمع  المصري .
و لكن أين إستقرت هذه الجماعات و العشائر في مصر ؟
1 –  تركزت أغلب هذه الجماعات في منطقة الفيوم و لاسيما في إهناسيا بإعتبارها  إحدى مداخل الواحات المصرية التى إستقروا فيها منذ عصر الرعامسة . كما أنها  تعتبر مركزا مناسبا للإستثمار الزراعي و التبادل التجاري .
2 – توزعت بعض جماعاتهم في غرب الدلتا و وسطها في أبوصير الدقهلية و سمنود و منديس .
3 – لا يمكن تجاهل وجود إقطاعيات للمشواش في شرق الدلتا مثل تانيس و تل  بسطة ، الأمر الذي يرجح وجود طبقات أرستقراطية لهم تمركزت في المنطقتين و  هو السبب الذي دعا ( مانيتون ) إلى أن يطلق على ملوك هذه الأسرة ( الأسرة  الثانية و العشرين ) تسمية ( الملوك البوباسطيين )
و هنا يتضح لنا أن  ملوك هذه الأسرة لم يكونوا من الليبيين فقط حتى يتم وصفهم بالملوك الليبيين  . كما أن كلا منهم كان حريصا في ذات الوقت على أن يتخذ لقب ( كبير المشواش  ) إلى جانب لقب ( زعيم الليبيين ) مما يدل على الحقائق التالية :
1 – إعترافهم ضمنا بوجود عنصر المشواش بينهم
2 – غلبت عليهم عناصر الماشواش و قلت فيهم عناصر الليبيين و هو ما أكدته ألقابهم المسجلة على آثار عصرهم
3 – إصرارهم على تلقيبهم بهذه الألقاب الدخيلة على الأيدولوجية السياسية  الملكية المصرية الكلاسيكية يكشف ضمنا عن أنهم لم يتنكروا لأصولهم الأولى و  منشأهم القديم
و عندما نراجع الموقف التاريخي لملوك الأسرة الحادية و  العشرين نجد أن الملك ( بسوسينس الثاني ) آخر ملوكها قام بتزويج إبنته من (  أوسركون ) إبن زعيم الماشواش ( شاشانق ) لتنقل له و لأسرته حق الجلوس على  العرش . و بذلك إعتلى ( شاشانق الأول ) عرش البلاد و أخذ نفس ألقاب أول  ملوك الأسرة الحادية و العشرين ( سمندس ) و قد أدى هذا الحدث إلى عدم  إعتراف كهنة طيبة بشرعية حكم الملك ( شاشانق الأول ) حتى العام الخامس من  حكمه و أن يعيدوا حساباتهم في علاقاتهم بالبيت المالك الجديد مما جعل  الصدام بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة أمرا حتميا لا مفر  منه .
و لكن التساؤل المشروع الذي يطرح نفسه : ما هي مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة ؟
لم يكن من المنتظر أن يرفع كهنة طيبة الراية بسهولة بعدما تولى زمام  الأمور ملوك الأسرة الثانية و العشرين نظرا لأن هؤلاء الملوك و وفقا لتوصيف  كهنة آمون لهم كانوا أجانب لا يحق لهم الجلوس على عرش مصر المقدس .
و كان عدم إعتراف كهنة طيبة بشرعية الملك الحاكم هو بداية الصراع بين الطرفين و قد تمثلت مظاهر هذا الصراع كالآتي :
1 – قام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بإقصاء كبير كهنة آمون و الكاهن  الثاني و الكاهن الثالث لآمون عن مناصبهم و تولى منصب كبير كهنة آمون إبن  الملك و ولي عهده كما وضعوا تحت سيطرته فرقة من الجيش لقمع أى تمرد يقوم به  أهل طيبة
2 – كان هذا الإجراء من قبل الملوك المهجنين يعتبر أمرا  إستفزازيا حيث أن كبير كهنة آمون لم يعد واحدا منهم ، و من ناحية أخرى أصبح  كبير الكهنة الجديد في حالة تربص دائم بأهل طيبة .
3 – لم يعترف كهنة  طيبة بهذا الإجراء الذي لا يكتسب أى شرعية دينية وفقا للمعطيات الدينية  الرسمية المصرية التى تقتضي بأن المناصب الكهنوتية لا يتولاها إلا من كان  مصريا و درج في السلك الكهنوتي فأقبل على تعاليم و شرائع الخدمة الكهنوتية  بكل شروطها المعروفة . و ذلك يعكس أن تمصير المشواش – من منظور و معايير  كهنة طيبة – لم يكن سوى تمصيرا شكليا ، الأمر الذي أقحمهم في صراع مباشر مع  البيت المالك الجديد
4 – قام كل ملك من ملوك الأسرة الثانية و  العشرين بتعيين إبنته حرما مقدسا لآمون ، مما يعنى سيطرتها المباشرة على  كهنوت آمون فأصبحت هذه الوظيفة ذات مغزى سياسي جديد يتمثل في ترهبن زوجة  آمون فلا تتزوج أبدا و من هنا لا يصبح لأحد الحق أن يباشر سلطة السياسية  عليها بعد أن كانت في عصر الأسرة الحادية و العشرين تتزوج من كبير الكهنة .
5 – قام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بتعيين موظفين إتخذوا لقب ( عيون  الملك ) و كانوا ينفذون سياستهم في البلاد و كانوا بلا شك جواسيس للملوك  على كهنة طيبة و أهلها
6 – قام أهل طيبة إزاء كل هذه الإجراءات  بالعديد من الثورات ضد من لا يحق لهم دينيا الحكم ، و كان رد فعل ملوك  الأسرة الثانية و العشرين قاسيا و قويا تجاه هذه الثورات ( التي عبروا عنها  بالتمرد في نصوص معابد الكرنك ) فما كان منهم إلا أن إستباحوا حرمة  المدينة المقدسة و كهنتها القدامى و أحرقوا بعض زعماء الثورات بالنار و هم  أحياء .
و يحق لنا أن نطرح تساؤلا مضمرا في هذا السياق : هل الصراع بين  ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة هو صراع بين قوة محلية وطنية  ضد قوة أجنبية غاشمة أم هو صراع بين قوتين محليتين وطنيتين مما يناقض ما  حاول كهنة آمون تصويره ؟
أما عن النتائج و الآثار المترتبة على الصراع  بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة خلال عصر الإنتقال الثالث  فكانت على النحو التالي :
1 – من الناحية السياسية دخلت مصر في حلقة  مفرغة من الصراع على الحكم . فقد أدت سياسة البيت المالك الجديد في تعيين  ولي العهد كبيرا لكهنة آمون و قائدا للجيش إلى الصراع بين أفراد البيت  المالك نفسه على تولي منصب كبير كهنة آمون . و عندما كان يتولى الحكم أحد  الأمراء و لم يلق تأييد أهل و كهنة طيبة ، نجد كبير كهنة آمون و هو أخوه أو  إبن عمه يسارع بإعلان نفسه ملكا هو الآخر في نفس الوقت . و قد حدث ذلك  مرتان في عهد هذه الأسرة . المرة الأولى عندما حكم الملك ( أوسركون )  الثاني مع إبن عمه ( حور سا إيسه ) و المرة الثانية عندما قام ( بادي باستت  ) و هو من أمراء البيت المالك لتل باسطة بتكوين أسرة جديدة ( الأسرة  الثالثة و العشرين ) في ( لينتوبوليس ) و هي تل المقدام الحالية في محافظة  الدقهلية في الوقت الذي كان الملك ( شاشانق الثالث ) من الأسرة الثانية و  العشرين لا يزال يحكم في تل بسطة مما يعنى أن مصر كان يحكمها ملكان  متعاصران و هو ما شجع الباحثون على تسمية ذلك العصر بالعصر الإنتقالي و  الذي يتسم باللامركزية في السلطة الملكية
2 – كان الأمراء المتطلعون  لتولي منصب كبير كهنة آمون يتزعمون ثورات طيبة أحيانا ضد الإجراءات التى  يتخذها الملك إذا كانت هذه الإجراءات غير مرضية لهم . و قد حدث ذلك عندما  عين الملك ( تكلوت الثاني ) إبنه ( أوسركون ) كبيرا لكهنة آمون فقام ( حور  سا إيسة الثاني ) و هو حفيد ( حور سا إيسة الأول )  بتحريض كهنة طيبة كهنة  طيبة و أهلها على الثورة ضد قرار الملك ( تكلوت الثاني ) لأنه كان يتطلع  لأن يكون هو الملك . و جدير بالذكر أن هذه الأحداث وقعت عقب وفاة كبير كهنة  آمون المدعو ( نمرود ) – و يلاحظ من إسمه أنه لم يكن من منشأ مصري خالص – و  كان على الملك ( تكلوت الثاني ) أن يعين كبيرا للكهنة من بين ثلاث أشخاص  مرشحين لتولي المنصب و هم :
الأول : بتاح وج عنخ إف
الثاني : تكلوت إبن كبير كهنة آمون الراحل ( نمرود )
الثالث : حور سا إيسة الثاني حفيد حور سا إيسة الأول و كاهن آمون الأكبر
و لكن الملك ( تكلوت الثاني ) ضرب بهذه الترشيحات عرض الحائط و إختار إبنه ( أوسركون ) كبيرا لكهنة آمون
3 – و في خضم هذه الصراعات ظهر في ذات الوقت أمير من سايس يدعى ( تاف نخت )  ينتمي للأسرة الثانية و العشرين حيث تلقب بلقب زعيم الليبيين و أعلن نفسه  ملكا و أسس الأسرة الرابعة و العشرين في سايس بل وتقدم بقواته ليستولي على  طيبة بقوة السلاح ( و لنقارن هنا موقف تاف نخت بموقف ملوك الأسرة الحادية و  العشرين الذين تعايشوا سلميا مع كهنة طيبة و أهلها ) فما كان من كهنة و  أهل طيبة سوى أنهم إستنجدوا بملك مملكة نباتا في النوبة العليا و هو الملك (  بي ) من الأسرة الخامسة و العشرين . و مرة أخرى نقوم بطرح تساؤلات علمية  مشروعة : هل محاولات إقتحام مدينة طيبة عسكريا من جانب الملوك المهجنين  يعكس إيمانهم الفعلي بقداسة هذه المدينة و حرمتها ؟ أم يعكس غلبة المصالح  السياسية لديهم على أى إعتبارات أخرى ؟ و هل هؤلاء الملوك تمصروا فعليا كما  يعتقد عدد كبير من الباحثين ؟
4 – أدى الصراع بين الملوك المهجنين و  كهنة طيبة إلى إنحسار الدور السياسي لمدينة طيبة . فلم تعد ذات الثقل  السياسي الذي تميزت به منذ عصر الدولة الوسطى و حتى نهاية الأسرة الحادية و  العشرين بل يمكن التأكيد على نتيجة هامة و هي : إنحسار الدور السياسي  للصعيد بأكمله نتيجة إنحسار دور طيبة السياسي ، حيث أن الأسرات الحاكمة  بداية من الأسرة الثانية و العشرين و حتى نهاية التاريخ المصري القديم كان  حكامها من الدلتا و لا يعني ذلك إضمحلال دور طيبة الديني فقد ظلت هي  المدينة المقدسة ذات السمعة المعروفة و التاريخ الباهر و مدينة أكبر  المعبودات و هو المعبود آمون
5 – من الناحية الدينية لم يعد كبير كهنة  آمون ينتمي للسلك الكهنوتي القديم ، بل أصبح واحدا من أمراء البيت المالك  الجديد هو الذي يتولى ذلك المنصب الكبير
6 – أدى الصراع الشديد بين  الملوك المهجنين و كهنة طيبة أحيانا إلى حرق بعض الكهنة و هم أحياء – و هي  سابقة لم تحدث على الإطلاق في التاريخ المصري القديم – إلى هروب مجموعة من  كهنة طيبة المنشقين إلى مدينة نباتا في النوبة العليا و إستقرارهم فيها  لنشر دعائم و معطيات الثقافة و الحضارة المصرية بين أهلها مما جعل أنصارهم  من الكهنة القدامى يستنجدون بملوك نباتا المتمصرين لتخليصهم من حكم الملوك  المهجنين فقاموا بتدعيمهم و دعوهم صراحة لدخول مصر بالقوة العسكرية تحت  راية المعبود آمون لتحرير طيبة من ملوك عصر الإنتقال الثالث
7 - من  الناحية الإجتماعية إهتم ملوك الأسرة الثانية و العشرين إهتماما متزايدا و  مبالغا بشكليات الدين المصري القديم دون جوهره فزادوا من تسليط الضوء على  العجل أبيس و التمائم و إستشارة وحي آمون و لاسيما في الشمال و قد كانت هذه  المظاهر تمارس قبل الأسرة الثانية و العشرين ، و لكنها لم تكن بهذا الكم  الكبير حتى أن بعض الباحثين يصف عهد الأسرات من 22 إلى 24 بالعصر الذهبي  للتمائم و لوحي آمون . و ننهي هذا المقال بطرح التساؤل التالي :
هل إهتمام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بهذه الشكليات كان أمرا مقصودا لذاته أم كان غير مقصود ؟ .... إن الأمر المؤكد أن تلك الظاهرة أدت لإنغماس و إنخراط عامة الشعب في هذه الشكليات و أصبح الإستغراق فيها من أساسيات الحياة الإجتماعية الدينية خلال عصر الإنتقال الثالث .