بسم الله الرحمن الرحيم
غياب مفهوم التاريخ في الإطار الفكري للحضارة المصرية القديمة ............................................................
.................
هل عرف المصري القديم فن كتابة التاريخ طوال عصور الحضارة المصرية القديمة ؟ .............. يهدف هذا المقال لدراسة الرؤية الفكرية للمصري القديم نحو الأحداث التي وقعت في ماضيه القديم و مدى تناوله و تصوره لما كان يحدث في ماضيه التليد و هل كانت لديه القدرة على رصد التاريخ بمفهومه الزمني الذي يعني ( إدراك وجود تغير في الحاضر يختلف عن ما وقع في الماضي ) ؟
لم تكن الحضارة المصرية تجهل على الإطلاق فن حفظ السجلات و تدوين أهم الأحداث بارزة الأهمية في البلاد ، فقد كان لدى المصري القديم ميلا شديدا لتدوين أهم الوقائع يوما بعد يوم و شهرا إثر شهر على مدى قرون متعددة و ذلك بهدف تقويم أوجه الأنشطة المتعددة في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة ، بل و نجد أحيانا كثيرة مختلف البيانات المتعلقة بأملاك الدولة و عقاراتها و أراضيها و هي مدونة بدقة متناهية و منقطعة النظير .
و من جانب آخر لم تكن الحضارة المصرية القديمة بمنأى عن التغيرات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية و الدينية ، فالدولة القديمة إنتهت بتحلل و إنهيار السلطة المركزية مما جعل البلاد تدخل في إطار مرحلة تاريخية جديدة عرفت بإسم عصر الإنتقال الأول . و لا ريب أن ذلك العصر قد ترك متغيرات فكرية على الحضارة المصرية القديمة إستمرت خلال الدولة الوسطى . كما لم يخلو التاريخ المصري القديم من الأزمات السياسية و الإقتصادية و لا سيما تلك التي وقعت خلال عصر الإنتقال الثالث و العصر المتأخر . و لكن المصري القديم إتخذ موقفا فكريا و ثقافيا تجاه ما وقع من أحداث في الماضي مغايرة تماما لما يفترض من إدراكه و رصده لهذه المتغيرات و حقيقة الأمر أن الحضارة المصرية القديمة و برغم تبنيها للكثير من المتغيرات الفكرية و السياسية و الدينية عبر تاريخها الطويل إلا أنها لم تعترف بوجود هذا التغيير فتجاهلته في معظم الأحيان تماما مثل موقف المصري القديم من قضية الموت الذي لم يقر به و إنما إعتباره مرحلة إنتقالية نحو عالم آخر أبدي .
و لا يمكن تناول أى مظهر من مظاهر الحضارة المصرية القديمة دون التطرق لمفهوم الملكية المؤلهة و التي سعت قدر الإمكان لمعالجة مفهوم التاريخ وفقا لمعطياتها الخاصة . فالملكية في مصر القديمة و منذ نشأتها خلال عصر الأسرة صفر جعلت كل عمل و نشاط تقوم به مكرس لأجل الديمومة و الأبدية و كان كل شكل يعبر عنها في مختلف المجالات الفكرية و المادية يرنو نحو الثبات و الخلود ، و لذلك كانت أعمال العمارة و الفن الملكي و كل ما يرتبط بهما لا تقع في إطار التغيير الجوهري وفقا لمعطياتها الفكرية ، بل هو تغير في الشكل و ليس في الجوهر ، فالملكية تحافظ على المعطيات الدينية المقدسة التي ورثتها من أزمان عتيقة و ذلك عندما كانت الآلهة تحكم بنفسها على الأرض و قامت بقولبتها و تقديمها فقط في صورة و هيئة جديدة . و لعل التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد : ما هي سمات كتابة الماضي لدى المصري القديم ؟
1 – كانت معظم الأحداث المدونة و المصورة على جدران المعابد المصرية القديمة تقع في إطار ( الزمن الدوري ) أي الزمن القابل للتكرار و الإعادة ، فهذه الأحداث ليست سوى تكرارا لوقائع قديمة وقعت في بدء الزمان و يتم إعادة تسجيلها و تدوينها في العصور اللاحقة مع تغيير شكلي لإسم صاحب الحدث ( الملك ) الذي يحل محل إسم صاحب الحدث القديم و ذلك في مقابل الزمن المستقيم أى الزمن الغير قابل للإعادة و غير قابل للتكرار ، فجميع أحداثه تقع مرة واحدة فقط و لا تتكرر و يتم أيضا تصويره وقائعه على جدران المعابد و أحيانا في المقابر و لكن مع الوضع في الإعتبار حقيقة هامة و هي : هيمنة و سيطرة الزمن الدوري على الزمن المستقيم في الحضارة المصرية القديمة ، فالزمن الدوري هو الطابع الغالب و الزمن المستقيم هو الطابع النادر
2 – جميع مناظر الأعياد و الطقوس الدينية فضلا عن معظم مناظر المعارك الحربية تنتمي للزمن الدوري الذي لا يحكي عن تاريخ بقدر ما تظهر مفهوم الديمومة و الأبدية للأعمال الخالدة في محيط ديني مقدس و ثابت ( المعبد أو المقبرة ) و لذا فلا غرابة من تكرار تصوير مشاهد الأعياد اليوبيلية ( الحب سد ) و مناظر إنتصار الملوك على الأعداء التقليدية و مناظر التتويج المتكررة على جدران المعابد هنا و هناك ، فكل ما سبق يقع في إطار الزمن الدوري و لا يقع في إطار الزمن المستقيم .
3 – يبدأ التاريخ عند المصري القديم في اللحظة التى تدخل فيها الآلهة مسرح الأحداث و عند هذه اللحظة أيضا ينتهي التاريخ بكونه حوادث وقعت و إنتهت في زمن الآلهة الأوائل و من هنا يكون التاريخ مجرد مرآة عاكسة للأسطورة . فعصر الآلهة هو زمن الأحداث الكبرى ، فهو العصر الذي شهد كل التحولات و التغيرات و الإنقلابات الكبرى ، ثم جاء فيما بعد زمن الملوك و الذي كان هو الزمن الذي يلتزم فيه كل ملك بما حدث في عصر الآلهة فلا يحيد عنه أبدا ، فجميع الشعائر و الطقوس التي كانت تجرى في المعابد المصرية القديمة كانت تهدف للحفاظ على العالم من الإنهيار و السقوط و كانت تهدف لأن يقلد الملوك ما فعله الآلهة الأوائل عندما حكموا في الزمن الأول ، و لذا و من أجل تحقيق هذا الهدف كان لابد من إستبعاد أية متغيرات يمكن أن تحدث و ذلك لأن أى نوع من الإنقطاع و عدم الإستمرارية يفضي بالضرورة لنهاية العالم . و من هنا نلاحظ أن التاريخ الفعلي في الحضارة المصرية القديمة هو كل ما وقع في زمن المعبودات الأولى ( الأسطورة ) ثم يجيء دور الإنسان لكي يحاكيه و يجعله دائما حاضرا في ذاكرته .
4 – لم يكن الملوك في مصر القديمة يقصون الأحداث التى وقعت في عصرهم دون أن تبرأ بفكرة إرتباطها بزمن الآلهة الأوائل ، فالملك ( أوسركون الثالث ) يصف فيضان النيل القوي في عصره بشكل مبالغ فيه و كأن المشهد برمته إعادة لمشهد الفيضان الأول أو المياه الأزلية الأولى التى كانت تحيط بالكون بأكمله عندما كان العالم يخلق لأول مرة . فهنا و إن كان الحدث حقيقيا إلا أنه يتم رده لزمن أسطوري عتيق بهدف الترويج و الإعلان عن بداية جديدة للعالم و الخلق مليئة بالخيرات و السعادة في عصر أوسركون ، فيختفي التاريخ و ينسحب خلف الأسطورة و يصبح كل حدث مجرد إعادة لما وقع في سالف الزمن .
5 – لم تكن قوائم الملوك في عصر الدولة الحديثة مادة لكتابة التاريخ فهي لم تنشأ لهذا الغرض ، فهي قد تم وضعها داخل المعابد لأهداف دينية طقسية إتجهت نحو تأكيد نقاطا هامة و هي :
أ – أن الملكية في مصر نشأت في زمن الآلهة الأوائل و قامت بتوريثها للملوك اللاحقين الذين تقدس أسمائهم و تماثيلهم داخل المعبد و أن هذه الملكية لن تنقطع عن البلاد أبدا .
ب – إتجهت هذه القوائم إلى سرد تتابع الملوك ، الملك تلو الآخر ، و تتابع العصور ، العصر إثر الآخر ، دون إبراز أى إنقطاع قد حدث بين حكم ملك و آخر و بين عصر و آخر . فالدولة الوسطى تلي مباشرة الدولة القديمة دون إظهار فترة الإنقطاع الحضاري التي تمثلت في عصر الإنتقال الأول ، فهناك إرتباط وثيق بين جميع الفترات و كل الملوك مما يعكس مضمون فكري هام تمثل في تغطية و عدم إظهار أى إنقطاع قد حدث و أى تغيير قد وقع .
ج – تغافلت هذه القوائم عن عمد و لدوافع دينية و سياسية أسماء بعض الملوك الذين حكموا البلاد ، مما يجعلها قوائم أيدولوجية لا تقع في إطار التاريخ المجرد .
6 – إن معظم ما تم تسجيله على جدران المعابد أو المقابر حتى و إن أشار إلى أحداث تاريخية فعلية وقعت في عهد ملك بعينه لم تكن تهدف لرواية التاريخ بقدر ما كانت تتجه نحو إبراز دعاية سياسية و دينية لصاحبها فيؤطر ذكره في دائرة الخلود و تحكى إنجازاته أمام الآلهة للأبد و لا علاقة بذلك بفن كتابة التاريخ .
7 – إن حجر بالرمو و بردية تورين و كتابات مانيتون تبدو مبهمة فيما تقدمه من بيانات و معلومات ، فيعوزها الكثير من فن كتابة التاريخ المتمثلة في دقة الكتابة و تنظيم الوقائع و إظهار التفاصيل المرافقة للأحداث و عدم الإكتفاء بالخطوط العامة . و برغم ذلك تعتبر هذه الوثائق محاولة إيجابية مبكرة من المصري القديم في عملية تدوين الأحداث الماضية دون إعتبارها وثائق تتمع بدرجة عالية من الدقة التاريخية .
8 – برغم تدوين أحداث و وقائع متعددة في السجلات الملكية و الفردية ، إلا أننا نلاحظ أن اللغة المصرية القديمة لا تتضمن كلمة ( تاريخ ) أو ( مؤرخ ) و لم تكن هناك هيئة داخل المجتمع المصري القديم على معرفة بالعلوم التاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معاني . و ربما يرجع ذلك إلى إتجاه المصري القديم ناحية الثوابت و اللامتغيرات في معظم الأحيان و لذا يصبح المفهوم التاريخي وفقا لما تقدم أمرا غريبا عن نظام الملكية المصرية القديمة التى تميزت بالفكر الثيوقراطي ( الديني الإلهي ) و الذي يلتزم بفكرة التطابق بين الماضي و الحاضر ، فما وقع في الماضي هو ما سيقع في الحاضر و هو أيضا ما سوف يحدث في المستقبل .
9 - قام الفكر المصري القديم عند كتابته لماضيه و عند رؤيته لما وقع في عصره بتطوير القديم بحيث يبدو جديدا ، فيقوم بقولبة الشكل القديم في إطار شكلي جديد و مبدع دون أن يعتبر أنه قام بتغيير الجوهر ، و يتمكن بذلك من الإنسجام مع القديم حتى و إن كانت هناك مدة شاسعة تفصل بين القديم و الجديد ، فكلما تطور القديم و ظهر في صورة جديدة ، أصبح القديم حاضرا و كأنه لم يكن قديم ، فتزول غرابته مع مرور الزمن . و من هنا ندرك لماذا كان الملوك يسنسخون آثار أسلافهم أو يفكوها و يقومون بإعادة وضعها في آثارهم الحديثة أو يقومون بإعادة وضع أسمائهم على آثار أسلافهم القديمة ، فالماضي هنا صفة و سمة نموذجية للإستنساخ و إعادة البناء ، فالماضي هنا يصبح و كأنه لم يكن ماضيا على الإطلاق .
و لهذه الدوافع السابقة لم تترك مصر ماضيها و لم تجعل منه حوادثا قابلة للرواية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق