الاثنين، 30 يوليو 2012

غياب مفهوم التاريخ في الإطار الفكري للحضارة المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

غياب مفهوم التاريخ في الإطار الفكري للحضارة المصرية القديمة ............................................................
.................
 هل عرف المصري القديم فن كتابة التاريخ طوال عصور الحضارة المصرية القديمة  ؟ .............. يهدف هذا المقال لدراسة الرؤية الفكرية للمصري القديم  نحو الأحداث التي وقعت في ماضيه القديم و مدى تناوله و تصوره لما كان يحدث  في ماضيه التليد و هل كانت لديه القدرة على رصد التاريخ بمفهومه الزمني  الذي يعني ( إدراك وجود تغير في الحاضر يختلف عن ما وقع في الماضي ) ؟
لم تكن الحضارة المصرية تجهل على الإطلاق فن حفظ السجلات و تدوين أهم  الأحداث بارزة الأهمية في البلاد ، فقد كان لدى المصري القديم ميلا شديدا  لتدوين أهم الوقائع يوما بعد يوم و شهرا إثر شهر على مدى قرون متعددة و ذلك  بهدف تقويم أوجه الأنشطة المتعددة في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة ، بل و  نجد أحيانا كثيرة مختلف البيانات المتعلقة بأملاك الدولة و عقاراتها و  أراضيها و هي مدونة بدقة متناهية و منقطعة النظير .
و من جانب آخر لم  تكن الحضارة المصرية القديمة بمنأى عن التغيرات السياسية و الإقتصادية و  الإجتماعية و الدينية ، فالدولة القديمة إنتهت بتحلل و إنهيار السلطة  المركزية مما جعل البلاد تدخل في إطار مرحلة تاريخية جديدة عرفت بإسم عصر  الإنتقال الأول . و لا ريب أن ذلك العصر قد ترك متغيرات فكرية على الحضارة  المصرية القديمة إستمرت خلال الدولة الوسطى . كما لم يخلو التاريخ المصري  القديم من الأزمات السياسية و الإقتصادية و لا سيما تلك التي وقعت خلال عصر  الإنتقال الثالث و العصر المتأخر . و لكن المصري القديم إتخذ موقفا فكريا و  ثقافيا تجاه ما وقع من أحداث في الماضي مغايرة تماما لما يفترض من إدراكه و  رصده لهذه المتغيرات و حقيقة الأمر أن الحضارة المصرية القديمة و برغم  تبنيها للكثير من المتغيرات الفكرية و السياسية و الدينية عبر تاريخها  الطويل إلا أنها لم تعترف بوجود هذا التغيير فتجاهلته في معظم الأحيان  تماما مثل موقف المصري القديم من قضية الموت الذي لم يقر به و إنما إعتباره  مرحلة إنتقالية نحو عالم آخر أبدي .
و لا يمكن تناول أى مظهر من مظاهر  الحضارة المصرية القديمة دون التطرق لمفهوم الملكية المؤلهة و التي سعت  قدر الإمكان لمعالجة مفهوم التاريخ وفقا لمعطياتها الخاصة . فالملكية في  مصر القديمة و منذ نشأتها خلال عصر الأسرة صفر جعلت كل عمل و نشاط تقوم به  مكرس لأجل الديمومة و الأبدية و كان كل شكل يعبر عنها في مختلف المجالات  الفكرية و المادية يرنو نحو الثبات و الخلود ، و لذلك كانت أعمال العمارة و  الفن الملكي و كل ما يرتبط بهما لا تقع في إطار التغيير الجوهري وفقا  لمعطياتها الفكرية ، بل هو تغير في الشكل و ليس في الجوهر ، فالملكية تحافظ  على المعطيات الدينية المقدسة التي ورثتها من أزمان عتيقة و ذلك عندما  كانت الآلهة تحكم بنفسها على الأرض و قامت بقولبتها و تقديمها فقط في صورة و  هيئة جديدة .   و لعل التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا الصدد : ما هي سمات  كتابة الماضي لدى المصري القديم ؟
1 – كانت معظم الأحداث المدونة و  المصورة على جدران المعابد المصرية القديمة تقع في إطار ( الزمن الدوري )  أي الزمن القابل للتكرار و الإعادة ، فهذه الأحداث ليست سوى تكرارا لوقائع  قديمة وقعت في بدء الزمان و يتم إعادة تسجيلها و تدوينها في العصور اللاحقة  مع تغيير شكلي لإسم صاحب الحدث ( الملك ) الذي يحل محل إسم صاحب الحدث  القديم و ذلك في مقابل الزمن المستقيم أى الزمن الغير قابل للإعادة و غير  قابل للتكرار ، فجميع أحداثه تقع مرة واحدة فقط و لا تتكرر و يتم أيضا  تصويره وقائعه على جدران المعابد و أحيانا في المقابر و لكن مع الوضع في  الإعتبار حقيقة هامة و هي : هيمنة و سيطرة الزمن الدوري على الزمن المستقيم  في الحضارة المصرية القديمة ، فالزمن الدوري هو الطابع الغالب و الزمن  المستقيم هو الطابع النادر
2 – جميع مناظر الأعياد و الطقوس الدينية  فضلا عن معظم مناظر المعارك الحربية تنتمي للزمن الدوري الذي لا يحكي عن  تاريخ بقدر ما تظهر مفهوم الديمومة و الأبدية للأعمال الخالدة في محيط ديني  مقدس و ثابت ( المعبد أو المقبرة ) و لذا فلا غرابة من تكرار تصوير مشاهد  الأعياد اليوبيلية ( الحب سد ) و مناظر إنتصار الملوك على الأعداء  التقليدية و مناظر التتويج المتكررة على جدران المعابد هنا و هناك ، فكل ما  سبق يقع في إطار الزمن الدوري و لا يقع في إطار الزمن المستقيم .
3 –  يبدأ التاريخ عند المصري القديم في اللحظة التى تدخل فيها الآلهة مسرح  الأحداث و عند هذه اللحظة أيضا ينتهي التاريخ بكونه حوادث وقعت و إنتهت في  زمن الآلهة الأوائل و من هنا يكون التاريخ مجرد مرآة عاكسة للأسطورة . فعصر  الآلهة هو زمن الأحداث الكبرى ، فهو العصر الذي شهد كل التحولات و  التغيرات و الإنقلابات الكبرى ، ثم جاء فيما بعد زمن الملوك و الذي كان هو  الزمن الذي يلتزم فيه كل ملك بما حدث في عصر الآلهة فلا يحيد عنه أبدا ،  فجميع الشعائر و الطقوس التي كانت تجرى في المعابد المصرية القديمة كانت  تهدف للحفاظ على العالم من الإنهيار و السقوط و كانت تهدف لأن يقلد الملوك  ما فعله الآلهة الأوائل عندما حكموا في الزمن الأول ، و لذا و من أجل تحقيق  هذا الهدف كان لابد من إستبعاد أية متغيرات يمكن أن تحدث و ذلك لأن أى نوع  من الإنقطاع و عدم الإستمرارية يفضي بالضرورة لنهاية العالم . و من هنا  نلاحظ أن التاريخ الفعلي في الحضارة المصرية القديمة هو كل ما وقع في زمن  المعبودات الأولى ( الأسطورة ) ثم يجيء دور الإنسان لكي يحاكيه و يجعله  دائما حاضرا في ذاكرته .
4 – لم يكن الملوك في مصر القديمة يقصون  الأحداث التى وقعت في عصرهم دون أن تبرأ بفكرة إرتباطها بزمن الآلهة  الأوائل ، فالملك ( أوسركون الثالث ) يصف فيضان النيل القوي في عصره بشكل  مبالغ فيه و كأن المشهد برمته إعادة لمشهد الفيضان الأول أو المياه الأزلية  الأولى التى كانت تحيط بالكون بأكمله عندما كان العالم يخلق لأول مرة .  فهنا و إن كان الحدث حقيقيا إلا أنه يتم رده لزمن أسطوري عتيق بهدف الترويج  و الإعلان عن بداية جديدة للعالم و الخلق مليئة بالخيرات و السعادة في عصر  أوسركون ، فيختفي التاريخ و ينسحب خلف الأسطورة و يصبح كل حدث مجرد إعادة  لما وقع في سالف الزمن .
5 – لم تكن قوائم الملوك في عصر الدولة  الحديثة مادة لكتابة التاريخ فهي لم تنشأ لهذا الغرض ، فهي قد تم وضعها  داخل المعابد لأهداف دينية طقسية إتجهت نحو تأكيد نقاطا هامة و هي :
أ  – أن الملكية في مصر نشأت في زمن الآلهة الأوائل و قامت بتوريثها للملوك  اللاحقين الذين تقدس أسمائهم و تماثيلهم داخل المعبد و أن هذه الملكية لن  تنقطع عن البلاد أبدا .
ب – إتجهت هذه القوائم إلى سرد تتابع الملوك ،  الملك تلو الآخر ، و تتابع العصور ، العصر إثر الآخر ، دون إبراز أى  إنقطاع قد حدث بين حكم ملك و آخر و بين عصر و آخر . فالدولة الوسطى تلي  مباشرة الدولة القديمة دون إظهار فترة الإنقطاع الحضاري التي تمثلت في عصر  الإنتقال الأول ، فهناك إرتباط وثيق بين جميع الفترات و كل الملوك مما يعكس  مضمون فكري هام تمثل في تغطية و عدم إظهار أى إنقطاع قد حدث و أى تغيير قد  وقع .
ج – تغافلت هذه القوائم عن عمد و لدوافع دينية و سياسية أسماء  بعض الملوك الذين حكموا البلاد ، مما يجعلها قوائم أيدولوجية لا تقع في  إطار التاريخ المجرد .
6 – إن معظم ما تم تسجيله على جدران المعابد أو  المقابر حتى و إن أشار إلى أحداث تاريخية فعلية وقعت في عهد ملك بعينه لم  تكن تهدف لرواية التاريخ بقدر ما كانت تتجه نحو إبراز دعاية سياسية و دينية  لصاحبها فيؤطر ذكره في دائرة الخلود و تحكى إنجازاته أمام الآلهة للأبد و  لا علاقة بذلك بفن كتابة التاريخ .
7 – إن حجر بالرمو و بردية تورين و  كتابات مانيتون تبدو مبهمة فيما تقدمه من بيانات و معلومات ، فيعوزها  الكثير من فن كتابة التاريخ المتمثلة في دقة الكتابة و تنظيم الوقائع و  إظهار التفاصيل المرافقة للأحداث و عدم الإكتفاء بالخطوط العامة . و برغم  ذلك تعتبر هذه الوثائق محاولة إيجابية مبكرة من المصري القديم في عملية  تدوين الأحداث الماضية دون إعتبارها وثائق تتمع بدرجة عالية من الدقة  التاريخية .
8 – برغم تدوين أحداث و وقائع متعددة في السجلات الملكية و  الفردية ، إلا أننا نلاحظ أن اللغة المصرية القديمة لا تتضمن كلمة ( تاريخ  ) أو ( مؤرخ ) و لم تكن هناك هيئة داخل المجتمع المصري القديم على معرفة  بالعلوم التاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معاني . و ربما يرجع ذلك إلى  إتجاه المصري القديم ناحية الثوابت و اللامتغيرات في معظم الأحيان و لذا  يصبح المفهوم التاريخي وفقا لما تقدم أمرا غريبا عن نظام الملكية المصرية  القديمة التى تميزت بالفكر الثيوقراطي ( الديني الإلهي ) و الذي يلتزم  بفكرة التطابق بين الماضي و الحاضر ، فما وقع في الماضي هو ما سيقع في  الحاضر و هو أيضا ما سوف يحدث في المستقبل .
9 - قام الفكر المصري  القديم عند كتابته لماضيه و عند رؤيته لما وقع في عصره بتطوير القديم بحيث  يبدو جديدا ، فيقوم بقولبة الشكل القديم في إطار شكلي جديد و مبدع دون أن  يعتبر أنه قام بتغيير الجوهر ، و يتمكن بذلك من الإنسجام مع القديم حتى و  إن كانت هناك مدة شاسعة تفصل بين القديم و الجديد ، فكلما تطور القديم و  ظهر في صورة جديدة ، أصبح القديم حاضرا و كأنه لم يكن قديم ، فتزول غرابته  مع مرور الزمن . و من هنا ندرك لماذا كان الملوك يسنسخون آثار أسلافهم أو  يفكوها و يقومون بإعادة وضعها في آثارهم الحديثة أو يقومون بإعادة وضع  أسمائهم على آثار أسلافهم القديمة ، فالماضي هنا صفة و سمة نموذجية  للإستنساخ و إعادة البناء ، فالماضي هنا يصبح و كأنه لم يكن ماضيا على  الإطلاق .
و لهذه الدوافع السابقة لم تترك مصر ماضيها و لم تجعل منه حوادثا قابلة للرواية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق