الجمعة، 27 يوليو 2012

الدلالات الدينية و السياسية لأسطورة مذهب الخلق في طيبة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الدلالات الدينية و السياسية لأسطورة مذهب الخلق في طيبة .............................................................................
هذه الدراسة الموجزة هي صورة مصغرة لبحث قام بتقديمه كاتبه عندما كان طالبا في دبلوم الدراسات العليا لقسم الآثار المصرية لجامعة القاهرة في عام 2006 في مادة التاريخ المصري القديم . و من هنا فقد قرر إعادة كتابته مرة أخرى في صورة موجزة بعدما قام بتعديله و إضافة بعض النقاط الهامة التى طرأت على هذا الموضوع 
يتناول هذا المقال تحليل أسطورة مذهب الخلق في طيبة و الكشف عن أهم الأهداف الدينية و السياسية لذلك المذهب و الذي تم تسجيل صياغته الأولى على جدران معبد هابو الصغير في عصر الإنتقال الثالث بدءا من عصر الأسرة الحادية و العشرين و إكتملت صياغته في العصر المتأخر و لا سيما في عصر الأسرة الخامسة و العشرين . قام أنصار المعبود ( آمون ) في طيبة بصياغة أسطورة مذهبهم الخلقي على عدد من المراحل و الخطوات و الهامة تمثلت فيما يلي :
1 – قام معبود الخلق الأول بخلق نفسه من نفسه عندما كان وحيدا في المياه الأزلية الأولى ثم قضى وقتا من الزمن بمفرده إلى أن إستقر في مكان مقدس يأوي إليه إلى الأبد و لم يكن هذا المعبود الأول سوى ( آمون ) بمعنى الخفي أو المستتر أى خفاء هيئته الأولى التى ظهر عليها . كما أطلق عليه كهنة طيبة لقب ( آمون رن إف ) بمعنى خفي هو إسمه .
2 – لما أتم هذا المعبود الأول زمنا قضاه بمفرده و إتجه ليسكن و يستقر في عالم آخر سفلي بعيد ، أطلق عليه كهنته لقب ( كم آت إف ) بمعنى الذي أكمل زمنه أو الذي أتم عهده . كما منحوه مجازا هيئة الثعبان الصغير و تصوروا أن مأواه و مقره الأخير الذي إستقر فيه بعدما إكتمل عهده يوجد في عالم سفلي بعيد يقع مدخله عند معبد مدينة هابو الصغير الذي أطلقوا عليه لقب ( إيات جامت ) بمعنى ( تل جامت الأزلي ) و هو أقدم تل أزلى ظهر للوجود طبقا لما ورد في مذهب الخلق في طيبة 
3 – إن إتجاه ( كم آت إف ) إلى مأواه الذي إستقر فيه لم يكن يعني موته النهائي . بل هو الكمون المؤقت لفعاليات الإله حتى يسترد بعثه و إعادة إحيائه و بث النشاط فيه من جديد ، و لذا فقد قام بخلق كيان آخر خرج من نفسه و لم يكن سوى المعبود ( إير تا ) بمعنى خالق الأرض و الذي تجسد في صورة ثعبان آخر أطلقوا عليه لقب ( آمون ) أيضا و تولى عملية خلق الأرض أو التل الأزلي الأول . 
4 – قام ( إير تا ) بخلق أرباب الثامون من نفسه و ذلك في ذات المكان الذي تم فيه تشييد معبد الأقصر على البر الشرقي للنيل بعد إنتقاله إليه من ( تل جامت – معبد هابو الصغير ) و من هنا تم إعتبار ( إير تا ) إبنا ( لكم آت إف ) و ( أبا للثامون )
5 – غادر ( إير تا ) رب طيبة مقره القديم و إتجه في صحبة الثامون إلى حيث نشأت مدينة الأشمونين في مرحلة لاحقة – طبقا لمعطيات الأسطورة – و تجلى هناك في صورة أحد أعضاء الثامون و الذي كان يدعى أيضا بإسم ( آمون ) ، و استمرت له الهيمنة و السيطرة على بقية أعضاء الثامون في الأشمونين فكان هو ( الصورة المثلى لهم ) و لم يكونوا هم سوى مجرد صفات له . 
6 – أصبح آمون الأشمونين ربا للهواء هناك ( و هي الصفة التى كان أنصاره قد منحوها له في بداية عصر الدولة الحديثة على جدران معابد طيبة ) فكان واهبا لنفس الحياة و شريكا في خلق الشمس ، كما إندمج و إتحد بإله الأشمونين الرئيسي المعبود ( جحوتي ) و نظرا لما وصل إليه آمون في تلك المرحلة إتجه أتباعه إلى منحه لقبا هاما و هو ( آمون رع ) و الذي لم يكن سوى إشارة مستترة لربوبيته للشمس 
7 – قرر أرباب ثامون الأشمونين ان ينصبوا معبود الشمس في هيئته الجديدة ( آمون رع ) خليفة لهم . فإتجهوا معه إلى زيارة المدن التى أصبحت على قدر من المكانة الدينية و الأهمية السياسية في تاريخ مصر القديم ، فذهبوا أولا إلى ( عين شمس ) و قضوا فيها زمنا و جعلوا فيها لآمون رع شأنا كبيرا ثم إتجهوا إلى ( مدينة الأشمونين ) و هناك زعموا له ربوبية الهواء ثم إنطلقوا معه إلى ( مدينة منف ) فمنحوه هناك عرش ربها ( بتاح ) .
8 – بعد أن إكتملت الجولات الثلاث لأرباب الأشمونين في تلك المدن و أتموا عهدهم إلى رب الشمس ( آمون رع ) عادوا مرة أخرى إلى طيبة و إستقروا عند العالم السفلي البعيد في معبد هابو الصغير حيث إستقر قبلهم ( كم آت إف ) و هو أصلهم الأزلي القديم . 
يتضح لنا مما سبق أن الصور و الهيئات المختلفة التى نسجها أصحاب أسطورة مذهب الخلق في طيبة للمعبود آمون رع و الجولات الثلاث التى إفترضوا قيامه بها لم تكن سوى مزاعم أسطورية أيدولوجية ، إبتغوا من خلالها أن يؤكدوا على عدد من الدلالات الدينية و السياسية التى تمثلت فيما يلي : 
1 – ان معبود عين شمس الذي قام بخلق الكون في بدء الزمان لم يكن ( رع آتوم ) – طبقا لما ورد في أسطورة الخلق لعين شمس التى نسجها أتباعه – و إنما كان ( آمون رع ) الذي كان منشأه الأصلي من مدينة طيبة و ليس عين شمس .
2 – أن كل القدرات و الصفات الإلهية الخارقة التى منحها أصحاب مذاهب الخلق الأخرى في عين شمس و الأشمونين و منف لأربابهم آلت في نهاية المطاف لآمون رع بعدما زعم أنصاره أنها منحت له في تلك المدن و إستقر بها في طيبة . 
3 – برغم ظهور آمون رع في أسطورة المذهب الطيبي كخليفة لمعبودات الخلق الأوائل و وريثا لعروشهم ، إلا أنه لم يكن سوى التجلي الأول لأقدم معبود خالق عرفوه بإسم ( كم آت إف ) – الذي أكمل زمنه – فذلك المعبود الخفي هو الصورة الأزلية الأولى لآمون رع بعدما تجلى في هيئة الثعبان الأول في المياه الأزلية الأولى . و من هنا يصبح آمون أقدم زمنيا في الظهور من أرباب عين شمس و الأشمونين و منف 
4 – لم يكن الجوهر الإلهي لمعابد طيبة كلها مثل الكرنك و الأقصر و هابو و غيرها سوى جوهر واحد تعددت أشكاله و صفاته و قدراته و ألقابه ، إلا أنها ترتد جميعا لمنشأ واحد و هو ( آمون رع ) 
5 – لم يكن أصل أرباب الثامون من مدينة الأشمونين – طبقا لما نادى به مذهب الخلق في طيبة – بل كان منشأهم من مدينة طيبة ، فكما نرى فقد خلقهم أبيهم ( إير تا ) في الموقع الذي تم تشييد معبد الأقصر فيه ، و ماكان ذهابهم و تواجدهم في الأشمونين فيما بعد إلا لتثبيت مكانة آمون رع و إعلاء شأنه و إضفاء عدد من القدرات و الصفات العظيمة عليه ، فهناك أصبح ربا للحياة و الهواء و واهبا لنفس الحياة و شريكا في خلق الشمس مما جعله مؤهلا لأن يأخذ لقب ( آمون رع ) إعلانا لسيطرته و ألوهيته على معبود الشمس ( رع ) 
6 – لا ينبغي لنا أن نغفل أن الثامون قد إستقر في نهاية المطاف و دفن أعضائه في مدينة طيبة – وفقا لمزاعم كهنة آمون – بمعنى أنهم لم ينشئوا في الأشمونين مثلما كان يعتقد كهنتها و أن آمون كان أهم أعضاء الثامون و صورتهم المثلى الأولى و ذلك في مقابل أسطورة الأشمونين التى تجعل آمون مجرد عضو من أعضاء آلهة الثامون الذي إشتركوا جميعا في خلق الكون . فالثامون هم أبناء للمعبود إير تا و الذي لم يكن سوى تجلي قديم لصورة أزلية أقدم للمعبود كم آت إف و الذي لم يكن في حقيقة أمره سوى صورة آمون الأولى في بدء الزمان . 
7 – أن الإله الأزلي القديم ( كم آت إف ) الذي ظهر في هيئة الثعبان المجازية لم يكن سوى با أوزير ) بمعنى الروح العظيمة للمعبود أوزير و هو ما ذكرته نصوص معبد هابو الصغير . فإذا ما وضعنا في الإعتبار أن المعبود أوزير كان يجسد فيضان النيل منذ عصر الدولة القديمة – مثلما أشارت نصوص الأهرام إلى ذلك – فإن ذلك يعني أن كم آت إف أو صورة آمون الأولى هو العنصر الفعال و الكامن في الفيضان نفسه و هو ما يعنى أنه السبب الرئيسي في وهب الخصوبة للأرض و هو ما كان دافعا لأتباعه لكي يمنحوه لقب ( با إن كمت ) بمعنى روح مصر أو في ترجمة أخرى قدرة مصر . 
8 – أن المعبود آمون في صورته الأزلية الأولى ( كم آت إف ) حتى و إن إتجه نحو عالم سفلي آخر بعيد إلا أن تأثيره على عالم الدنيا لم ينقطع ، فهو السبب الرئيسي الذي يأتي بالفيضان من العالم السفلي عند ( تل جامت – معبد هابو الصغير ) إلى أرض مصر حيث يوجد عالم الأحياء . 
9 – نلاحظ هنا بداية إتحاد و إندماج المعبود ( آمون ) مع ( أوزير ) في عصري الإنتقال الثالث و المتأخر و ذلك من خلال وصف ( كم آت إف ) صورة آمون الأولى بأنه ( با أوزير ) مما يرجح إزدياد نفوذ و شعبية المذهب الأوزيري في ذلك العصر و لا سيما في طيبة و هو أمر يشهد عليه وجود مقاصير للعبادة الأوزيرية في معابد الكرنك تم تشييدها خلال عصري الإنتقال الثالث و المتأخر فضلا عن إنتشار فكرة القبور ذات السمات المعمارية الدينية الأوزيرية في مصر كلها ، مما كان سببا في وضع أوزير كجيل أول مع آمون الخالق و إشتراكه في خلق الكون و هو الأمر الذي لم يحدث في مذاهب الخلق الأخرى .
10 – إن أسطورة مذهب الخلق في طيبة ترتبط إرتباطا وثيقا بالملكية ( مثلما كان الحال في جميع مذاهب الخلق الأخرى ) ، فقد كانت هناك علاقة قوية بين خلق الكون و السلطة الملكية ، فقد كان ذلك أحد الأهداف الرئيسية من تأليف و صياغة أى أسطورة تتناول كيفية خلق الكون في مصر . فقد ذكرت نصوص معبد هابو الصغير أن الثامون و قبل أن يستقر في تل جامت ( معبد هابو الصغير ) قام بمنح ملكية مصر و ميراث الأرضين إلى حورس إبن إيزيس وريث الثامون و لم يكن حورس إبن إيزيس في حقيقة أمره سوى تجسيد و تجلي فعلي لأى ملك يتولى زمام الأمور في البلاد . 
11 – إرتبط مذهب الخلق في طيبة بأعياد المدينة في عصري الإنتقال الثالث و المتأخر . فقد قام ( إير تا ) بخلق الثامون عند معبد الأقصر قبل أن يتجهوا سويا للمدن الدينية الثلاث – عين شمس و الأشمونين و منف – و عندما عادوا من جولاتهم و قبل أن يستقروا مع أبيهم إير تا في ( تل جامت ) معبد هابو الصغير ، خرجت صورة أخرى لإير تا من نفسه لم تكن سوى ( آمون كا موت إف ) رب معبد الأقصر و الذي يعني آمون فحل أمه أو بمعنى أدق الثور الذي يعيد إنجاب نفسه من جديد بتخصيبه لأمه ، ( فآمون كا موت إف ) و ( إير تا ) وجهان لعملة واحدة . و هو لقب يدل على نشأة ذاتية و أزلية متفردة ، فلم يكن سبب وجوده في العالم ، إله آخر سابق عليه في الوجود زمنيا مما يحقق أحد الأهداف الرئيسية لمذهب الخلق في طيبة و نظرا لظهور آمون كا موت إف في معبد الأقصر و هو مكفن بالرداء الأوزيري فضلا عن انتصاب عضو الخصوبة لديه فقد كان ذلك قرينة على إحتوائه لصفتي موته و إعادة ميلاده من جديد من خلال قدرته الإخصابية . و لهذا السبب تم إعتباره حلقة وصل بين عالم الأحياء و الأموات ، فاتجه أنصاره لأن يقيموا له عيدا دينيا هاما كان يمارس مرة كل عشرة أيام ، يتمكن من خلاله أن يربط ما بين الأحياء و الأموات و أن يصل الماضي بالحاضر و أن يعمل على ربط الوحدات الزمنية ببعضها البعض مما يعنى إستمرارية و تواصل الزمن في الكون . و لذا فقد كان يخرج ( آمون كا موت إف ) من معبده في الأقصر في موكبه و يعبر النيل لكي يتجه إلى معبد هابو الصغير ( تل جامت ) في البر الغربي لزيارة أبيه ( كم آت إف ) و أبنائه ( أعضاء الثامون ) الذين تم خلقهم من صلبه ، فيصب لهم مياه الحياة ( عنخ ) و القوة ( واس ) و يقدم لهم القرابين فيعيد بذلك إحيائهم من جديد ، فتصبح لديه القدرة على دخول العالم الآخر عند معبد هابو الصغير و العودة منه إلى عالم الدنيا مرة أخرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق