بسم الله الرحمن الرحيم
( مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة و النتائج المترتبة عليه في عصر الإنتقال الثالث )
............................................................
............................................................
.................
يتناول الدارس في هذا البحث الموجز مظاهر و أشكال الصراع و التنافس السياسي و الديني بين ملوك الأسرة الثانية العشرين و كهنة طيبة خلال عصر الإنتقال الثالث بإعتبارها واحدة من الفترات التاريخية التى تركت آثارا بارزة على المستويات السياسية و الدينية و الإجتماعية و التى لا يمكن إنكارها بأى حال من الأحوال . و أود هنا أن أهدي هذه الدراسة للأستاذ القدير و المحترم – محمد جادالله – الكاتب ذو الرؤية الثاقبة و الباحث العلمي الجاد و الدؤوب و صاحب العطاء الذي لا ينتهي .
أطلق البعض من الباحثين على ملوك الأسرات الثانية و العشرين و الثالثة و العشرين و الرابعة و العشرين تسمية ( ملوك العصر الليبي ) و لا تزال هذه التسمية تتأرجح بين القبول و الرفض من جانب علماء المصريات ( أنظر مقال للباحث بعنوان – إشكالية تمصير الملوك ذوي الأصل الليبي خلال عصر الإنتقال الثالث بين الحقيقة التاريخية و الأيدولوجيا السياسية ) ، فهناك من يعتبر أن وصف حكام هذا العصر بإسم ( الليبيين ) ، أو إطلاق إسم ( العصر الليبي ) على تلك الفترة هو أمر غير دقيق من الناحية العلمية للإعتبارات التالية :
1 – هؤلاء الحكام لم يكونوا من منشأ و أصل واحد حتى يتم وصفهم بصفة واحدة . فقد كانوا خليطا من سكان الصحراء الغربية الأقدمين المكونين من عشائر ( الماشواش ) و ( الليبو ) و ( السبد ) و غيرها من القبائل الأخرى الذين دخلوا مصر بشكل سلمي و على فترات طويلة
2 – إستقرت هذه القبائل في مصر و لفترات طويلة مما جعلها تتمصر تمصيرا تاما ( و هو ما لا يتفق معه الباحث بعدما تناول هذه الإشكالية في مقاله السابق ذكره أعلاه ) دما و ثقافة و سلوكا حتى نسيت منشأها الأول القديم .
3 – إنضم الكثير من قبائل الماشواش للجيش المصري كمرتزقة و هو ما ساعد على إنصهارهم و ذوبانهم في الثقافة المصرية و أصبحوا من المدافعيين الوطنيين عن البلاد . إلا أن الدارس هنا و من خلال عرضه لتفاصيل الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و كهنة طيبة سيترك الحكم للقاريء على مصداقية هذا الطرح .
و حقيقة الأمر أن قلة المعارك العسكرية في النصف الثانى من عصر الأسرة العشرين و خلال الأسرة الحادية و العشرين و ضعف السلطة الملكية نتيجة الأزمات الإقتصادية التى مرت بها البلاد في نهايات عصر الرعامسة ، أفضى إلى زيادة نفوذ تلك العشائر و القبائل الأجنبية في البلاد ، بل و أصبح العديد منهم يعيث في الأرض فسادا و لاسيما في منطقة مساكن عمال دير المدينة في طيبة التى توقف العمل فيها أكثر من مرة نتيجة للقلاقل التى كان هؤلاء ( المشواش ) يحدثونها ، الأمر الذي يعكس عدم الإنصهار الثقافي التام لذلك التكوين السياسي في المجتمع المصري .
و لكن أين إستقرت هذه الجماعات و العشائر في مصر ؟
1 – تركزت أغلب هذه الجماعات في منطقة الفيوم و لاسيما في إهناسيا بإعتبارها إحدى مداخل الواحات المصرية التى إستقروا فيها منذ عصر الرعامسة . كما أنها تعتبر مركزا مناسبا للإستثمار الزراعي و التبادل التجاري .
2 – توزعت بعض جماعاتهم في غرب الدلتا و وسطها في أبوصير الدقهلية و سمنود و منديس .
3 – لا يمكن تجاهل وجود إقطاعيات للمشواش في شرق الدلتا مثل تانيس و تل بسطة ، الأمر الذي يرجح وجود طبقات أرستقراطية لهم تمركزت في المنطقتين و هو السبب الذي دعا ( مانيتون ) إلى أن يطلق على ملوك هذه الأسرة ( الأسرة الثانية و العشرين ) تسمية ( الملوك البوباسطيين )
و هنا يتضح لنا أن ملوك هذه الأسرة لم يكونوا من الليبيين فقط حتى يتم وصفهم بالملوك الليبيين . كما أن كلا منهم كان حريصا في ذات الوقت على أن يتخذ لقب ( كبير المشواش ) إلى جانب لقب ( زعيم الليبيين ) مما يدل على الحقائق التالية :
1 – إعترافهم ضمنا بوجود عنصر المشواش بينهم
2 – غلبت عليهم عناصر الماشواش و قلت فيهم عناصر الليبيين و هو ما أكدته ألقابهم المسجلة على آثار عصرهم
3 – إصرارهم على تلقيبهم بهذه الألقاب الدخيلة على الأيدولوجية السياسية الملكية المصرية الكلاسيكية يكشف ضمنا عن أنهم لم يتنكروا لأصولهم الأولى و منشأهم القديم
و عندما نراجع الموقف التاريخي لملوك الأسرة الحادية و العشرين نجد أن الملك ( بسوسينس الثاني ) آخر ملوكها قام بتزويج إبنته من ( أوسركون ) إبن زعيم الماشواش ( شاشانق ) لتنقل له و لأسرته حق الجلوس على العرش . و بذلك إعتلى ( شاشانق الأول ) عرش البلاد و أخذ نفس ألقاب أول ملوك الأسرة الحادية و العشرين ( سمندس ) و قد أدى هذا الحدث إلى عدم إعتراف كهنة طيبة بشرعية حكم الملك ( شاشانق الأول ) حتى العام الخامس من حكمه و أن يعيدوا حساباتهم في علاقاتهم بالبيت المالك الجديد مما جعل الصدام بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة أمرا حتميا لا مفر منه .
و لكن التساؤل المشروع الذي يطرح نفسه : ما هي مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة ؟
لم يكن من المنتظر أن يرفع كهنة طيبة الراية بسهولة بعدما تولى زمام الأمور ملوك الأسرة الثانية و العشرين نظرا لأن هؤلاء الملوك و وفقا لتوصيف كهنة آمون لهم كانوا أجانب لا يحق لهم الجلوس على عرش مصر المقدس .
و كان عدم إعتراف كهنة طيبة بشرعية الملك الحاكم هو بداية الصراع بين الطرفين و قد تمثلت مظاهر هذا الصراع كالآتي :
1 – قام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بإقصاء كبير كهنة آمون و الكاهن الثاني و الكاهن الثالث لآمون عن مناصبهم و تولى منصب كبير كهنة آمون إبن الملك و ولي عهده كما وضعوا تحت سيطرته فرقة من الجيش لقمع أى تمرد يقوم به أهل طيبة
2 – كان هذا الإجراء من قبل الملوك المهجنين يعتبر أمرا إستفزازيا حيث أن كبير كهنة آمون لم يعد واحدا منهم ، و من ناحية أخرى أصبح كبير الكهنة الجديد في حالة تربص دائم بأهل طيبة .
3 – لم يعترف كهنة طيبة بهذا الإجراء الذي لا يكتسب أى شرعية دينية وفقا للمعطيات الدينية الرسمية المصرية التى تقتضي بأن المناصب الكهنوتية لا يتولاها إلا من كان مصريا و درج في السلك الكهنوتي فأقبل على تعاليم و شرائع الخدمة الكهنوتية بكل شروطها المعروفة . و ذلك يعكس أن تمصير المشواش – من منظور و معايير كهنة طيبة – لم يكن سوى تمصيرا شكليا ، الأمر الذي أقحمهم في صراع مباشر مع البيت المالك الجديد
4 – قام كل ملك من ملوك الأسرة الثانية و العشرين بتعيين إبنته حرما مقدسا لآمون ، مما يعنى سيطرتها المباشرة على كهنوت آمون فأصبحت هذه الوظيفة ذات مغزى سياسي جديد يتمثل في ترهبن زوجة آمون فلا تتزوج أبدا و من هنا لا يصبح لأحد الحق أن يباشر سلطة السياسية عليها بعد أن كانت في عصر الأسرة الحادية و العشرين تتزوج من كبير الكهنة .
5 – قام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بتعيين موظفين إتخذوا لقب ( عيون الملك ) و كانوا ينفذون سياستهم في البلاد و كانوا بلا شك جواسيس للملوك على كهنة طيبة و أهلها
6 – قام أهل طيبة إزاء كل هذه الإجراءات بالعديد من الثورات ضد من لا يحق لهم دينيا الحكم ، و كان رد فعل ملوك الأسرة الثانية و العشرين قاسيا و قويا تجاه هذه الثورات ( التي عبروا عنها بالتمرد في نصوص معابد الكرنك ) فما كان منهم إلا أن إستباحوا حرمة المدينة المقدسة و كهنتها القدامى و أحرقوا بعض زعماء الثورات بالنار و هم أحياء .
و يحق لنا أن نطرح تساؤلا مضمرا في هذا السياق : هل الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة هو صراع بين قوة محلية وطنية ضد قوة أجنبية غاشمة أم هو صراع بين قوتين محليتين وطنيتين مما يناقض ما حاول كهنة آمون تصويره ؟
أما عن النتائج و الآثار المترتبة على الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة خلال عصر الإنتقال الثالث فكانت على النحو التالي :
1 – من الناحية السياسية دخلت مصر في حلقة مفرغة من الصراع على الحكم . فقد أدت سياسة البيت المالك الجديد في تعيين ولي العهد كبيرا لكهنة آمون و قائدا للجيش إلى الصراع بين أفراد البيت المالك نفسه على تولي منصب كبير كهنة آمون . و عندما كان يتولى الحكم أحد الأمراء و لم يلق تأييد أهل و كهنة طيبة ، نجد كبير كهنة آمون و هو أخوه أو إبن عمه يسارع بإعلان نفسه ملكا هو الآخر في نفس الوقت . و قد حدث ذلك مرتان في عهد هذه الأسرة . المرة الأولى عندما حكم الملك ( أوسركون ) الثاني مع إبن عمه ( حور سا إيسه ) و المرة الثانية عندما قام ( بادي باستت ) و هو من أمراء البيت المالك لتل باسطة بتكوين أسرة جديدة ( الأسرة الثالثة و العشرين ) في ( لينتوبوليس ) و هي تل المقدام الحالية في محافظة الدقهلية في الوقت الذي كان الملك ( شاشانق الثالث ) من الأسرة الثانية و العشرين لا يزال يحكم في تل بسطة مما يعنى أن مصر كان يحكمها ملكان متعاصران و هو ما شجع الباحثون على تسمية ذلك العصر بالعصر الإنتقالي و الذي يتسم باللامركزية في السلطة الملكية
2 – كان الأمراء المتطلعون لتولي منصب كبير كهنة آمون يتزعمون ثورات طيبة أحيانا ضد الإجراءات التى يتخذها الملك إذا كانت هذه الإجراءات غير مرضية لهم . و قد حدث ذلك عندما عين الملك ( تكلوت الثاني ) إبنه ( أوسركون ) كبيرا لكهنة آمون فقام ( حور سا إيسة الثاني ) و هو حفيد ( حور سا إيسة الأول ) بتحريض كهنة طيبة كهنة طيبة و أهلها على الثورة ضد قرار الملك ( تكلوت الثاني ) لأنه كان يتطلع لأن يكون هو الملك . و جدير بالذكر أن هذه الأحداث وقعت عقب وفاة كبير كهنة آمون المدعو ( نمرود ) – و يلاحظ من إسمه أنه لم يكن من منشأ مصري خالص – و كان على الملك ( تكلوت الثاني ) أن يعين كبيرا للكهنة من بين ثلاث أشخاص مرشحين لتولي المنصب و هم :
الأول : بتاح وج عنخ إف
الثاني : تكلوت إبن كبير كهنة آمون الراحل ( نمرود )
الثالث : حور سا إيسة الثاني حفيد حور سا إيسة الأول و كاهن آمون الأكبر
و لكن الملك ( تكلوت الثاني ) ضرب بهذه الترشيحات عرض الحائط و إختار إبنه ( أوسركون ) كبيرا لكهنة آمون
3 – و في خضم هذه الصراعات ظهر في ذات الوقت أمير من سايس يدعى ( تاف نخت ) ينتمي للأسرة الثانية و العشرين حيث تلقب بلقب زعيم الليبيين و أعلن نفسه ملكا و أسس الأسرة الرابعة و العشرين في سايس بل وتقدم بقواته ليستولي على طيبة بقوة السلاح ( و لنقارن هنا موقف تاف نخت بموقف ملوك الأسرة الحادية و العشرين الذين تعايشوا سلميا مع كهنة طيبة و أهلها ) فما كان من كهنة و أهل طيبة سوى أنهم إستنجدوا بملك مملكة نباتا في النوبة العليا و هو الملك ( بي ) من الأسرة الخامسة و العشرين . و مرة أخرى نقوم بطرح تساؤلات علمية مشروعة : هل محاولات إقتحام مدينة طيبة عسكريا من جانب الملوك المهجنين يعكس إيمانهم الفعلي بقداسة هذه المدينة و حرمتها ؟ أم يعكس غلبة المصالح السياسية لديهم على أى إعتبارات أخرى ؟ و هل هؤلاء الملوك تمصروا فعليا كما يعتقد عدد كبير من الباحثين ؟
4 – أدى الصراع بين الملوك المهجنين و كهنة طيبة إلى إنحسار الدور السياسي لمدينة طيبة . فلم تعد ذات الثقل السياسي الذي تميزت به منذ عصر الدولة الوسطى و حتى نهاية الأسرة الحادية و العشرين بل يمكن التأكيد على نتيجة هامة و هي : إنحسار الدور السياسي للصعيد بأكمله نتيجة إنحسار دور طيبة السياسي ، حيث أن الأسرات الحاكمة بداية من الأسرة الثانية و العشرين و حتى نهاية التاريخ المصري القديم كان حكامها من الدلتا و لا يعني ذلك إضمحلال دور طيبة الديني فقد ظلت هي المدينة المقدسة ذات السمعة المعروفة و التاريخ الباهر و مدينة أكبر المعبودات و هو المعبود آمون
5 – من الناحية الدينية لم يعد كبير كهنة آمون ينتمي للسلك الكهنوتي القديم ، بل أصبح واحدا من أمراء البيت المالك الجديد هو الذي يتولى ذلك المنصب الكبير
6 – أدى الصراع الشديد بين الملوك المهجنين و كهنة طيبة أحيانا إلى حرق بعض الكهنة و هم أحياء – و هي سابقة لم تحدث على الإطلاق في التاريخ المصري القديم – إلى هروب مجموعة من كهنة طيبة المنشقين إلى مدينة نباتا في النوبة العليا و إستقرارهم فيها لنشر دعائم و معطيات الثقافة و الحضارة المصرية بين أهلها مما جعل أنصارهم من الكهنة القدامى يستنجدون بملوك نباتا المتمصرين لتخليصهم من حكم الملوك المهجنين فقاموا بتدعيمهم و دعوهم صراحة لدخول مصر بالقوة العسكرية تحت راية المعبود آمون لتحرير طيبة من ملوك عصر الإنتقال الثالث
7 - من الناحية الإجتماعية إهتم ملوك الأسرة الثانية و العشرين إهتماما متزايدا و مبالغا بشكليات الدين المصري القديم دون جوهره فزادوا من تسليط الضوء على العجل أبيس و التمائم و إستشارة وحي آمون و لاسيما في الشمال و قد كانت هذه المظاهر تمارس قبل الأسرة الثانية و العشرين ، و لكنها لم تكن بهذا الكم الكبير حتى أن بعض الباحثين يصف عهد الأسرات من 22 إلى 24 بالعصر الذهبي للتمائم و لوحي آمون . و ننهي هذا المقال بطرح التساؤل التالي :
هل إهتمام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بهذه الشكليات كان أمرا مقصودا لذاته أم كان غير مقصود ؟ .... إن الأمر المؤكد أن تلك الظاهرة أدت لإنغماس و إنخراط عامة الشعب في هذه الشكليات و أصبح الإستغراق فيها من أساسيات الحياة الإجتماعية الدينية خلال عصر الإنتقال الثالث .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق