الاثنين، 23 يوليو 2012

مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة و النتائج المترتبة عليه في عصر الإنتقال الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم



(  مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة و النتائج  المترتبة عليه في عصر الإنتقال الثالث )
 ............................................................
.................
 يتناول الدارس في هذا البحث الموجز مظاهر و أشكال الصراع و التنافس  السياسي و الديني بين ملوك الأسرة الثانية العشرين و كهنة طيبة خلال عصر  الإنتقال الثالث بإعتبارها واحدة من الفترات التاريخية التى تركت آثارا  بارزة على المستويات السياسية و الدينية و الإجتماعية و التى لا يمكن  إنكارها بأى حال من الأحوال . و أود هنا أن أهدي هذه الدراسة للأستاذ  القدير و المحترم – محمد جادالله – الكاتب ذو الرؤية الثاقبة و الباحث  العلمي الجاد و الدؤوب و صاحب العطاء الذي لا ينتهي .
أطلق البعض من  الباحثين على ملوك الأسرات الثانية و العشرين و الثالثة و العشرين و  الرابعة و العشرين تسمية ( ملوك العصر الليبي ) و لا تزال هذه التسمية  تتأرجح بين القبول و الرفض من جانب علماء المصريات ( أنظر مقال للباحث  بعنوان – إشكالية تمصير الملوك ذوي الأصل الليبي خلال عصر الإنتقال الثالث  بين الحقيقة التاريخية و الأيدولوجيا السياسية ) ، فهناك من يعتبر أن وصف  حكام هذا العصر بإسم ( الليبيين ) ، أو إطلاق إسم ( العصر الليبي ) على تلك  الفترة هو أمر غير دقيق من الناحية العلمية للإعتبارات التالية :
1 –  هؤلاء الحكام لم يكونوا من منشأ و أصل واحد حتى يتم وصفهم بصفة واحدة . فقد  كانوا خليطا من سكان الصحراء الغربية الأقدمين المكونين من عشائر (  الماشواش ) و ( الليبو ) و ( السبد ) و غيرها من القبائل الأخرى الذين  دخلوا مصر بشكل سلمي و على فترات طويلة
2 – إستقرت هذه القبائل في مصر  و لفترات طويلة مما جعلها تتمصر تمصيرا تاما ( و هو ما لا يتفق معه الباحث  بعدما تناول هذه الإشكالية في مقاله السابق ذكره أعلاه ) دما و ثقافة و  سلوكا حتى نسيت منشأها الأول القديم .
3 – إنضم الكثير من قبائل  الماشواش للجيش المصري كمرتزقة و هو ما ساعد على إنصهارهم و ذوبانهم في  الثقافة المصرية و أصبحوا من المدافعيين الوطنيين عن البلاد . إلا أن  الدارس هنا و من خلال عرضه لتفاصيل الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و كهنة  طيبة سيترك الحكم للقاريء على مصداقية هذا الطرح .
و حقيقة الأمر أن  قلة المعارك العسكرية في النصف الثانى من عصر الأسرة العشرين و خلال الأسرة  الحادية و العشرين و ضعف السلطة الملكية نتيجة الأزمات الإقتصادية التى  مرت بها البلاد في نهايات عصر الرعامسة ، أفضى إلى زيادة نفوذ تلك العشائر و  القبائل الأجنبية في البلاد ، بل و أصبح العديد منهم يعيث في الأرض فسادا و  لاسيما في منطقة مساكن عمال دير المدينة في طيبة التى توقف العمل فيها  أكثر من مرة نتيجة للقلاقل التى كان هؤلاء ( المشواش ) يحدثونها ، الأمر  الذي يعكس عدم الإنصهار الثقافي التام لذلك التكوين السياسي في المجتمع  المصري .
و لكن أين إستقرت هذه الجماعات و العشائر في مصر ؟
1 –  تركزت أغلب هذه الجماعات في منطقة الفيوم و لاسيما في إهناسيا بإعتبارها  إحدى مداخل الواحات المصرية التى إستقروا فيها منذ عصر الرعامسة . كما أنها  تعتبر مركزا مناسبا للإستثمار الزراعي و التبادل التجاري .
2 – توزعت بعض جماعاتهم في غرب الدلتا و وسطها في أبوصير الدقهلية و سمنود و منديس .
3 – لا يمكن تجاهل وجود إقطاعيات للمشواش في شرق الدلتا مثل تانيس و تل  بسطة ، الأمر الذي يرجح وجود طبقات أرستقراطية لهم تمركزت في المنطقتين و  هو السبب الذي دعا ( مانيتون ) إلى أن يطلق على ملوك هذه الأسرة ( الأسرة  الثانية و العشرين ) تسمية ( الملوك البوباسطيين )
و هنا يتضح لنا أن  ملوك هذه الأسرة لم يكونوا من الليبيين فقط حتى يتم وصفهم بالملوك الليبيين  . كما أن كلا منهم كان حريصا في ذات الوقت على أن يتخذ لقب ( كبير المشواش  ) إلى جانب لقب ( زعيم الليبيين ) مما يدل على الحقائق التالية :
1 – إعترافهم ضمنا بوجود عنصر المشواش بينهم
2 – غلبت عليهم عناصر الماشواش و قلت فيهم عناصر الليبيين و هو ما أكدته ألقابهم المسجلة على آثار عصرهم
3 – إصرارهم على تلقيبهم بهذه الألقاب الدخيلة على الأيدولوجية السياسية  الملكية المصرية الكلاسيكية يكشف ضمنا عن أنهم لم يتنكروا لأصولهم الأولى و  منشأهم القديم
و عندما نراجع الموقف التاريخي لملوك الأسرة الحادية و  العشرين نجد أن الملك ( بسوسينس الثاني ) آخر ملوكها قام بتزويج إبنته من (  أوسركون ) إبن زعيم الماشواش ( شاشانق ) لتنقل له و لأسرته حق الجلوس على  العرش . و بذلك إعتلى ( شاشانق الأول ) عرش البلاد و أخذ نفس ألقاب أول  ملوك الأسرة الحادية و العشرين ( سمندس ) و قد أدى هذا الحدث إلى عدم  إعتراف كهنة طيبة بشرعية حكم الملك ( شاشانق الأول ) حتى العام الخامس من  حكمه و أن يعيدوا حساباتهم في علاقاتهم بالبيت المالك الجديد مما جعل  الصدام بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة أمرا حتميا لا مفر  منه .
و لكن التساؤل المشروع الذي يطرح نفسه : ما هي مظاهر الصراع بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة ؟
لم يكن من المنتظر أن يرفع كهنة طيبة الراية بسهولة بعدما تولى زمام  الأمور ملوك الأسرة الثانية و العشرين نظرا لأن هؤلاء الملوك و وفقا لتوصيف  كهنة آمون لهم كانوا أجانب لا يحق لهم الجلوس على عرش مصر المقدس .
و كان عدم إعتراف كهنة طيبة بشرعية الملك الحاكم هو بداية الصراع بين الطرفين و قد تمثلت مظاهر هذا الصراع كالآتي :
1 – قام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بإقصاء كبير كهنة آمون و الكاهن  الثاني و الكاهن الثالث لآمون عن مناصبهم و تولى منصب كبير كهنة آمون إبن  الملك و ولي عهده كما وضعوا تحت سيطرته فرقة من الجيش لقمع أى تمرد يقوم به  أهل طيبة
2 – كان هذا الإجراء من قبل الملوك المهجنين يعتبر أمرا  إستفزازيا حيث أن كبير كهنة آمون لم يعد واحدا منهم ، و من ناحية أخرى أصبح  كبير الكهنة الجديد في حالة تربص دائم بأهل طيبة .
3 – لم يعترف كهنة  طيبة بهذا الإجراء الذي لا يكتسب أى شرعية دينية وفقا للمعطيات الدينية  الرسمية المصرية التى تقتضي بأن المناصب الكهنوتية لا يتولاها إلا من كان  مصريا و درج في السلك الكهنوتي فأقبل على تعاليم و شرائع الخدمة الكهنوتية  بكل شروطها المعروفة . و ذلك يعكس أن تمصير المشواش – من منظور و معايير  كهنة طيبة – لم يكن سوى تمصيرا شكليا ، الأمر الذي أقحمهم في صراع مباشر مع  البيت المالك الجديد
4 – قام كل ملك من ملوك الأسرة الثانية و  العشرين بتعيين إبنته حرما مقدسا لآمون ، مما يعنى سيطرتها المباشرة على  كهنوت آمون فأصبحت هذه الوظيفة ذات مغزى سياسي جديد يتمثل في ترهبن زوجة  آمون فلا تتزوج أبدا و من هنا لا يصبح لأحد الحق أن يباشر سلطة السياسية  عليها بعد أن كانت في عصر الأسرة الحادية و العشرين تتزوج من كبير الكهنة .
5 – قام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بتعيين موظفين إتخذوا لقب ( عيون  الملك ) و كانوا ينفذون سياستهم في البلاد و كانوا بلا شك جواسيس للملوك  على كهنة طيبة و أهلها
6 – قام أهل طيبة إزاء كل هذه الإجراءات  بالعديد من الثورات ضد من لا يحق لهم دينيا الحكم ، و كان رد فعل ملوك  الأسرة الثانية و العشرين قاسيا و قويا تجاه هذه الثورات ( التي عبروا عنها  بالتمرد في نصوص معابد الكرنك ) فما كان منهم إلا أن إستباحوا حرمة  المدينة المقدسة و كهنتها القدامى و أحرقوا بعض زعماء الثورات بالنار و هم  أحياء .
و يحق لنا أن نطرح تساؤلا مضمرا في هذا السياق : هل الصراع بين  ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة هو صراع بين قوة محلية وطنية  ضد قوة أجنبية غاشمة أم هو صراع بين قوتين محليتين وطنيتين مما يناقض ما  حاول كهنة آمون تصويره ؟
أما عن النتائج و الآثار المترتبة على الصراع  بين ملوك الأسرة الثانية و العشرين و كهنة طيبة خلال عصر الإنتقال الثالث  فكانت على النحو التالي :
1 – من الناحية السياسية دخلت مصر في حلقة  مفرغة من الصراع على الحكم . فقد أدت سياسة البيت المالك الجديد في تعيين  ولي العهد كبيرا لكهنة آمون و قائدا للجيش إلى الصراع بين أفراد البيت  المالك نفسه على تولي منصب كبير كهنة آمون . و عندما كان يتولى الحكم أحد  الأمراء و لم يلق تأييد أهل و كهنة طيبة ، نجد كبير كهنة آمون و هو أخوه أو  إبن عمه يسارع بإعلان نفسه ملكا هو الآخر في نفس الوقت . و قد حدث ذلك  مرتان في عهد هذه الأسرة . المرة الأولى عندما حكم الملك ( أوسركون )  الثاني مع إبن عمه ( حور سا إيسه ) و المرة الثانية عندما قام ( بادي باستت  ) و هو من أمراء البيت المالك لتل باسطة بتكوين أسرة جديدة ( الأسرة  الثالثة و العشرين ) في ( لينتوبوليس ) و هي تل المقدام الحالية في محافظة  الدقهلية في الوقت الذي كان الملك ( شاشانق الثالث ) من الأسرة الثانية و  العشرين لا يزال يحكم في تل بسطة مما يعنى أن مصر كان يحكمها ملكان  متعاصران و هو ما شجع الباحثون على تسمية ذلك العصر بالعصر الإنتقالي و  الذي يتسم باللامركزية في السلطة الملكية
2 – كان الأمراء المتطلعون  لتولي منصب كبير كهنة آمون يتزعمون ثورات طيبة أحيانا ضد الإجراءات التى  يتخذها الملك إذا كانت هذه الإجراءات غير مرضية لهم . و قد حدث ذلك عندما  عين الملك ( تكلوت الثاني ) إبنه ( أوسركون ) كبيرا لكهنة آمون فقام ( حور  سا إيسة الثاني ) و هو حفيد ( حور سا إيسة الأول )  بتحريض كهنة طيبة كهنة  طيبة و أهلها على الثورة ضد قرار الملك ( تكلوت الثاني ) لأنه كان يتطلع  لأن يكون هو الملك . و جدير بالذكر أن هذه الأحداث وقعت عقب وفاة كبير كهنة  آمون المدعو ( نمرود ) – و يلاحظ من إسمه أنه لم يكن من منشأ مصري خالص – و  كان على الملك ( تكلوت الثاني ) أن يعين كبيرا للكهنة من بين ثلاث أشخاص  مرشحين لتولي المنصب و هم :
الأول : بتاح وج عنخ إف
الثاني : تكلوت إبن كبير كهنة آمون الراحل ( نمرود )
الثالث : حور سا إيسة الثاني حفيد حور سا إيسة الأول و كاهن آمون الأكبر
و لكن الملك ( تكلوت الثاني ) ضرب بهذه الترشيحات عرض الحائط و إختار إبنه ( أوسركون ) كبيرا لكهنة آمون
3 – و في خضم هذه الصراعات ظهر في ذات الوقت أمير من سايس يدعى ( تاف نخت )  ينتمي للأسرة الثانية و العشرين حيث تلقب بلقب زعيم الليبيين و أعلن نفسه  ملكا و أسس الأسرة الرابعة و العشرين في سايس بل وتقدم بقواته ليستولي على  طيبة بقوة السلاح ( و لنقارن هنا موقف تاف نخت بموقف ملوك الأسرة الحادية و  العشرين الذين تعايشوا سلميا مع كهنة طيبة و أهلها ) فما كان من كهنة و  أهل طيبة سوى أنهم إستنجدوا بملك مملكة نباتا في النوبة العليا و هو الملك (  بي ) من الأسرة الخامسة و العشرين . و مرة أخرى نقوم بطرح تساؤلات علمية  مشروعة : هل محاولات إقتحام مدينة طيبة عسكريا من جانب الملوك المهجنين  يعكس إيمانهم الفعلي بقداسة هذه المدينة و حرمتها ؟ أم يعكس غلبة المصالح  السياسية لديهم على أى إعتبارات أخرى ؟ و هل هؤلاء الملوك تمصروا فعليا كما  يعتقد عدد كبير من الباحثين ؟
4 – أدى الصراع بين الملوك المهجنين و  كهنة طيبة إلى إنحسار الدور السياسي لمدينة طيبة . فلم تعد ذات الثقل  السياسي الذي تميزت به منذ عصر الدولة الوسطى و حتى نهاية الأسرة الحادية و  العشرين بل يمكن التأكيد على نتيجة هامة و هي : إنحسار الدور السياسي  للصعيد بأكمله نتيجة إنحسار دور طيبة السياسي ، حيث أن الأسرات الحاكمة  بداية من الأسرة الثانية و العشرين و حتى نهاية التاريخ المصري القديم كان  حكامها من الدلتا و لا يعني ذلك إضمحلال دور طيبة الديني فقد ظلت هي  المدينة المقدسة ذات السمعة المعروفة و التاريخ الباهر و مدينة أكبر  المعبودات و هو المعبود آمون
5 – من الناحية الدينية لم يعد كبير كهنة  آمون ينتمي للسلك الكهنوتي القديم ، بل أصبح واحدا من أمراء البيت المالك  الجديد هو الذي يتولى ذلك المنصب الكبير
6 – أدى الصراع الشديد بين  الملوك المهجنين و كهنة طيبة أحيانا إلى حرق بعض الكهنة و هم أحياء – و هي  سابقة لم تحدث على الإطلاق في التاريخ المصري القديم – إلى هروب مجموعة من  كهنة طيبة المنشقين إلى مدينة نباتا في النوبة العليا و إستقرارهم فيها  لنشر دعائم و معطيات الثقافة و الحضارة المصرية بين أهلها مما جعل أنصارهم  من الكهنة القدامى يستنجدون بملوك نباتا المتمصرين لتخليصهم من حكم الملوك  المهجنين فقاموا بتدعيمهم و دعوهم صراحة لدخول مصر بالقوة العسكرية تحت  راية المعبود آمون لتحرير طيبة من ملوك عصر الإنتقال الثالث
7 - من  الناحية الإجتماعية إهتم ملوك الأسرة الثانية و العشرين إهتماما متزايدا و  مبالغا بشكليات الدين المصري القديم دون جوهره فزادوا من تسليط الضوء على  العجل أبيس و التمائم و إستشارة وحي آمون و لاسيما في الشمال و قد كانت هذه  المظاهر تمارس قبل الأسرة الثانية و العشرين ، و لكنها لم تكن بهذا الكم  الكبير حتى أن بعض الباحثين يصف عهد الأسرات من 22 إلى 24 بالعصر الذهبي  للتمائم و لوحي آمون . و ننهي هذا المقال بطرح التساؤل التالي :
هل إهتمام ملوك الأسرة الثانية و العشرين بهذه الشكليات كان أمرا مقصودا لذاته أم كان غير مقصود ؟ .... إن الأمر المؤكد أن تلك الظاهرة أدت لإنغماس و إنخراط عامة الشعب في هذه الشكليات و أصبح الإستغراق فيها من أساسيات الحياة الإجتماعية الدينية خلال عصر الإنتقال الثالث .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق