الخميس، 29 أغسطس 2013

طريق الخلاص الجديد في زمن الرعامسة


بسم الله الرحمن الرحيم 

طريق الخلاص الجديد في زمن الرعامسة


هل كانت المقبرة هي الطريق الوحيد للحصول على
الخلود في عصر الرعامسة ؟ هل كانت هناك فلسفة للتاريخ لدى المصري القديم ؟ لماذا
إكتسب الكتاب أهمية كبرى في الحضارة المصرية القديمة بشكل عام و في زمن الرعامسة
بشكل خاص ؟.... لعلنا نجد الإجابة على هذا التساؤلات في بردية شيستر بيتي التي
تعتبر واحدة من أهم الوثائق التاريخية التي ترجع لعصر الرعامسة . و قبل أن نخوض في
هذه الدراسة يود صاحبها أن يهديها لزميله العزيز و الأخ القدير الأستاذ ( أحمد
خليل ) لشغفه بعلم المصريات و معرفة كل جديد . و ما يهمنا في هذا المقال الموجز معالجة
ما جاء في القسم الأول من الفصل الثالث من بردية شيستر بيتي حيث تناولت مفهوم
الخلود من وجهة نظر أخرى تختلف كثيرا عن وجهة النظر المصرية التقليدية القديمة و
تتمثل في الحقيقة التالية : أن الكتاب هو أكثر ضمانا للخلود من القبر . فمن يريد
أن يقوم بتخليد إسمه بشكل فعلي و حقيقي فينبغي له أن يبذل كل غالي و رخيص في تأليف
كتاب يبقى بين الناس أي عليه أن يعمل في حقل الأدب الأمر الذي يكشف عن أن القبر لا
يحقق فكرة الخلود الأبدية وفقا لكاتب النص فنقرأ في هذا المقطع الهام ما يلي :
" كن أديبا بكل قلبك فسيكون إسمك خالدا ،
فالكتاب أثمن من صخرة القبر المكتوبة و أثمن من الحجرة المشيدة بصلابة ، فأهمية
الكتب هي أفضل من القبور و الأهرامات في تخليد الأسماء و سيكون شيئا ثمينا
بالتأكيد في العالم الآخر ، فصاحب الكتاب هو إسم في أفواه الناس ، و الإنسان زائل
و يتحول جسده إلى تراب و كل معاصريه قد دفنوا تحت الأرض أما الكتابة فتجعل الناس
يتذكروه ثم ينتقل ما قام به من فاه إلى فاه . إن أوراق الكتابة أثمن من معابد
القبور في الغرب و أفضل من أي قصر و من الصخور التي شيدت بها المعابد . فهل أجد
هنا مثل ( حور جدف ) ؟ أو أحد مثل ( إيمحوتب ) ؟ و هل يستطيع أحد أن ينقل الماء
إلى إيمحوتب أو حور جدف ؟ . ليس هناك من معاصرينا أحد مثل ( نفرتي ) هل هناك أحد
مثل ( خيتي ) و هو أعظمهم ؟ . و أنا أذكر لك هنا أسماء مثل ( خع خبرر سنب ) فهل
هناك أحد مثل ( بتاح حتب ) ؟ فهؤلاء الحكماء الذين تنبؤا بالمستقبل و ما قالوه أصبح
واقعا و قد وجده الناس كحكمة مكتوبة في كتبهم . إن سحر هذه الكتب يمتد إلى جميع
الذين يقرأونها فيحصلون على الخلود . فهم قد ذهبوا و كان بالإمكان ان تنسى أسمائهم
منذ زمان بعيد لكن كتاباتهم تحيي ذكراهم دائما " .
من قراءة هذا النص يمكن لنا أن نستدل على
الحقائق التالية : 
1 – نجد هنا طائفة فكرية من الناس في مجتمع
الرعامسة أرادت أن تعبر عن مضمون فكري جديد فيما يرتبط بمفهوم الخلود الحقيقي في
الحضارة المصرية القديمة فهي دعوة مباشرة للإهتمام بقراءة كتب الحكماء السلف الذين
تم تخليدهم في الذكرى الحضارية لمصر بفضل ما كتبوه من كتب ثمينة الأهمية لا بفضل
ما شيدوه من مقابر فهي دعوة للجميع للإهتمام بالأدب إذا ما اراد الإنسان في عالم
مصر ان يرنو نحو الخلود . لكن نشير هنا من ناحية أخرى أنه ليس بالضرورة أن تكون
هذه الأفكار منتشرة عمليا بين جميع طوائف المجتمع المصري القديم خلال عصر
الرعامسة  
2 – يحتوي النص على مغزى فكري غير مباشر :
فعندما يشير الكاتب إلى ان الكتاب أثمن من صخرة القبر المكتوبة و أثمن من الحجرة
المشيدة بصلابة ، فذلك يشير – و لو لم تذكر صراحة في النص – إلى إمكانية زوال
القبور نفسها و إلى إمكانية تهدم حجرات المقبرة المشيدة من أقوى أنواع الحجارة ( و
هو ما حدث فعليا في بعض فترات التاريخ المصري القديم ) و لكن الكتاب و ما يحتويه
من قيم و تعاليم ثمينة لا يبلى أبدا و من هنا تمكن أهمية صاحب الكتاب نفسه . 
3 – أشار كاتب النص إلى فارق هام بين من يكتب
كتاب للأجيال القادمة و بين من لا يكتب شيئا و يتمثل في الأمر التالي : أن كل
إنسان زائل و سيتحول جسده إلى تراب – نلاحظ هنا عدم الإشارة لأهمية شعائر التحنيط
طريق للنجاة الأخروية - و هذا هو المصير الحتمي للجميع و لن يتذكر الناس سوى شخص
واحد فقط : و هو الكاتب الذي جعل خطابه التعليمي و الأدبي موجه للجميع ، فالفلسفة
الحقيقية للتاريخ وفقا لكاتب النص هو الدخول في مضمار الأدب و التعاليم الحياتية
التي تبني المجتمع ، ففلسفة التاريخ هنا : المشاركة في بناء المجتمع من أجل الحصول
على الخلود . 
4 – نلاحظ هنا أنه لا وجود لمفهوم الطقوس أو الشعائر في هذا النص كطريق
لخلاص الإنسان في العالم الآخر و هو ما يناهض و يخالف ما تعارف عليه المجتمع
المصري القديم ، فافنسان في مصر لا ينجو في حياته الأخرى بسبب الشعائر الجنائزية
التي تؤدى له و لا وجود لأهمية طاقم كهنوتي لأداء هذه الشعائر فكل هذه الأمور
غائبة تماما من أفق النص 
5 – بفضل سحر الكتابة أصبح المؤلفون الذين ذكروا في النص من الخالدين بل
يمتد هذا الخلود إلى كل الذين يقرؤون كتبهم (يمكن لنا هنا أن نطرح تساؤل هام : هل
يريد كاتب النص أن يمنح طريقا آخر لخلاص الإنسان في عالمه الآخر و التقليل من
أهمية تشييد المقبرة كملجأ و ملاذ لنجاة الإنسان في حياته المستقبلية الأخروية ؟ فهنا
كاتب النص أوشك أن يقول : ما هي فائدة القبور و الأهرام و معابد الغرب لأصحابها
دون وجود كتب ثمينة تنسب إليهم ؟  ) . 
6 - الكتابة هنا لم تنتصر على الزمن فقط ، و إنما أصبح الزمن في خدمتها فقد
إزدادت أهمية الكتب عبر القرون بإستمرار لسبب بسيط أيضا ورد في النص و هو : أن هذه
الكتب إحتوت على فرضيات و تعاليم و أمثلة و قيم حياتية و تنبؤات تحققت على أرض
الواقع فهي كتب صحيحة لأن كل ما ورد فيها تحقق فعليا .
7 – نلاحظ هنا الغياب التام لإسم ( سنوهي ) في النص ، فلم يذكره الكاتب
كواحد من كبار الكتاب الكلاسيكيين الذين كان لهم أثر حياتي في مجتمع مصر و السبب
في ذلك أن قصة سنوهي تتعارض مع رسالة هذا النص فسنوهي يضع طريق الخلاص في العالم
الآخر من خلال سعي الإنسان المصري القديم لكي ينال حظوة و رضاء الملكية عنه فلا
يمكن تشييد المقبرة و إقامة الشعائر الجنائزية و أداء طقوس التحنيط إلا عن طريق
السلطة الملكية ، و لذا فمن الطبيعي و المنطقي أن يختفي ذكر سنوهي تماما من هذا
النص . 
8 – ينصب تركيز النص على الإهتمام بالماضي ، فعصر الرعامسة هو العصر الذي
يسعى لبعث الماضي المصري التليد من خلال الأدب ، و يكتسب هذا الماضي أهمية لسبب
أنه كان منقطعا عن الذاكرة الحضارية لمصر و من هنا تأتي أهمية إعادة إكتشافه من
جديد و يمكن لنا أن نستشف هذه الحقيقة عندما نقرأ العبارة التساؤلية التي وردت في
النص ألا و هي : و من يستطيع أن ينقل الماء إلى إيمحوتب أو حور جدف ؟ ... فالحاضر
هنا ( و هو زمن كتابة هذا النص ) لا يرتبط بالماضي ( و هي هنا كتب الأسلاف الحكماء
) إلا عندما يصبح هذا الماضي كلاسيكيا ، فالكلاسيكية هي نموذج مثالي لماضي عظيم لا
يمكن تقليده و لايمكن الوصول إليه بل أن أصحاب هذا الماضي الكلاسيكي ( و هم الذين
قاموا بتأليف الكتب الكلاسيكية القديمة ) هم أعظم من أهل الزمن الحاضر و لا يمكن
لأحد من الزمن الراهن أن يصبح مثلهم أو في نفس قيمتهم و أهميتهم و لذا فإن كاتب
النص يؤكد على هذه الحقية قائلا : هل أجد هنا أحد مثل حور جدف ؟ ليس هناك من
معاصرينا أحد مثل نفرتي و هل هناك احد مثل بتاح حتب ؟ إن الحقيقة التي يرنو كاتب
النص للكشف عنها : أن الماضي أعظم من الحاضر ، فالماضي يحمل حكمة الأسلاف الذين تم
تخليدهم بفضل ما كتبوه أما أهل الزمن الحاضر فعليه ان يسير على درب هؤلاء الحكماء
إن أرادوا الخلاص و الخلود في عالمهم الآخر . 
9 – ينبغي لنا ان نضع في الإعتبار أنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الكتب
الكلاسيكية الماضي قد كتبت فعليا من هذه الشخصيات المذكورة في النص ( مثل حورجدف و
إيمحوتب و غيرهم ) فعادة المصري القديم هي أن ينسب حكم و أمثال و تعاليم و قيم و
تنبؤات إلى شخصيات يفترض أنها عاشت في الزمن الماضي ، فكلما كان النص يرتبط بشخصية
شهيرة عاشت في الماضي ، كلما إكتسب أهمية و مصداقية لدى الجماهير و ليس من الضروري
أن تكون هذه الشخصية قد قالت أو كتبت هذه الكتب بالمعنى الحقيقي أو الفعلي .  
10 – يشير النص إلى أن " أقوال هؤلاء الحكماء قد وجده الناس كحكمة
مكتوبة في كتبهم " مما يعكس وعي الشعب المصري القديم في عصر الرعامسة لأهمية
نقل ( التراث الشفهي ) إلى ( تراث مكتوب ) فالثقافة الشفاهية و إن كانت عمليا لها
صفة الإنتشار في المجتمع آنذاك إلا أن ثقافة الكتابة و حفظ ذكرى الماضي العظيم أهم
و أعظم قيمة من الثقافة الشفاهية كما يشير من ناحية أخرى إلى أن أقوالهم الشفاهية
التي يرددها الناس من فاه إلى فاه عبر الأجيال لم يحدث لها تغيير و لم يحدث فيها أي
تعديل حتى زمن كتابتها و لهذا فهي كتابات تتسم بالصحة و المصداقية و لا شأن لنا في
هذه الدراسة بمدى صحة ما ورد هنا من الناحية التاريخية . 
يتبين لنا مما تقدم أن كاتب النص يسعى و بكل وضوح لتقديم طريق آخر للخلاص
الأخروي في عالم مصر في زمن الرعامسة و يختلف عن المسار التقليدي للحضارة المصرية
القديمة ، فالرسالة هنا : لا خلاص إلا عن طريق قراءة ما تركه الأسلاف من تراث ثمين
و هو طريق آخر و جديد يختلف عن الفكر المصري التقليدي القديم .    

الأحد، 11 أغسطس 2013

إستقراء التاريخ من آثار عصر اللامركزية الأول


بسم الله الرحمن الرحيم 

إستقراء التاريخ من آثار عصر اللامركزية الأول


يسعى الدارس من خلال هذا المقال لتناول كيفية
إستقراء الوقائع التاريخية من خلال الآثار الغير مغرضة أو الآثار التي لا تحتوي
على أي أيدولوجيا دعائية مضللة و عدم الإعتماد على النصوص ذات المغزى الأيدولوجي و
التي تعتمد دائما على توجيه القاريء نحو فهم و إدراك صورة أخرى مغايرة للحقيقة و
إذا ما ورد في النص حقيقة تاريخية لا يرقى لها الشك فذلك بسبب توافق الآثار الغير
مغرضة مع ما ورد في النص . و لا يفوتني في هذا الصدد أن أهدي هذه الدراسة للأستاذة
الزميلة و الأخت القديرة ( منى عاصم الدسوقي ) لتفوقها الدائم في مجال المصريات و
حصولها على تقدير إمتياز في السنة الأولى لدبلوم الآثار المصرية . يشير مصطلح (
عصر اللامركزية الأول ) إلى الفترة الزمنية التي إنحلت و تفتت فيها السلطة
المركزية بعد توالي مجموعة من الملوك الذين حكموا مصر من منطقة منف طوال عصر
الدولة القديمة و يرى البعض من علماء المصريات أن هذا الخط الزمني ينتهي عند آخر
ملك من ملوك الأسرة الثامنة و بعد تلك الفترة صعد حكام من منطقة هيراكليوبوليس –
إهناسيا و أسسوا أسرة ملكية جديدة . و لاريب أن إنتقال السلطة الملكية من منف إلى
هيراكليوبوليس كان يعتبر من وجة نظر المصريين القدماء في المراحل التاريخية
اللاحقة فترة إنتقالية عظمى و فترة فراغ كبير و ما يؤكد هذا الطرح أن كاتب بردية
تورين إعتبر الفترة الأولى من التاريخ المصري القديم تقف عند نهاية الأسرة الثامنة
فضلا عن ذلك فإن قائمة ملوك أبيدوس تجاهلت تماما ملوك الأسرتين التاسعة و العاشرة
إلا أنه ينبغي لنا أن نشير لأمر هام يتمثل ألا و هو : أن حكام إهناسيا لم يتمكنوا
خلال هذه الفترة اللامركزية من إحكام قبضتهم على جميع أقاليم مصرو لاسيما في منطقة
طيبة حيث تمكنت عائلة من حكامها أن تؤسس لنفسها قوة عظيمة و أطلقوا على أنفسهم
ألقابا ملكية و قد ظهروا في الحوليات الملكية المصرية فيما بعد على إعتبار أنهم
أصحاب الأسرة الحادية عشرة و منذ هذه اللحظة و ما بعدها أصبح هناك مملكتان
متصارعتان في البلاد الأمر الذي يعني أن الأسرة العاشرة تعاصرت زمنيا في حكمها مع
الأسرة الحادية عشرة . و إذا أردنا أن تناول هذه الفترة الزمنية تاريخيا فعلينا أن
تبتعد قدر الإمكان عن النصوص التي تحدثت عن هذا العصر من خلال ما وصفته أدبيات
العصور اللاحقة عن ذلك الزمن حيث كانت تهدف لإظهاره بوصفه زمن الفوضى و الأزمات و
من هنا فهي أدبيات مغرضة و سنجتنب كذلك ما ورد في كتابات السير الذاتية لحكام ذلك
الزمن نظرا لغلبة الطابع الدعائي السياسي الأيدولوجي في تلك النصوص و سنكتفي
بالحديث عن تاريخ عصر اللامركزية الأول من خلال الآثار و لاسواها ، فالأثر هو نقطة
البداية و النهاية و نقصد هنا بمصطلح الأثر ، المنتج المادي الغير مغرض و الذي
يمكن لنا أن نستخرج منه معلومات صادقة لا تتسم بالأيدولوجيا لا من قريب و لا من
بعيد . فما هي أهم آثار عصر اللامركزية الأول ؟ و كيف يمكن لنا أن نستقرأ التاريخ
من خلال آثار ذلك الزمن ؟ .... 
1 – إنعدام النماذج الدلالية المعبرة عن وجود سلطة
ملكية ، فلا وجود للأهرامات التي كانت رموز بينة للملكية فهناك إنقطاع معماري
حضاري واضح في تشييد الأهرامات التقليدية إلا أن ذلك لا يعني على الإطلاق إنقطاع
نهائي و كامل في مفهوم القبور المعبرة عن وجود سلطة أو زعامة بل ظهرت في المقابل
سلطات محلية إقليمية عبرت عن نفوذها بشكل و طريقة خاصة داخل أقاليمها المحلية
فاتبعت طرزا معمارية و فنية و حضارية تختلف عن الطرز السلطوية التقليدية لحضارة
منف الملكية و التي كانت سائدة طوال عصر الدولة القديمة . 
2 – كانت مملكة إهناسيا هي المملكة الوحيدة التي
سعت نحو إتباع طراز فني مشابه إلى حد كبير للطرز الفنية لمنف ، فقد إكتشفت بعثة
أسبانية جبانة تحتوي على مصاطب ترجع لذلك العصر ، و إحتوت على قواعد و أساليب فنية
مشابهة لمعايير المدرسة المنفية الفنية القديمة و من هنا ندرك أن إهناسيا سارت على
على تقاليد منف الحضارية إلى حد كبير الأمر الذي يعني أن حكامها نظروا لأنفسهم
بأنهم ورثوا حضارة منف و بأنهم يستحقون شرعية الحكم سياسيا و دينيا . 
3 – على النقيض من ذلك نجد أن معظم أقاليم مصر
العليا خلال ذلك العصر إتجهت لتبني أساليب حضارية معمارية و فنية جديدة و تغاضت عن
عمد قوانين حضارة البلاط الملكي ( سواء كانت منف أو إهناسيا ) الأمر الذي يعني :
أن قانون حضارة منف لم يعد ملزما لأحد في أقاليم مصر العليا و أن الذي يرغب في نحت
تمثال خاص به أو نقش مقبرته الأبدية لم يعد يطلب عمالا من منف و إنما أصبح يعتمد
على عمال محليين فتمخض عن ذلك تقاليد حضارية محلية إقليمية ليس لها خبرات منف و
نؤكد هنا أن إنقطاع حضارة منف في مصر العليا لا يعني نهاية تلك الحضارة هناك و
بشكل قطعي و لا يجوز فهم عصر اللامركزية الأول على هذا النحو ، فقد كان إنقطاع
مؤقت و ذو هدف ، فلولاه لما ظهرت حضارات إقليمية محلية إنتعشت خلال ذلك العصر فقد
إنتقلت مراكز الأنشطة الحكومية من مكان واحد ( منف ) إلى مناطق متعددة و لذا من
العدل أن نشير إلى وجود إزدهار ثقافي عند الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري
القديم بسبب الإزدهار الحضاري للمدن في أقاليم مصر العليا حيث أصبح حاكم الإقليم
منشغلا بإقليمه هو فقط ، مما ساعده على تركيز جهوده و نشاطه في منطقة نفوذه
المحلية 

4 – كشفت الآثار في ذلك العصر عن أمر هام : وجود
زيادة ملحوظة في أعداد المقابر الأمر الذي يعني بوجود زيادة في التعداد السكاني
للأقاليم بل و أصبحت المقابر كلها أكبر حجما من ذي قبل و كانت تضم أدوات و منتجات
و أثاث جنائزي أفضل جودة من تلك المعروفة في عصر الدولة القديمة إلا و أنه و
بطبيعة الحال ظلت مقابر الطبقة العليا أكبر حجما و مجهزة بأثاث جنائزي أكثر ثراءا
من مقابر الطبقة العادية أو الفقيرة و كل ما سبق يدل على : أن تلك الأقاليم كانت
تنعم بحالة إقتصادية جيدة و هو ما يناهض و يخالف تماما جميع النصوص التي تناولت
تلك الفترة في عصور زمنية لاحقة و وصمته بزمن الفوضى و الظلام .
5 – كان الفخار السائد خلال عصر الدولة القديمة
يأخذ الشكل البيضاوي المائل الجوانب أما في عصر اللامركزية الأول أصبح هذا الطراز
محدودا و مرفوضا و حل محله الفخار الذي يأخذ شكل الحقائب و من الممكن أن يكون ذلك
التطور في شكل الفخار ناتج عن تغير شكل عجلة الفخراني نفسها و لعل السبب في ذلك
يرجع إلى حقيقة هامة و هي : إدراك المصري القديم لصنع أدوات تستوعب أشياء أكثر من
ذي قبل و لذا فقد كان فخار الدولة القديمة لا يفي بهذا الغرض . و من ناحية أخرى
تجدر الإشارة إلى أن الفخار الذي كان يوضع في مقابر الدولة القديمة كان يتم
إختياره من الأواني التي كان يملكها صاحبها بالفعل في حياته الدنيوية أما في عصر
اللامركزية الأول فقد كانت تلك الأواني تصنع خصيصا كأثاث جنائزي للمقبرة فقط . 
6 – ظهور صناعة و نحت التماثيل الخشبية للحرفيين و
المهنيين بأنواعهم المختلفة و كان هناك زيادة في صناعة الأقنعة الجصية الملونة (
الكارتوناج ) التي تغطي رأس المومياء و أصبح شائعا إستخدام اللوحات التذكارية
الجنائزية التي ترشد عن مكان و موضع تقدمات القرابين في المقابر أو المقاصير
البسيطة المقطوعة في الصخر و كانت كلها منتجات راقية الجودة و الفكر و تدل على
وجود تحول ثقافي في مجتمعات مصر العليا فضلا عن ذلك فإن ظهور مثل تلك المنتجات في
الأقاليم الجنوبية يكشف عن مدى تطور الحرفيين و العمل المهني في ورش الأقاليم و
على وجود أفكار حضارية جديدة أكدت على أن عصر اللامركزية الأول هو عصر لم تتوقف
فيه حضارة مصر أو إنهارت فيه الثقافة ، بل كانت مفاهيم ذلك العصر بمثابة إضافة و
إكمال لأفكار الدولة القديمة و لذا يمكن القول بوجود حقيقتين هما : 
أ – أن هذا العصر لم يهمل أفكار و مفاهيم الدولة
القديمة تماما كما كان يظن البعض من علماء المصريات .
ب – التوسع في إنتاج مفاهيم الدولة القديمة مع
إضافة أفكار أكثر تطورا منها . 
7 – ظهور نصوص التوابيت و التي كانت عبارة عن
تعاويذ دينية سحرية و أدبية تم نقشها بشكل أساسي على جوانب التوابيت الخشبية و كان
أصحاب تلك التوابيت ينتمون للطبقة الرفيعة في المجتمعات الإقليمية و بالرغم من أن
هذه المتون مشتقة في معظمها من نصوص الأهرام إلا أنها تميزت بما يلي : 
أ – نقل جميع الفعاليات و الطقوس الدينية من جدران
المقابر و ما كانت تحتويه من نقوش و مناظر و شعائر إلى جدران التابوت وحده بحيث
تحيط بجسد المتوفى فتصبح أقرب ما يكون له . 
ب – تمد هذه النصوص صاحبها بإمكانية جمع شمل جميع
أعضاء عائلة المتوفى في العالم الآخر بل و كانت هناك نصوص تتحدث عن أن المتوفى
سيستمر في رعايته و إيوائه لجميع الأقارب و الخدم و الأتباع و الأصدقاء في حياته
الأخرى و لاشك أن هذه الفكرة كانت لها إرهاصات أولى في مقابر الدولة القديمة حيث
كان يكتفي الفنان بتنفيذها على جدران المقبرة 
ج – إحتوت هذه النصوص على عادات و تقاليد و مفاهيم
و طقوس التحنيط و الدفن و بهذا فهي تضفي حماية على المتوفى من خلال هذه التراتيل و
تؤكد على وجود حراسة زمنية من جانب معبودات حارسة مختصة بهذا العمل في مكان
التحنيط و على إتمام شعائر التحنيط و الدفن بكل دقة و إتقان و من هنا يتحول
المتوفى إلى كائن سام و مرتفع بل و يرتقي لدرجة إله و يصادق على كل ذلك عالم
الآلهة .
د – تحتوي هذه النصوص على معارف و إرشادات ضرورية
لتزويد المتوفى بخريطة عن العالم الآخر و كل ما يحتويه من طرق و ممرات سماوية و
أرضية كما أنها كتبت بعناية خاصة حيث تم تسجيلها بالحبر الأحمر بدلا من الحبر
الأسود إلا أنه تجدر الإشارة إلى أنها نصوص دينية غير قابلة للترتيل مثلما نفهم من
السياق المصاحب لها بل هي للإدراك و الفهم و الإستيعاب ، فبمجرد تحقيق ذلك سيتمكن
المتوفى من إتباع ما ورد فيها . 
8 – الصعود السياسي لمدينة طيبة و تطور طرز
المقابر المعمارية الصخرية لجبانة الطارف خلال عصر اللامركزية الأول حيث ظهر تحديث
للنظام المعماري المحلي هناك تجلى عمليا في تسوية أفنية فسيحة منحوتة عند سطح تلال
الصحراء و في كل مؤخرة كل فناء صخري و عند التل نجد صف من الأعمدة المربعة التي
تشكل واجهة المقبرة و قد كان هذا الطراز هو البداية الأولى الجديدة لظهور هذا
النموذج المعماري المعروف بإسم ( مقابر الصف ) و الذي سينتشر في بعض أقاليم مصر
العليا . و عند منتصف الواجة الصخرية ذات الأعمدة المربعة يتم حفر ممر قصير و ضيق
في صخر التل و حتى الوصول إلى مقصورة المقبرة التي تضم أيضا بئر الدفن . 
9 – إن تصميم مقابر الصف المكون من العناصر
التالية : و اجهة كبرى صناعية ذات مدخل في المنتصف - فناء مفتوح – واجهة ذات أعمدة
مربعة – ممر قصير و ضيق – مقصورة المقبرة ( قدس أقداس ) يذكرنا بتصميم المعبد
المصري القديم في أبسط عناصره و بمعنى أدق تحويل المقبرة إلى معبد فتصبح شعائر
المقبرة هي ذاتها شعائر المعبد و يتم تقديس المتوفى في عالمه الآخر 
10 – كان الملك إنتف الأول في طيبة هو أول ملك
يتبع طراز مقابر الصف فقام بعمل مقبرة ذات أبعاد عملاقة فقد بلغ فنائها المفتوح
300 متر طول و 54 متر عرض و إحتوت في الداخل على 3 مقاصير عبادة – 3 قدس أقداس (
واحدة للملك و 2 لزوجتيه ) و تعتبر هذه المقبرة بمثابة إعلان عن ملكية جديدة في
الجنوب سعت منذ البداية نحو تمييز نفسها معماريا عن ملكية الشمال خلال عصر اللامركزية
الأول و كان خلفاء إنتف الأول قد إستمروا في بناء مقابر مشابهة لذلك النموذج
المعماري الأول و لم يحيدوا عنه أبدا و عندما إنتقل الملك ( منتوحتب الثاني ) إلى
الموقع الجديد في الدير البحري ، إنتهج أسلوب بناء مشابه في بعض معطياته المعمارية
لأسلوب مقابر الصف في جبانة الطارف .
11 – قام الملك إنتف الثاني بتصوير نفسه في مقبرته
بجبانة الطارف و هو يرتدي التيجان الملكية فهل يعني ذلك أنه قد سيطر فعليا على
البلاد كلها ؟ ... تخلو الأقاليم الشمالية من آثار هذا الملك مما يقلل من
المصداقية التاريخية لهذا المنظر الدعائي و لكن ما يهمنا في هذا الصدد هو الإقرار
بحقيقة هامة ألا و هي : أن هذا الملك و رغم عدم سيطرته على البلاد بأكملها قد تم
تتويجه في معبد الكرنك لأول مرة و لم يتم تتويجه في منف و هو ما كان متبعا خلال
عصر الدولة القديمة و لعلنا نتسائل في هذا الصدد : هل زحف ملوك طيبة نحو الشمال و
إعادة توحيد مصر خلال نهاية عصر اللامركزية الأول كان يستهدف تأكيد شرعية حكمهم
للبلاد من خلال السيطرة على منف و إتمام تتويجهم في معبدها المقدس ؟
12 – آثار الملك إنتف الثاني خلال نهاية عصر
اللامركزية الأول تمثلت فيما يلي : عمود كجزء من معبد قديم في الكرنك يحمل إسمه –
العثور على بقايا معبد للإلهة ساتت في إلفنتين في أسوان مشيد في عصره – بالرغم من
أن ملوك الدولة القديمة هم أول من أهدوا قرابين و نذور لمعبد ساتت إلا أن إنتف
الثاني كان أول ملك يقيم مقاصير لكلا من ساتت و خنوم في إلفنتين و قام بتخليد
نشاطه بوضع كتابات تذكارية على أبواب هذه المقاصير و قد تبعه في ذلك جميع خلفائه
من حكام طيبة و هو ما يؤكد وجود نهضة حضارية معمارية في أقاليم مصر العليا خلال
نهاية عصر اللامركزية الأول سعيا وراء إحكام السيطرة السياسية و إكتساب الشرعية
الدينية .
13 – لا نعلم حتى الآن كيف تمكن أول حاكم إهناسي
في بداية عصر الأسرة التاسعة ( الملك خيتي ) من الصعود على العرش ، فلا زلنا نجهل
الملابسات و الظروف التي أدت إلى ذلك كما أننا نجهل الأصل الإجتماعي لهذا الرجل و
البعض من علماء المصريات يرى أن هؤلاء الملوك قد إستقروا في إهناسيا كعاصمة ملكية
جديدة و هو إقتراح منطقي و مقبول للإعلان عن نهاية الأسرة الثامنة و بداية الأسرة
التاسعة إلا أننا نجد من ناحية أخرى حقيقة هامة و هي أن الملك مري كا رع و هو آخر
حكام إهناسيا قد تم دفنه في سقارة و هي الجبانة الملكية المنفية القديمة فضلا عن
ذلك نجد إسم العرش الخاص بالملك بيبي الثاني ( أسرة 6 ) قد إتخذه 5 ملوك من
إهناسيا خلال ذلك العصر الأمر الذي يدل على أمر هام و هو : أن هؤلاء الملوك كانوا
يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم يعملون و يحكمون وفقا للمنظومة السياسية و التقاليد
الحضارية المنفية القديمة إلا أن عدم وجود آثار ملكية خاصة بهم و بنفس الكثافة في
صعيد مصر يؤكد فشلهم في تأسيس قوة مركزية وعدم نجاحهم في إنشاء نظام ملكي مطلق
يسير على نفس النمط السياسي لملوك الدولة القديمة .
14 – بالكشف عن مقابر في سقارة و هليوبوليس و
هيراكليوبوليس و بعض أقاليم الشمال وجد العلماء زيادة في عدد المقابر فضلا عن تنوع
المحتويات الجنائزية و تطور صناعة الأثاث الجنائزي بل و ظهور مصاطب صغيرة لفئة
إجتماعية متوسطة تضم مقاصير مزينة بمناظر جيدة الجودة و بها لوحات و أبواب وهمية و
هو ما يكشف عن طرح هام و هو : عدم وجود أي آثار أو إشارات مادية تدل على وقوع ثورة
إجتماعية – كما وصفتها المصادر التاريخية اللاحقة - أو حرب شرسة بعد نهاية عصر
الدولة القديمة فلا وجود لأي تخريب أو آثار عنف في مقابر الدولة القديمة و لا
مقابر عصر اللامركزية الأول و هو ما يعني أيضا أن الحرب الأهلية التي تناولتها
مصادر عصر اللامركزية الأول بين مملكتي طيبة و إهناسيا كانت ( محدودة الأثر ) و لم
تكن حربا تدميرية بالمعنى الفعلي و ذلك يناهض و يخالف تماما نصوص ذلك العصر التي
مالت نحو المبالغة كثيرا في تصوير تلك الحرب 
15 – ظهور قبور جماعية متعددة لدفن مجموعات كبيرة
من الناس في محيط القبور الإقليمية الضخمة و هو ما يدل على نشأة شخصية إجتماعية
جديدة و هي شخصية ( صاحب الفضل و النعم ) و لا ينبغي فهم هذه الشخصية في ضوء علم
الإجتماع المقارن على أنه ( صاحب سلطة ) و الذي يعتلي منصبا منظما تحت بيروقراطية
معينة ، و إنما هو ذلك الرجل الذي يقوم ( برعاية و إيواء و تموين مجموعة كبيرة من
الناس على حسابه الخاص ) فيصبح مصيرهم متعلق به مما يعني ظهور نخبة أرستقراطية
إقليمية محلية أرادت أن تعبر عن نفسها و سلطتها بالشكل الذي ترغب فيه و تريده و
بوعي تام منها .
16 – إنتشرت مدافن و مقابر فقيرة في الجيزة و
سقارة خلال عصر اللامركزية الأول في وسط و محيط مقابر الدولة القديمة بل و تم
إعادة إستخدام بعض المقابر التي ترجع لعصر الدولة القديمة خلال عصر اللامركزية
الأول و شيدت فوق المقابر القديمة مقابر أخرى لطبقات فقيرة و إستخدموا فيها
العناصر المعمارية للمقابر القديمة و حفرت آبار أخرى بين المصاطب في الطرق التي
تفصلها عن بعضها البعض مما يعني وجود حملة معمارية واسعة النطاق في جبانتي سقارة و
الجيزة غيرت من شكل البناء المعماري التخطيطي للجبانتين الأمر الذي أدى لحدوث فوضى
معمارية ، فقد تم بناء الساحات و المنشآت الجنائزية بلا أي إعتبار واضح فنتج عن
ذلك : إنقطاع و إنقراض الطقوس الجنائزية و تقدمات القرابين التي كانت تؤدى لصالح
الأموات في جبانتي سقارة و الجيزة حيث لم تعد هناك أي إمكانية عملية للوصول لهذه
المقابر القديمة لعمل الشعائر اللازمة لأصحابها . و في واقع الأمر أن هذه المدافن
لم تكن منقوشة و لا تمدنا بمعلومات عن عصرها و لا من هو الشخص المدفون بها و لكن
من خلال وجود بعض الأبواب الوهمية فيها عرفنا أنها ترجع لعصر اللامركزية الأول و
يمكن لنا أن نفترض أن بعض الموظفين المحليين قد ظلوا يعملون في هاتين الجبانتين
خلال عصر اللامركزية الأول و كانوا هم أصحاب هذه المقابر الغير منقوشة فعملوا على
إستحضار بعض معطيات المقتابر القديمة لإنشاء مدافنهم الجديدة . جدير بالذكر أن هذا
الأمر الخاص بإنتهاك المقابر القديمة و عدم إستمرارية الطقوس بها لم يحدث إلا في
جبانتي سقارة و الجيزة فقط   
يتبين لنا مما تقدم أن عصر اللامركزية الأول لم
يكن بهذه الصورة السلبية التي وصفتها المصادر التاريخية اللاحقة التي وصمته بزمن
الفوضى و البؤس و الكوارث و الفوضى ، بل هو العصر الذي أضاف و أكمل حضارة عصر
الدولة القديمة ، فثقافة المجتمع هي ( خبرة تراكمية ) بالمعنى الأنثروبولوجي و
لولا الإنجازات الحضارية التي شهدتها مصر خلال ذلك العصر لما شهدت ذلك التقدم الحضاري
المذهل خلال عصر الدولة الوسطى و الذي تم وصفه بأنه نتاج وحيد لعودة السلطة
الملكية المركزية مرة أخرى ، فأي تقدم حضاري يظهر في أي عصر لا يمكن أن يظهر لمجرد
عودة السلطة الملكية و توحيد البلاد ( و يمكن القول أنه أحد العوامل التي ساهمت في
إنشاء حضارة الدولة الوسطى المذهلة و ليس السبب الوحيد ) و من هنا ندرك أنه لا
ينبغي أن نفهم مفهوم التقدم الحضاري إلا من خلال السلطة الملكية المركزية وحدها
فذلك أمر غير دقيق علميا فضلا عن كونه مناهضا للحقائق العلمية فحضارة منف الملكية
حتى و إن فقدت بريقها لفترة من الزمن إلا أن ذلك نتج عنه إنتعاش حضاري واضح في
الأقاليم المصرية و لم يكن لهذا الإنتعاش أن يظهر لولا أن مرت البلاد بهذه الفترة
التاريخية في حضارتها القديمة و ماضيها التليد . 
          

الجمعة، 9 أغسطس 2013

منظران لأقدم حرم ( موقع مقدس ) باليوليتي في جبل ( العديد )


بسم الله الرحمن الرحيم 


منظران لأقدم حرم ( موقع مقدس ) باليوليتي في جبل ( العديد ) - بكسر العين - في منطقة ( حار كركوم ) ..............




 تعتبر منطقة حار كركوم التي تقع على جبل العديد في صحراء النقب هي أقدم تجمع بشري معروف حول موقع مقدس في عصور ما قبل التاريخ مما يؤهله لأن يكون " حرما باليوليثيا " و هو يؤرخ بفترة زمنية تمتد من 45000 ألف ق.م حتى 36000 ألف ق.م .و جدير بالذكر أن هذا الموقع كان يتميز بوجود غطاء نباتي كثيف و رطوبة مرتفعة في تلك الفترة . و هنا ينبغي لنا أن نشير إلى الحقائق المرتبطة بهذا الحرم الباليوليثي و هي : 
1 - تنتمي هذه التشكيلات الحجرية الضخمة للفترة الإنتقالية التي تقع بين نهايات العصر الحجري القديم الأوسط و بدايات العصر الحجري القديم الأعلى في منطقة فلسطين و يرى بعض علماء ما قبل التاريخ أن هذه التشكيلات الحجرية كانت قد وضعت في مكانها من جانب إنسان نياندرتال الفلسطيني و لكن هذا الأمر لم يبلغ بعد مرتبة اليقين ، فهناك إحتمالية تعايش الإنسان العاقل القديم مع نياندرتال في نفس المكان و في ذات الفترة .
2 - عثر في هذا الحرم على تشكيلات حجرية دائرية و حلزونية ضخمة وضعت في أرض منخفضة ( مساحتها حوالي 20 متر في 40 متر ) و كان بعض هذه الصخور الحجرية يزن مئات الكيلو جرامات مما يؤهلها لأن تكون ( megalithic - ميجاليثيك ) أي صخور ضحمة تم قطعها من محاجر و عن عمد و نقلها من أماكن بعيدة و لذلك فهي تعتبر أقدم تشكيلات حجرية ميجاليثية معروفة في عصور ما قبل التاريخ و ربما كانت تشكل " معابد صغرى " ؟ 
3 - وضع هذه التشكيلات الحجرية على جبل ، يؤكد على قداسة المكان و إرتباطه بمفهوم قوى ما ورائية علوية سمائية إتجه نحوها الإنسان في ذلك العصر 
4 - أهم ظاهرة هي : إكتشاف 40 تمثال من الظران على هيئات آدمية و حيوانية داخل هذه التشكيلات الدائرية و الحلزونية و كان من أشهرها ( البومة و الطائر ) و تراوح إرتفاع هذه التماثيل ما بين 60 سم إلى 115 سم 
5 - لا يمكن إعتبار هذه التماثيل هيئة لمعبودات كما ظن بعض الباحثين ففكرة ظهور المعبود لم تكن قد تبلورت في ذلك العصر بل يغلب على الظن أنها أدوات طقسية إستخدمت لأغراض تتعلق بسحر الصيد حيث كانت تستخدم في ذلك الحرم الباليوليثي هدف الإيقاع بحيوانات و طيور الموقع نفسه 
6 - أكبر مفاجئات الموقع : أن وضع و ترتيب التشكيلات الحجرية الضخمة يتطابق مع هيئة إمرأة و لا سيما و أن هذه التشكيلات أعطت هيئات لأجزاء جسد أنثوي فضلا عن إكتشاف نتوئين صخريين بارزين إلى الغرب من هذه التشكيلات مما يرجح أنهما ثديين الأمر الذي يدل على وجود تقديس خاص لقوى ماورائية أنثوية كانت هي الإرهاصات الأولى لمفهوم الإلهة الأم فيما بعد و ما يؤكد ذلك : إكتشاف تماثيل متعددة داخل التشكيلات الحجرية لهيئة المرأة الأم و التي ربما قدست في هذا الموقع نظرا لإرتباطها بنبع ( بئر ) ماء جاف تم إكتشافه بجوار هذه التشكيلات الحجرية حيث إرتبطت المعبودة الأم في ثقافات ما قبل التاريخ بفكرة نبع المياه التي تخرج من بطن الأرض الأمر الذي يعني أن هذا البئر كان سببا لتجمع عابري الصحراء حول ذلك المكان و إقامة حرم ( موقع مقدس ) من التشكيلات الحجرية الضخمة و وضع تماثيل صغيرة لعمل شعائر تهدف لإسترضاء قوى ماورائية أنثوية تحكمت في هذا النبع

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

تشكيل و مونتاج ماضي الدولة الوسطى في عصر الرعامسة


بسم الله الرحمن الرحيم

تشكيل و مونتاج ماضي الدولة الوسطى في عصر الرعامسة


من المسلم به أن ثقافة المجتمع ( سلوك و
أفكار و تقاليد ) تحمل الماضي بين طياتها دون وعي أو إدراك منها في معظم الأحيان .
فأي عمل تقليدي يقوم به المجتمع يعني : عمل شيء بشكل متكرر لأن ذلك العمل كان
دائما متعارف عليه . و بواسطة تكرار العمل التقليدي و المتعارف عليه تظهر التقاليد
الحضارية التي تجعل ما كان بالأمس حاضرا بطريقة لا يظهر فيها و كأنه ماضيا .
فالتقاليد الحضارية في هذه الحالة تجعل الماضي و كأنه غير مرئي ، فلا فارق بين
الأمس و اليوم . 
و هناك حالة أخرى للتعامل مع الماضي تختلف عن
الحالة السابقة و تتمثل في وجود إنقطاع حضاري زمني بين الأمس و اليوم ، و هنا تظهر
الحاجة الإجتماعية الحضارية الماسة لإبقاء الأمس في اليوم و لإبقاء الماضي المنقطع
و المتباعد عنا زمنيا في الحاضر و بمعنى أدق يتم بعث هذا الماضي المنقطع بكل الطرق
حتى يرتفع إلى نموذج الماضي المثالي و الذي نلقي عليه نظرتنا بكل إعجاب و تقدير و
تبجيل .
كان ذلك هو الشكل الذي تعامل به ملوك عصر
الرعامسة مع ماضي الدولة الوسطى فكيف تم ذلك الحدث ؟ 
1 – إهتم أهل الفكر و الدين في عصر الرعامسة
بالنصوص الأدبية للدولة الوسطى فسعوا نحو إبراز لغة الأدب آنذاك الذي كان يحمل كل
الإنتاج الحضاري و الفكري لذلك الزمن المنقضي ، و تم رفع أدب الدولة الوسطى و لغته
إلى شكل الأدب المثالي النموذجي الذي ينبغي معرفته و تعلمه و الإلتزام بما جاء فيه
. و في ذات الوقت سعى أهل الفكر في عصر الرعامسة نحو تطوير المفردات و التعبيرات
اللغوية في زمنهم بحيث أصبح الفارق بين لغة الدولة الوسطى الماضية و لغة الرعامسة
الحاضرة بارزة للعيان و من هنا أصبح هناك ثنائية للزمن : زمن ماضي يرجع للدولة
الوسطى ينبغي بعثه من جديد و زمن حاضر ينتمي لعصر الرعامسة .
2 – لم تتجه حضارة عصر الرعامسة نحو ماضي
الدولة الوسطى دون تبصر و تأمل بحقيقة ذلك الماضي المنقضي بل تم إختيار و إنتقاء
أهم العناصر التي تتوائم و تتوافق مع معطيات عصر الرعامسة الفكرية و الحضارية و
السياسية فقد تم خلقه من جديد وفقا لمعايير سياسة ذلك العصر
3 – إن العودة لماضي الدولة الوسطى لم تكن
لتتم في زمن الرعامسة دون الإفتراض أن ذلك الماضي المثالي قد تم نسيانه ، فلا عودة
لماضي مبجل دون حدوث إنقطاع زمني حضاري . 
4 – لم يكن السبب في نسيان ماضي الدولة
الوسطى هو أحداث عصر اللامركزية الثاني الذي إتسم بإحتلال الهكسوس للدلتا ، بل كان
عصر العمارنة ! و لعل ذلك يوضح لنا مدى تأثير و جذرية هذه الثورة الثقافية في
إحداث تحولات فكرية هامة في البلاد ، فقد كان عصر العمارنة يتجه لإحداث قطيعة
حضارية تامة مع الماضي الأمر الذي نفهم من خلاله لماذا سعى أهل الفكر و الحكم
للعودة نحو أقرب ماضي مثالي يستمدون منه معنى و مغزى لحياتهم فكان أقرب ماضي
بالنسبة إليهم هو ماضي الدولة الوسطى و الذي كان و لاشك يحمل في طياته ماضي الدولة
القديمة .
و لعل أوضح مثال لتطبيق مفهوم الإقتداء بماضي
الدولة الوسطى و ما فعله الأسلاف من قبل هو ذلك اللقب الذي إتخذه الملك سيتي الأول
– المؤسس الفعلي لزمن الرعامسة – و هو ( وحم مسوت ) و هو نفس اللقب الذي كان قد
إتخذه لنفسه الملك ( أمنمحات الأول ) مؤسس الأسرة الثانية عشرة و يمكن لنا أن
نعتبره المؤسس الفعلي للدولة الوسطى .
إن هذا التعبير ( وحم مسوت ) كان يعني :
إعادة أو تكرار الولادة و لاريب أن الملك أمنمحات الأول عندما إتخذه لنفسه في
بداية حكمه كان يرنو للإعلان عن ( بداية عهد جديد ) و هو نفس ما كان يهدف إليه
الملك سيتي الأول الذي أراد أن يشير لأزمات عصر العمارنة بوصفه زمن الكوارث و من
هنا تبرز الحاجة للإعلان عن عهد جديد . 
لا يعني هذا العهد الجديد التنكر للماضي
القديم ، بل التنكر لفترة واحدة و سابقة لذلك العهد الجديد مباشرة و هو الماضي
الغير مرضي عنه ، ثم العودة إلى الماضي الأول و الأقدم الذي يحمل صفة المثالية
العظمى . 
إن تعبير ( وحم مسوت ) – إعادة الولادة –
الذي أعلن عنه الملك سيتي الأول و إلتزم به إبنه الملك رمسيس الثاني تجلى عمليا من
خلال ما يلي : 
1 – إعادة الآلهة إلى مصر بعد أن هجرتها في
زمن العمارنة . فصور و مناظر و تماثيل المعبودات عندما يتم نحتها أو تصويرها فهي
هنا بمثابة آلهة مولودة من جديد و من هنا نفهم معنى مصطلح ( وحم مسوت ) – إعادة
ميلاد ( الآلهة ) و لاسيما إذا وضعنا في الإعتبار ما قام به إخناتون عندما إتجه
نحو تحطيم مناظر و تماثيل المعبودات . 
2 – بنفس الهمة و النشاط الذي كان لدى
إخناتون في تدمير ماضي الآلهة و إبعادها عن أرض مصر ، إتجه ملوك الرعامسة بكل
إتقان و دقة و مثابرة نحو تشييد كم هائل من المعابد لإرجاع هذه الآلهة لأرض مصر . 
3 – إهتم الملك رمسيس الثاني ببعث ماضي
الدولة القديمة و ماضي الدولة الوسطى على الأخص و عمل على وضع أسمائه على تماثيل
الملوك القدامى لكي يحوز على الكا الملكية ( قبس الأسلاف ) و من هنا كان القرار
بجلب معظم تماثيل الملوك الأسلاف إلى العاصمة الجديدة في الدلتا . إن هذا النوع من
إعادة إستخدام تماثيل الملوك الأسلاف هو شكل جديد من الرجوع إلى الماضي . و قد
إهتم هو بنفسه بتماثيل سنوسرت الأول و سنوسرت الثالث مما أدى إلى حدوث نتيجة غريبة
: إنصهار و إندماج و تداخل شخصية رمسيس الثاني مع شخصية سنوسرت الأول و سنوسرت
الثالث فلقد تقمص الملك رمسيس الثاني هاتين الشخصيتين لدرجة أن ديودور الصقلي كان
ينسب أعمال سنوسرت الأول و الثالث لرمسيس الثاني و العكس صحيح . 
يتبين لنا مما تقدم أن مصر لم تترك ماضي
الدولة الوسطى في عصر الرعامسة لتجعل منه أحداث إنقضت و لن تعود ، بل إتجهت بشكل
واضح نحو خلقه من جديد بعد إنتقاء المفيد منه وفقا لمعايير الحاضر فظهر ذلك الماضي
على السطح من جديد لكي يخدم توجهات الزمن الحاضر .