الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

تشكيل و مونتاج ماضي الدولة الوسطى في عصر الرعامسة


بسم الله الرحمن الرحيم

تشكيل و مونتاج ماضي الدولة الوسطى في عصر الرعامسة


من المسلم به أن ثقافة المجتمع ( سلوك و
أفكار و تقاليد ) تحمل الماضي بين طياتها دون وعي أو إدراك منها في معظم الأحيان .
فأي عمل تقليدي يقوم به المجتمع يعني : عمل شيء بشكل متكرر لأن ذلك العمل كان
دائما متعارف عليه . و بواسطة تكرار العمل التقليدي و المتعارف عليه تظهر التقاليد
الحضارية التي تجعل ما كان بالأمس حاضرا بطريقة لا يظهر فيها و كأنه ماضيا .
فالتقاليد الحضارية في هذه الحالة تجعل الماضي و كأنه غير مرئي ، فلا فارق بين
الأمس و اليوم . 
و هناك حالة أخرى للتعامل مع الماضي تختلف عن
الحالة السابقة و تتمثل في وجود إنقطاع حضاري زمني بين الأمس و اليوم ، و هنا تظهر
الحاجة الإجتماعية الحضارية الماسة لإبقاء الأمس في اليوم و لإبقاء الماضي المنقطع
و المتباعد عنا زمنيا في الحاضر و بمعنى أدق يتم بعث هذا الماضي المنقطع بكل الطرق
حتى يرتفع إلى نموذج الماضي المثالي و الذي نلقي عليه نظرتنا بكل إعجاب و تقدير و
تبجيل .
كان ذلك هو الشكل الذي تعامل به ملوك عصر
الرعامسة مع ماضي الدولة الوسطى فكيف تم ذلك الحدث ؟ 
1 – إهتم أهل الفكر و الدين في عصر الرعامسة
بالنصوص الأدبية للدولة الوسطى فسعوا نحو إبراز لغة الأدب آنذاك الذي كان يحمل كل
الإنتاج الحضاري و الفكري لذلك الزمن المنقضي ، و تم رفع أدب الدولة الوسطى و لغته
إلى شكل الأدب المثالي النموذجي الذي ينبغي معرفته و تعلمه و الإلتزام بما جاء فيه
. و في ذات الوقت سعى أهل الفكر في عصر الرعامسة نحو تطوير المفردات و التعبيرات
اللغوية في زمنهم بحيث أصبح الفارق بين لغة الدولة الوسطى الماضية و لغة الرعامسة
الحاضرة بارزة للعيان و من هنا أصبح هناك ثنائية للزمن : زمن ماضي يرجع للدولة
الوسطى ينبغي بعثه من جديد و زمن حاضر ينتمي لعصر الرعامسة .
2 – لم تتجه حضارة عصر الرعامسة نحو ماضي
الدولة الوسطى دون تبصر و تأمل بحقيقة ذلك الماضي المنقضي بل تم إختيار و إنتقاء
أهم العناصر التي تتوائم و تتوافق مع معطيات عصر الرعامسة الفكرية و الحضارية و
السياسية فقد تم خلقه من جديد وفقا لمعايير سياسة ذلك العصر
3 – إن العودة لماضي الدولة الوسطى لم تكن
لتتم في زمن الرعامسة دون الإفتراض أن ذلك الماضي المثالي قد تم نسيانه ، فلا عودة
لماضي مبجل دون حدوث إنقطاع زمني حضاري . 
4 – لم يكن السبب في نسيان ماضي الدولة
الوسطى هو أحداث عصر اللامركزية الثاني الذي إتسم بإحتلال الهكسوس للدلتا ، بل كان
عصر العمارنة ! و لعل ذلك يوضح لنا مدى تأثير و جذرية هذه الثورة الثقافية في
إحداث تحولات فكرية هامة في البلاد ، فقد كان عصر العمارنة يتجه لإحداث قطيعة
حضارية تامة مع الماضي الأمر الذي نفهم من خلاله لماذا سعى أهل الفكر و الحكم
للعودة نحو أقرب ماضي مثالي يستمدون منه معنى و مغزى لحياتهم فكان أقرب ماضي
بالنسبة إليهم هو ماضي الدولة الوسطى و الذي كان و لاشك يحمل في طياته ماضي الدولة
القديمة .
و لعل أوضح مثال لتطبيق مفهوم الإقتداء بماضي
الدولة الوسطى و ما فعله الأسلاف من قبل هو ذلك اللقب الذي إتخذه الملك سيتي الأول
– المؤسس الفعلي لزمن الرعامسة – و هو ( وحم مسوت ) و هو نفس اللقب الذي كان قد
إتخذه لنفسه الملك ( أمنمحات الأول ) مؤسس الأسرة الثانية عشرة و يمكن لنا أن
نعتبره المؤسس الفعلي للدولة الوسطى .
إن هذا التعبير ( وحم مسوت ) كان يعني :
إعادة أو تكرار الولادة و لاريب أن الملك أمنمحات الأول عندما إتخذه لنفسه في
بداية حكمه كان يرنو للإعلان عن ( بداية عهد جديد ) و هو نفس ما كان يهدف إليه
الملك سيتي الأول الذي أراد أن يشير لأزمات عصر العمارنة بوصفه زمن الكوارث و من
هنا تبرز الحاجة للإعلان عن عهد جديد . 
لا يعني هذا العهد الجديد التنكر للماضي
القديم ، بل التنكر لفترة واحدة و سابقة لذلك العهد الجديد مباشرة و هو الماضي
الغير مرضي عنه ، ثم العودة إلى الماضي الأول و الأقدم الذي يحمل صفة المثالية
العظمى . 
إن تعبير ( وحم مسوت ) – إعادة الولادة –
الذي أعلن عنه الملك سيتي الأول و إلتزم به إبنه الملك رمسيس الثاني تجلى عمليا من
خلال ما يلي : 
1 – إعادة الآلهة إلى مصر بعد أن هجرتها في
زمن العمارنة . فصور و مناظر و تماثيل المعبودات عندما يتم نحتها أو تصويرها فهي
هنا بمثابة آلهة مولودة من جديد و من هنا نفهم معنى مصطلح ( وحم مسوت ) – إعادة
ميلاد ( الآلهة ) و لاسيما إذا وضعنا في الإعتبار ما قام به إخناتون عندما إتجه
نحو تحطيم مناظر و تماثيل المعبودات . 
2 – بنفس الهمة و النشاط الذي كان لدى
إخناتون في تدمير ماضي الآلهة و إبعادها عن أرض مصر ، إتجه ملوك الرعامسة بكل
إتقان و دقة و مثابرة نحو تشييد كم هائل من المعابد لإرجاع هذه الآلهة لأرض مصر . 
3 – إهتم الملك رمسيس الثاني ببعث ماضي
الدولة القديمة و ماضي الدولة الوسطى على الأخص و عمل على وضع أسمائه على تماثيل
الملوك القدامى لكي يحوز على الكا الملكية ( قبس الأسلاف ) و من هنا كان القرار
بجلب معظم تماثيل الملوك الأسلاف إلى العاصمة الجديدة في الدلتا . إن هذا النوع من
إعادة إستخدام تماثيل الملوك الأسلاف هو شكل جديد من الرجوع إلى الماضي . و قد
إهتم هو بنفسه بتماثيل سنوسرت الأول و سنوسرت الثالث مما أدى إلى حدوث نتيجة غريبة
: إنصهار و إندماج و تداخل شخصية رمسيس الثاني مع شخصية سنوسرت الأول و سنوسرت
الثالث فلقد تقمص الملك رمسيس الثاني هاتين الشخصيتين لدرجة أن ديودور الصقلي كان
ينسب أعمال سنوسرت الأول و الثالث لرمسيس الثاني و العكس صحيح . 
يتبين لنا مما تقدم أن مصر لم تترك ماضي
الدولة الوسطى في عصر الرعامسة لتجعل منه أحداث إنقضت و لن تعود ، بل إتجهت بشكل
واضح نحو خلقه من جديد بعد إنتقاء المفيد منه وفقا لمعايير الحاضر فظهر ذلك الماضي
على السطح من جديد لكي يخدم توجهات الزمن الحاضر . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق