الثلاثاء، 23 يوليو 2013

لوحة الملك بي عنخي – بي



بسم الله الرحمن الرحيم 

 لوحة الملك بي عنخي – بي


مرفق بالمقال الجزء العلوي لهذه اللوحة فقط و لا يحتوي المنظر على بقية النصوص المرافقة للوحة و المشهد هنا هو عبارة عن تصوير لمفهوم إخضاع زعماء عصر اللامركزية الثالث .......................................................................................................................................................................................... يشير شاهد ( لوحة ) الملك بي عنخي ( أو الملك بي ) إلى حالة الوضع السياسي في مصر إبان نهاية عصر اللامركزية الثالث عندما كانت مصر مقسمة إلى عدد من الأقاليم و يحكم كل إقليم ملك أو زعيم و هو الوضع السياسي الذي حافظ عليه الملوك من ذوي الأصل الليبي خلال الأسرات من 22 إلى 24 . و الحال أن هذا الوضع السياسي لم يكن سببا في وجود شكوى من مفهوم ( الفوضى ) و ذلك على النقيض من عصري اللامركزية الأول و الثاني و الذي خرجت فيه مجموعة من الأدبيات السياسية و الفكرية التي تصف الإنحلال و الفوضى جراء اللامركزية في شكل السلطة آنذاك . فلا وجود لهذه الأدبيات السياسية خلال عصر اللامركزية الثالث ، بل على النقيض من ذلك نجد جميع نصوص تلك الفترة و هي تشيد بهذا النظام السياسي ( و هي نصوص ملكية مغرضة ) فما حدث في مصر خلال ذلك العصر هو أمر يدعو للإنتباه و الغرابة حقا ! فقد كانت جميع الأسر الملكية و مناطق السلطة المختلفة متعايشة سلميا مع بعضها البعض الأمر الذي يؤكد على حقيقة أن اللامركزية كانت هي نموذج منتقى عن وعي و إدراك مقصود لذاته بأهمية هذا الوضع السياسي فنحن هنا أمام حالة ( ملكيات سياسية متعددة ) إعترفت ببعضها البعض الأمر الذي يكشف عن وجود تأثير أجنبي في مفهوم الأيدولوجيا الملكية المصرية التي لا تتناسب و لا تتفق مع مفهوم اللامركزية . يمكن القول و بلا مبالغة أن شاهد الملك بي عنخي ( الملك بي ) – و هو من الملوك من ذوي الأصل النوبي خلال عصر الأسرة 25 - يعتبر أهم أنشودة لعصر اللامركزية الثالث فنص لوحته يقف مع النظام السياسي لمفهوم اللامركزية في مصر بل و يدافع عن هذا النظام ! فالملك بي عنخي ( الملك بي ) هنا يعترف بسلطة مختلف الملوك و الأمراء من ذوي الأصل الليبي و الذين أخضعهم لسلطته إلا أنه ترك لهم ألقابهم و إعترف بسلطتهم داخل أقاليمهم بل و نجده يتحدث عن حربه ضد الملك ( تاف نخت ) حاكم سايس خلال الأسرة 24 و الذي سعى لإنهاء عصر اللامركزية الثالث فتوجه لشن حملات عسكرية كبيرة ضد أقاربه من الملوك و الأمراء من ذوي الأصل الليبي حيث كان يهدف لتوحيد مصر سياسيا تحت سلطته و إنهاء حالة اللامركزية إلا أن بي عنخي ( بي ) وقف ضد و أجبره على التراجع و حافظ على اللامركزية خلال بداية الأسرة 25 . لاريب هنا أن ما نتحدث عنه هنا هو ضد التقاليد الملكية المصرية التقليدية المعهودة و إلا لما ظهر نص تلك اللوحة لكي يرسم صورة تاريخية مناهضة للصورة التقليدية و نلاحظ عند قمة اللوحة مشهد في منتهى الأهمية يحتوي على العناصر التالية – أنظر الصورة المرفقة بالمقال – 1 – يظهر الملك بي عنخي ( بي ) في وسط المشهد متوجها ناحية اليمين و يجلس خلفه المعبود آمون على العرش ( و هو هنا آمون رب جبل البرقل في النوبة العليا ) و هو ينظر بنفس الإتجاه و ترافقه المعبودة موت . 2 – يظهر أمام المنتصر النوبي الكوشي صفين من أربعة حكام ممثلين في وضع خشوع و تعبد أمام بيعنخي و يظهرون بالكوبرات الملكية بل و بصفة ( نسوت ) أي ملك و لهذا السبب تم نقش أسماؤهم في خانات ملكية و قد أمكن التعرف على إسم كل إقليم على حدة لهؤلاء الحكام من خلال متن اللوحة نفسه حيث لم تذكر هذه الأقاليم في المشهد العلوي للوحة نفسها . 3 – و كان هؤلاء الملوك كالتالي : نمرود ملك هيرموبوليس و هو ملك الأشمونين حيث يظهر في المشهد وهو يمسك بآلة السيستروم و يسحب بيده اليسرى حصانا من اللجام أما بقية الملوك الممثلين في الصف السفلي من اليمين إلى اليسار فهم : أوسركون الرابع ملك تل بسطة ( و هو الحاكم الأخير للأسرة 22 التي عاصرت و تزامنت مع الأسرتين 23 و 24 ) و الملك يوبوت و هو ملك ليونتوبوليس ( و هي تل المقدام في الدقهلية ) و هو آخر ملوك الأسرة 23 ( التي عاصرت الأسرتين 22 و 24 ) و الملك بيفجاو عوي باستت و هو ملك هيراكليوبوليس ( و هي إهناسيا المدينة ) 4 – كما نشاهد على يسار المشهد أربعة أمراء من أصول ليبية تزين رؤسهم الريشة الملازمة لهم و هم إثنان من حكام الأقاليم ( حاتيو عا ) و إثنان من ( زعماء أو رؤساء الما – المشاشا ) و يحمل أحدهم الإسم الليبي ( أكانوش ) و هو حاكم سمنود . هناك مجموعة من الحقائق الهامة التي ينبغي لنا أن نشير إليها و هي : 1 – إن جميع من تم تصويرهم من الحكام من ذوي الأصل الليبي هم قلة قليلة من مجموع حكام تلك الفترة ، ففي نص لوحة الملك بي عنخي ( بي ) تم ذكر أسماء أخرى كثيرة لحكام لم يتم تصويرهم في المشهد . 2 – هل الحكام الذين صوروا في هذا المشهد هم أقوى الحكام سياسيا في ذلك العصر و لهذا السبب قام الفنان بتصويرهم و تجاهل في ذات الوقت من هم أقل منهم مكانة ؟ أم أن من تجاهل الفنان تصويرهم كانوا فعليا من الخصوم المنافسين الذين لم يرضخوا لسلطة بي عنخي ( بي ) بصرف النظر عن ما ورد في نص لوحته من خضوع جميع الحكام له ؟ ... نلاحظ هنا أن تاف نخت ملك سايس في الأسرة 24 لم يتم تصويره على الإطلاق و هو أقوى المنافسين لبي عنخي ( بي ) 3 – جميع الحكام الذين تم تصويرهم في المشهد لم يتم إعتبارهم وفقا لسياق النص و معطيات المشهد الفنية من ( المتمردين ) و لا من ( الأعداء البائسين ) بل يظهرون بأرديتهم الرسمية و ألقابهم التي تدل على هويتهم الملكية 4 – نحن هنا و أمام ذلك المشهد الفني أمام حالة فريدة من نوعها في تاريخ الفن المصري القديم ألا و هي : تمثيل ثلاث ملوك ( من الأشمونين و تل المقدام و إهناسيا ) و هم في وضع خشوع و تقوى أمام ملك ( و هو الملك بيعنخي أو بي ) و هذا الملك يكتسب قداسة بفضل تصويره أمام آمون رع و موت . 5 – يكشف هذا المشهد عن أمر هام و هو : أن الإنسان في مصر كان يعيش في تقاويم و تواريخ زمنية متعددة ، فكان التعداد الزمني الرسمي لكل تقويم يختلف عن الآخر ، فتقويم تل بسطة يختلف عن نظيره في طيبة و تقويم طيبة يختلف عن تقويم إهناسيا ... إلخ و يرجع السبب في ذلك إلى تعدد الملكيات و الإبقاء على مفهوم اللامركزية من جانب الحكام المسيطرين على أقاليم البلاد 6 – أن عصر اللامركزية الثالث لم ينتهي بنهاية الأسرة 24 بل إمتد حتى بداية الأسرة 25 أي حتى عصر بي عنخي ( بي ) . و نستعين هنا بأهم فقرة من فقرات لوحة ذلك الملك حيث كشفت عن طبيعة الحكم السياسي لذلك العصر و ورد فيها ما يلي : " لقد وضعني آمون نباتا – آمون رب جبل البرقل في النوبة العليا – ملكا على هذا البلد و عندما أقول أنا لأحد : كن ملكا ، فيكون ، أو عندما أقول لأحد : لا تكن ملكا فلا يكون . و قد وضعني آمون طيبة ملكا على مصر و مثلما أقول أنا لأحد الأشخاص : أنت تتوج ، فهو يتوج ، أو أنت لا تتوج ، فهو لا يتوج فكل من كان تحت حمايتي لا يخاف خطر إحتلال مدينته ، فالآلهة يضعون ملكا و الناس يضعون ملكا أما أنا فهو الملك الذي وضعه آمون " تكشف هذه الفقرة عن بعض الأمور البالغة الأهمية و تتمثل فيما يلي : 1 – إتفاق كهنة آمون مع الملك بي عنخي ( بي ) على تتويجه في مدينة طيبة و تحديدا في معابد الكرنك و الإعتراف بشرعيته السياسية . 2 – يعتبر بيعنخي ( بي ) نفسه على أنه الملك الكبير بمعنى سياسي مقارب و مشابه لما كان موجود في بلاد الرافدين في ذلك العصر ، فالملك الآشوري و رغم هيمنته و سلطته على جميع البلاد إلا أنه يقوم بتعيين الملوك تحت سلطته و يقوم بتثبيت ألقابهم و جميع مميزاتهم ، فنلاحظ من ثنايا تلك الفقرة أن بي عنخي ( بي ) هو الذي يمنح الموافقة لأي فرد في مصر بالتتويج مما يؤكد على إهتمامه بالحفاظ على شكل السلطة اللامركزية خلال ذلك العصر . 3 – يسعى بي عنخي هنا للتأكيد على ملكيته المميزة عن جميع الملوك : فجميع الملوك إما هم موضوعين على العرش من جانب الآلهة أو متوجين من جانب الناس أما هو فهو المتوج وحده فقط من جانب الإله آمون . الخطاب هنا ذي طابع أيدولوجي يسعى بقوة لإقناع السامع أو القاريء بتقوى و ورع الملك التي كانت سببا في عطف ربه آمون عليه و وهبه الشرعية و تمييزه على من حوله . 4 – ظهور آمون رب طيبة في تلك الفقرة و تتويج الملك هناك في تلك المدينة المقدسة هو تبشير لعودة دولة الإله آمون في طيبة و التي كان يحكم الإله آمون بنفسه مثلما قام أنصاره بالترويج لهذه الفكرة خلال نهاية الأسرة 20 و طوال الأسرة 21 إلا أننا هنا نؤكد على أمر هام : من الآن فصاعدا ستصبح دولة الإله آمون في طيبة خاضعة عمليا لسلطة الملوك من ذوي الأصل النوبي في نباتا ( النوبة العليا ) و ليس في طيبة نفسها . و من هنا يمكن القول بأن البناء السياسي الجديد الذي وضعه بي عنخي ( بي ) لم يهدف للقضاء على البناء السياسي القديم بل على العكس كان يهدف لحمايته و تقويته و إدامته و إظهاره على أنه نظام سياسي إلهي مفروض من جانب آمون و ذلك هو ما يتضح لنا من خلال معطيات المشهد العلوي للوحة الملك و التي يظهر فيها جميع الحكام أمام الملك الكوشي المنتصر و معه آمون رع و الذي يشرف بنفسه على تأكيد هذا البناء السياسي . و كان ذلك الوضع التاريخي الذي تم وصفه في هذا المشهد الفني و الذي يمتد زمنيا من عام 730 ق.م و حتى عام 725 ق.م جاء كنتيجة لأسباب سياسية كانت تهدد بقاء النظام السياسي القديم و ذلك عندما حاول ( تاف نخت ) ملك سايس أن يعود لنظام الملكية المصرية التقليدي و المعروف و هو : حكومة ملكية مركزية تحت سيطرة سياسية لملك واحد لجميع الأقاليم . فقد تحالف تاف نخت مع بعض زعماء و ملوك الأقاليم في الشمال و أراد أن يتجه للوادي ( نحو الجنوب ) و صار يهدد فعليا ملوك إهناسيا و الأشمونين و لهذا السبب نقرأ في نص بي عنخي ( بي ) ما يلي : " لقد جاء أحدهم ليقول لجلالته : أنظر لقد جاء زعيم قبيلة من غرب الدلتا يسمى تاف نخت و إحتل غرب الدلتا بأكملها و هو يتجه حاليا نحو الجنوب بجيش كبير ..... أنظر إنه يحاصر الآن الأشمونين و لقد أحاط بها مثل الثعبان لقد طوقها من كل جانب و وضع كل رجل تحت إمرته ... و هنا يظهر نمرود في النص و هو ملك الأشمونين و هو يستغيث بالملك بي عنخي ( بي ) و يقول له : إني تحت ضغط كبير و لقد تخلى عني أنصاري " ينبغي لنا هنا أن نثير بعض الملاحظات و التساؤلات الهامة و تتمثل فيما يلي : 1 – هل قام الملك تاف نخت فعليا بمحاولة توحيد البلاد مثلما ورد في نص لوحة الملك بي عنخي ( بي ) ؟ 2 – هل تمكن الملك بي عنخي من إخضاع جميع حكام و ملوك و زعماء الأقاليم المصرية لسلطته كما يذكر في النص و كما صور بعضهم في مشهد الجزء العلوي للوحة بطريقة و شكل فني توحي بسيطرته على الجميع ؟ 3 – إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا لم تظهر آثار الملك بي عنخي ( بي ) في أي إقليم شمالي حتى الآن ؟ هل كانت سيطرته كلية أم مجرد سيطرة جزئية على بعض المناطق في مصر ؟ و بعد ذلك يتناول النص فكرة إرسال الملك بي عنخي ( بي ) الجيش من النوبة العليا إلى مصر ثم يؤكد على سيطرته الفعلية على مصر العليا و هو الأمر الذي تشهد عليه الآثار ثم يتحدث النص عن مجموعة التعاليم و الإرشادات الهامة التي يوجهها الملك بي عنخي ( بي ) لقائد جيشه و هي : 1 – عدم القيام بعمليات عسكرية خلال الليل و إنما في النهار فقط 2 – لا تقوم أي معركة إلا بالإتفاق مع الخصم حول المكان و الزمان 3 – إذا إحتاج العدو إلى إمدادات إضافية ينبغي تلبية طلبه و يجب على جيش بي عنخي ( بي ) أن يتوقف عن القتال حتى تصل هذه الإمدادات ثم يتم إستئناف القتال و هنا لا يمكن أن نتغاضى عن الدلالات الأيدولوجية في خطاب بي عنخي ( بي ) و تتمثل في الإعتبارات التالية : 1 – يسعى بي عنخي ( بي ) لتصوير نفسه في مظهر الواثق تمام الثقة في إنتصاره على خصومه بفضل مؤازرة آمون رع له و أن الحرب ينبغي لها أن تسير على معايير و أسس العدل الإلهي الذي وضعه آمون و هو بهذا المعنى يريد أن يقول أنه يخوض حربا دينية مقدسة أما عن نتيجتها فهي محسومة سلفا لصالحه . 2 – لا يتحدث هذا النص عن أي خدعة إستراتيجية عسكرية تم الإعداد لها مسبقا من أجل هزيمة العدو و ذلك على النقيض من نص الملك تحتمس الثالث الذي تحدث فيه عن خدعته الإستراتيجية الماكرة في معركة مجدو أما هنا فلا حديث و لا إشارة عن حكمة الملك أو شجاعته أو تخطيطه العسكري البارع بل يتركز الحديث عن شيء واحد فقط تمثل في العبارة التالية التي وردت في النص و التي يقول فيها بي عنخي لقائد جيشه : " إترك العدو ينظم صفوف قتاله و عندما يكون مستعدا فلتهاجمه و عندها سيعرف أن الإله آمون رع هو الذي أرسلنا و أن النصر حليفنا " 3 – يظهر جميع خصوم بي عنخي ( بي ) في النص بوصفهم جاهلين بآمون رع على النقيض من ذلك يظهر هو بمظهر الورع و التقي لهذا المعبود بل و يضفي على نفسه صفات البر و الإحسان و الرحمة تجاه العدو لأن آمون يطلب منه كل ذلك و من هنا يستحق شرعية الحكم كملك أكبر له هيمنة على ملوك آخرين خاضعين لسلطته فخطاب بي عنخي ( بي ) هنا لا يسعى لإظهار الملك بوصفه الفاتح و المحرر لمصر من الملوك من ذوي الأصل الليبي و إنما يهدف لإضفاء الشرعية الدينية على حكمه السياسي . ثم نجد بي عنخي ( بي ) و هو يواصل خطبته الإرشادية لجنوده عن قواعد الحرب و يتحدث عن ما يجب أن يفعله الجيش عندما يدخل مدينة طيبة فتظهر طيبة في النص بوصف أدبي بليغ و تظهر على أنها أعظم مدينة مقدسة في العالم و يجب الحفاظ على سلامتها بأي ثمن فينبغي للجيش أن يلقي السلاح و يقوم جميع الجنود بتطهير أنفسهم في بحيرة الكرنك ثم يرتدون جميعهم ملابس الكهنة الكتانية و لذلك نجده يقول في نص لوحته : " ليس هناك معنى للقوة العسكرية أمام آمون فليس لبطل أن يملك القوة بدونه فهو يجعل الضعيف قويا بحيث يهرب الكثيرون أمام القلة و ينتصر فرد واحد على الآلاف من أعدائه " مرة أخرى نجد أنفسنا أمام أيدولوجيا سياسية و دينية جديدة في ذلك العصر و تتمثل في إبراز أمرين هامين و هما : 1 – لأول مرة يظهر في نص في الحضارة المصرية القديمة مفهوم تطهر الجيش بالكامل – بصرف النظر عن مدى مصداقية هذا الكلام – في بحيرة المعبد و على نفس طريقة الكهنة بل و يرتدي جميع الجنود ملابس الكهنة كي يدخلون المعبد مما يؤكد أن قداسة الحرب التي يخوضها بي عنخي ( بي ) لن تكتمل إلا عندما يظهر جميع جنوده بنفس صفاته المتمثلة في الورع و التقوى و ذلك هو الأمر الجديد و الذي لم نشهده قبل عصر ذلك الملك على الإطلاق . 2 – يسعى كاتب النص للتأكيد على تمصير الملك ذي الأصل النوبي قلبا و قالبا و إعلان إعتناقه التام لمظاهر الديانة المصرية القديمة و ذلك على النقيض من جميع ملوك الأسرات 22 و 23 و 24 الذين كان تمصرهم شكليا أو جزئيا و بمعنى آخر هو تمصر غير مقنع فلم يفعل أي ملك منهم ما فعله بي عنخي ( بي ) تجاه المعبود آمون رع . لقد سار الجيش المرسل من جانب بي عنخي ( بي ) عبر طيبة إلى هيراكليوبوليس ( إهناسيا ) و إصطدم هناك بتحالف لثلاثة ملوك و خمس زعماء من الما ( مشاشا ) و جميعهم من ذوي الأصل الليبي و وفقا لما ورد في النص أنهم كانوا متحالفين مع تاف نخت ملك سايس في غرب الدلتا و دار قتال على جبهتين و إنهزم جيش التحالف و إنسحب إلى مصر السفلى بينما قام نمرود ملك هيرموبوليس الذي ظهر في المشهد العلوي للوحة بي عنخي ( بي ) بالذهاب إلى مدينته هرموبوليس ( الأشمونين ) و هنا يجب أن نشير إلى أمر هام و هو : لم يدرك كاتب النص التناقض الذي وقع فيه ، فهنا تظهر مدن إهناسيا و الأشمونين متحالفة مع تاف نخت ملك سايس في غرب الدلتا و لا يمكن أن نتصور وجود مثل هذا التحالف إذا كان تاف نخت أراد أن يجردهم من سلطاتهم من أجل توحيد البلاد بأكملها تحت سلطته كما ورد في بداية النص الأمر الذي يكشف عن عدم وجود نية لتاف نخت لإخضاع بقية الأقاليم لحكمه و هو ما يناهض تماما الفكرة التي تقدم بها كاتب النص حول سبب حروب بي عنخي ضد تاف نخت الذي أراد أن يعيد النظام الملكي المصري القديم و هو نظام السلطة المركزية . و عندما سمع بي عنخي ( بي ) عن إخفاق جيشه في حسم المعركة لصالحهم فظلت الأشمونين محاصرة من قبل جيشه و لكن أن يقتحموها ، غضب الملك كثيرا و قرر أن يترك مقره في نباتا و يتجه هو بنفسه إلى مصر إلا أنه توجه أولا إلى طيبة ليحتف بعيد الأوبت العظيم الذي إستغرق ثلاثة أسابيع في عهده و هنا ندرك أيضا دلالة أيدولوجية دينية و سياسية خطيرة تتمثل فيما يلي : أن الملك عندما يقرر بنفسه الذهاب إلى مصر لكي يحسم المعركة لصالحه يتوافق ذلك مع الإحتفال بعيد آمون في الأوبت لكي يبدو الأمر كما لو كان صدفة إلا أن توجه الملك في هذا التوقيت بالذات لمدينة طيبة يكشف عن مناسبة تتويجه هناك و من خلال فعاليات و طقوس ذلك العيد و بصرف النظر عن مدى مصداقية ما سيقوم بسرده فيما يتعلق بمعركته ضد خصومه . بعد إنتهاء الإحتفالات في طيبة وصل بي عنخي ( بي ) بنفسه إلى هرموبوليس المحاصرة من جانب جيشه فألقى خطبة على جيشه لكي يؤنب فيها جميع الجنود فلو كانوا مؤمنين حقا بربهم آمون لتمكنوا من حسم المعركة لصالحهم و بشكل سريع و أخيرا يستسلم الملك نمرود ملك هرموبوليس الذي أرسل زوجته لكي تعلن إستسلامه – و هذا هو ما يفسر لنا ظهورها أمام زوجها في المشهد العلوي للوحة الملك بي عنخي ( بي ) – أنظر الصورة المرفقة بالمقال – و هنا يظهر الملك بي عنخي و هو يصادر أمواله و ممتلكاته ، ثم يتجه لتقديم قربان الشكر إلى الإله جحوتي رب الأشمونين إلا أن بي عنخي ( بي ) يغضب غضبا شديدا هذه المرة عندما قام بتفتيش إسطبل الخيول في الأشمونين فوجدها و قد ماتت من الجوع بسبب حصاره للمدينة و التساؤل هنا : كيف يقرأ بي عنخي ( بي ) هذا الحدث ؟ ......... هنا نجده يقول : " بحياتي و بحب رع لي إن موت هذه الخيول هو أسوأ عمل لي من كل الجرائم الأخرى ..... ثم يستغل هذا الحادث لكي يعلن عن رسالته الإلهية فيقول و هو يوجه خطابه لنمرود ملك الأشمونين : ألم تعلم أني في ظل آمون لا يمكن أن أخسر معركة فسببك حاصرت مدينتك و ماتت هذه الخيول فأنا الذي أنجبني الإله من الحب و قد كنت في بيضة الإله منذ الزمن الأزلي و في أعماقي تكمن بذرة الإله فأنا لا أعمل شيئا دون إرادته فهو الذي يأمرني بما أعمل " يمكن لنا هنا أن ندرك نتائج بالغة الأهمية تتمثل فيما يلي : 1 – يظهر الملك و لأول مرة في عصر اللامركزية الثالث و هو يقر و يعترف بذنبه و تلك فكرة جديدة لم نشهدها من قبل في النصوص الملكية المصرية . إن بداية الإقرار بفكرة الذنب في النص هو الموجه الأول لظهور الإرهاصات الأولى لمفهوم كتابة التاريخ في مصر ، فالتاريخ لا يفصح عن نفسه إلا عند الإعتراف بالذنب و في ثنايا هذه الفكرة تظهر الحقيقة التاريخية دون خجل 2 – إن مغزى ما ورد هنا يتمثل في تحديد خطأ نمرود ملك الأشمونين الذي لم يدرك هو الآخر عواقب الحصار الذي تسبب في موت الخيول فيظهر نمرود في النص بأنه يعلم تماما أن بي عنخي ( بي ) هو ملك مرسل من قبل الإله آمون فكيف يجرؤ على الوقوف ضده ؟ 3 – ندرك هنا أن الملوك من ذوي الأصل النوبي كانوا يقدسونالخيول و لذلك فهم كانوا يدفنون مع خيولهم المفضلة في مقابرهم و هي عادة نوبية محلية صميمة الأمر الذي يلقي ظلالا من الشك حول مفهوم التمصر الكامل للملوك النوبيين . ثم يمضي النص بعد ذلك في إبراز كيفية إستيلاء بي عنخي على كل مدينة على النحو التالي : 1 – تبدأ كل مدينة في غلق أبوابها أمام بي عنخي و جيشه 2 – تتعرض كل مدينة لحصار من جانب جيش بي عنخي لفترة زمنية معينة 3 – تسقط كل مدينة بعد الحصار في يد الملك الكوشي و الذي يظهر دائما كمنتصر 4 – يظهر الملك في جميع الحالات و بعد إنتصاره على خصومه كملك رحيم و عطوف و لا يؤذي أحدا من خصومه بل و يقوم بنفسه بتقديم قربان الشكر لآلهة المدن المغلوبة فيظهر أمامها بمظهر الملك الورع و التقي 5 – يكتفي الملك الكوشي بمصادرة ممتلكات و ثروات كل مدينة لكي يرسلها لمعابد آمون في طيبة و تحت تصرف و سلطة كهنة آمون لإحياء المفهوم القديم الخاص بدولة الإله في طيبة و التي يحكم فيها آمون بنفسه 6 – تأكيد الملك الكوشي على التبعية السياسية لدولة الإله آمون في طيبة لمقر الملك الكوشي في نباتا في النوبة العليا ثم يتقدم الملك بعد ذلك ناحية منف إلا أنه هناك يفاجأ بمفاجأة سيئة ، فتظهر منف في النص و هي تبدي مقاومة تجاه الملك و جيشه و يظهر أن المحرض الرئيسي لهذه المقاومة هو الخصم اللدود تاف نخت ملك سايس الذي يلقي هو الآخر خطبة على أهل منف لكي يشجعهم على مقاومة الحصار فيبدو النص هنا و قد تم تنظيمه على النحو التالي : 1 – إنذار الملك بي عنخي ( بي ) لمنف و أهلها . 2 – خطبة تاف نخت على أهل منف . 3 – المداولات و المشاورات العسكرية بين بي عنخي و جيشه حول إستراتيجية الحصار 4 – ظهور بي عنخي غاضبا بسبب خطبة تاف نخت على أهل منف فيشير إلى أوامر ربه آمون و يقول : " أريد أن أستولي على منف مثل المطر الذي ينهمر على مدينة " 5 – خطاب تشجيعي لبي عنخي تجاه جنوده أما عن أحداث القتال فيكتفي النص بذكرها بصورة عارضة فقد تمكن جيش بي عنخي ( بي ) من الإستيلاء على السفن التي كانت ترسو عند ميناء المدينة دون عناء ثم قتل جيش الملك عدد كبير من الناس و أحضروا العديد من الأسرى و هنا نجد أنفسنا أمام هذه الحقائق الهامة و هي : 1 – يقر و يعترف كاتب النص أن أهل منف لم يقتنعوا بخطاب بي عنخي ( بي ) الذي نظروا إليه بوصفه غازيا لمدينتهم مما إضطر جيشه لقتل و أسر العديد من الأفراد في سبيل السيطر عليها . 2 – أن القيم الثقافية في مصر لم تكن واحدة خلال عصر اللامركزية الثالث فخطاب الملك بي عنخي ( بي ) بوصفه الملك الورع التقي العطوف الرحيم المرسل من جانب آمون لم يكن ملزما لأهل الشمال الذين لم يفهموا هذا الكلام نظرا لإختلافهم الثقافي عن الجنوب و ربما كان السبب في تفاقم حدة الأنماط الثقافية في ذلك العصر هو اللامركزية السياسية التي بدأت من الأسرة 21 و أفضت إلى إنفصال ثقافي لكل مدينة عن الأخرى . 3 – برغم ما حدث يتجه الملك بي عنخي إلى بتاح منف لتقديم قربان الشكر له لكي يظهر لشعب منف أنه لا عداء بينه و بينهم و أنه يؤمن بربهم . إن الجزء الأخير لهذا النص هو عبارة عن تقرير مبايعة لأمراء الدلتا الذين يظهرون كمستسلمين و يعترفون جميعهم بسلطة الملك بي عنخي ( بي ) بل و يظهر الخصم اللدود تاف نخت في نهاية المطاف و هو يعرض السلام على الملك الكوشي و بهذا الشكل يظهر بي عنخي ( بي ) و قد نجح في تنفيذ إرادة ربه آمون فقام بنشر السلام بين الجميع و هو الهدف النهائي لكاتب النص . و ينتهي النص بزيارة مفترضة قام بها أربع ملوك و هم الذين تم تصويرهم في المشهد العلوي للوحة الملك بي عنخي ( بي ) – أنظر المنظر المرافق للمقال – ثم يصف النص أن الملك لم يسمح ثلاثة منهم بالدخول عليه و كان عليهم أن ينتظروا في الخارج أما نمرود ملك الأشمونين فهو الإستثناء الوحيد الذي سمح له الملك بتقديم نفسه و الدخول عليه و السبب في ذلك أن هؤلاء الملوك الثلاث كانوا من آكلي السمك رمز عدم الطهارة في ذلك العصر فضلا عن أنهم لك يكونوا مختونين فهنا تبرز مسألة الطهارة الملكية الدينية بشكل قوي . و هنا تكمن رسالة الملك الكوشي و هي : ظهور الملك أمام ملوك الدلتا المستسلمين ليس فقط كملك شرعي بل و كملك طاهر بالمعنى الكهنوتي بألف و لام العهد فنحن هنا أمام ملك طاهر و عادل و رحيم و عطوف و تقي و ورع و مدرك لفعالية لطقوس و أهمية القرابين . كما ندرك مرة أخرى أن أحكام الطهارة الكهنوتية كانت سارية بالفعل من النوبة في الجنوب و حتى الأشمونين في مصر الوسطى أما ما يقع شمال الأشمونين فلم يكن ملتزم ثقافيا بهذه التعاليم الكهنوتية الرسمية التي من المرجح أنها كانت من إملاء كهنة آمون في طيبة و ما يؤكد ذلك هو تطهر جيش الملك الكوشي مثلما ورد في النص في بحيرة الكرنك . و ينبغي لنا هنا أن توقف قليلا عند نص لوحة الملك الكوشي لكي نشير إلى حقيقة هامة ألا و هي : إن حجم نص بي عنخي ( بي ) هو ضعف حجم نص معركة قادش بل و يمكن القول أنه أكبر نص معروف في الحضارة المصرية القديمة على الإطلاق ، فهذا النص لا يظهر على أنه تقرير ملكي تقليدي و إنما أراد صاحبه أن يظهره كما لو كان كتاب أدبي و بالرغم من أن النص يظهر في شاهد أو لوحة كبرى و بالرغم من أن الملك الكوشي قد وقع على هذا النص و وصفه بالمرسوم ، إلا أن ما يلوح في مخيلة كاتب النص أنه كتاب أدبي بل و نجد أن جميع ما تم كتابته قد تمت صياغته على هيئة قصائد و أشعار غنائية يتم ترتيلها في مناسبات بعينها و لذا فنحن نشعر بوجود هذا الطابع الشعري الغنائي في نص الملك الكوشي عندما يفتتح النص قائلا : " هو أمر قد نطق به جلالته : إسمعوا ! أنا عملت إنجازات تفوقت على ما قام به أسلافي ..... أنا الملك الذي هو الصورة الحية لآتوم .... لقد كنت ملكا منذ أن كنت في البيضة .... أنا إبن رع .... أنا بي عنخي ( بي ) " إن الملك الكوشي هنا يظهر على شكل الملك الإله التقليدي الذي يجسد الهوية الأزلية لآتوم و لكنه يؤكد كذلك على قائد حرب رحيم و عطوف و أنه كاهن بالمعنى الفعلي للكلمة و أنه بسبب تقواه و ورعه و قوة عزمه و إيمانه بآمون أصبح تحت بركة الإله نفسه و هو بهذا الشكل يقوم بتثبيت ألوهيته التي إستحقها بسبب أعماله . تظهر عظمة هذا النص في طبيعته الأدبية التي تحتوي على تعبيرات لغوية بليغة و بصرف النظر عن المحتوى الدعائي المغرض لصاحبه ، إلا أن أهم ما يميزه هو إدراك صاحبه بأنه يستدعي الذاكرة الحضارية لمصر فهو يعطي لنفسه شرعية الحكم من خلال معايير ثقافة مصرية كانت ترى هذه الشرعية إما في شكل الملك الكاهن المتدين التقي الورع العادل أو في شكل الملك المنتصر عسكريا فبي عنخي هنا يجمع في شخصه كملك بين القائد الديني و القائد العسكري فضلا عن تأكيده بإمتهانه وظيفة الكاهن بإقتدار و مهارة فهو يعرف كيف يقيم الشعائر جيدا لجميع المعبودات و يفتخر بممارسته لهذه الطقوس . إن ملحمة الملك الكوشي لا تحدثنا فقط عن إجراءات سياسية و دينية إنما تضع هذه الإجراءات لكي يتم تنفيذها من جانب الملوك الذين سيأتون بعده ليحكمون هذا البلد فالملحمة تظهر بمثابة القانون الملزم و تلك هي الأهمية الحقيقية لهذا النص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق