الثلاثاء، 23 يوليو 2013

بعث و إعادة إحياء الماضي المجيد في عصر الأسرتين 25 و 26


بسم الله الرحمن الرحيم 

بعث و إعادة إحياء الماضي المجيد في عصر الأسرتين 25 و 26


مما لاريب فيه أن القرن السابع قبل الميلاد
كان يمثل يقظة مصرية حضارية عميقة الجذور سعت نحو إعادة إكتشاف الماضي المصري
المجيد ، فجاء ملوك الأسرتين 25 و 26 و أخذوا على عاتقهم مسئولية إحياء ماضي
الحضارة المصرية القديمة في عصورها السابقة و قد شاركهم في ذلك النخب الكهنوتية
المثقفة بل و عامة الشعب و لذلك فنحن هنا نؤكد على وجود إرتباط جديد بالماضي
التاريخي أفضى إلى بناء جديد لمفهوم الزمن في مصر . لقد أصبحت مصر واعية بعمق
زمنها الماضي بمعنى : أن المصري في ذلك العصر لم يعد ينظر لأي شكل معماري أو صورة
أيقونية فنية أو صيغة لغوية معهودة لكي يقتبسها و يضعها في المعبد أو المقبرة ، بل
أصبح ينتقي بشكل واعي النماذج التي يبحث عنها من ضمن آلاف النماذج الحضارية
القديمة ، الأمر الذي يكشف عن وجود إدراك و وعي لقيمة و أهمية النموذج الحضاري
المقتبس من الأسلاف . 
ينبغي لنا هنا أن نفرق بين حالة العودة إلى
تقليد حضاري قديم منسي و بين حالة إستمرارية التقاليد الحضارية الماضية عبر جميع
العصور ، فالحالة الثانية هنا تجعل الماضي ساريا بشكل دائم في تيار الزمن فلا يبدو
الماضي في هذه الحالة و كأنه ماضي ، أما الحالة الأولى فهي تهدف لإعادة تقليد قديم
إلى الضوء من جديد بعد نسيانه و إنقطاعه لفترة طويلة من الزمن . و لكي نعي تلك
النقطة الأخيرة يمكن لنا أن نلقي بعض الضوء على بعض الحالات الحضارية المصرية القديمة
و هي : 
1 - على سبيل المثال نجد ملوك الأسرة الثانية
عشرة و قد شيدوا معابدهم الجنائزية على نفس طراز معابد الأسرة الملكية السادسة ،
فنحن هنا أمام حالة إعادة لإحياء طراز معماري قديم يرجع لأواخر الدولة القديمة و
ذلك بعد إنقطاع هذا الشكل المعماري لفترة من الزمن . 
2 - إعتمدت الملكة حتشبسوت على نقر و تشييد
معبدها في صخر جبل الدير البحري لكي يحاكي إلى حد ما الطراز المعماري لمعبد و
مقبرة مؤسس الدولة الوسطى الملك منتوحتب الثاني مع الوضع في الإعتبار أنها قامت
بتطوير النموذج القديم لكي يتلائم مع معطيات العصر الجديد فالإقتباس هنا تجاوز
النموذج المعماري القديم بل و تفوق عليه و ذلك في إطار مبدأ حضاري آخر عرفه المصري
القديم و هو : إعادة تقليد أثر السلف و التفوق عليه 
3 – من ناحية أخرى إعتمدت الملكة حتشبسوت
كذلك على عدد كبير من نصوص التتويج الملكية التي ترجع لعصر الدولة الوسطى
فإقتبستها و نسختها على جدران معبدها حتى تضفي على نفسها شرعية الحكم الأمر الذي
يؤكد أن الكتابات القديمة كان يتم إستنساخها من جديد من عصر إلى آخر كنماذج تعكس
وجود إنتقاء واعي لما ينبغي لنا أن نقتبسه و ما يمكن الإستغناء عنه .
4 – إستخدم ملوك الأسرة 22 الأسلوب و النمط
الفني لعصر الملك أمنحتب الثالث الذي كان يعتبر من أفضل النماذج الفنية خلال عصر
الدولة الحديثة ، فهم هنا لم يرجعوا لتقاليد الفن في عصر الرعامسة الذي كان الأقرب
إليهم زمنيا ، بل عادوا لإعادة بعث التقاليد الحضارية الكبرى لفن أمنحتب الثالث . 
5 – قام كبير كهنة منف خع إم واست إبن الملك
رمسيس الثاني بصيانة و ترميم آثار الدولة القديمة في منف و هناك دلائل تكشف عن نية
هذا الأمير بإعادة بناء و تشييد مدينة منف على نفس النمط المعماري و الفني لعصر
الدولة القديمة فقد كان شغوفا بماضي منف التليد في عصر الدولة القديمة حتى تحولت
هذه الفترة عنده إلى المعيار الحقيقي للنجاح ، فماضي الدولة القديمة ينبغي بعثه من
جديد لتحقيق النجاح السياسي و الديني و الإقتصادي في عصر الرعامسة . 
6 – حيازة بعض الملوك لآثار أسلافهم و ذلك
بكتابة أسمائهم عليها ، فأثر السلف هنا هو صفة نموذجية للماضي الذي ينبغي إمتلاكه
بهدف الحصول على شرعية الحكم ، فالملك الخلف يتحد بنظيره السلف أو بمعنى أدق يتحد
بالكا الملكية الحاملة لقبس الأسلاف فيصبح هو الوريث الشرعي له الأمر الذي يعني :
أنه في بعض الأحيان لم تخلو عملية إحياء و بعث الماضي و الإستيلاء على آثار
الأسلاف من دلالات و أهداف أيدولوجية سياسية 
إن ما حدث خلال عصر الأسرتين 25 و 26 و ما
إرتبط بهذه الفترة من إحياء الماضي المصري إختلف جذريا عن ما سبق من العصور ، فقد
بلغ حجم إسترجاع و إستعادة الماضي درجة غير إعتيادية و لم يسبق لها مثيل ، لذلك
أصاب علماء المصريات عندما إعتبروا ذلك الزمن أنه عصر البعث و الإحياء ، فقد
إكتشفت مصر في ذلك الزمن ماضيها القديم و بشكل واعي جدا لدرجة أن إستعادة هذا
الماضي تحول إلى ثورة حضارية بكل ما تحمله الكلمة من معنى و هنا يمكن لنا أن نرصد
أهم الحقائق المرتبطة ببعث الماضي من خلال ما يلي : 
1 – أصبح الإنسان في مصر يختار أسماء جميلة
لنفسه مقتبسة من عصر الدولة القديمة و كان لا يتخير لنفسه أي إسم بل ينتقي أسماءا
لا تزال ذكراها حية في وجدان و ذاكرة الناس . 
2 – صار المصري القديم يظهر أيقونيا و فنيا
في مقابره و معابده بنفس رداء و زي المصري الذي عاش في عصر الدولة القديمة لدرجة
تثير اللبس أحيانا لدى عالم المصريات الذي لا يعرف إذا ماكانت المقبرة المكتشفة
ترجع للأسرة 26 أم ترجع لعصر الدولة القديمة . 
3 – إستنساخ كتابي لأمثال و مباديء و مقولات
عصر الدولتين الوسطى و الحديثة و إعادة إحياء و كتابة نصوص الأهرام التي ترجع
للدولة القديمة على جدران المقابر و التوابيت في الأسرتين 25 و 26 .
4 - إستنسخ كبار الأفراد خلال عصر الأسرتين
25 و 26 نصوص السير الذاتية التي ترجع لعصر اللامركزية الأول ( عصر الإنتقال الأول
) و هذا يعني أن الإنسان في مصر لا يعتمد على إظهار نجاحه في إبراز العطف و
الرعاية الملكية كما هو شائع في نصوص السير الذاتية لعصور الدولة القديمة و الوسطى
و الحديثة بل يعتمد على نفسه و على رعايته لذاته و على نجاحه الشخصي الذي يرجع
الفضل فيه لجهوده الذاتية و هي السمة الغالبة على نصوص السير الذاتية لعصر
اللامركزية الأول الأمر الذي يؤكد على أن نصوص السير الذاتية التي سجلت على جدران
المقابر طوال عصور الحضارة المصرية القديمة كانت خاضعة لعملية إنتقاء و لم تمضي
هكذا بشكل عشوائي . 
5 – قام المصري القديم خلال عصر الأسرتين 25
و 26 بوضع الماضي التاريخي في الزمن الأسطوري فخلط بينهما خلطا واضحا و ظهرت
الشخصيات التاريخية القديمة في ثوب أسطوري و تم رفعها إلى مصاف الآلهة أو أنصاف
الآلهة بألف و لام العهد فعلى سبيل المثال تم تأليه إيمحوتب و إعتبر إبنا للإله
بتاح و لم يتم إعتبار الآثار القديمة كلها سوى منشآت من زمن الآلهة الأوائل و هنا
نجد أن إعادة و بعث الماضي التاريخي قد تزامن مع إستحضار ماضي الآلهة و هكذا تثبتت
جميع مباني و منشآت الماضي المجيد في زمن السعادة الأسطوري الأول فلوحة الإحصاء
التي وجدت في جبانة الجيزة و ترجع زمنيا لعصر الأسرة 26 تنسب هرم خوفو للإلهة
إيزيس و لا تنسبه لملك خوفو كما أن صخرة أبي الهول هي تجسيد لشكل المعبود الخالق
الأول الذي ظهر في بدء الزمان في تلك البقعة المقدسة . 
6 – أصبحت الذاكرة الحضارية لمصر في ذلك
العصر تتجه نحو إقتباس نمط حياتي كامل من عصر الدولة القديمة لهدف هام و هو :
إعلاء كرامة الفرد ، فكلما عاد الإنسان في مصر نحو إحياء الماضي ، كلما إكتسب
مكانة إجتماعية مرموقة و كسب إحترام و تقدير و ثقة الناس و لذلك السبب إتجهت
النخبة الكهنوتية في ذلك العصر نحو بعث الماضي التليد لكي تعبر عن وجاهتها
الأرستقراطية أمام طبقات الشعب من ناحية ، و من ناحية أخرى لكي تظهر في وضع الممثل
الفعلي و الحقيقي للحضارة المصرية القديمة أمام الجاليات الأجنبية مثل الآشوريين و
الفنيقيين و اليهود و الآراميين و غيرهم من الجاليات الأجنبية الأخرى . 
هل كان بعث و إعادة إحياء الماضي المصري خلال
عصر الأسرتين 25 و 26 مقدرة حضارية فريدة بذاتها لكي تحفظ مصر لنفسها هويتها
الحضارية في مواجهة الأزمات الداخلية و الخارجية كما يرى بعض علماء المصريات ؟ أم
أن ذلك الإحياء كان مجرد إخراج جديد للماضي تمخض عن أولى فترات العصر المتأخر نحو
رغبة عاطفية مصرية كان روادها المصريون أنفسهم ؟ هل كان إحياء الماضي هو مجرد
إنكفاء على الذات لعدم القدرة على مواجهة الأزمات ؟ هل كان بعث الماضي هو الطريق
الأوحد للنجاة و الإنقاذ ؟ ....
لاريب أن إنتعاش الماضي بشكل لم يسبق له مثيل
خلال الأسرتين 25 و 26 كان شكلا تعبيريا واعيا لمفهوم الزمن الحضاري في مصر ، و
كانت أكثر المظاهر المعبرة عن ذلك الزمن الحضاري هو الأعياد الدينية لأرباب مصر ،
فقد ظهرت في ذلك العصر فكرة عبادة أسلاف الآلهة . فنحن هنا لا نتحدث فقط عن مفهوم
عبادة الأسلاف المألوف بل نتحدث عن وجود أسلاف لآلهة مصر ينبغي عباتها و تقديسها و
أسلاف الآلهة هم في واقع الأمر قد إنتقلوا للعالم الآخر و يظهرون كما لو كانوا قد
ماتوا و لهم تقاليد و طقوس جنائزية فهم يمثلون آلهة الماضي و هو الماضي البعيد جدا
و المتكامل و المنتهي بحق إلى الأبد لذلك فهو زمن أسطوري قديم تمخض عنه الزمن
الحاضر الأمر الذي يعني أن الإنسان في مصر أصبح يدرك وجود ذلك الماضي البعيد و
المنفصل عنه و الذي يسعى لإحيائه مرة أخرى و هو عندما يقوم بشعائر دينية مقدسة
لأسلاف الآلهة فهو يعي تماما أنه قد أصبح زمنيا منفصل عنهم و لكنه و من خلال
إقامته لتلك الطقوس يسعى لجعل زمنه الحاضر متواصل مع زمنهم الماضي و لهذا السبب ظهرت
خلال عصر الأسرتين 25 و 26 مفهوم قبور أسلاف الآلهة الأوائل في المعابد المصرية
التي تقام لها شعائر جنائزية من أجل تذكر و إستعادة ذلك الماضي البعيد و المنتهي
حتى يتواصل مع الزمن الحاضر . 
فعلى سبيل المثال كان المعبود آمون رب معبد
الأقصر يخرج في موكب كهنوتي خلال الأسرتين 25 و 26 لكي يعبر النيل و يتجه للبر
الغربي حيث معبد هابو الصغير الذي دفن فيه الإله الأسطوري الأول ( كم آت إف ) و
يعني إسمه الذي أتم عهده و يعتبر الصورة الأزلية الأولى لآمون عندما تجلى في هيئة
ثعبان في المياه السرمدية الأولى و قد كان آمون معبد الأقصر هنا يجسد الملك الإبن
الذي يزور سلفه القديم ( كم آت إف ) لإعادة إحيائه ، فذلك المعبود – كم آت إف – هو
إله الماضي البعيد و المنتهي بحق أما آمون الأقصر فهو إله الزمن الحاضر الذي يذهب لزيارة
إله الزمن الماضي مرة كل عشرة أيام ( العيد الأعشوري ) حتى يلتقي الحي بالميت ،
فالإله الميت هنا و المستقر في أعماق العالم الآخر يحتاج لمن يقيم له الشعائر حتى
يسترد و يواصل فعاليته في عالمه الآخر فبرغم إنفصاله عن عالم الدنيا و الزمن
الحاضر إلا أنه لا يزال يواصل فعاليته هناك طالما أن هناك من يتكفل بإعادة إحيائه
من جديد . و كانت أهم فعالية لذلك الإله هي إنبثاق الفيضان من جسده و لهذا السبب
كان يعرف بلقب ( با كمت ) أي با مصر و ( با أوزير ) . 
يتبين لنا مما تقدم إن السعي المتواصل و
الدؤوب نحو بعث الماضي خلال عصر الأسرتين 25 و 26 كان محاولة جادة من حكماء و كهنة
و كتبة مصر لتثبيت هويتها الحضارية في زمن الأزمات فكان بعث هذه الهوية أقوى ما
يكون في ذلك العصر الأمر الذي إستلزم عبادة الماضي الذي إحتوى في داخله على
الأسطورة و التاريخ فكان ماضيا أغنى مما سبق بل تحول هذا الماضي الثري لكي يتلبس
الإنسان في مصر و من هنا أصبح إنتمائه قويا لذلك الماضي التليد فتثبتت هويته
الحضارية و اكتشف ذاته من جديد .   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق