بسم الله الرحمن الرحيم
تحليل نص السيرة الذاتية لعميد الموظفين ( بتاح شبسس ) ............................................................
.................يعتبر ( بتاح شبسس ) واحد من أهم الموظفين الذين عاشوا بدءا من النصف الثاني لعصر الأسرة الرابعة و حتى عصر الملك ( ني أوسر رع ) سادس ملوك الأسرة الخامسة ، حيث قضى حياته الطويلة خلال عهد ثمانية ملوك على أقل تقدير و شغل العديد من الوظائف الدينية و الإدارية مما جعل المرحوم سليم حسن يطلق عليه لقب ( عميد الموظفين ) كما يعتقد العديد من علماء المصريات أن الزمن الذي قضاه ( بتاح شبسس ) في خدمة أولئك الملوك يبلغ حوالي ثمانين عام و يهدف هذا المقال إلى تحليل نص سيرته الذاتية و التمييز بين ما هو جدير بالتصديق كوقائع تاريخية لا يرقى إليها الشك و بين ما هو دعائي لا صلة له بكتابة التاريخ المصري القديم .
ترك لنا بتاح شبسس نصا في غاية الأهمية في مقبرته في أبوصير يكشف فيه عن سيرته الذاتية بداية من مولده في عصر الملك ( من كاوو رع ) الملك قبل الأخير في الأسرة الرابعة و حتى وفاته في عصر الملك ( ني أوسر رع ) سادس ملوك الأسرة الخامسة و ورد فيه ما يلي :
1 – " ولد في عهد الملك منكاوورع الذي رباه مع أطفال الملك في جناح الحريم الملكي و كان مقربا لدى الملك أكثر من أى ولد آخر "
يرى علماء المصريات في هذه الفقرة أن الملك منكاورع باشر سياسة جديدة في عصره بأن قام بتبنى عدد كبير من أبناء كبار رجال الدولة حتى يتم تربيتهم على نمط و ثقافة و سياسة البلاط الملكي فيصبحوا مؤهلين لتولي مناصب إدارية و دينية هامة في البلاد و ذلك بسبب إتساع النشاط الإداري و الديني للدولة المصرية في نهايات عصر الأسرة الرابعة و ظهور الحاجة لموظفين جدد من أهل الثقة يخضع ولائهم التام للقصر الملكي و هو طرح مقبول و لكن لا يمكن الجزم بأن ذلك أمرا جديدا في سياسة الملوك نظرا للنقص الواضح و الغياب الشبه تام لوثائق و نصوص السيرة الذاتية الكاملة قبل عصر الملك منكاورع و التى لم تكن تشير إلى بيانات واضحة حول أصول و منشأ أصحاب المقابر مما يجعل المقارنة بين ما حدث في عصر منكاورع و ما سبقه من عصور أمرا في غاية الصعوبة أما عن عبارة أن بتاح شبسس كان مفضلا لدى أطفال الملك أكثر من أى طفل آخر فذلك يدخل في إطار الدعاية الشخصية .
2 – " في عهد الملك ( شبسس كاف ) لقى حظوة عند جلالته و قام بتزويجه من كبرى بناته ( خع ماعت ) لأن جلالته أراد أن يكون بصحبته أكثر من أى رجل آخر "
و نلاحظ هنا أنها المرة الأولى فيما نعلم حتى الآن التى يسمح فيها لواحد من كبار رجال الدولة بتسجيل نص زواجه من كبرى بنات الملك على جدران مقبرته و لكن التساؤل الذي يطرح نفسه : ألم يكن زواج ( بتاح شبسس ) من كبرى بنات الملك ( شبسس كاف ) و هي الأميرة ( خع ماعت ) كافيا لأن يطمح هو نفسه للوصول إلى العرش ؟ و هل الأميرة ( خع ماعت ) كانت حاملة للدم الملكي النقي لكي تنقل لزوجها شرعية الحكم ؟
حقيقة الأمر أن النصوص تصمت عن ذكر الوضع الحقيقي للأميرة ( خع ماعت ) ، فنحن لا نعلم علم اليقين إن كانت بالفعل حاملة للدم الملكي النقي و الشرعية الكاملة لكي تقوم بنقلها لزوجها أم لا ؟ فضلا عن عدم رغبة بتاح شبسس نفسه لمناهضة البيت المالك و إقحام نفسه في تلك القضية و هو ما يؤيده نص السيرة الذاتية فيما بعد و الذي يكشف عن علو شأنه و تزايد مكانته و أهميته بشكل تدريجي خلال عصر الأسرة الخامسة الأمر الذي يكشف أنه لم يفكر و لم يسعى على الإطلاق في تولي زمام الأمور كملك حاكم و هو ما يجعلنا نرجح أن زواجه من الأميرة خع ماعت لم يكن يهدف لذلك أبدا و لم يعدو سوى محاولة للتقرب من البيت المالك في تلك الفترة .
3 – " المقرب من أوسركاف كبير كهنة منف المبجل لدى الملك أكثر من أى خادم ، كان ينزل في كل سفينة تابعة للبلاط و دخل الأجنحة الجنوبية للقصر أثناء أعياد التتويج "
يلاحظ من خلال هذه الفقرة أن بتاح شبسس أصبح كبير كهنة المعبود بتاح في منف و بالتحديد في عصر الملك أوسركاف مؤسس الأسرة الخامسة و طبقا لما ورد في النص فقد كان مشرفا على شعائر تتويج الملك الحاكم منذ تلك الفترة في الأجنحة الجنوبية للقصر . و يبدوا من الواضح أن دخول هذه الأجنحة لم يكن مسموحا به لأى موظف في الدولة إلا المقربين من الملك . كما يبدو كذلك مرافقته للملك في كل سفينة ملكية لإقامة شعائر خاصة للملك في كل مكان يتوجه إليه .
4 – هل إنتقل العرش من نهايات الأسرة الرابعة إلى بدايات الأسرة الخامسة بشكل سلمي ؟ ..... لا يمكن معرفة و إستنتاج ذلك من خلال نصوص السيرة الذاتية لكبار رجال الدولة ، فالملكية درجت على تغطية ذاتها بإطار من القداسة و السرية التامة ، فإن وقع صراع ما حول العرش فيصعب تدوينه على جدران مقابر الأفراد و لذا نحن هنا لا نعتمد على النص و إنما نعتمد على الآثار و التى كشفت عن إنتقال سلمي للعرش من الأسرة الرابعة للأسرة الخامسة و أن ملوك الأسرة الخامسة ينحدرون من البيت المالك للأسرة الرابعة – انظر مقال للباحث بعنوان الفترة الإنتقالية ما بين نهايات الأسرة الرابعة و بدايات الأسرة الخامسة – فضلا عن عدم صحة معظم البيانات التى وردت في بردية وستكار التى تأثر بها المؤرخون في البداية و ظنوا من خلال ما ورد فيها أن الأسرة الخامسة لم تكن تنحدر من البيت المالك للأسرة الرابعة – أنظر مقال للباحث بعنوان شكوك حول بردية وستكار .
5 – تجاهل بتاح شبسس في نص السيرة الذاتية ملكا ورد ذكره في بردية تورين بإسم ( جدف بتاح ) و كان قد تم تسجيله بإعتباره آخر ملوك الأسرة الرابعة ، إلا أن ذلك لم يكن موقف بتاح شبسس وحده بل كان هو نفس الموقف لجميع الموظفين الذين عاشوا في ذات العصر فتجاهلوا ذلك الملك و الذي لا نعرف عنه أى شيء مما يعنى أن نص السيرة الذاتية لبتاح شبسس لم يبرأ من الأيدولوجيا التى قامت بإنتقاء ملك دون الآخر وفقا لمعايير معينة و هو ما يجعلنا لا نسلم دائما و بشكل مطلق بصحة و تصديق كل ما ورد في نصوص السيرة الذاتية لكبار رجال الدولة إلا بعد التأكد من خلوها من السمات الأيدولوجية و من خلال مقارنتها بما جاء على الآثار الغير مغرضة
6 – يبدو من المرجح أن بتاح شبسس و نظرا لأنه كان هو كبير كهنة منف أنه قد شارك و أشرف على تتويج أوسركاف بنفسه مما يعني أنه كان حريصا على الإنتقال السلمي للعرش لأول ملوك الأسرة الخامسة دون أن ينافسه في ذلك الأمر . و قد تبين لنا أن شبسسكاف – آخر ملوك الأسرة الرابعة - كان أخا لأوسر كاف - أول ملوك الأسرة الخامسة ، انظر مقال الفترة الإنتقالية ما بين نهايات الأسرة الرابعة و بدايات الأسرة الخامسة – و هو الأمر الذي يعكس عدم وجود علاقة بين مفهوم إنتهاء الأسرة و بين صعود أسرة أخرى على العرش .
7 – " التابع لساحورع المبجل لدى الملك أكثر من أى خادم و الصديق الأوحد لجلالته "
إن لقب المبجل من خلال هذه الفقرة يعكس أمورا هامة و هي :
أ – أن صاحبه له الحق في عمل مقبرة لنفسه من خلال منحه الإذن الملكي بعمل ذلك
ب – أن تقام له شعائر و طقوس تقديس داخل مقبرته أو في مقصورته الجنائزية من جانب كهنة مكلفين بذلك العمل
ج – أن إبنه له الحق في أن يرث وظيفته و ألقابه بعد مماته
و من جانب آخر ، يعكس لقب الصديق الأوحد ما يعادل وظيفة المستشار الخاص الذي يشاوره الملك في كل عمل يريد إنجازه .
8 – " التابع للملك نفر إير كا رع و عندما كان جلالته يثني عليه لأمر ما يسمح له بتقبيل قدمه و لم يرض جلالته أن يقبل الأرض "
تعكس هذه الفقرة الأخيرة ما إعتاد و درج عليه كبار رجال الدولة من تقاليد دينية هامة تتمثل في تقبيل الأرض التي يسير عليها الملك كنوع من إظهار التقديس و الولاء التام لشخص الملك الحاكم إلا أن ذلك لا يعني بالطبع أنهم كانوا يقيمون ذلك العمل طوال الوقت و في جميع المناسبات . و لكي يظهر بتاح شبسس مكانته الكبرى التى بلغها ، زعم أن الملك لم يرضى له بما كان يفعله الآخرون و سمح له بمفرده بتقبيل قدمه و ذلك كنوع من التقدير و الإعزاز الذي منحه الملك لموظفه و تابعه الأثير مقارنة ببقية الموظفين . يظل ذلك أمرا غير مستبعد و لكن لا سبيل لنا للتأكد من ذلك نظرا لكتابة هذه الفقرة في إطار الدعاية الشخصية .
9 – " التابع للملك نفر إف رع – و كان ينزل في السفينة المقدسة في كل أعياد التتويج و المحبوب من سيده "
يستمر بتاح شبسس هنا في مهمته العظمى التى تنحصر في تتويجه لملوك الأسرة الخامسة ، كما يؤكد النص على وجود أكثر من عيد للتتويج الأمر الذي يرجح إقامة عيد التتويج الملكي مرة كل عام . و من جانب آخر يتجاهل بتاح شبسس مرة أخرى ملكا آخر ورد ذكره في القوائم الملكية بإسم ( شبسسكارع ) و كان قد تولى زمام الأمور قبل ( نفرإف رع ) فضلا عن كشف بقايا هرم صغير له في أبو صير مما يؤكد أنه حكم البلاد و أعطت له بردية تورين 7 سنوات من الحكم ! فإذا صح كل ما سبق ، كيف تجاهله بتاح شبسس في نص السيرة الذاتية و هو الذي تولى عملية تتويج ملوك الأسرة الخامسة ؟
من المرجح وقوع تنافس و صراع بين أعضاء البيت المالك للأسرة الخامسة إنتهى بغلبة طرف على آخر ، فكان من نتيجة ذلك تجاهل الطرف المهزوم و إسقاطه من نص السيرة الذاتية لبتاح شبسس و هو ما يشير إلى حقيقة هامة : أن نصوص السير الذاتية لكبار رجال الدولة في عصر الدولة القديمة يغلب عليها الطابع المثالي و تقل فيها الصبغة الواقعية ، فلا وجود لأزمات و لا وجود لإشكاليات إلا في حالات قليلة و نادرة ، فكل شيء كان يتم في إطار مثالي طوباوي .
10 – " المقرب من قلب سيده (نى أوسر رع ) ، المبجل لدى بتاح ، لقد فعل كل ما يرضيه و أرضى كل صانع من صناع الملك "
و هنا نصل لآخر ملك عاصره بتاح شبسس و هو نى أوسر رع و أهم ما ورد في تلك الفقرة هو ذكر إسم الملك قبل المعبود بتاح مما يؤكد علو و تفوق الملكية في عصر الدولة القديمة و هي الفقرة الوحيدة في النص التي يرد فيها ذكر المعبود بتاح . كما نجد إرتباط رضاء المعبود بتاح عنه برضاء صناع و عمال الملك عن ما فعله تجاههم و بصرف النظر عن مدى مصداقية ذلك الكلام إلا أننا نستنتج من ذلك وجود ربط واضح بين السلوك الحميد و الأخلاق الطيبة للإنسان و بين رضاء المعبود بتاح عن ذلك السلوك و هو ما نشهده لأول مرة في نصوص السير الذاتية في ذلك العصر .
11 - يتبين لنا مما تقدم أن هذا النص أعطى لنا قائمة ملكية تتكون من عدد من الملوك بداية من ( منكاورع ) و حتى ( ني أوسر رع ) و أن هذه القائمة تجاهلت عن عمد إسمي ملكين تماما مثلما حدث فيما بعد في القوائم الملكية اللاحقة التى كانت تتجاهل بعض الملوك و هو ما يضع نص السيرة الذاتية لبتاح شبسس في إطار القوائم الملكية . و من جانب آخر نجد أن ذكر أسماء سبع ملوك في نص السيرة الذاتية ( و هو في واقع الأمر عاصر تسع و ليس سبع ملوك ) يعكس أمرين هامين و هما :
أ – أن بتاح شبسس عاش لفترة طويلة من الزمن قد تبلغ ثمانين عاما أو ما يزيد قليلا .
ب – أن مدة حكم كل ملك من الملوك الذين عاصرهم لم تكن طويلة الأمد ، و هو أمر هام لمن أراد أن يؤرخ لفترة حكمهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق