الاثنين، 8 أبريل 2013

لماذا إهتم المصري القديم بالماضي ؟


بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا إهتم المصري القديم بالماضي ؟

لم تكن العلاقة مع الماضي في الحضارة المصرية
القديمة تقتصر على مجرد أحداث عظيمة وقعت في زمان عتيق ، بل هي تختص بفكرة التذكر
المستديم لما قام به الأسلاف بهدف تأطيرها في ( نموذج مستقبلي ) يتعلق بالتخطيط و
بعث الأمل ، بمعنى أن تذكر الماضي المجيد يؤدي التخطيط الجيد في المستقبل و لعل
التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا المضمار : هل الماضي كماضي موجود بذاته ؟ و ما هو
مفهوم الماضي ؟ 
إن الماضي في أي حضارة قديمة ( و ليس فقط
الحضارة المصرية القديمة ) ليس موجودا بذاته ! و إنما ينشأ في المقام الأول في
اللحظة التي يبدأ فيها الإنسان بربط نفسه و مصيره بما وقع أو حدث . و مثل ذلك
الأمر قد يثير الدهشة لدى القاريء ، فما من شيء في الوجود أكثر طبيعية مثل نشأة
الماضي : فالماضي ينشأ ببساطة عن طريق أن الوقت يمضي ، و لهذا يحدث مثلا أن اليوم
يصير في الغد ماضيا و يصبح جزءا من الماضي ، فاليوم يصبح عندئذ أمس و هكذا ينشأ
الماضي على نحو واضح . 
و هنا ينبغي لنا أن نشير لأمر هام : أن
المجتمع المصري القديم بذل كل ما في وسعه و قام بتسخير كل ما لديه من طاقات و
قدرات لكي يجعل الماضي في معظم الأحيان في حالة دوام مستمر و هكذا بدت جميع خطط
هذا المجتمع المستقبلية متسقة مع مبدأ الخلود و لذلك السبب وضع الملوك في مصر
القديمة ( الغد نصب عينيهم ) كما كانوا يروون بأنفسهم . إن من ينظر بهذه الطريقة
إلى ( الغد ) و هو لا يزال يعيش في ( يومه ) لابد أنه سيسعى للحفاظ على ( الأمس )
من النسيان و الضياع و لابد أنه سيحاول تخليده عبر الذكرى التي ستنشأ مع الأجيال
اللاحقة في المستقبل .
و لكن هل يصل لنا الماضي بنفس صورته التي
حدثت في أول مرة ؟ 
إن الماضي في أي حضارة بشرية قديمة ( و لا
نستثني الحضارة المصرية القديمة من ذلك الأمر ) أثناء تذكره تتم إعادة تركيبه و
إعادة صياغته من جديد و يظل هذا ( الماضي المركب ) في ذكرى الأجيال اللاحقة و بهذا
المعنى قصدنا ما كنا نتحدث عنه في البداية بأن الماضي ليس موجودا بذاته و إنما
ينشأ بالقدر نفسه الذي ينسب الإنسان نفسه إليه و يتصل به . 
و لكن كيف يتصل الإنسان في الحضارة المصرية
القديمة ( و في أي حضارة بشرية قديمة ) بهذا الماضي ؟ 
ينبغي قبل أي شيء أن يكون هذا الماضي باقيا
في الأذهان و حيا في الشعور و لكي يتحقق ذلك لابد من وجود شرطين هامين هما : 
1 – ينبغي أن لا يكون الماضي الذي نتناوله قد
إنمحى تماما أو بمعنى أدق لابد من وجود شواهد معنوية و دلائل مادية من هذا الماضي 
2 – أن تكون هذه الشواهد و الدلائل في حالة
إختلاف ظاهر و مميز مع كل ما يقع في الحاضر ( اليوم ) 
و لكي نفهم النقطة الثانية جيدا نقول أن
الماضي المجيد لن يظهر لنا كنموذج طيب و يحتذى به إلا بعد ( حدوث قطيعة غائرة )
تعيق عملية ( التواصل ) داخل المجتمع نفسه بين ( ما كان ماضيا ) و ما هو ( كائن
اليوم ) و هذكا ينشأ الماضي . و لذلك فقد كانت البدايات الجديدة لبعض فترات
التاريخ المصري القديم تأخذ دائما شكل العودة و الرجوع إلى الماضي و بقدر ما كانت
هذه البدايات المصرية متجهة نحو المستقبل و تسعى لكي تفتح آفاقه بقدر ما تنتج
الماضي في الوقت نفسه و تعيد تركيبه و مونتاجه لأجل إكتشافه من جديد . ألم ينظر
ملوك الدولة الوسطى لأنفسهم بوصفهم من أعادوا إحياء ماضي الملوك القدماء ؟ ألم
ينظر ملوك الدولة الوسطى لعصرهم بأنه عصر النهضة ؟ فالإسم البراجماتي ( النفعي ) الذي
أطلقه مؤسس الأسرة الثانية عشرة على نفسه هو ( آمون إم حات ) و يعني وفقا للترجمة
الأدق علميا و منهجيا ( آمون في العهد الأول ) و المقصود بآمون في هذا السياق هو
الملك نفسه ، الأمر الذي يؤكد إنتهاج سياسة العودة إلى الماضي و لعل أهم الأمثلة
العملية التي تعكس عودة هؤلاء الملوك لماضي مصر القديمة هي : 
1 – قام ملوك الأسرة الثانية عشرة بإستعارة
صورا فنية و أشكالا معمارية و مناظر طقسية من ملوك الأسرتين الخامسة و السادسة . 
2 – أقام هؤلاء الملوك شعائر تخليد الذكرى و
عبادة أسلافهم من ملوك العصور السابقة . 
3 – إهتم هؤلاء الملوك بتدوين مجموعة من
الموروثات و الحكم الأدبية و زعموا أنها ترجع لأسلافهم الذين عاشوا في عصر الدولة
القديمة و عصر الإنتقال الأول 
4 – إتخذوا من شخص الملك سنفرو مثالا لأنفسهم
يحتذى به و هو ملك عاش في بدايات الأسرة الرابعة و أطلقوا عليه ألقاب ( الملك
الفاضل ) و ( الملك العادل ) و ( الملك الطيب ) .
و بكل هذه الأنماط و السياسات المختلفة
إستطاعوا أن يقيموا الملكية المصرية بمفهوم الماضي الذي لا يزال حيا في أذهان
الناس و هو ماضي طيب و يحمل ذكرى عطرة لدى القوم و من هنا تتأسس الثقة بين الملكية
و الرعية و يتم إضفاء الشرعية على سياستهم المستقبلية . 
و لكن ما الذي جعل المصري القديم يهتم بمفهوم
الإهتمام بالماضي و عدم نسيانه أبدا ؟ 
مما لاشك فيه أن ذلك الإهتمام إرتبط بفكرة
الموت ، فهي التجربة العملية التي تفصل بين التذكر و النسيان و بين الإحتفاظ و
الزوال ، فالموت هنا بمثابة المشهد الأول لتجربة الإنفصال و القطيعة بين ( ما كان
أمسا ) و ( ما هو كائن اليوم ) و لهذا السبب إهتم الإنسان في مصر القديمة بإستدامة
ذكراه بعد موته لدى ذويه و الآخرين و كانت القاعدة المتبعة هي : 
أن الميت يعيش في ذكرى الأجيال اللاحقة كما
لو كان لا يزال يعيش فعليا بين الناس و على الأرض . 
فلا ينبغي أن يتم نسيانه أبدا و يجب أن يظل
إسمه يتردد في الأفواه و عالقا في الأذهان . و لكن من جانب آخر نجد أن عملية إحياء
و إنعاش حياة هذا الميت تتم من خلال الأجيال اللاحقة ، فالميت هنا يدين بالفضل
لعزيمة الخلف الذين لم يتركوه يقع في أغوار النسيان و الضياع . فالخلف هنا يسعى
لكي يحافظ على إنتماء ذلك السلف إليهم كعضو في جماعتهم عن طريق تذكره و إقامة طقوس
عبادته و هكذا ينتقل السلف دائما إلى حاضر الخلف و بشكل مستمر و لا إنقطاع فيه . 
و يجدر بنا هنا أن نشير أن أهم ما تميزت به
الحضارة المصرية القديمة عند إستحضار ماضي السلف هو عدم الإكتفاء بذكرى الميت و
تبجيله بعد موته بل السعي لتأسيس هذه الذكرى بينما لا يزال الإنسان على قيد الحياة
فقد كان الموظف في الدولة المصرية القديمة يبني مقبرته بنفسه و يأمر بنقش سيرة
حياته فيها ، و لكن ليس بغرض كتابة مذكرات أو بهدف كتابة تاريخ و إنما بمغزى تأبين
و إستحضار سابق لذكرى ميت قبل أن يموت .   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق