السبت، 6 أبريل 2013

رسالة منشآت القبور في مصر القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة منشآت القبور في مصر القديمة

تميزت الحضارة المصرية القديمة و منذ بداياتها الأولى بوجود مؤسسة دينية خاضعة للدولة تهتم بإنشاء القبور و تحافظ على إقامة ممارسات شعائرية في تلك المنشآت الجنزية لأجل إستدامة ذكرى الموتى أمام الأحياء داخل قبورهم إلى الأبد و إعادة إحيائهم في عالمهم الماورائي . و لعل الصورة التي وردت إلينا في العصور المتأخرة للحضارة المصرية القديمة من الرحالة و المسكتشفين الأجانب كانت في غاية الأهمية حيث لفتت إنتباههم فها هو ( هياكاتيوس ) الذي جاء إلى الأسكندرية عام 320 قبل الميلاد و عاش فيها حتى عام 305 قبل الميلاد و زار جميع أنحاء مصر تحدث عن المصريين و مدى إهتمامهم بإقامة قبورهم قائلا :
" لا يهتم السكان بالوقت الذي يعيشون فيه ، لأنهم يضعون أكبر إهتمامهم على الوقت الذي سيأتي بعد موتهم فهم يسعون دائما لكي يحتفظوا بذكريات عن فضائلهم و أعمالهم الطيبة في أذهانهم كما أنهم يدركون أن منازلهم هي مقرات مؤقتة لأنهم يعيشون فيها وقتا قصيرا . أما قبور الأموات فيسمونها ( البيوت الأبدية ) و التي يقضون فيها وقتهم لزمن أبدي . و لذلك فهم لا يهتمون كثيرا بتأثيث بيوتهم الدنيوية ، بينما لا يضعون أي حدود على مصاريف قبورهم و ينفقون عليها الكثير "
يلاحظ من هذا النص مدى التباين و الإختلاف الثقافي بين حضارة مصر و الحضارات الأخرى ، فهيكاتيوس هنا مدرك لطبيعة هذا التباين من خلال إشارته لفهم المصريين لقبورهم بأنها البيوت الأبدية بينما كان ذلك المصطلح غائب تماما في جميع الحضارات التي عاصرت مصر أو ظهرت في فترة زمنية لاحقة .
و في هذا الصدد توجد لدينا شهادة مصرية أخرى ترجع لعصر الدولة الحديثة ( و هي المقبرة رقم 131 في طيبة ) حيث تحدث صاحب المقبرة عن مقر دفنه قائلا :
" لقد بنيت لي قبرا في مدينتي الأبدية و قمت بالبحث بعناية عن مكان لقبري الصخري في صحراء الأبدية . و ليدوم إسمي به و في أفواه الأحياء لكي تبقى ذكراي عند الناس جيدة بعد السنين التي سوف تأتي . فالحياة الدنيا هي ليست سوى الوقت القليل أما الأبدية فهي هناك . إنه إله مبجل و أصيل هو ذلك الذي يعمل من أجل المستقبل و الذي يفتش بقلبه ليجد السلام فيدفن جسده و يحيا إسمه و هو الذي يفكر في الأبدية "
يلاحظ من هذا النص عدد من الأمور الهامة و هي :
1 – يعود سبب الإنفاق الهائل على منشآت القبور إلى الفكرة التي آمن بها المصري القديم و هي أن الحياة الدنيا هي قصيرة للغاية إذا ما قورنت مع الحياة الأبدية التي يقضيها الناس في المملكة الأخروية
2 – آمن المصري القديم بأن الوسيلة الناجحة لإستدامة ذكراه الخالدة لدى الأحياء و عبر الأجيال المختلفة هو إقامة قبر له ، فالقبر في عالم مصر هو مقر للذكرى الحضارية .
3 – يهتم صاحب المقبرة بنفسه بالبحث و بكل عناية عن مقر إقامته الأبدية بل و يصف أن من يسعى لعمل ذلك هو إله مجيد أو مبجل ، لأن شغله الشاغل هو التفكير في عالم الأبدية و دفن جسده حتى يجد السلام فيحيا إسمه لأنه سعى للنظر ناحية المستقبل .
4 – لا يدخل الإنسان في مصر للعالم الآخر إلا بعد أن يتحول إلى ( نتر ) و هي كلمة إختلف الدارسون في تحديد معناها فمنهم من يرى أنها تعني ( إله ) و منهم من رأى أنها تعني ( كائن طاهر ) و هناك من الباحثين من ربط بين المعنيين و إستنتج بأن المقصود أن من يقتحم العالم الآخر لابد و أن يتسم بالطهارة كشرط للدخول و هي أيضا سمة الآلهة في عالمهم الماورائي .
5 – لا يخشى الإنسان في مصر من يوم موته و من لحظة دفنه في مثواه الأخير الأمر الذي يعكس وجود محاولة نفسية جريئة من جانب المصري القديم للتغلب على مفهوم الموت الذي لا يسعى أبدا لذكره أو كتابته كمصطلح على جدران مقبرته .
6 – لا نجد في هذا النص بالتحديد أي إشارة تتناول أعمال المتوفى الطيبة التي أداها تجاه الآخرين فهو لا يتحدث هنا عن إطعامه للجائع و لا عن إحسانه تجاه الفقير و هي صيغة كنا قد إعتدنا على قرائتها أحيانا في قبور كبار رجال الدولة منذ نهاية عصر الدولة القديمة . فصاحب المقبرة لا يشير لهذه الأعمال بل يتناول مفهوم دخوله للعالم الآخر كإله مبجل لأنه سعى من أجل ذلك عندما كان حيا على الأرض
و لاشك أن مفهوم إبتكار بناء المقبرة بمادة الحجر كان ذو قيمة و أثر فعال في وجدان و فكر المصري القديم . فذلك الإبتكار هيأ له إمكانية ( تخليد الشعائر و المناظر ) التي تهدف لإقامة ذكرى مستديمة له عبر الأجيال و من هنا يقتنع الإنسان في مصر بأن عالم الدنيا هو ذو قيمة ضئيلة جدا إذا ما قورن بأبدية العالم الماورائي و بذلك الشكل تظهر له الحياة الدنيوية و كأنها حلما خاطفا و سريعا
و هناك نص آخر يعرف بنص العازف على القيثار و الذي ورد ذكره على جدران قبر طيبة رقم 50 و يرجع لنهاية عصر الإنتقال الأول أو بدايات لدولة الوسطى حيث يذكر صاحبه ما يلي :
" لقد سمعت هذه الأغاني التي وجدت في قبور السلف و من يتحدثون لرفع قيمة الحياة الدنيا و التقليل من قيمة العالم الآخر . لماذا يساء إلى هذا البلد الخالد ؟ فالناس يرقدون في مصر منذ أوائل الزمن القديم و اللذين سيكونون هنا حتى نهاية السنين . فكلهم يصلون هناك و ليس هناك من يبقى في مصر ( أي في عالم الدنيا ) فالوقت الذي ينقضي في الأرض هو ليس إلا حلما فقط و لكن مرحبا ، فالراحة و البركة لمن يصل الغرب " .
يتضح لنا من ذلك النص الهام الحقائق التالية و هي :
1 – ظهر ذلك النص كرد فعل على التيار الفكري الذي قام بالتشكيك في وجود العالم الآخر و إحياء الموتى في نهاية عصر الإنتقال الأول و هو تيار سعى للتقليل بمعتقدات المصريين الأخروية و الرفع من قيمة الحياة الدنيا و أهمية الإستمتاع بها و بمباهجها
2 – ينتمي صاحب النص للتيار الكلاسيكي المحافظ الذي يؤمن بموروثات الأسلاف و التي نظرت إلى مصر بوصفه البلد الخالد حيث تحتوي أرضه على أجساد الموتى منذ الزمن القديم و إلى منتهى السنين
3 – يؤكد صاحب النص بأن الجميع في مصر يتجه لذلك العالم الماورائي حيث يشير أنه لا أحد يسبقى في عالم الدنيا
4 – إن حياة الإنسان الدنيوية في مصر لم تكن سوى حلما و أن المرء يستيقظ من ذلك الحلم عند وجوده في العالم الآخر فالواقع الفعلي هناك
5 – إن هذا النص ينتمي لمجموعة النصوص التي ألقت بمفهوم جديد خلال عصر الإنتقال الأول و الدولة الوسطى يتمثل في ظهور تيار فكري سعى نحو إبراز فكرة التدين و الورع الشخصي الذي لم يربط بالضرورة بين إقامة القبر من مادة الحجر و الدخول للعالم الآخر بل يهدف للترويج لمفهوم إقتراب الإنسان و إندماجه بالإله و لقائه به الذي لن يتحقق إلا في العالم الآخر و لهذا خاطب صاحب النص ربه في الفقرات الأخيرة قائلا له : " لا تسمح لنا بأن نبتعد عنك ، فأنت الذي يبقى هناك "
يتبين لنا مما تقدم أن القبر المصري هو المكان الملائم لخلق مكان لذكرى المتوفى الحضارية في ذهن الأجيال القادمة فهو رسالة تخاطب القراء من خلال الصيغة الشهيرة ( نداء إلى زائري القبور ) التي كتبت في معظم الأحوال على جدران المقابر المصرية و عبر العصور المختلفة . فهو المقر الذي يظهر فيه صاحبه كمؤلف لسيرته الذاتية و هو أهم ما لديه في هذا العالم و هو العمل الذي يعيش من أجله و ينفق على إكماله كل ما لديه من مال و فكر و جهد و إعتقاد و هو مكان معنويته و فضيلته الأخلاقية بل و قد يظهر أحيانا مدى لهفة الإنسان في مصر إلى تنظيم و بناء منشأته القبرية عندما يرى في منامه أن المعبود قد تجلى له في حلمه لكي يرشده عن المقر المناسب لإقامة قبره فيصبح موقع مثواه الأخير وحيا إلهيا .
و نجد في نص آخر لواحد من كبار رجال الدولة في طيبة في عصر الدولة الوسطى أن كبار القوم كانوا يشيدون قبورهم خلال حياتهم حيث يقول لنا :
" أنا الذي عمر هذه الأرض لكي تكون مدينة الأبدية لي ، فأنفذ فيها أمنيتي و قد إستنفذت إهتمامي عندما كنت حيا لأصل إلى ذلك بعدما وصلت إلى عمر متميز و بعدما قضيت وقتي بين الأحياء "
و لذا يقوم الإنسان في مصر بتعيين و إختيار المكان الملائم لقبره و ينطلق من هذا المكان نحو عالمه الماورائي خلال حياته لكي يبتهج و يسعد بإكتماله فهو المقر و النتيجة الذاتية لتحرياته و هو ينظر لقبره مثلما ينظر في المرآة التي تعكس الشكل المثالي الذي يسعى إليه كما أنه مكان إعلاء القيمة الفردية للإنسان فلا وجود للأخطاء و لا إعتراف بإقتراف الآثام في تلك المنشأة الحضارية ، فالقبر هنا عالم مثالي تهيمن فيه الماعت ( النظام و الحق و الخير و المثالية ) و لا مكان فيه للإسفت ( الفوضى و الباطل و الفساد و كل ما هو شر ) . كما نلاحظ من جانب آخر أن القبر في مصر يشترك في نفس  الهدف مع منشآت الآهرام الملكية و المعابد و المسلات و التماثيل و ما شابه ذلك في خلق مقر مقدس للإستمرارية الأبدية لمن يوجد فيها حيث يضع المصريون أنفسهم في تلك المقرات المقدسة لكي يتحدثوا مع قراء الأجيال القادمة من خلال مادة الكتابة . و هذه الكتابة تعطي صوتا لكل منشأة تجعل صاحبها حاضرا بنفسه و أمام الآخرين فيتكلم معهم و يسمعون له فهو لم ينقطع عنهم بل هو مرتبط دائما بهم ، فالقبور و المعابد و التماثيل تربط الإنسان في مصر بشبكة من الذاكرة الإجتماعية لا تنمحي أبدا .a

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق