الجمعة، 12 أبريل 2013

كيف أتى الشر إلى عالم مصر ؟ - حول منشأ مفهوم الشر وفقا للآليات الفكرية لعصر الدولة الوسطى


بسم الله الرحمن الرحيم

كيف أتى الشر إلى عالم مصر ؟ - حول منشأ مفهوم الشر وفقا للآليات الفكرية لعصر الدولة الوسطى

وفقا للمعتقدات المصرية
القديمة كان العالم المخلوق من أصل إلهي و لكن كيف تحول العالم الذي أنشأته آلهة
مصر إلى مكان يسوده العنف و الجشع ؟ و كيف جاء هذا الشر الذي كان مرحلة حاسمة أدت
لفصل السماء عن الأرض ؟ بل و فصل الآلهة عن عالم الإنسان الذي يعيش في مصر ؟ 
حاولت النصوص الأدبية التي تنتمي لعصر الدولة
الوسطى أن تجيب على هذه التساؤلات و أقرت بحقيقة هامة و هي : أن العالم لم يتسم
بالكمال منذ بداية خلقه و أن طبيعة الإنسان تتجه نحو التمرد و إحداث الفوضى
فالإنسان يتجه طبيعيا و فطريا للتمرد و لهذا السبب تنشأ الحاجة لوجود دولة أو سلطة
ملكية تسعى للوقوف ضد الفوضى التي تسبب فيها الإنسان في مصر . 
و لكن ينبغي هنا أن نميز بين الفوضى التي
كانت موجودة قبل خلق العالم و التي أطلق عليها المصري القديم لفظ ( نون ) و بين
الفوضى التي نشأت بعد خلق العالم فهناك فرق جوهري بينهما . فالفوضى الأولى تتمثل
في أن العالم في حالته الأولى كان عبارة عن مياه أزليه ( نون ) لا شكل منتظم لها و
لكنها إحتوت على بذور الخلق في داخلها و قد خرج من هذه المياه الأولى إله الشمس
لأول مرة و بعد أن تجلى للعالم فكان ذلك زمن الخلق الأول . 
إلا أن عملية الخلق في مصر لم تحدث مرة واحدة
فقط بل يعيد المعبود الخالق هذه العملية بتكرار خروجه من المياه الفوضوية الأولى (
نون ) في كل صباح و حتى يتحول من هيئة المعبود العجوز إلى هيئة الإله الشاب من
جديد فيغطس في المياه الفوضوية الأولى عند كل غروب لكي يعيد إشراقه على العالم من
جديد و يكرر مسألة الخلق . 
و لا علاقة هنا بين مياه نون التي تمثل حالة
الفوضى في زمن ما قبل الخلق و بين الفوضى التي روجت ملكية الدولة الوسطى في نصوصها
أنها تحاربها و تقف ضدها ، فالفوضى التي نشأت بعد خلق العالم تجسدت في هيئة ثعبان
كوني ضخم عرفوه بلفظ ( عبب ) و هو يهدد بإبتلاع و إلتهام مياه الخليقة الأولى (
نون ) ، فإذا كانت المياه الفوضوية الأولى ( نون ) تحمل في ثناياها خلق و تجديد
العالم فإن ثعبان الفوضى ( عبب ) يحمل على عاتقه تدمير العالم و إفنائه تماما . 
فهذه هي الفوضى التي سعت ملكية الدولة الوسطى
لمواجهتها و من هنا كشفت النصوص الدينية و الأدبية لعصر الدولة الوسطى أن إله
الشمس الخالق أخذ على عاتقه أن ينشر النظام و العدالة و السلام ( الماعت ) و ذلك
من خلال نشر ضيائه على الأرض ، فنور معبود الشمس رع يقف ضد الفوضى و الظلام و
البؤس و الشر التي تتجسد جميعها في هيئة الثعبان الكوني المرعب ( عبب ) . 
و هنا يطرح أهل الفكر و الدين في مصر فرضية
هامة و هي : 
عدم تكامل العالم منذ بداية الخلق و أن تجارب
الشر هي التي تسود و أن سبب هذا الشر هو الإنسان نفسه الذي عصى خالقه و تمرد عليه
و لعل نص تعاليم خيتي الثالث لإبنه مري كارع الذي يرجع زمن كتابته لعصر الدولة
الوسطى يشير إلى هذه الفرضية حيث نقرأ : 
" إن البشر منعمين فهم قطيع الإله الذي
خلق لهم السماوات و الأرض فطغى على الطمع بالماء و خلق الهواء لكي تتنفس أنوفهم
فهم صوره التي خرجت من جوفه و لأجلهم صعد إلى السماء و خلق لهم النباتات و
الحيوانات و الطيور و الأسماك لكي يجدوا غذاءا لهم و لكن بما أنهم إعتمدوا على
التمرد أباد هو أعدائه . و خلق لهم الحاكم منذ أن كان في البيضة و حتى يحمي
الضعفاء و خلق لهم السحر كسلاح لهم لكي يصدوا به ضربات الأحداث عنهم فهو يحرسهم في
الليل و النهار و ضرب أصحاب القلوب العوجاء بينهم مثلما يضرب الرجل إبنه " 
يتبين لنا من هذا النص عدد من الأمور الهامة
تتمثل فيما يلي : 
1 – يحتوي هذا النص على أعمال و إنجازات
الإله الخالق و التي أتى بها لصالح حياة الإنسان في مصر و إثنان فقط من هذه
الأعمال هي التي توجه ضد الإنسان حيث يتم عقابه عندما يتمرد على الإله الخالق و
كان هذا العقاب و فقا لآليات النص هو عقاب خاضع لقوة القانون . 
2 – يحتوي هذا النص على البواكير الأولى
لأسطورة تمرد و هلاك البشرية التي سجلت فيما بعد خلال عصر الدولة الحديثة ، فالنص
هنا يتحدث عن إعتياد البشر على التمرد ضد الخالق و على قدرة ذلك الإله الذي أباد
المتمردين و إستخدم القوة ضدهم . 
3 – أشار النص إلى ضرورة وجود الحاكم الذي
أوجده الخالق منذ أن كان في البيضة ( و هو تعبير يشير إلى أزلية الملك الحاكم و
إخياره من جانب الإله منذ الأزل ) و ذلك 
حتى يحمي الضعفاء و من هنا تظهر الملكية في عالم مصر مسؤولة في المقام
الأول عن وضع حد للظلم و مواجهة الشر وتمرد البشر وحماية الضعيف . 
4 – يكشف النص عن أمر خطير : فبدون وجود
الدولة ( السلطة الملكية ) و بدون وجود السحر كسلاح خلقه الإله الأول لكي يصدوا به
الأزمات يخسر الضعفاء حقوقهم و ينهار عالم مصر و ينتصر الشقاء و تعم الفوضى . 
5 – 
و من أجل ذلك تصبح قوة العقاب التي قام بتنفيذها المعبود الخالق ضد أطفاله –
حسبما ورد في النص – ضرورية و لا غناء عنها فهي الشرط الأول اللازم لتحقيق سعادتهم
فلا سعادة دون عقاب لمن تمرد و لأن البشر تمردوا ، " ضرب الإله أطفاله "
و " مثل رجل يضرب إبنه " . 
و من جانب آخر أكد نص تنبؤات ( إيب ور ) الذي
يرجع زمنيا لعصر الدولة الوسطى على إبراز الصورة المعاكسة للنظام و العدالة و
السلام و الخير ( ماعت ) إذا لم يقم الإله الخالق بعمله كما ينبغي فهنا و كما يؤكد
( إيب ور ) أن العالم في مصر أصبح مظلما و ليس هناك عناية كافية بقطيع الإله
الخالق ( شعب مصر ) و صار البشر يقتلون بعضهم البعض و لا يتدخل ذلك الإله ليضرب
إبنه و لا يقوم الإله بحراستهم ليلا و نهارا 
و هنا تبرز الدراما الكبرى لنص ( إيب ور )
عندما يتسائل : 
" أين هو هذا الإله ؟ هل هو نائم ؟ فلا
أحد يعرف سلطته " 
كانت هذه هي الأزمات الفكرية التي واجهتها
ملكية الدولة الوسطى و سعت لترويج مثل هذه النصوص بشكل متعمد من خلال مفكري البلاط
الملكي و كانت الرسالة بارزة الأهمية : إن الإنسان في عالم مصر سيبلغ مرحلة الشك
في وجود الإله و في عمله نحو صد الشر إذا لم تكن هناك سلطة ملكية ، فالإله لا يعمل
إلا من خلال وجود الملك في مصر . 
و يتحدث الإله في مصر عن عدالته الإلهية في
متون التوابيت قائلا : 
" لقد خلقت الرياح الأربعة لكي يتمكن
الجميع أن يتنفسوا و هذا هو أحد الأعمال و لقد خلقت الفيضان لكي يتمتع به الفقير و
الغني و هذا هو أحد الأعمال و لقد خلقت كل واحد مثل غيره و منعت البشر من الظلم و
لكن قلوبهم عصت ما أمرتهم به و لقد لقد خلقت فيهم الخوف من الموت لكي يقدموا
قرابينهم للآلهة المحلية و هذا هو أحد الأعمال و أنا أحكم بين الفقراء و الأغنياء
و أنا أعاقب بالتساوي كل من يقوم بالظلم فالحياة لي و أنا سيدها و لا يمكن لأحد أن
يسلب سلطتي " 
يتبين لنا من نص متون التوابيت حقائق هامة و
هي : 
1 – أن الفوضى و التمرد يأتيان دائما من قلب
الإنسان و لم يكن الإله الخالق مسئولا عن وجود الشر و الظلم في العالم فهو يقول
بنفسه " و لقد منعت البشر من الظلم و لكن قلوبهم عصت ما أمرتهم به " 
2 – بالرغم من الإله الخالق منع البشر من
الظلم ، إلا أنه لا يتمكن من السيطرة على قلوب البشر الذين تمردوا و صنعوا الشر و
لكنه يستطيع أن يعاقب كل من يخترق أوامره فهو يضرب المتمردين و يقضي عليهم لكي
يعيد الحياة من جديد على حالتها المثالية الأولى و لكي تحيا مصر في سلام
3 – لم يكن هذا الإله الخالق و الذي خلق كل
شيء و بالتساوي بين الجميع و دون تفرقة سوى الملك الحاكم و الذي يمثله على الأرض فالمتحدث
هنا و رغم كونه المعبود الخالق ، إلا أنه يعكس و بشكل غير مباشر خطاب الملك نفسه
أمام الرعية . 
يتبين لنا مما تقدم أن الشر لم يكن من صنع
الإله بل كان من عمل الإنسان و أن الحل الأمثل هو عدم غياب السلطة الملكية التي
ستحقق الماعت في عالم مصر و ستعمل بكل جهدها لإقرار السلام و النظام لتنفيذ خطة
الإله الخالق و أعماله الطيبة ،  و من هنا
لا نجد مواساة للإنسان في مصر بوجود عالم آخر أفضل من عالم الدنيا فهذه الفكرة لا
وجود لها في عالم مصر بل هو عالم واحد و ما يسري هنا ( في عالم الدنيا ) يسري أيضا
هناك ( في العالم الآخر ) و أن السلطة الملكية تظهر كتعويض حقيقي لهذا العالم
الغير متكامل منذ بداية الخلق ، و لذا فالعالم المصري لا يحتاج فقط لمجرد ملك منقذ
بل يحتاج لراع طيب يحمي القطيع من الذئاب .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق