الاثنين، 6 مايو 2013

الرمزية الدينية للمناظر الحربية و مشاهد الصيد في الحضارة المصرية القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الرمزية الدينية للمناظر الحربية و مشاهد الصيد في الحضارة المصرية القديمة
............................................................
.................
إتجهت نزعة الفكر الديني المصري القديم نحو وضع الملكية الإلهية و الإنسان في مصر في بؤرة و مركز العالم بأكمله ، فالريادة و الهيمنة الملكية لم تقتصر على مصر وحدها ، بل إمتدت لتشمل العالم بأسره و هو المعنى الذي أشارت له النصوص الملكية تحديدا منذ بداية عصر الدولة الوسطى . و من جانب آخر سعت أساطير و مذاهب الخلق في مصر القديمة نحو تشكيل و تكوين صورة خاصة بعالم مصر بوصفه العالم الوحيد الذي قام إله الشمس بخلقه في بدء الزمان و ذلك في مقابل عالم آخر يتسم بالفوضى الشديدة و تسكنه قوى معادية و مدمرة و تسعى دوما للإقتراب من عالم النظام و الخير و الحق ( مصر ) . فلما إنفتحت مصر سياسيا على العالم الخارجي في عصر الدولة الحديثة و بدأت تظهر مفاهيم جديدة في السياسة الملكية المصرية تمثلت في عمل معاهدات سلام مع المناطق المجاورة ، بدأت النصوص الملكية تروج لفكرة أن العالم الذي خلقه رع في بدء الخليقة كان هو مصر و ما حولها من البلاد ، و لكن مع الوضع في الإعتبار حقيقة دينية و فكرية هامة و هو : أن ذلك العالم الخارجي و الذي تم الإعتراف به رسميا في النصوص الملكية هو عبارة عن مناطق قبلت نظام المعيشة و السلوك و الثقافة المصرية من وجهة نظر الأيدولوجية الملكية ، أما عن كل من لم يقبل ثقافة و حضارة مصر ظل ينتمي لعالم الفوضى و اللاخلق المهدد دائما لمصر
و كانت الفتوحات العسكرية و الغزوات الحربية التي قام بها ملوك النصف الأول من عصر الأسرة الثامنة عشرة ترمز صراحة لما يعرف دينيا بمد رقعة الخلق و إتساع الوجود الذي خلقه رع في بدء الزمان ، و بمعنى أدق كانت الحملات الملكية العسكرية تهدف رمزيا و أيدولوجيا لنشر ضياء الشمس في تلك المناطق لكي يحل محل الظلام و سيطرة النظام على الفوضى . و من هنا إتسمت المناظر الحربية بشكل عام و في عصر الدولة الحديثة بشكل خاص بمجموعة من السمات الفكرية و الحضارية التي كشفت عن وجود رمزية دينية مرافقة لها و معبرة عنها تمثلت فيما يلي :
1 – وصفت بعض النصوص المرافقة لمناظر المعارك الحربية على جدران المعابد المصرية أن هذه الحروب تعمل على إستمرارية ذكرى الأحداث الأولى ، أو بمعنى آخر حث و إستحضار فعالية اللحظة الأولى لخلق العالم ، فالملك عندما يظهر في مشهد المعركة فهو يعمل على متابعة و مواصلة معركة أزلية قديمة قامت للمرة الأولى في بداية الخليقة بين الإله الخالق و قوى معادية تمكن فيها المعبود الخالق من إحراز النصر على تلك القوى المدمرة مما أدى لخلق العالم ، و من هنا تصبح المعركة العسكرية المصورة على جدران المعبد بمثابة شعيرة دينية مقدسة تهدف لإعادة خلق الكون من جديد من جانب الملك المنتصر على الأعداء و الذي يجسد دور رع و من هنا فلا غرابة عندما نقرأ نصوص المعارك في عصر الدولة الحديثة و العصور المتأخرة التي وصفت جميع الحروب الملكية بكونها عمل ديني مقدس يهدف لحماية مصر من عالم الفوضى المحيطة بالبلاد .
2 – أكدت العديد من النصوص المرافقة لمعظم المناظر الخاصة بالمعارك العسكرية أن حروب الملك التي يشنها خارج أراضي مصر ترنو للسيطرة على تلك البلاد و تحويلها لما يشبه السد المنيع الحامي لمصر ، فهي حروب تتسم بالمشروعية لكونها تسعى لهزيمة القلاقل و الإضطرابات و دحر الظلام ، فهي مناطق لم تصل لها عملية الخلق في بدء الزمان و تقف عند أطراف العالم المعروف بإسم نون حيث العدمية و الخواء و الفوضى و الخطر الدفين و بعبارة أخرى كان عالم نون ( أطراف الكون ) مجسدا لكل ما لا يقع تحت سيطرة الخالق رع و لذلك لم تعتبر المشاهد العسكرية في المعابد المصرية مجرد أداة للتفاخر و الزهو الدعاية السياسية فقط ، بل هي مناظر تؤكد على إتمام عملية الخلق الذي باشره رع لأول مرة في زمن سحيق .
3 – إرتبطت مشاهد الصيد بمناظر الحرب في الرمزية الدينية الأيدولوجية الملكية القديمة ، فهناك علاقة وثيقة و قوية بين مفهومي الصيد و الحرب ، فالصيد الملكي لحيوانات صحراوية ضارية كان بمثابة شعيرة دينية تهدف لزيادة و دعم فاعلية الملك خلال المعركة الحربية و كانت هذه الشعيرة غالبا ما تسبق المعارك العسكرية و تمهد لها حتى يتمكن الملك من القضاء على الأعداء
4 – إعتبرت الحيوانات الصحراوية بمثابة كائنات و مخلوقات فوضوية تنتمي لعالم الجفاف و الخواء و اللاخلق و العدمية و لذا فقد كانت خير تمثيل رمزي لأعداء مصر الذين يعيشون عند حدود العالم الذي تقف عنده الفوضى ( نون ) و التي لم يخلقها إله الشمس رع و لذلك يظهر الملك مصورا عند أطراف المعبد ( العالم ) – على سبيل المثال مشهد الملك رمسيس الثالث و هو يقوم بصيد الحيوانات الصحراوية الضارية عند ظهر البرج الجنوبي للصرح الأول – حتى يقضي على خطرها الدفين و المهدد دائما لمصر مما يعني أن الحيوانات الصحراوية هنا تتماثل بالشعوب المقهورة مع التذكير بأمر هام و هو : أن هذا التماثل و التطابق لم يكن سوى تعبيرا عن عقيدة و أيدولوجيا الإنتصارالرمزي الملكي و لا علاقة بما كان يتم تصويره بالواقع العسكري للمعركة من المنظور التاريخي .
5 – عطفا على أيدولوجيا الإنتصار الملكي الدائم ، إتجهت النصوص و المناظر الملكية أحيانا تصوير الملك في هيئة أسد و هو يطارد ثورا وحشيا و هو ما ظهر لأول مرة في المعابد الملكية لعصر الدولة القديمة و بعض مقابر كبار رجال الدولة ( على سبيل المثال مقبرة مري روكا – بتاح حوتب ) و هو المنظر الذي فسرته نصوص الأهرام التي شابهت الملك بالأسد ذو القوة القاهرة الذي يردع الأعداء بعيدا عن مصر و هو ذات المعنى تقريبا الذي إستعادته الملكية في عصر الدولة الحديثة و تم تسجيله على جدران معابد الآلهة و معابد تخليد الذكرى الملكية .
6 – تجاورت مناظر الصيد و الحرب سويا على جدران المعابد المصرية القديمة فضلا عن الآثار الملكية الأخرى للتأكيد على وجود هذه العلاقة بينهما . فعلى سبيل المثال سجلت مشاهد تصويرية بالغة الأهمية على صندوق الملك توت عنخ آمون – معروض حاليا في المتحف المصري – تصور الملك بقامة عملاقة فوق مركبته الحربية و هو يطارد النمور و النعام و الغزلان و الفهود و في ذات الوقت و على الجزء المقابل لهذا الجانب ، نرى الملك خلال مواجته للسوريين و من جانب آخر لا ينبغي أن نغفل براعة و دقة التصوير الفني لعالم الحيوانات و الأعداء المصورين على هذا الصندوق ، حيث ظهروا جميعا في وضع يتسم بالفوضوية و عدم النظام ، فهم عندما يتراجعون و يهربون من بطش الملك سائرين في جميع الزوايا دون تحديد لإتجاه بعينه يلجأون إليه بشكل منظم و ذلك على النقيض من هيئة الملك البطل الذي يجابه الأعداء و يقتل الحيوانات المتوحشة بمفرده و يقف بثبات واثقا من النصر المحقق عند مواجهته الخصوم .
7 – وصفت نصوص الدولة الحديثة المرافقة لمناظر المعارك الحربية على جدران المعابد المصرية بأن مكان المعركة التي يشنها الملك ضد الأعداء هو الخط الفاصل بين عالم مصر الذي يتكون من الأراضي المليئة بالخير و الأشجار المزدهرة و النباتات و بين عالم الفوضى الذي يتكون من البلاد القاحلة الجدباء التي تميل أراضيها نحو اللون الأحمر المعبر عن جفاف الصحراء و لذلك تظهر جياد المركبة الملكية ( في بعض مشاهد معركة قادش و مناظر حروب رمسيس الثالث في هابو و سيتي الأول في الكرنك ) و قد إستقر جزئها الخلفي في منطقة ذات أشجار ( الخط الفاصل بين عالم النظام و عالم الفوضى ) و في الحين نفسه و بواسطة النصف الأمامي من أجسادها ، تلقي بظلالها على كومة مكونة من الأعداء و الحيوانات الذين صرعهم هجوم الملك عند هامش و تخوم الأراضي الصحراوية
8 – كانت مشاهد الحرب و الصيد تبرز سمات فنية مزدوجة و هامة فنلاحظ التعدد و الكثرة لدى جانب الأعداء و الحيوانات و ذلك في مقابل الملك الذي يقف بمفرده على مركبته الحربية عند مواجهتهم . كما نلاحظ الفوضى و التشرذم و القلق المسيطر على الحيوانات و الأعداء عند الهزيمة و الإنسحاب من الميدان و ذلك في مقابل الجمود الفني الواضح و المقصود على ملامح الملك الذي يظهر و كأنه واثقا ثقة مطلقة من النصرحيث لا تخطيء سهامه الهدف أبدا . و من هنا شابهت النصوص الملك بإله الشمس رع ، كما تماثلت المركبة الحربية بمركب إله الشمس التي تسير في السماء لكي تنشر الضياء و تطابقت سهام الملك مع أشعة الشمس النافذة و المتجهة نحو الأرض و تحولت القوى المعادية ( الأعداء و الحيوانات ) إلى قوى الظلام التي تندحر و تتراجع بمجرد سقوط أشعة الشمس ( سهام الملك ) عليها
9 – أشارت النصوص المصرية المصاحبة لمناظر المعارك و مشاهد صيد الحيوانات الصحراوية ( و لا سيما في عصر الرعامسة و العصور المتأخرة ) أن الخليقة تآمرت على إله الشمس رع في بدء الزمان و حاكت ضده مؤامرة ، فقام بالإنتقام منها بنفسه و ضرب على يد كل من سولت له نفسه بهذا التآمر . و لذلك يظهر الملك الذي يظهر بمفرده في ميدان القتال أو ساحة الصيد بمفرده و هو يقوم بالإنتصار و القضاء على المتمردين و الثائرين ، فهو يتقمص دور رع في حين يتقمص الأعداء دور الثائرين على الإله الخالق في بدء الزمان و يتحول المشهد برمته إلى تمثيلية مسرحية دينية مقدسة يشترك فيها الجميع ( الملك و الأعداء و الحيوانات الضارية ) . و من ناحية أخرى تصاعدت و تيرة و نغمة هذه الأسطورة بشكل بارز في عصر الملك رمسيس الثاني و قام فنانوا الملك بتصويره في معركة قادش بمفرده أمام قلعة قادش و هو محاصر من الأعداء في مشهد لم نشهد له مثيل و لم يتكرر قبل أو بعد عصره ، و ذلك لكي يشير رمزيا إلى مؤامرة الخليقة الأولى ضد معبود الشمس رع و تشكيلها لخطر محدق و دفين موجه نحوه و لا علاقة بذلك التصوير الفني و الرمزية الدينية بحقيقة الوقائع التاريخية لأحداث المعركة .
10 – ظهرت أسطورة الخلق في معبد إدفو في العصر البطلمي لكي تؤكد على ما سبق ذكره فذكرت أنه و منذ اللحظة الأولى لخلق العالم ، يواجه الإله الخالق معركة شرسة يومية مستمرة ضد وحش خرافي يتمثل شكله في هيئة ثعبان عملاق خرج من العدم ، و حقيقة الأمر أن هذا العدو قد إنتصر في الهجمة الأولى و لكنه سرعان ما عاود الهجوم مرة أخرى و لذا سارع الإله الخالق و الذي لم يكون سوى الصقر جورس البحدتي رب معبد إدفو بخلق أربعة آلهة محاربة حيوانية الهيئة من نفسه ، فكانت هذه الهيئات الإلهية المحاربة هي الصقر و الأسد و الثعبان و الثور و تم وضع كلا منها لقيادة كتيبة من المحاربين الذين يتماثلون بقائدهم و تكونت كل كتيبة من أربعة عشرة محاربا على رأسها قائدها و ضمت الكتائب الأربعة تحت قيادة عليا موحدة . و عند المرحلة الأولى من المعركة تضافرت جميعا مكونة ما يشبه المستطيل الهندسي و هكذا تمكن هذا الشكل الهندسي من خلق سياج حي أحرز النصر على ذلك الثعبان و لم يكن هذا السياج أو الشكل الهندسي المستطيل الهيئة سوى السور الضخم لمعبد إدفو لحماية مسكن الإله الخالق . و من هنا تم تصوير هذه الكتائب الإلهية الأربعة المكونة من خمسة عشرة فردا حيوانيا ( القائد + أعضاء الكتيبة الأربعة عشرة ) على جدران الصرح الأول لمعبد إدفو و تحديدا في ذات الأماكن التي كان يوضع فيها أعمدة ألوية الآلهة حيث تواصل رمزيا مهمتها اليومية لحماية المعبد و ربه من خطر الثعبان العملاق و أصبح وجود هذه الأشكال في تلك الأماكن مطابق في المعنى لرمزية مشهد إنتصار الملك على الأعداء المصور على جدران الصرح الأول نفسه لمعبد إدفو . و نلاحظ هنا أن هذا التمثيل الفني الجديد المعبر لتلك الأسطورة لم يظهر إلا في معبد إدفو حيث كان ذلك ترجمة صادقة لأوضاع مصر السياسية السيئة في ذلك العصر ، فعندما عجزت الملكية فعليا عن حماية البلاد في العصر البطلمي أوكل كهنة المعبد هذه المهمة الدينية المقدسة لهذه الكتائب الإلهية التي جسدت تلك الأسطورة و سجلت لأول مرة في العصر البطلمي على جدران معبد إدفو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق