الجمعة، 31 مايو 2013

بين النبوءة الأسطورية للملك المنقذ و الحنين للعصر الذهبي و نهاية العالم المصري في العصور المتأخرة

بين النبوءة الأسطورية للملك المنقذ و الحنين للعصر الذهبي و نهاية العالم المصري في العصور المتأخرة


لاريب أن الصورة التقليدية للملكية المصرية و
عبر مجريات التاريخ المصري القديم تمثلت في إعطاء وصف أيدولوجي لشخص الملك الحاكم
الذي لم يكن سوى إبن الإله الأعلى الذي أنجبه و أرسله إلى الأرض ليقيم الماعت فيها
و ليقوم ببناء المعابد للآلهة و يقيم الإحتفالات لها و يملأ موائدها بالقرابين و
طالما بقيت هذه الفكرة نافذة المفعول ، بقيت مصر في خير و سعادة و نعيم . فإذا لم
يكن هناك تطبيق صارم لهذا المفهوم من الناحية العملية ، سادت إسفت ( الفوضى ) في
البلاد و إنتشر الظلم و عم الفساد و هلك الجميع . فإذا كانت الأوضاع في أي عصر لا
تتماشى و لا تتفق مع النظام السليم و الكامل الذي أنشأه الإله الأول منذ البداية ،
فعندئذ تتوجه الأنظار إلى ( الملك المنقذ ) و المرسل من جانب الإله و الذي يقع على
عاتقه تغيير الأوضاع السيئة نحو الأفضل . و لهذا السبب و عندما وصل الإسكندر
الأكبر إلى مصر خضع بنفسه لمعطيات الأسطورة المصرية أيدولوجيا و توجه ناحية معبد
الإله آمون في واحة سيوة ، و ذلك لخلع الصفة الشرعية على حكمه و إظهار نفسه بوصفه
إبن الإله ، فلم يكن من الغريب أن يتقمص شخصية و دور الملك المنقذ و إحتضن
التقاليد الأسطورية المصرية في العصور المتأخرة و التي كانت تبشر دائما بإقتراب
زمن الملك المنقذ و لذلك نشير هنا و من خلال ما فعله الإسكندر إلى الحقيقة التالية
و هي : 
إعادة فعالية مفهوم ( المحرك الأسطوري
السياسي ) لإبن الإله الذي ظهر على مسرح الأحداث كإبن جسدي لأقوى الآلهة و الذي
أنجبه على الطريقة المصرية و وفقا لفكرة الجماع الأسطوري بين آمون و أم الملك . 
و من جانب آخر و بعد حدوث إتفاق سياسي ديني
بين الإسكندر و كبار الكهنة في مصر في ذلك العصر ، إنتشرت أسطورة مفادها : 
أن الإله آمون لم يجامع أمه على هيئة فيليب
الثاني ( أبو الإسكندر ) و إنما على هيئة نختانبو الثاني ( آخر ملك مصري شرعي في
الأسرة الثلاثين ) الذي هرب من مصر في زمن الإحتلال الفارسي و توجه إلى البلاط
الملكي المقدوني و جامع أم الإسكندر . 
لاشك هنا أن هذه الرواية الأسطورية تهدف
لإبراز النتيجتين التاليتين : 
1 – الحاجة الدينية السياسية لربط نسب الإسكندر
بنختانبو الثاني و لاسيما و أن هذا الملك ( نختانبو ) قام بإحياء التقاليد و
العادات الدينية المصرية القديمة بشكل أكثر قوة و فعالية من جميع ملوك العصر
المتأخر ، فالرسالة هنا واضحة و هي : أن الإسكندر سيمضي على درب و سياسة نختانبو
في إعادة تقاليد الماضي المجيد و إحياء العصر الذهبي للماضي الأسطوري الأول و طرد
الفرس من مصر . 
2 – بهذه الطريقة تم ربط الإسكندر بثلاثة
آباء : آمون كأب إلهي و فيليب الثاني كأب شرعي و نختانبو الثاني كأب جسدي . 
هنا يمكن لنا أن نستشف كيف يأتي الإصلاح في
عالم مصر وفقا لعقلية المصري القديم في العصور المتأخرة و التي تتمثل في الطرح
التالي : أنه لا إصلاح و لا تحسين للأوضاع السياسية و الإقتصادية السيئة إلا من
خلال أعلى سلطة في البلاد و هي سلطة الملك أو الإله الأعلى الذي يرسل إبنه الملك
المنقذ على الأرض لكي يقيم الماعت من جديد فالإصلاح لا يأتي إلا من ( أعلى ) و لا
يأتي أبدا من ( أسفل ) . 
و ينبغي لنا في هذا الصدد أن نشير كذلك إلى
طرح آخر و هو : أنه بسبب التجارب التاريخية الفاشلة للعديد من الملوك في العصور
المتأخرة و التي حملت ذكرى سيئة في العقل الجمعي للمصريين ، تجردت أسطورة الملك
إبن الإله من أهميتها السياسية ! بل تحولت هذه الأهمية السياسية إلى عالم الآلهة
في عصر الملك ( نختانبو الأول ) في الأسرة الثلاثين ، فلم يعد ينظر لشخص الملك
بوصفه الحاكم الفعلي لمصر ، بل هو الإله حورس بنفسه الذي تم إنجابه من خلال جماع
أسطوري بين أبيه آمون و الإلهة إيزيس أو الإلهة حتحور و أتى ليحكم هذه البلاد بنفسه
في كل عام ، و هو المفهوم الأسطوري الذي إعتنقته مصر منذ عصر الملك نختانبو الأول
، فقام بتشييد أقدم معبد صغير في دندرة يدعى ( الماميزي ) ليؤكد المحتوى الأسطوري
لهذه الفكرة و لهذا السبب أصبح الأمر كالتالي : أن الإله حورس يولد مع بداية كل
عام و يأتي لمصر لكي يحكمها و يسعى لإعادة الأمجاد و العصر الذهبي فإذا كانت سياسة
الملك الحاكم ناجحة في ذلك الزمن ، توحد بالمعبود حورس نفسه و أصبح هو الإله
الحاكم نفسه الذي تتم ولادته مرة كل عام بالمعنى الحقيقي و الفعلي و ( ليس المجازي
) أما إذا كانت سياسته فاشلة ، فيعاد إحياء أسطورة ميلاد الإله حورس مرة أخرى و
يتم رد الملكية لأصلها الأسطوري الإلهي القديم و يتولى حورس الأمور بنفسه و بمعنى
أدق لقد كانت الأسطورة في مصر حية و قوية و فعالة في العصور المتأخرة . 
إن مفهوم إنتظار الملك المنقذ يظهر بشكل واضح
على البردية رقم 215 في المكتبة الوطنية في باريس حيث سجل عليها نص شعبي كهنوتي
يعود للأسرات من 28 إلى 30 و تشرح كيف تمكن الفرس من الإستيلاء على مصر و كيف تعزو
سبب الكارثة لفشل الملكية و كيف أن السلطة الملكية خالفت القوانين فتقول إحدى
فقراتها : 
" لقد خالف الملك الفلاني القانون فعوقب
على إثمه ، و عوقب إبنه كذلك على إثم أبيه و لهذا السبب تمكن الفرس من إحتلال
البلاد لأن الملك لم في طريقه نحو الإله " 
يتضح لنا من خلال ذلك النص الأخير الحقيقتين
التاليتين و هما : 
1 – لم يعد مجرد وجود الحاكم في مصر كاف
لتطبيق القوانين الإلهية في العصور المتأخرة و يرجع ذلك لسبب التجارب الفاشلة
للملوك السابقين ، و ذلك أمر يختلف تماما عن الصورة التقليدية للملكية المصرية قبل
العصور المتأخرة مما يشير إلى أن الملكية شيء و الملك شيء آخر ، فالملكية تحتفظ
دائما بقداستها طالما أن بذرتها إلهية و بصرف النظر عن مدى سوء الأحوال السياسية و
الإقتصادية و الدينية ، أما الملك إذا لم يلتزم بتعاليم الملكية ذات الأصل الإلهي
، سقطت عنه شرعيته . 
2 – أن الملك الجيد هو من يطبق قوانين الآلهة
في مصر و لذا تتم مكافأته بفترة حكم طويلة زمنيا و بوراثة إبنه لعرشه من بعده أما
الملك السيء فلا يحكم إلا فترة زمنية قصيرة و يتم إغتصاب العرش منه و لا يتمكن من
توريث الحكم لإبنه من بعده . 
و لهذا السبب أيضا تم توجيه اللوم و النقد
أيضا للملك نختانبو الثاني و ذلك رغم مكانته في ذكرى المصريين كملك سعى لإعادة
تقاليد العصر الذهبي حيث خسر العرش على يد الفرس المحتلين ، فقيل له : 
" أبيس ، أبيس ، أبيس و هذا يعني : بتاح
و رع و حور سا إيسة ( حورس إبن إيزيس ) ، لقد أهملتهم يا نختانبو عندما صار
إهتمامك ينحصر في جمع المال ، فسعادة الملك تعني أن يهتم بأبيس و أبيس هو بتاح و
أبيس هو رع و أبيس حور سا إيسة " 
و يظهر العجل أبيس هنا كإله أوحد له ثلاث
صفات أو أشكال هامة في العصور المتأخرة و هم : بتاح و رع و حورس ، الآلهة الثلاثة
الأوائل للمملكة المصرية القديمة و الذين إنصهروا في كيان العجل أبيس الذي أهمله
الملك نختانبو وفقا لأيدولوجيا كاتب النص . 
و 
هنا سعى الفكر الكهنوتي و الشعبي في العصور المتأخرة لرسم أسطورة الملك
المنقذ في نبوءات مصرية بالغة الأهمية وصفت الحاكم بأنه " سوف لا يخل
بالقانون الإلهي " و " سوف يفتتح المعابد من جديد و يعيد إنشاء ما تهدم
منها و يقدم القرابين و يقيم الأعياد و يطرد المحتل و يبعد الأجانب عن أرض مصر  و سيعيد تماثيل الآلهة التي سرقها الفرس من
المعابد " 
إن هذه النبوءات تعكس التجارب التاريخية
السلبية الأليمة للمصريين في العصور المتأخرة ، فالفرس إنتهكوا حرمات المعابد و لم
يهتموا بإقامة الأعياد و لم يقدموا القرابين و أهملوا الشعائر و سرقوا تماثيل
المعبودات مما يشير إلى حقيقة هامة و هي : 
" وجود صدمة حضارية كشفت عن العقلية
المصرية في العصور المتأخرة و كانت هي الرافد الرئيسي في تشكيل و تكوين ( المحرك
الأسطوري لنبوءة الملك المنقذ الملتزم بتعاليم و قوانين آلهة مصر ) " 
و لهذا السبب إنتشرت النبوءات الشعبية
المصرية في العصور المتأخرة و التي بشرت بإقتراب زمن الملك المنقذ و الذي سيأتي
لينقذ مصر بعد الخراب الذي حل على البلاد في السابق بسبب السياسات الخاطئة للملوك
الفاشلين و كان من أشهر تلك النبوءات الأسطورية ( نبوءة صانع الفخار ) التي كتبت
باللغة الإغريقية القديمة و هي تنبؤ سياسي أسطوري و تتناول قصة نبوءة ترجع لعصر
الملك ( أمنحتب الثالث ) حيث قام ذلك الملك بزيارة مدينة الأشمونين و قابل هناك
أحد صانعي الفخار الذي تحطمت عجلة الفخراني التي كان يعمل عليها ، فقام بتفسير
كارثة تحطم آلته أمام الملك أمنتحب الثالث على أنها علامة تشير ( لزمن بؤس و شقاء
قادم ) ، إذا سيأتي من يرتدون الأحزمة إلى مصر و هم يقدسون تايفون ( إله الشر لدى
الإغريق ) و المعادل للمعبود ( ست ) الذي تشيطن بشكل كامل في العصور المتأخرة و
سيهدمون المعابد المصرية و سيختفي القانون من مصر و سيختفي النظام من البلاد و
ستصبح الشمس مظلمة لأنها لا تريد أن ترى الشر في مصر . 
و لكن و بعد وصف هذه الويلات و الأزمات ،
يتنبأ صانع الفخار بأن " من يرتدون الأحزمة سيسقطون مثل أوراق الخريف من شجرة
مصر و ستعود تماثيل و صور الآلهة للبلاد و سيرسل رع إبنه الملك المنقذ لكي تتوجه
أمه الإلهة إيزيس و سيحكم 55 عاما و بعدها تعيش مصر في سعادة و يرتفع الفيضان و
يجلب الخير للجميع و يسير الصيف و الشتاء في إيقاع زمني كوني صحيح و تضيء الشمس و
تصبح الرياح طيبة و يستسلم الظالمون إلى حكم العدالة " 
هناك حقائق يمكن لنا أن نستشفها من نبوءة
صانع الفخار و هي : 
1 – أراد كاتب هذه النبوءة أن يردها لزمن
الملك أمنحوتب الثالث بوصفه أشهر الملوك الذين عاشت البلاد في ظل حكمه عصرا ذهبيا
و كانت لا تزال ذكراه حية للغاية في وجدان المصريين و حتى العصور المتأخرة . 
2 – أن كهنة مدينة الأشمونين هم الذين أنتجوا
هذه النبوءة ، فصانع الفخار الذي إلتقى به الملك أمنحتب الثالث ينحدر من تلك
المدينة مما يعكس دور هذه المدينة سياسيا في العصور المتأخرة و عدم رضائها عن
الأوضاع السياسية السيئة في البلاد . 
3 – الشقاء الذي عانته مصر في ظل حكم الملوك
الأجانب المحتلين و التبشير بطردهم من مصر على يد الملك الوطني المصري المنقذ
المخلص . 
4 – يلتزم هذا الملك المنقذ و المخلص بإحياء
زمن و عقيدة الآلهة و الملوك الأسلاف و هنا تظهر أهمية الماضي الأول إذا ما قورن
بالزمن الحاضر ، فكلما كان الحاضر شقيا و بائسا ، يكتسب الماضي أهمية بارزة ،
فالماضي المجيد هو الذي سيوجه المستقبل و بقدر ما تتجه الآمال ناحية المستقبل الذي
سيعاد فيه المجد الضائع ، بقدر ما تزداد أهمية ماضي الآلهة الأسلاف الذين حققوا
المجد لمصر في عصرها الذهبي الأول و الذي تشهد عنه بقاياه و دلائل وجوده الحية
أمام أعين الناس في العصور المتأخرة .
و من جانب آخر لاشك أن مفهوم الملك المنقذ هو
أمر معروف طوال فترات التاريخ المصري القديم ، فقد ظهر جميع الملوك المصريين في
نصوصهم و رسالاتهم كمصلحين و منقذين للبلاد كما سعت الملكية المصرية و عبر التاريخ
لإظهار مفهوم الفوضى الذي لا يأتي إلا من أسفل ، أما طريق الإنقاذ فلا يأتي إلا من
أعلى أي من جانب الملك الحاكم و روجت الملكية المصرية لفكرة وجود الشقاء في العالم
بسبب تمرد قلب الإنسان على الإله الخالق الذي عصاه و تمرد عليه ، و نستثني هنا فقط
عصر الملك توت عنخ آمون الذي ظهر في زمنه و لأول مرة فكرة التمرد و الثورة على
الإله الخالق بسبب الملك إخناتون ، فلأول مرة تتحدث النصوص بشكل غير مباشر عن
المجرم الآثم الذي أراد إخفاء شمس آمون ، فالثورة هنا أتت من أعلى ( من الملك ) و
لم تأتي من أسفل ( من الإنسان ) و كانت تلك هي الحالة الإستثنائية الوحيدة منذ
بداية التاريخ المصري القديم و حتى نهاية عصر الدولة الحديثة و لذلك بقيت العقيدة
السائدة دائما بأن : 
" الفوضى تأتي دوما من أسفل ( من
الإنسان ) و النظام يأتي من أعلى ( من الملك الحاكم ) " 
أما بالنسبة لعقلية المصريين في العصور
المتأخرة ، فقد تغير الأمر و أصبح مفهوم الخطر مختلف تماما عن العصور السابقة ،
فالمصري في  تلك العصور أصبح يخاف من
الفوضى القادمة من أعلى ، أي من الملوك السيئين الذين يتجاهلون القوانين الإلهية .
بل يحتاج لملك يضمن تنفيذ القوانين الإلهية التي تمثلت فيما يلي : 
1 – تشجيع كهنة مصر و تقديم الدعم المادي و
المعنوي لإستحضار و إستدعاء صورة الإله الخالق الأول في معبده و ذلك من خلال
الإهتمام بشكل الحيوان المقدس في معبده و الذي أصبح يجسد صورة الإله الخالق الذي
تجلى على العالم بهذا الشكل . 
2 – تقديم الضمان المادي لخدمات إقامة
الشعائر و تقديم القرابين كل يوم بحيث لا تكون موائد الآلهة فارغة أبدا .  
3 – الإهتمام بعمل التراتيل الدينية اللازمة
الموجهة ضد ست و ثعبان عبب ( أبوفيس ) و ذلك لكي لا يندلع أي تمرد و لا تحدث حروب
أهلية و لكي لا يتمكن الأعداء من إحتلال مصر . 
4 – مزاولة إقامة أعياد المعبود أوزير لكي
تبقى القوانين في مصر سارية المفعول و لكي يعيش الناس في إحترام متبادل . 
5 – أن يطيع الملك أوامر الآلهة و يستمر
دائما في خدمتهم و دون إنقطاع 
و هنا نجد أن الملك في العصور المتأخرة لم
يعد مطلوب منه شيء سوى تقديم الضمانات المادية لكل ما سبق أما المجهود الأكبر سيقع
على عاتق كهان مصر الذين أعلنوا عن رسالتهم في ذلك العصر و هي : 
" إستحضار ( ماضي ) الآلهة لتوجيه ( مستقبل
) مصر و التبشير بإنقاذ البلاد من ( الحاضر ) البائس بواسطة الملك ( المخلص ) الذي
لم يكن سوى الملك ( المطيع ) و المنفذ لتعاليم و قوانين ( الآلهة الأسلاف ) "
و من هنا رسم كهنة مصر في العصور متأخرة صورة
الماضي المجيد في معابد العصر البطلمي ، فنقرأ في معبد إدفو على سبيل المثال : 
" لقد نزلت ماعت من السماء في زمن
الآلهة الأوائل و إتحدت مع من في الأرض و لم يكن هناك أي مجاعات في مصر و لم يكن
الشر له أي وجود " 
إن هذا النص يسعى لتصوير الحنين إلى العصر
الذهبي الذي ضاع بسبب السياسات الخاطئة لملوك العصر المتأخر و من هنا ليس من
المستحيل إرجاع ذلك العصر حتى و لو كان هؤلاء الآلهة الأوائل قد تنحوا عن الأرض و
صعدوا للسماء بعد وجود الفوضى التي حلت على البلاد ، فمن خلال مواصلة تقديس الآلهة
الأسلاف و بشكل دائم و غير منقطع داخل المعابد المصرية ، ستعود هذه الآلهة مرة
أخرى لمصر و تصبح مصر ( مكان سكن الآلهة ) و ( معبد العالم ) و ( أقدس البلدان ) و
( أم الدنيا ) . 
تنطلق هذه الرؤية المصرية الكهنوتية في
العصور المتأخرة من الإحساس بوجود خطر دفين يتمثل في الحقيقة التالية و هي : 
أن آلهة مصر على وشك أن ترحل مرة أخرى عن
البلاد ، فإذا رحلت في هذه المرة ، لن تعود أبدا ، و سبب عدم عدوتها هي الإنقطاع
المتكرر في عدم أداء الطقوس بشكل مستمر في المعابد نظرا لعدم وجود الملك الذي يضمن
تقديم هذه الخدمات . إن هذه القطيعة ستكون نهائية و لن يتمكن أحد بعد ذلك من إرجاع
هذه الآلهة في المعابد المصرية حتى و لو أقيمت الطقوس بعد أن إنقطع أدائها لفترة و
حينئذ ستكون نهاية العالم وشيكة و لهذا السبب ظهرة نبوءة نهاية العالم المصري في
القرن الثاني الميلادي في زمن الإحتلال الروماني و نقرأ فيها : 
" سيأتي يوم لا يتمكن فيه المصريون من
إسترجاع الآلهة و ستصبح كل توسلاتهم عبثا و ذلك لأن الآلهة قد تركوا الأرض و صعدوا
مرة أخرى للسماء و تركوا مصر لحالها ، فهذا البلد الذي كان يوما مركز الدين سيكون
مجردا من حاضر الآلهة الأوائل و سيقطن الأجانب في مصر و سيمنعون العبادة في
المعابد بصورة قانونية و سوف يتمنع المصريون عن تقديس الكون و سينظر الناس
للمتدينيين على أنهم حمقى و إلى عديمي الآلهة و كأنهم حكماء و إلى الشر و كأنه
الخير . الويل لك يا مصر ! سترحل الآلهة عنك و ستنفصل عن المصريين و سيأتي زمن
البؤس و الشقاء و ستنهار الأرض و ستصبح البحار غير قابلة لسير السفن عليها و لا
تقف النجوم في مواقعها و ستتعفن ثمار الأرض و سيصبح الهواء خانقا بشدة و هذه هي
شيخوخة العالم إنه عالم دون أديان و دون نظام و دون تفاهم إنساني " 
يتبين لنا من هذه النبوءة المصرية الأخيرة
الحقائق التالية : 
1 – إنحطاط الأوضاع السياسية و الدينية و
الإقتصادية في القرن الثاني الميلادي في مصر و التنبؤ بنهاية العالم المصري . 
2 – إستمرت هذه النبوءة حتى القرن الخامس
الميلادي و ذلك لكي تضفي مدلولا جديدا و هو : قرار ديني بإعتناق دين جديد ، إذ
يتبرأ الناس من إعتناق دينهم القديم و يتوجهون ناحية دين جديد ، فتغلق المعابد و
تمنع العبادة التي كان من شأنها الحفاظ على سلامة عالم مصر و ديمومته . 
3 – تكون العاقبة وخيمة في أن تترك الآلهة
الأسلاف أرض مصر فينهار العالم الذي لم يعد الحفاظ عليه ممكنا بواسطة الشعائر ،
فلا طقوس و لا قرابين قادرة على إستدعائهم مرة أخرى في المعابد . 
4 – يدخل العالم في مرحلة الشيخوخة و تعبر
هذه الفكرة بوعي تام من جانب كهنة مصر في المراحل الأخيرة للعصور المتأخرة بأن
حضارة مصر في طريقها نحو النهاية و لاسيما إذا وضعنا في الإعتبار أن المسيحية
المنتصرة قد تبنت هذه النبوءة و قامت بنشرها لكي تؤكد إستسلام الوثنية المصرية
المندحرة و التي تنبأت بنهايتها بنفسها . 
و هكذا لم يكن الإصلاح في مصر ممكنا دون
الآلهة الأسلاف و لم تكن مصر قابلة للمعيشة و السكن دون العبادة المتواصلة و لم
يكن الإنقاذ يأتي إلا من الإله نفسه و لم يكن للإنسان في مصر أي دور في التاريخ
سوى إقامة الشعائر لهذه الآلهة ، فلما لم يعد ممكنا تقديم الخدمات لها أعلنت بنفسها
عن رحيلها و تركت مصر لحالها و تنبأت بنهاية العالم .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق