الاثنين، 6 مايو 2013

كيف عادت مصر لأسطورتها الأثيرة في زمن الملك طهرقا ؟


بسم الله الرحمن الرحيم 

كيف عادت مصر لأسطورتها الأثيرة في زمن الملك طهرقا ؟
تعتبر لوحة الملك طهرقا المؤرخة بالعام
السادس من أكثر الكتابات الملكية المؤثرة في التراث المصري القديم و لاسيما في
بداية العصر المتأخر . و تتمثل أهمية النص المنقوش على هذه اللوحة في كونه نصا (
ذو طبيعة أسطورية ) ، فأحداث العام السادس من حكمه كانت بارزة الأهمية وفقا لما
ورد في نص اللوحة و تمثلت فيما يلي : 
1 – إرتفاع فيضان النيل في مصر بصورة غير
إعتيادية . 
2 – سقوط الأمطار الغزيرة في بلاد النوبة . 
3 – إعتلائه العرش بعد مرور ست سنوات من حكمه
الغير مباشر . 
4 – زيارة أمه الملكة لأرض مصر قادمة من
النوبة . 
إحتوى نص هذه اللوحة على وصف دقيق و مفصل
لهذه الأحداث بل و وضعت جميع هذه الوقائع في إطار تفسير ديني أسطوري يتم إدراكه
بكل سهولة من جانب الإنسان الذي عاش في عالم مصر في ذلك الزمن . 
و هنا يبدأ النص بوصف فضائل الملك طهرقا و
غزارة بركاته فنقرأ ما يلي :
" لقد كان جلالته من المحبين عند الإله
، فقد قضى الليل و النهار في البحث عن أعمال الخير للآلهة ، فأعاد بناء المعابد
التي كانت مهدمة و أعاد صورها مثلما كانت عليه أول مرة ، و أعاد موائد القرابين
لها ، و قد أصبح قلب جلالته الآن راضيا بإسداء أعمال الخير لهم في كل يوم فكان
البلد في ثراء في زمانه مثلما كانت أيام الإله الأول فقد نام كل شخص حتى شروق شمس
الصباح بعدما دخلت ماعت ( النظام و الحق ) إلى البلد و طردت إسفت ( الفوضى و
الباطل ) من الأرض " 
إن هذه الفقرة تكشف عن حقائق هامة تمثلت فيما
يلي : 
1 – إن النص هنا يكشف عن الوظيفة التقليدية
للملكية المصرية بكل وضوح و هي إعادة بناء المعابد القديمة التي تهدمت و إعادة نقش
المناظر المصورة على جدرانها و إستئناف إقامة الأعياد لآلهة مصر و إعادة تقديم
القرابين لها و في واقع الأمر إن النص هنا يربط دور الملك في إعادة التقاليد و
الأساطير الخاصة بالعصور الذهبية القديمة عندما كانت البلاد تحيا في سعادة مطلقة
بإقامة أعياد الأرباب و تشييد معابدها و تقديم القرابين لها و بشكل دائم . 
2 – يشير النص لعقلية المصري القديم في بداية
العصور المتأخرة و التي إهتمت كثيرا بإستعادة تقاليد العصر الذهبي الأول و عبادة
أعظم و أقدم ماضي مجيد شهدته البلاد بل و جعل هذا الماضي ماثلا في الزمن الحاضر و
لذا يقول النص : " لقد كان البلد في ثراء في زمانه مثلما كان في زمن الإله
الأول " فلا ثراء و لا سعادة إلا بتحقيق سياسة الإله الأول الذي عاش و حكم
بنفسه في الزمن الأول ( أقدم و أعظم ماضي ) . 
3 – حرص النص على إظهار الملك في صورة الملك
المتدين و الورع و التقي الذي يقضي ليله و نهاره للبحث عن أعمال الخير للآلهة ،
فهذا التدين الملكي مقصودا لذاته ، فهو يجلب الخير و البركة لمصر من ناحية ، و
تصبح هذه البركة هي إستعادة عملية أسطورية للماضي الأول العتيق عندما كان الخالق
يحكم مخلوقته بنفسه من ناحية أخرى . 
ماذا يمكن لنا أن نستنتج من ذلك ؟
.............. 
بما أن هذا التأويل الجديد لنص الملك طهرقا
ليس إعتياديا ، و بما أن إنتاج مثل هذا النص جاء بعد تأمل و تدبر طويل ، فالرسالة
كانت واضحة و هي : 
أن الإنسان في عالم مصر كان يرغب و عن وعي
تام في إستعادة الماضي الأول المجيد أو بمعنى أدق إستعادة تاريخ العصر الذهبي من
براثن الماضي 
و لذا يستكمل النص رسالته كاشفا في الفقرة
اللاحقة عن المحتوى التالي : 
" لقد حدثت معجزات في عهد جلالته في
العام السادس لإعتلائه العرش و هي معجزات لم يرى مثلها أحد في عهد أسلافه لأن أبوه
آمون رع كان يحبه جدا و قد رجا جلالته أن يحدث الفيضان من أبيه آمون رع سيد الكرنك
و ذلك لكي يمنع حدوث جدب في زمنه و قد تحققت له جميع هذه الأمنيات و جاء وقت
الأمطار و فاض النيل في كل مكان يوم بعد يوم ففاض النهر في جبال مصر العليا و غمر
تلال مصر السفلى و قد كان البلد خاملا و نائما في المياه الأولى و لم يعد بالإمكان
التمييز بين البر و النهر و قد إرتفع مستوى الماء 21 ذراعا و هكذا كشف جلالته عن
الحوادث التي وقعت في زمن أسلافه للإطلاع على فيضانات العهود الماضية و لم يجد أحد
فيها مثل ما حدث في زمنه " 
ينبغي لنا هنا أن نشير لنتائج بالغة الأهمية
في تلك الفقرة الأخيرة و هي : 
1 – إرتبط مفهوم إضفاء الشرعية على حكم الملك
الحاكم بحدوث معجزات إلهية كبشارة طيبة تكشف عن رضاء المعبود على شخص الملك الورع
و التقي و المتدين . كما تتميز هذه المعجزات بوصف أدبي أسطوري و لاسيما و أنها
معجزات لم تحدث من قبل في زمن الأسلاف من الملوك القدامى . 
2 – إدراك المصري القديم لظاهرة هطول الأمطار
في النوبة و إرتباط ذلك بمفهوم قدوم الفيضان لأرض مصر فالنص يقول : " و جاء
وقت الأمطار وفاض النيل " 
3 – تشير تلك الفقرة إلى إرتفاع مياه فيضان
النيل لدرجة أنه قام بغمر كل شيء في مصر ، الأمر الذي يعني أن البلاد قد عادت
أسطوريا لزمن ما قبل الخلق الأول ، و هو الزمن الذي كان في العالم مغمورا بمياه
الخليقة الأولى التي أطلق عليها المصري القديم مياه نون ، و لاريب أن مياه الخليقة
الأولى ( نون ) تهدف من خلال هذا السياق لنشأة جديدة و بداية جديدة لخلق الأرض و
العالم و الكون .  
4 – كشف إرتفاع مستوى الفيضان عند مرسى معبد
الكرنك في عصر طهارقا عن صحة ما ورد في نص لوحته ، حيث وصل الماء إلى أعلى مستوى
له مقارنة بالعصور التي سبقت عهده . و بالرغم من صحة الواقعة المذكورة من الناحية
التاريخية ، إلا أن الحدث هنا تم تأطيره في ( مشهد أسطوري ) ، فلم يكن هدف الإنسان
في عالم مصر أن يحكي عن التاريخ الموضوعي المتجرد بل كان الهدف هو مطابقة جميع
الوقائع بالنموذج الأسطوري الأول الذي وقع في الزمان الأول البعيد و بعارة أدق كان
التاريخ في مصر هو ترجمة عملية لإحياء الأسطورة . 
و تحتوي الفقرة اللاحقة على وصف تقريري لما
حدث في عصر طهارقا : 
" هكذا قال جلالته : لقد عمل أبي آمون
رع من الكرنك على إنجاز أربعة معجزات جميلة في سنة واحدة فقط ، في السنة السادسة
لظهوري كملك و لم يحدث شيء مشابه لذلك في عهود أسلافنا . لقد أمطرت السماء في
النوبة فجاء الفيضان و غمر البلاد كلها و لم يجد أحد شيئا مشابها له في الكتابات
منذ أن وجدت البشرية و لم يقل أحد : لقد سمعت مثل ذلك من أبي . و قد كان له (
الفيضان ) تأثير طيب لأنه أفنى الجرذان و الثعابين من الأرض و منع الجراد من إتلاف
الزرع و منع ريح الجنوب من حصاده و قمت بنقل الحصاد إلى المخازن ، فهي حبوب مصر
العليا و السفلى " 
يرتكز النص من خلال السياق الأخير على عرض
حقيقتين فكريتين و هما : 
1 – إنفراد الحدث و تميزه بشيء لم يحدث على
الإطلاق في العهود السابقة و هي حدوث أربع معجزات في عصر طهرقا في سنة واحدة و أن
رب المعجزات المؤازر و المدعم للملكية المصرية هو آمون رع رب الكرنك الذي يسعى
لتدعيم الملكية التي تتسم بالصلاح و الورع و التقوى . 
2 – لا تصلح البلاد للحياة و لا يعم فيها
الخير و النعم و العطاء الإلهي إلا بصلاح حكم الملوك ، و هي النظرية التي إرتكزت
عليها ملكية العصر المتأخر في الحضارة المصرية القديمة . 
ثم تتجه الرواية لكي تقص علينا أحداث الملك
الأسطورية فتقول : 
" لقد إستلمت التاج في منف و قد أمرني
أبي آمون بأن يخضع لي كل الأراضي و كل البلاد الأجنبية و كانت أمي على قيد الحياة
في النوبة و لكني إبتعدت عنها عندما كنت صبيا في العشرين عندما ذهبت إلى مصر
السفلى فجاءت هي من هناك ( النوبة ) هابطة على النهر لكي تراني بعد سنين طويلة
فوجدتني معتليا عرش حورس ، بعدما كنت قد إستلمت تاج رع و إتحد ثعباني التاجين فوق
رأسي فقد صان كل الآلهة جسدي و إنطلقت أمي تهلل في الجماهير عندما رأت جمال جلالتي
، مثلما رأت إيزيس إبنها حورس عندما ظهر على عرش أبيه أوزير بعدما كان هو ( حورس )
صبيا في العش في ( خميس ) ، لقد إستقبلت إيزيس إبنها حورس و إتحدت الملكة الأم مع
إبنها ، فيا ملك مصر العليا و السفلى و يا طهرقا الذي يعيش دائما تحت الآلهة أنت
الباقي الذي يعيش دوما بواسطة ما أمرك به أبوك آمون " 
يتبين لنا مما تقدم من خلال الفقرة الأخيرة نتيجتين
هامتين و هما : 
1 – إن الغريب في هذا النص هو ظهور مفهوم
تخليد الأحداث التاريخية التي وقعت فعليا في عصر الملك طهرقا و هي سمة الكتابة في
العصور المتأخرة و التي كانت تهدف لتطوير مفهوم الكتابة التاريخية المرتبطة بوقائع
حقيقية فسفر الملكة الأم من النوبة العليا إلى مصر السفلى ثم لقائها مع إبنها
الملك بعد سنين طويلة من الغياب هو حدث بلاشك حقيقي و يكتسب صفة التاريخية
2 – إلا أن الأغرب من ذلك بكثير هو تأويل
كاتب النص لهذه الأحداث من خلال أسطورة الإلهة إيزيس و إبنها حورس ، فالتقرير
الوصفي للنص يحتفل بلقاء الملك مع أمه بوصفه لقاءا يجمع بين إيزيس و حورس في
تمثيلية أسطورية فائقة القوة ، فالملكة الأم هي إيزيس التي ترى إبنها حورس ( طهرقا
) في أحراش الدلتا في عش خميس وفقا لما ورد في الأسطورة ، فالملك طهرقا هنا ( يعيش
بوجدانه و فكره في الأسطورة ) و هكذا تعود مصر لكي تحيا في زمن الأسطورة من خلال
تطويع و موائمة الأحداث التاريخية لكي تبدو و كأنها مطابقة للنموذج الأسطوري
المقدس ، و من هنا تصبح الأسطورة في عالم مصر هي الحاكمة على التاريخ و ليس العكس
، فالملكة الأم تتجه فعليا إلى مصر السفلى لرؤية إبنها حورس ( طهرقا ) الملك في عش
( خميس ) معتليا عرشه لأن النموذج الأسطوري الأول كان فعليا قد سار على هذا النهج
، فالتاريخ هنا يخضع لمعطيات الأسطورة .. و هكذا لم تتخلى مصر عن أسطورتها الأثيرة
في زمن الملك طهرقا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق