الاثنين، 6 أغسطس 2012

الدلالات السياسية و الدينية و التاريخية لقصة سنوهي


بسم الله الرحمن الرحيم 


الدلالات السياسية و الدينية و التاريخية لقصة سنوهي ............................................................ 
.................




حظيت  قصة سنوهي بإهتمام بالغ بين جميع الدارسين و المختصين في الحضارة المصرية  القديمة نظرا لما إحتوته من قيم أدبية رفيعة المستوى و لاسيما في عصر  الدولة الوسطى . و تجري أحداث هذه القصة على لسان من تسمى – فيما شاء  كاتبها – سنوهي أو سا نهت بمعنى ( إبن الجميز ) . أما عن محور هذه القصة  الأدبية و عقدتها تتمثل في موت الملك ( أمنمحات الأول ) أو ربما مقتله على  الأصح و إن لم يصرح كاتب النص بذلك على الأسلوب السياسي و الديني المصري  القديم . و كان سنوهي حينئذ في الجيش المصري الذي دفع به جلالته بقيادة  إبنه و ولي عهده ( سنوسرت الأول ) لقتال التمحو التحنو ، و هم قبائل بدو  الصحراء الغربية ، حيث وفق الجيش المصري في حملته و تهيأ للعودة بما أحرز  من غنائم و أسلاب . و سمع سنوهي خلال عودته مع الجيش المصري بنبأ وفاة  الملك ( أمنمحات الأول ) ، كما سمع لغطا فهم منه وجود فتنة على العرش في  العاصمة ، فآثر البعد بنفسه و إستخفى من الجيش و إعتزله و تخطى الحدو  الشمالية الشرقية وحيدا ، فكان أن أسلم ساقيه للريح – على حد وصف النص –  فغادر مصر بأسرها مجتازا سيناء و بعض القلاع العسكرية التي فيها ( عرفت  بإسم أسوار الأمير ) و لقي في طريقه عقوبات جمة و أسلمته أرض إلى أرض – على  حد قوله في النص – حتى وصل منطقة ( رتنو العليا ) و هي منطقة واسعة في وسط  سوريا و شرق لبنان ، فأكرم وفادته حاكم ( الرتنو العليا ) و هو المدعو (  عامو سا نانشا ) ، و رحب به و ذلك بحكم معرفة قدره في مصر و منزلته من  ملكها لاجئا في كنفه و ضيفا عليه ثم إستفسر منه عما آل به إلى الفرار من  مصر . غير أن سنوهي لم يشأ يشرح كل شيء لهذا الحاكم و إن إنتهز هذه الفرصة و  أخذ يعلن إخلاصه للملك الجديد ، حريصا على مدحه و الإعتراف بحقه الأصيل في  العرش منذ أن ولد ، كما أنه يدعو حاكم ( رتنو العليا ) إلى الإعتراف  بسلطان ملكه ( سنوسرت الأول ) و ما سوف يلقى من فضل الملك ( سنوسرت الأول )  لقاء ولائه و إخلاصه له . و هنا يقوم ( عامو سا نانشا ) بإكرام سنوهي  فجعله تقديرا لكفائته السياسية و قدرته العسكرية حاكما على بعض المناطق في  بلاده كما زوجه من كبرى بناته . و رغم إستقراره في منفاه عزيزا مكرما إلا  أنه يشتاق للعودة إلى وطنه و إذا به يرسل الدعاة إلى ملكه في مصر لكي يتفضل  عليه برؤية المكان الذي يقيم فؤاده فيه – على حد وصف النص – و أن يدفن  جثمانه في في الأرض التي ولد فيها و أن يرضى عنه الملك و تصل أخبار سنوهي  لقصر الملك بفضل ما كان متاحا من قوافل تجارية تمر ما بين مصر و سوريا (  رتنو العليا ) ، فيكتب الملك إليه يدعوه للعودة إلى مصر معلنا برائته ، و  أن فراره إنما كان عن وهم نبع منه ، فعاد سنوهي أخيرا إلى مصر حيث تم  إستقباله في القصر الملكي إستقبالا غامرا و تحققت له أمنيته بأن يدفن في  وطنه .

تتجه هذه الدراسة و قبل كل شيء إلى إبراز خطأ فادح وقع فيه عدد  كبير من المفسرين لهذه القصة عندما تصوروا أنها تقع في إطار تاريخي بحت و  لم يفطنوا لإدراك أن القصة برمتها ( رواية أدبية ) تخرج عن أهداف ( النص  التاريخي ) ، فحتى و إن إحتوت في ثناياها على بعض ( الحقائق التاريخية )  إلا أن كاتبها لم يقصد في روايته أن ينقل لنا أحداث عصره بالمعنى التاريخي  المجرد كما زعم بعض المفسرين ذلك الأمر . فالرواية الأدبية في عصر الدولة  الوسطى تتجاوز آفاق ( المعنى التاريخي الثابت ) و إن حدث فعليا لكي يصل إلى  آفاق ( المغزى السياسي و الديني ) .
 فالرواية أدبية الطابع و المضمون ،  و الأدب يعتمد على ما هو خيالي و ما هو واقعي ، فيضم عنصري الخيال و  الواقع مع بعضهما البعض لكي ينصهرا في بوتقة ثقافية أدبية رفيعة المستوى  تؤدي في نهاية المطاف إلى نشر أهدافها بين الناس . و ما يدل على عنصر  الخيال فيها مجموعة من الحقائق الهامة تتمثل فيما يلي :
1 – لا وجود  لشخصية تاريخية عاشت في عصر الملك أمنمحات الأول أو سنوسرت الأول بإسم  سنوهي فلا وجود آثار بإسمه إلا في تلك الرواية الأدبية ، و لقد تصور المصري  القديم نفسه أن سنوهي شخصية حقيقية لذا فقد جاءت بعض مصادر الدولة الحديثة  تسعى للكشف عن مقبرته المزعومة و التي ورد ذكرها في نهاية الرواية  إلا أن  مصادر الدولة الحديثة تعترف و تقر في النهاية بفشلها في العثور على مقبرته  .
2 - لا يحكي لنا كاتب النص السبب الحقيقي الذي دفع بسنوهي للهروب  من مصر بعدما سمع بوفاة الملك أمنمحات الأول فالعبارات التي وصفت دافع  فراره من مصر وردت في سياق أدبي ملغز و غير واضح – فالإله هو الذي فرض عليه  ذلك ! - أما عن أقوال بعض المفسرين بأنه كان متورطا في أمر ما أو أنه كان  يخشى الفتنة على العرش أو كل ما شابه ذلك ، فهي كلها أقوال لم ترد في النص و  يرد عليها بأن الملك ذاته سنوسرت الأول لا يدينه في شيء لا من قريب و لا  من بعيد مما يجعل أقوال المفسرين في هذا الإطار مجرد إجتهادات ظنية لا ترقى  إلى اليقين .
3 – قيام حاكم رتنو العليا ( عامو سا نانشا ) بتزويج  رجلا هاربا من وطنه ( سنوهي ) لإبنته الكبرى بل و قيامه بإلإعلان عن حكمه  لبعض البلاد في ( رتنو العليا ) و إدعاء كاتب القصة بأنه ( حاكم رتنو  العليا ) كان يعلم قدر سنوهي قبل أن يأتي إليه . إلا أن الآثار في منطقة  بلاد الشام بأكملها لم تعلن عن وجود رجلا بإسم ( سنوهي ) فضلا عن الغياب  التام لإسم ( عامو سا نانشا ) من قائمة الزعماء التاريخيين الذين حكموا هذه  المنطقة في الفترة التاريخية الموازية لعصر الدولة الوسطى في مصر .
أما عن الدلالات التاريخية التي ورد ذكرها في هذه الرواية الأدبية فلم يكن  الهدف من وجودها رواية وقائع التاريخ ، بقدر ما كانت حقائق معروفة لدى كاتب  النص و تتماشى مع مضمون القصة و لا تخل بسياقها الأدبي ذي المضمون الديني و  السياسي ، و رغم ثانوية هذه الدلالات التاريخية في الرواية الأدبية إلا  أنها تمثلت فيما يلي :
1 – أن اللغة المصرية و هي لغة سنوهي كانت  معروفة لبعض أهل الشام ، أو على أقل تقدير كان يجيدها كبارهم و هو أمر  متوقع في ظل وجود تبادل تجاري بين مصر و الشام خلال ذلك العصر .
2 –  ورد في النص ذكر لجماعات سمي رؤساءهم بإسم ( حقاو خاسوت ) بمعنى حكام  البلاد الأجنبية و هي جماعات قامت بهجرات نحو بلاد الشام و ربما هددتها ،  فما كان من كاتب النص إلا أن ذكر قيام سنوهي بصد هذه الجماعات و قتله  لزعيمهم  ، و هنا ينبغي لنا أن نشير إلى أن ال ( حقاو خاسوت ) هو نفس الإسم  الذي أطلقه المصريون فيما بعد على زعماء الهكسوس مما يرجح وصول هذه  الجماعات أولا إلى بلاد الشام و أنها كانت تمثل أسلاف الهكسوس .
3 –  لماذا لجأ سنوهي إلى رتنو العليا ؟ و هي منطقة ربما تقع بين أواسط سوريا و  شرق لبنان ، هل كان يخشى الإستقرار في فلسطين فيقع تحت طائلة السلطات  المصرية ؟ يحتمل ذلك بشكل كبير ، و لا سيما و أن الآثار المصرية المكتشفة  في فلسطين ترجح وجود سيطرة مصرية سياسية شبه مؤكدة على المكان منذ عصر  أمنمحات الأول فكان من المنطقي أن يذكر الكاتب لجوء ( سنوهي ) إلى منطقة  رتنو العليا البعيدة عن السيطرة المصرية .
أما عن الدلالات السياسية و  الدينية لرواية سنوهي الأدبية ، فيمكن القول أنها كانت الرسالة الحقيقية  الموجهة للقاريء المصري و كانت هذه الدلالات تقع في إطار برنامج تعليمي  سياسي و ديني تبناه ملوك الأسرة الثانية عشرة ، فكانت على النحو التالي :
1 – يتضح من هروب سنوهي في القصة أنه عملا مخلا بقانون الملكية في مصر ،  فالهروب يظهر كجريمة و لو بشكل غير مباشر في سياق القصة ، و المعنى هنا لا  يقتصر فقط على الهروب من البلاد و إنما الهروب من العمل لصالح السلطة  الملكية ، فيبدو من سمات القصة وجود سمات لدولة بوليسية و ذلك لأن الهرب من  العمل لأجل السلطة الملكية يؤدي بصاحبه في نهاية المطاف إلى السجن . كما  أن كاتب النص يسعى لإبراز الفارق بين البدو المتجولين في الصحراء و الغير  ملتزمين بأي شيء و بين صورة المواطن المصري الصالح و الذي يلتزم بالعمل  لأجل السلطة الملكية و تقوم بدفع الضرائب ، فسمة الدولة البوليسية تتمثل في  وجود سلطة ملكية تعتبر نفسها مؤسسة لحماية الشعب المصري من الفوضى و أنها  قلعة النظام و الحق و العدالة فيتحتم عليها تكوين منشآت عسكرية لمراقبة  الحدود ( على سبيل المثال ما ورد في النص من وجود قلاع أسوار الأمير ) و  إنشاء أجهزة رقابة و تفتيش على المواطنين و توجيه العقاب لكل من ينتهك حرمة  القانون و من هنا فهي بقدر ما تحميهم فهي أيضا تحد من حرية حركة مواطنيها .
2 – في خضم العمل البطولي الذي قام به سنوهي عندما قام بمبارزة زعيم  الحقاو خاسوت ، تذكر فجأة إشتياقه و حنينه للعودة إلى مصر و بالرغم من عدم  ذكر سبب هذا الإشتياق ، إلا أنه كان واضحا لكل قاريء مصري ، فقد رأى سنوهي  خلال هذه المبارزة الموت أمام عينيه و تذكر فكرة دفنه خارج وطنه و هي ذات  الفكرة الشنيعة التي كان يشمئز و يفزع منها المصري القديم ، فالموت خارج  مصر يعني عدم وجود شعائر للدفن و غياب تام لطقوس التحنيط و تخليد الذكرى و  إنهيار تقديس المتوفى بعد وفاته .
3 – توضح هذه القصة أنه بإمكانية  المصريين أن يعيشوا خارج الوطن و أن يكيفوا على نمط و معيشة و ثقافة البلاد  الأجنبية ، فسنوهي يظهر في نهاية المطاف عند عودته لمصر في هيئة ثقافية  بدوية فقد كان يتحدث بلغتهم و تزوج منهم و عاش على طريقتهم و لا يتعرف عليه  أحد من البلاط الملكي  سوى الملك نفسه نظرا لتغير ملامحه التي أصبحت مثل  ملامح البدو و ردائه المطابق لردائهم إلا أن كاتب القصة و رغم كل ما سبق  أطلق رسالة واضحة للقاريء المصري و هو أن المصريين ليسوا على إستعداد لأن  يقبلوا بفكرة موتهم و دفنهم خارج الوطن مهما طالت فترة إستقرارهم خارج  البلاد و مهما تطبعوا بثقافة البلاد الأجنبية .
4 – يربط كاتب النص  بين ضرورة دفن المواطن المصري في البلاد و بين مفهوم الخلود و الأبدية و  التقرب لإله العالم الآخر عن طريق السلطة الملكية ، فالملك هو سيد الدفن في  مصر و من ترضى عنه السلطة الملكية ، يصبح له الحق في إقامة المقبرة ، فلن  يحصل أحد على حق الدخول للعالم الآخر إلا من خلال السلطة الملكية و لذا  نفهم حرص كاتب النص على إبراز مفهوم الرضاء الملكي و حرصها على تذكير سنوهي  بأنه لا ينبغي أن يموت في بلد غريب و أن لا يكفن في جلد شاه ، فيأمر الملك  بتكفينه عند موته بأفضل الأكفان و أن يمنح تابوتا ذهبيا و قناعا من  اللازورد .
5 – يظهر سنوهي في إطار القصة و هو يروج دعائيا للسلطة  الملكية أمام حاكم رتنو العليا الذي يسأله عن ملك مصر ، فيرد عليه سنوهي  بأنه " إله ليس له نظير ! و ليس هناك من يتفوق عليه فلا يذهب أحد و لا يعود  إلا بأمره  و هو الذي أخضع الأراضي الأجنبية بينما كان أبوه في قصره فهو  بطل لا يعمل إلا بسيفه " فبالنسبة لكاتب النص يعتبر حاكم رتنو العليا خارجا  عن إطار الثقافة و الحضارة المصرية و من هنا ينبغي إستمالته و إكتساب  ولائه لصالح السلطة الملكية و لذلك يقول له سنوهي " إرسل للملك ، إجعله  يعرف إسمك و عندما يصبح ولاءك له ، فلن يكف عن عمل الخير لبلدك " .
يتبين لنا مما تقدم أن رواية سنوهي الأدبية تقع في إطار الدعاية السياسية و الدينية لبرنامج تعليمي تبناه ملوك الدولة الوسطى و لاسيما ملوك الأسرة الثانية عشرة و سعوا من خلاله إعادة تنظيم السلطة الملكية المركزية بعد إنهيارها في نهاية عصر الدولة القديمة ، فكانت هذه السلطة الملكية الجديدة بحاجة إلى إعادة تربية المواطنين المصريين سياسيا و دينيا مما يمكن هذه السلطة من إحكام قبضتها على الرعية من جديد و لذا فإن قصة سنوهي الأدبية تقع في إطار النصوص الأدبية السياسية و الدينية للدولة الوسطى التي وعدت بحياة طيبة للمواطن المصري خلال حياته و آخرته بفضل إتباعه للسلطة الملكية و إعلانه الدائم عن ولائه لها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق