الجمعة، 31 أغسطس 2012

أيدولوجيا التاريخ لدى المصري القديم


بسم الله الرحمن الرحيم 

أيدولوجيا التاريخ لدى المصري القديم ...................................................................................................................................................... 
....يتناول  الدارس من خلال هذا المقال ماهية التاريخ في الحضارة المصرية القديمة  ساعيا قدر الإمكان مقاربة الحقائق العلمية بأسلوب و نهج علمي موضوعي و دون  تعسف في قراءة الماضي المصري القديم . فالباحث لا يتغنى بأمجاد الأسلاف  بقدر ما يسعى لكشف الحقائق و النتائج دون أن يزعم لنفسه الصحة المطلقة  لخطابه العلمي و لذلك أود أن أهدي هذه الدراسة للأستاذة و الزميلة القديرة (  منار رشاد ) و ذلك لحبها الجارف للعلم و سعيها الدائم نحو المعرفة .

هل عرف المصري القديم مفهوم التاريخ كما نعرفه في عصرنا الحالي ؟ ما هي  القرائن على وجود وعي أو شعور بالتاريخ لدى المصري القديم ؟ هل إرتبط  التاريخ في الحضارة المصرية القديمة بتنمية الحس و الإنتماء القومي لمصر  بشكل كامل ؟ ما هو مفهوم التاريخ لدى قدماء المصريين ؟
 مما لاريب فيه  أن التاريخ كان يرتبط لدى أهل الفكر في حضارة مصر القديمة باللحظة الأولى  لخلق الكون و ما نتج عن هذه اللحظة الزمانية المقدسة من عمران مصر و  تأهليها للوحدة السياسة و للتحضر و الرقي و إمتدت تلك الفكرة للبحث عن  الماضي المجيد و الأخبار السالفة لآلهة حكمت البلاد في زمان عتيق بعد خلق  الكون كما لم تغفل السجلات المصرية ذكر أخبار و أحداث الملوك و ما قاموا به  من أعمال و مآثر حميدة إلا أنه تظل هناك حقيقة سائدة على جدران المعابد  المصرية القديمة تتمثل في أن التاريخ وفقا لمنظور الدولة الرسمي كان يعني  في المقام الأول ( الأسطورة ) التي لعبت فيها الآلهة الأدوار الرئيسية على  مسرح الأحداث و لم يكن المصري القديم يفهم أو يدرك دوره كعنصر فاعل في هذه  الحركة التاريخية
بل كانت معظم الأحداث و الوقائع يتم النظر إليها على  أنه من صنيع الأرباب و أن نجاح أي عمل أو مبادرة يتوقف على تدخل ما ورائي  من قوة إلهية بعينها . و من هنا ندرك الحقيقة التالية : ليس من المهم أن  يكون لدينا ماضي و ليس وجود الماضي المسجل عند الأسلاف يعني وجود التاريخ  بالمفهوم المتعارف عليه حاليا و لا يهم كم نحفظ و نتذكر مما وقع في ذلك  الماضي و لكن الأهم هو القيمة التي نسبغها على ذلك الماضي ، فهل ما وقع في  الماضي المصري القديم كان يتم رؤيته بوصفه تدخلا إنسانيا أم تدخلا إلهيا ؟  هل إنجازات الحضارة المصرية القديمة من فعل البشر أم من فعل الآلهة وفقا  للمنظور الفكري و الأيدولوجي للحضارة المصرية القديمة ؟ .... و لكن التساؤل  المضمر و الأهم في هذا الصدد ما هي أوجه الماضي في التي عرفها المصري  القديم ؟ ....
1 - كان أقدم و أهم ما عرفه و سجله المصري القديم عن  ماضيه هو مذاهب الخلق الدينية و لعل أقدمها على الإطلاق هو مذهب الخلق في  عين شمس ، و رغم إختلاف هذه المذاهب في كيفية حدوث فعل الخلق الأول و نشأة  الكون و إدعاء أصحاب كل مذهب أن معبودهم هو الأصل الأول لخلق الوجود إلا  أنهم قد إشتركوا جميعا في محاولة الرد على تساؤلات شغلت أهل الفكر و الدين  طوال عصور الحضارة المصرية القديمة حول كيفية وجود هذه النشأة و برغم عدم  وجود حقيقة دينية واحدة متفق عليها إلا أنهم إشتركوا في ملامح و خطوط عريضة  لم يخلو منها أي مذهب على الإطلاق إلا أننا نتلمس نتيجة بالغة الأهمية  وراء جميع مذاهب الخلق في مصر القديمة و هي : أن الإله الأول خلق الكون ثم  إبتكر الملكية المقدسة فكان هو دائما أول من تقلد حكم البلاد كملك حاكم ثم  قام بتوريثها للآلهة الذين إنحدروا منه ثم قاموا بدورهم بتوريث هذه الملكية  إلى الملوك التاريخيين و بمعنى أدق : لم تظهر الأحداث الأولى لخلق الكون  إلا لكي تصب في نهاية المطاف في خانة الملكية ، فالآلهة أوجدت هذا العالم و  حكمته ثم أوكلت حكمه للملوك الذين إنحدروا من نسلها ، فلا وجود لرواية عن  الخلق دون توظيفها لصالح الملكية ، فالملك هو الوريث الأخير لهذه الحلقة  المقدسة بوصفه حورس على الأرض .
2 – ظهرت الأساطير الدينية في الحضارة  المصرية القديمة لكي تكشف عن دوافع سياسية ، فلم يكن ماضي الآلهة خاليا من  الأهواء و الدوافع السياسية و ذلك هو ما يبدو لنا على سبيل المثال في  أسطورة هلاك البشرية التي تناولت مفهوم الإله الذي أوجد نفسه بنفسه و أصبح  ملكا على الآلهة و الناس ( ظهرت الإرهاصات الأولى لهذه الأسطورة في عصر  الإنتقال الأول و الدولة الوسطى ) فلما تقدمت به السن تآمر ضده بعض من  أبنائه البشر ، فاستشار الآلهة الكبار حول ما حدث و انتهى أمر المجمع  الإلهي بشأن هذا التمرد بإرسال عين الإله ( عين رع ) التي تحولت لهيئة  المعبودة حتحور ( و في روايات أخرى متقدمة زمنيا كانت عين رع هي سخمت )  فسفكت هذه العين المدمرة البشر و كادت أن تفنيهم جميعا لولا تدخل الإله  الخالق رع فأمر أتباعه بأن يتحايلوا على عينه الغاضبة و المدمرة بأن يصنعوا  لها شراب مسكر فلما فعلوا ذلك ثملت عين رع و غفلت عما كانت تود أن تفعله و  بذلك نجا الناس من بطشها . هل تبرأ هذه الأسطورة من توجهات و أهداف سياسية  ؟ لم يبرأ الماضي الأسطوري من الفعل الأيدولوجي السياسي ، فالإله الخالق  رع الذي تقدمت به السن لم يكن سوى صورة للملكية بوجه عام و تمرد البشر ضد  هذا المعبود لم يكن سوى ترجمة لتمرد وقع ضد الملكية في نهاية عصر الدولة  القديمة من جانب حكام الأقاليم و من هنا كانت الرسالة السياسية بارزة : إن  أي تمرد ضد السلطة الملكية التي تمثل صورة الإله الخالق على الأرض يعقبه  بالضرورة عقاب عنيف موجه ضد المتمردين فضلا عن خطورة هذا التمرد و ما يعقبه  من نتائج خطيرة تتمثل في رحيل إله الشمس الخالق عن دنيا الأرض و البشر و  رحيله نحو عالم السماء و إنتهاء الزمن المثالي الأول و بداية ظهور الشر .  فأي تمرد يحدث لاحقا ضد السلطة الملكية أو ضد الآلهة سيؤدي حتما لعواقب  وخيمة
3 – أخبرت روايات الماضي الأسطورية عن حكم رع للبلاد بوصفها  وقائع تاريخية حدثت في زمن سحيق بل و زعمت هذه الروايات بوجود وحدة مصرية  سياسية تمت قبل عصر الأسرة الأولى بزمن طويل و أن إيونو ( عين شمس ) كانت  عاصمة للبلاد و كان رع وفقا لتوصيف نصوص الأهرام في عصر الدولة القديمة (  يشرف على الآلهة و لا يشرف عليه إله ) و ( أنه ملكا للآلهة و للبلاد جميعا )  و لا يخفى على قاريء و محلل الأساطير في مصر القديمة أن هذه الأسطورة كشفت  عن نتيجتين هامتين :
أ – أن زمن صياغتها تم لأول مرة في الوقت الذي  شهدت فيه البلاد صعود نجم الديانة الشمسية خلال عصر الأسرتين الرابعة و  الخامسة و أن الملك هو صورة رع الذي يشرف على جميع الآلهة ( آلهة و حكام  الأقاليم الأخرى ) مما يؤكد سيطرة الملك على البلاد بأسرها
ب – أن  أسطورة وحدة الدولة المصرية سياسيا في عصور ما قبل التاريخ لم تنشأ إلا في  عصر الدولة القديمة لإثبات النتيجة التالية : أن وحدة الدولة المصرية و حكم  الملك لهذه البلاد ما هو إلا إمتداد لحكم إلهي قديم يضرب بجذوره في ماضي  سحيق و أن وحدة مصر كانت أمرا مقدرا منذ الأزل .
4 – لم يكن الصراع  الأسطوري الذي نشأ بين المعبودين حورس و ست و حكت عنه الروايات الأسطورية و  ردته لماضي عتيق سوى تجسيد واضح لصراع سياسي تاريخي بين فريقين إلا أن  أحداث و وقائع الماضي دخلت في ذمة الأسطورة و طمست المعالم البشرية  فالأسطورة لا تخبرنا بكيفية وقوع هذا التناحر من خلال الفعل البشري و إذا  إنحاز ملك بعينه لمذهب دون الآخر ( على سبيل المثال بر إيب سن و إنحيازه  الواضح تجاه المعبود ست على حساب الرب حورس في النصف الثاني من عصر الأسرة  الثانية ) فلا يظهر ذلك بوصفه تدخلا بشريا ، و لكن يبزغ و يفصح الحدث عن  نفسه بكونه فعلا إلهيا ، فلا يتبقى من الماضي واقعية حقيقية و لا تخلد  الأحداث الكبرى إلا من خلال الأسطورة لا من خلال التاريخ و هنا يظهر  المعبود بوصفه الفاعل الحقيقي للحدث و يتلاشى دور الإنسان في مسرح الأحداث و  الوقائع الكبرى
5 – عندما آثرت أيدولوجية الدولة الحديثة التسامح  تجاه الأجانب قصت الأساطير المصرية أن الإله كان واحدا في بدء الزمان و لم  يكن معنيا بأرض مصر وحدها بل خلق جميع الشعوب و الأقطار و ظهر رع بوصفه  خالقا لبلاد الشام و النوبة و مصر و قام بتدبير النعم لجميع المخلوقات و  قدر لكل مخلوق رزقه و أجله و جعل لهم ألسنة و أشكال و هيئات متباينة . و لا  ريب أن هذه الأيدولوجية الأسطورية الجديدة سعت لكي تخلق ماضي جديد يرنو  نحو تجميع جيران مصر حول ملكها الذي لم يكن سوى صورة لهذا الرب الكوني  العالمي الذي تولى خلق البشر في بدء الزمان . و لكن عاد الفكر المصري  القديم في العصر البطلمي و فقا لنصوص معبد إدفو لإظهار ماضي أيدولوجي مختلف  و هو : أنه حتى و إن كانت المخلوقات جميعا من خلق إله الشمس الأول ، إلا  أنه قد تمرد بعضهم على سلطان رع فحل عليهم غضبه فتفرقوا في الأرض فذهب منهم  فريق للجنوب و أصبح السلف القديم للنوبيين و ذهب آخرون نحو الشمال فكانوا  أسلافا للآسيويين في حين نشأ الليبيون من الذين توجهوا ناحية الغرب ! و من  هنا نجد أن الفكر الديني الرسمي في العصر البطلمي سعى نحو ترسيخ مفهوم نشأة  العالم لأول مرة في مصر و أن جميع المخلوقات المنتشرة على وجه الأرض كان  أسلافهم ينحدرون من مصر و قد نجحت هذه الأيدولوجية إلى حد كبير في إقناع  مفكري الأجانب من أصحاب الحضارات الأخرى بذلك الزعم فقد روى المؤرخ ديودور  الصقلي عن معاصريه المصريين في القرن الأول قبل الميلاد بخروج أسلاف  المصريين في زمن عتيق نحو أرجاء الأرض لكي يعلموا العالم بأكمله أصول  الحضارة و التمدن و الرقي و أنهم علموا جميع شعوب الأرض كل العلوم الدنيوية  و الدينية حتى بلغوا الفرات و اليونان و روما و بلاد الشام و دول حوض  البحر المتوسط . فهنا يظهر إعادة مونتاج و تركيب للماضي بكونه ماضي تاريخي  مجيد تتغنى به الأجيال اللاحقة و تعرف الشعوب الأخرى مكانتها و قدرها  بالنسبة لحضارة و ثقافة مصر فكانت هذه هي أيدولوجيا التاريخ المصري في  العصور المتأخرة التي شهدت فيه البلاد إحتلال سياسي و غزو ثقافي أجنبي مما  نتج عنه تركيب ماضي تليد يسعى للتغلب على الحاضر المؤلم .
6 – ظهر  مفهوم كتابة الحوليات الملكية منذ العصر العتيق على بطاقات عاجية صغيرة ،  فكانت تسجل أهم الأحداث الملكية السنوية عاما بعد عام و قد وجدت بعض هذه  البطاقات في مقابر الملوك فضلا عن روايتهم لوقائع عصرهم منذ بداية التاريخ  المصري القديم على إلواح الأردواز و رؤوس دبابيس القتال التي وضعت في معابد  ذلك العصر بوصفه تعبيرا عن شكر الملك لإله المعبد الذي هداه و آزره في  إنجاز ما حققه من هذه الأعمال الجليلة مما يؤدي لخلودها للأبد في نطاق  المعابد الدينية لمقدسة و لاريب أن هذا النوع من الكتابة و بالرغم من قصه  لأحداث تغلب عليها السمة الواقعية إلا أنه لا يندرج إلا في إطار أيدولوجيا  التاريخ ، فالماضي يتم خلقه لا من أجل إنشاء حكاية موضوعية عن التاريخ ، بل  هو أداة دعائية لتخليد ذكرى صاحبها و ترديد مآثره و أمجاده أمام الأجيال  اللاحقة .
7 – لم تظهر قوائم الملوك في المعابد المصرية القديمة لتحكي  عن واقع حدث في الماضي بل كانت تهدف لتخليد ماضي الملكية و ربط أنساب  الملوك بالآلهة الأقدمين الذين تلقوا شرعية الأمر و النهي عنهم فضلا عن  إسقاط هذه القوائم لعدد من الملوك الذين إعتبروهم من الخارجين عن الشرعية  الدينية و السياسية ، فالتاريخ يتم خلقه من أجل أهداف و غايات لا تبرأ من  الفعل الأيدولوجي و لم يكن الهدف من كتابة الماضي معرفة الحقيقة بقدر ما  كان ترسيخ و تثبيت للكلاسيكية السلفية و الفريق المنتصر و الحفاظ على  الموروثات القديمة و ذلك في مقابل تنحية و تجاهل الفريق المهزوم و الحركة  التجديدية المناوئة للسلفية الكلاسيكية .
8 – أتاح تدوين المصريين  لأسماء الملوك بشكل متتابع أن تصبح هذه الأسماء أداة من أدوات التعليم و  التثقيف فظهر لدينا على سبيل المثال درس لتلميذ من أواخر عصر الدولة  القديمة كتب فيه طائفة من أسماء ملوك الأسرتين الرابعة و الخامسة ثم قام  هذا الطالب بتكرارها في أربعة سطور متتالية رغبة منه في تجويد خطه من ناحية  و حفظ أسماء الملوك عن ظهر غيب من ناحية أخرى كما ظهر لدينا درس آخر لطالب  جمع فيه أسماء أكبر ملوك من الأسرة الحادية عشرة ( مثل منتوحتب الثاني  مؤسس الدولة الوسطى ) و تسعة ملوك من الأسرة الثامنة عشرة و ثلاثة ملوك من  الأسرة التاسعة عشرة و لا يخفى علينا أن هؤلاء الملوك وفقا لأيدولوجية  الدولة الرسمية كان منهم من تكفل بإعادة توحيد البلاد سياسيا بعد تفرقها أو  كافح من أجل طرد الهكسوس عن البلاد أو شارك في تشييد الإمبراطورية المصرية  و لاشك أن ذلك يدل على نتيجة هامة : أن ما كان يتحدث به الملوك في منشآت  المعابد الرسمية من القوائم الملكية و المآثر التي صنعوها كان يجد سبيله  إلى دور التعليم و أن الدولة كانت هي الموجه الرئيسي لهذه الحركة التعلمية  التي تربط الطالب دائما بمعرفة الملوك الأسلاف الصالحين و أعمالهم المجيدة و  أن الماضي لا يتم خلقه إلا بهدف إخبار الخلف بإنجازات السلف لتخليد ذكراهم  للأبد و إتخاذهم قدوة و نموذج يحتذى به للأجيال اللاحقة و لا شأن بذلك  بمفهوم كتابة و تسجيل الأحداث التاريخية
9 – ظهرت الكتابات الشعبية في  عصري الدولة الوسطى و الحديثة تتناول تاريخ الملوك و ماضيهم بصورة مغايرة  تماما لما ظهر في الوثائق الرسمية و لا يعني ذلك أيضا أن هذه الكتابات  الشعبية كانت تسعى لكتابة التاريخ أو أن رواياتها كانت تتطابق بالضرورة مع  الواقع ، فالكتابات الشعبية لا تهدف إلا لتصوير رؤيتها الذاتية وفقا  لمعاييرها الخاصة عن تاريخ و ماضي ملوكهم فالملك سنفرو بفعل الأسطورة  الشعبية في تنبؤات نفر رحو تحول إلى ملك فاضل و عادل و متواضع يميل إلى حب  المعرفة و إيثار مجالس العلماء و يميل أحيانا للتسرية عن نفسه عندما يشعر  بالملل كما حولت بردية وستكار الملك خوفو إلى حاكم لا يهتم بالقيمة البشرية  فيأمر الساحر جدي بقطع رأس أسير فيرد عليه الساحر بأن ذلك لا يجوز فعله  على قطيع الإله و في كلا الحالتين لا تصور الكتابات الشعبية ماضي تاريخي  حقيقي بقدر ما تصور رؤية شعبية أيدولوجية تعكس أفكار أصحابها و لا تدل  بالضرورة عن واقع فعلي .
10 – لم تبرأ بواعث القومية الوطنية طوال  عصور التاريخ المصري القديم من أيدولوجيا الولاء و الإنتماء لشخص الملك  الحاكم و كانت تلك هي أحد أهداف كتابة الماضي التاريخي ، فلا إنتماء لمصر  دون التعبير عن الولاء لشخص الحاكم و ذلك هو ما ظهر فعليا في قصة سنوحي .  فالبرغم من إشتياق سنوحي لوطنه بعد طول غياب في الغربة إلا أنه لا يتمكن من  العودة إليها إلا بعد الحصول على الإذن الملكي و الإعتراف بأن الملك هو  الطريق الأوحد للحصول على حق الدفن و الخلود و الأبدية في أرض مصر فالملك  كان و لا يزال هو سيد الدفن و من هنا يرتبط الماضي القومي الوطني بالولاء  للملكية و لا معنى لوجود الإنتماء الوطني دون ربطه أيدولوجيا بالولاء  للملكية و برغم إعتراف الدارس بهذه النظرية إلا أنه يبدو من ناحية أخرى  أنها لم تكن دائما في حيز التنفيذ ، فنحن نرى من جانب آخر أنه في عصر  الدولة الحديثة و لاسيما بعد عصر العمارنة أن التبعية السياسية و الولاء  الديني لم يعد موجها تجاه الملك الحاكم و إنما أصبح موجها تجاه المعبود  المحلي للمدينة ( أنظر مقال سابق للدارس بعنوان عصر الدولة الحديثة بين  الأحداث التاريخية و المتغيرات الفكرية )
11 – ظهر فريق في عصر الدولة  الوسطى يزعم لنفسه معرفة كل أحداث الماضي و كان منهم كاهن الشمس ( من خبر  رع سنب ) الذي تحدث عن نفسه قائلا " إني ذكرت ما وقع في الماضي وفقا لما  إطلعت عليه بادئا من الجيل الأول و منتهيا بمصير أهل المستقبل " فكان ذلك  الفريق يدعي لنفسه الإحاطة الشاملة لكل ما حدث في الماضي الأول كما يمتد  علمه للتنبأ بما سيحدث في المستقبل و ذلك في مقابل فريق آخر آثر الحرص و  كانت لديه ملكة النقد و التشكك في أخبار الماضي ما لم يؤيدها برهان و كان  صوت ذلك الفريق هو الأضعف بطبيعة الحال و لذلك يظهر الأمير ( حورجدف ) إبن  الملك خوفو في بردية وستكار و هو في حضرة مجلس الملك يستمع لأخبار عن حكماء  الماضي من إخوته فعقب عليها لأبيه قائلا " إنك يامولاي إستمعت إلى روايات  عن السابقين و هذه لا يتمكن المرء أن يتحرى الصواب فيها "
يتبين لنا مما تقدم أن تاريخ و ماضي الأسلاف لم يكن يتم تناوله بنفس المفهوم المتعارف عليه في عصرنا الحالي ، فضلا عن كونه رواية يغلب عليها طابع مثالي مطلق في معظم الأحيان ، فلا يظهر المعبد أو المقبرة إلا كمكان لإعلان الفضيلة المثلى و التحدث عن مآثر الأسلاف و أعمالهم المجيدة ، فلم يكن المعبد أو المقبرة مكانا للإعتراف بما وقع فعليا و موضوعيا في عصر صاحب المنشأة بل كان هو المنطقة التي يخلد صاحبها للأبد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق