الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

عصر الدولة الحديثة بين الأحداث التاريخية و المتغيرات الفكرية


بسم الله الرحمن الرحيم 

عصر الدولة الحديثة بين الأحداث التاريخية و المتغيرات الفكرية ...................................................................................................................................................... 
...  بدأ عصر الدولة الحديثة بالنجاح الذي حققه القائد أحمس في طرد الهكسوس من  الدلتا و حتى تتبعهم و القضاء عليهم في شاروحين في جنوب فلسطين . و منذ  حصار أحمس لمدينة شاروحين و الذي إستمر لمدة ثلاث سنوات ، كان ذلك دلالة  على وجود طموح عسكري عالي من هذا الملك و من هنا يرى بعض الباحثين أنه طوال  عصري الدولة القديمة و الوسطى لم يكن لدى أي ملك ذلك الطموح في التوسع  السياسي ناحية شمال شرق مصر نظرا لشعور جميع حكام ما قبل الدولة الحديثة  بالأمان داخل حدود بلادهم التي تحميهم جغرافيا حيث الصحراء من الشرق و  الغرب و حتى خلال عصر الإنتقال الأول لم تكن هجرات الآسيويين إلى مصر تخيف  هؤلاء الملوك ، إلا أن الأمور قد تغيرت و إختلفت في عصري الإنتقال الثاني و  الدولة الحديثة عندما تمكن الهكسوس من غزو الدلتا و حكم البلاد أجانب لأول  مرة في تاريخها مما أدي إلى ضعف فكرة الأمان الحدودي الكامل و لاسيما من  جهة الشمال الشرقي ، فكان لزاما عليهم أن يحموا مصر بإستمرار من تلك  الناحية ، فكان أول خط دفاعي تضعه مصر لها كان من جهة الشمال الشرقي و من  هنا أتت فكرة التوسع الحدودي خارج مصر . لكن التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا  الصدد هو : ما مدى مصداقية و صحة نظرية الربط بين التوسع الحدودي خارج مصر  و بين حمايتها من خطر الغزو مرة أخرى ؟ ... فالبحث العلمي الجاد لا يستسلم  للإجابات المعدة سلفا قبل تمحيصها بالقرائن الأثرية و الشواهد المادية  القاطعة .

و مما لا ريب فيه أن معارك التحرير و حروب التوسع الحدودي  كانت بالنسبة لملوك عصر الدولة الحديثة ذات تجارب تاريخية حاسمة ميزت  الرموز و الأهداف السياسية لذلك العصر بأسره و لذلك فقد تميزت تلك الفترة  بظهور روح عسكرية جديدة ترنو نحو السيطرة على ممتلكات و خيرات بلاد الشام و  إستعمارها إلى حد لم يكن معروف في التاريخ المصري القديم قبل ذلك العصر . و  لذا فقد أثبتت نصوص السير الذاتية لكبار قواد الجيش الذين شاركوا في حروب  التحرير فضلا عن آثار و نصوص ملوك الأسرة السابعة عشرة الطيبية الذين أخذوا  على عاتقهم طرد الهكسوس من الدلتا أن حروب التحرير أدت إلى تكوين جيش مصري  منظم و يختلف تماما عن الطبيعة العسكرية للجيش المصري في العصور السابقة  علاوة على إدراك المصري القديم على نطاق واسع و لأول مرة لمفهوم الغنائم و  الأسلاب الحربية و تراكم رؤوس الأموال المادية نتيجة لهذه المعارك التي  خاضها زعماء و ملوك طيبة في أواخر الأسرة السابعة عشرة ضد الهكسوس في  الشمال و منذ تلك اللحظة أخذ القائد المنتصر مكانا مرموقا في محافل الملوك  الذين منحوه بسبب إنتصاراته صفة قانونية كما أصبح التوسع الحدودي هو الهدف  اللازم لتحقيق سياسية الهيمنة على ممتلكات بلاد الشام فضلا عن تحقيق  السيطرة الكاملة على طرق التجارة الخارجية في ذلك العصر .
 و من هنا  فقد توغل الملك تحتمس الأول في حروبه التوسعية حتى بلغ الفرات و ترك لوحته  الشهيرة هناك حتى يحدد حدود الإمبراطورية المصرية الجديدة من ناحية الشمال  الشرقي و تحولت بلاد الشام في النصوص المصرية القديمة إلى مستنقعات الدلتا !  مما يؤكد أن السياسة الحربية في عصر الدولة الحديثة كان هو الهدف الأسمى و  المعيار الحقيقي لنجاح السياسة الملكية وفقا لما قامت أيدولوجية الدولة  الحديثة بترويجه على الرأي العام المصري القديم و لذلك يمكن لنا تتبع أهم  سمات ذلك العصر فيما يلي :
1 – ينبغي لنا قبل أي شي أن نشير لنتيجة  هامة و طبقا لما كشفت عنه آثار تلك الفترة و هي : أن مصر لم تؤسس  إمبراطوريتها بعد طرد الهكسوس مباشرة ، بل أن أعمال الإصلاح الداخلي و  تنظيم البلاد إستغرق حوالي ثلاثة أجيال . فقد كانت الحملات الحربية التي  قام بها أحمس الأول و أمنحوتب الأول و تحوتمس الأول و تحوتمس الثاني ذات  أهداف أخرى تمثلت في السيطرة على أكبر قدر ممكن من خيرات البلاد المهزومة  فضلا عن تأديب شعوبها و تعريفهم بقوة ملك مصر ، فلم تكن هناك فكرة إحتلال  هذه البلاد قد نفذت فعليا كما أن هؤلاء الملوك لم يتركوا وحدات عسكرية  مصرية دائمة في تلك المناطق و لم تكن حملاتهم مجهزة لغرض وضع بلاد الشام  كإقليم تحت السيادة المصرية . و طبقا لذلك المفهوم لم تعد فكرة إهمال  الملكة حتشبسوت لشئون السياسة الخارجية و الإمبراطورية المصرية صحيحة كما  ظن العديد من علماء المصريات و كان ترويجهم لتلك النظرية يعتمد على ركيزتين  :
أ – تصورهم بأن الحملات العسكرية التي قامت في بداية الأسرة الثامنة عشرة كانت تهدف لإحتلال تلك المناطق منذ بداية إندلاعها
ب – خلو آثار الملكة حتشبسوت من مناظر المعارك الحربية
و لكن لا يمكن التسليم بمحتوى هذه النظرية للأسباب التالية :
أ – وفقا لما تقدم لم تكن الحملات التي قامت قبل عصر الملكة حتشبسوت ترنو نحو ضم هذه البلاد للحظيرة الملكية المصرية
ب – لم تظهر مناظر المعارك الحربية بتفاصيلها المعهودة على جدران المعابد  المصرية قبل عصر الأسرة التاسعة عشرة ، فالملك تحتمس الثالث صاحب أعظم  إنتصارات حربية تخلو آثاره و معابده من تصوير المناظر التفصيلية للحروب  العسكرية و إكتفى بتصوير المنظر الكلاسيكي لملك و هو يهم بضرب العدو أمام  رب المعبد و من هنا فإن الغياب التام لنوعية المناظر العسكرية من آثار  الملكة حتشبسوت ليس دليلا على عدم حدوث أي معارك عسكرية في عصرها
ج –  كشفت نصوص السير الذاتية لرجال الجيش في عصر الملكة حتشبسوت عن قيام أربع  حملات عسكرية تأديبية على أقل تقدير فضلا عن إكتشاف آثار لها و بألقابها في  بلاد الشام تؤكد عدم غيابها المطلق عن تلك البلاد .
2 – قام الفكر  الديني في بداية عصر الدولة الحديثة بتفسير طرد الهكسوس على ضوء أسطورة  الربين حورس و ست بشكل يتوافق مع المعطيات الجديدة للعصر ، فقد تحول  المعبود ست لكي يصبح ربا للهكسوس و لذا فقد وصفته النصوص و لأول مرة  بالأسيوي . و لم لا ؟ ألم يتخذه الهكسوس عند إستقرارهم في تل الضبعة (  الشرقية ) ربا لهم ؟ ... إلا أن ذلك لم يكن يعني ( تشيطن ) ست و لم يكن حتى  ذلك العصر ربا للشر و منبع الفساد وفقا لما عرف عنه في العصور المتأخرة ،  بل كان يعني أن ست أصبح ربا لعالم آسيا و المناطق الصحراوية و ذلك في مقابل  حورس رب مصر و من هنا لم يعد الأجنبي ينظر إليه دائما على أنه منشأ الفوضى  و إنما يتم قبوله في عالم مصر بواسطة المعبود ست رب آسيا و جميع المناطق  الصحراوية و ذلك فقط إذا قبل بالخضوع للثقافة و الحضارة المصرية و لذلك  تحول الأجانب على أنهم من الآخرين الذين يمكن أن يكونوا أصدقاء أو أعداء  وفقا لرغبتهم بقبول أو عدم القبول بالخضوع لطاعة ملك مصر الذي يجمع في شخصه  الربين حورس و ست . فالمعبود ست هو المعبود الأوحد القادر على وضع حد  لفوضى المناطق الخارجية و نتيجة لذلك قام كهنة الشمس في عصر الدولة الحديثة   بإضافة معطى أسطوري جديد يتناسب مع الوضع السياسي الجاري آنذاك و هو : أن  محكمة الأرباب في عين شمس قررت أن يؤول حكم مصر إلى حورس بينما يؤول حكم  البلاد الأجنبية و المناطق الصحراوية إلى ست .
3 – نتيجة لتلك التوسعات  أصبحت الحدود المصرية مفتوحة مع جيرانها مما أثر في الحياة السياسية و  الإجتماعية و الثقافية و أصبح لمصر قوة دولية . و أصبح المصريون في علاقة  قوية مع جيرانهم و إنفتح كل من الآخر على حضارته بالإضافة إلى ما أتى لمصر  من منتجات تلك المناطق سواء عن طريق الغنائم الحربية أو الهدايا و الجزية  من حكام تلك المناطق فضلا عن إختلاط الحرفيين و الفنانين و تأثر كل منهم  بالآخر كما لا ينبغي لنا أن نغفل العدد الكبير من الأجانب الذين دخلوا  البلاد بمثابة أسرى حرب أو الذين جاءوا بحريتهم إلى مصر من أجل التجارة . و  كان كل هؤلاء يتزايدون عاما بعد عام و قد أحضروا معهم ثقافاتهم و عقائدهم و  عاداتهم و تقاليدهم الإجتماعية و كل تلك العوامل كان لها بالتأكيد دورها  الملحوظ في الحياة المصرية الثقافية و نلمس أثر ذلك على سبيل المثال لا  الحصر في هذين الملمحين :
أ – بسبب التقارب الثقافي و الفكري بين مصر و  جيرانها تحول فكر الدولة الحديثة إلى فكر شمولي ، فلم تعد صورة الكون  مطابقة لمصر وحدها و لم يعد الإله الخالق ربا معنيا بأمور مصر وحدها و لم  يعد عالم الفوضى يقع خارج مصر كما كان في السابق ، بل أصبحت مصر و ما حولها  من الجيران من خلق إله الشمس رع و هو عالم تعيش فيه الشعوب المختلفة و  أصبحت صورة ذلك العالم مقبولة لدى المصري القديم فظهرت نتائج ذلك الفكر في  مناظر تلك الفترة و ظهرت شعوب الأرض الأربعة في كتاب البوابات في مقبرة حور  محب ( و هم المصريين و النوبيين و الليبيين و السوريين ) بوصفهم مخلوقات  رع و ماشيته المقدسة مع الوضع في الإعتبار حقيقة هامة : لا ينبغي تعميم تلك  الرؤية على جميع الأجانب و الغرباء ، فهي نظرة يتم تطبيقها فقط على من قبل  الخضوع السياسي و لو شكليا للسلطة الملكية المصرية أما من رفض الخضوع  التام للسلطة الملكية المصرية ظل يصور على جدران المعابد بوصفه عدوا أقام  ثورة ضد القصر الملكي و لم يحترم قوانين البلاط و من هنا يجب ردعه و القضاء  عليه عسكريا
ب – تبين لنا ذلك التأثير كذلك في الفن و المناظر الفنية  التي نفذها الفنان المصري القديم فضلا عن وجود بعض المصطلحات اللغوية  الجديدة التي طرأت على اللغة و الأدب المصري و لكن لا نستطيع في نفس الوقت  أن نقول أن هذهى التأثيرات قد محت الشخصية الثقافية المصرية التي كانت قد  تشكلت و إستقرت منذ العصر العتيق و حتى بداية عصر الدولة الحديثة ، فالفكر  المصري القديم بطبيعته لا يتأثر بسهولة بالعناصر الحضارية الوافدة بشكل  مفاجيء و لكنه يأخذ و يقتبس ما يراه صالحا له للتطبيق من العالم الخارجي ،  فيطوعه و يجعله متفقا ( و لو بشكل تلفيقي ) مع موروثه القديم مما يؤدي  لإنتاج صورة حضارية جديدة لا تتنكر للقديم و لا تمتنع عن الأخذ بالجديد و  من هنا يمكن لنا أن ندرك خاصية فكرية بالغة الأهمية في الحضارة المصرية  القديمة و هي : قبول التغيير الثقافي و الإجتماعي واقعيا و عمليا مع مرور  الزمن دون الإعتراف الرسمي بوجود هذا التغير في النصوص المصرية القديمة .
4 – قام الملك تحتمس الثالث بنهج سياسة إحتلال و ضم المناطق التي إستولى  عليها الجيش المصري مما نتج عنه وضع حاميات و وحدات عسكرية مصرية لأول مرة  في بلاد الشام و أصبحت هناك سياسة ثابتة لدفع الجزية السنوية من جانب حكام  تلك المناطق فضلا عن تربية أبنائهم داخل القصر الملكي لتنشئتهم على الثقافة  الملكية المصرية مما يؤدي لإكتساب ولائهم عند توليهم حكم بلادهم عندما  يعودون إليها كما ظهرت سياسة الحملات التأديبية السنوية لبلاد الشام التى  كانت تهدف للسيطرة على طرق التجارة هناك و من هنا تحولت السياسة الخارجية  للملك تحتمس الثالث إلى نموذج السياسة الملكية الناجحة و التي ينبغي لكل  ملك في عصر الدولة الحديثة أن يقوم بإتباعها و تنفيذها و لذلك يمكن لنا أن  ندرك حقيقة تصويرية فنية  بارزة الأهمية : أن الملك تحوتمس الثالث و نظرا  لأنه كان أول من قام بتنظيم سياسة حربية ذات أهداف واضحة أعاد تصوير صورة  ملكية فنية كلاسيكية قديمة على جدران المعابد المصرية تتمثل في هيئة الملك  الحاكم الذي يقوم بضرب العدو بمقمعته أو سيفه أمام رب المعبد الذي أمره  بقتل الأعداء و إنتشرت هذه الصورة تحديدا على جدران معابد طيبة
5 – لم  تكن سياسة الحروب و المعارك تجاه البلاد الأجنبية هي السياسة الخارجية  الوحيدة التي إنتهجها ملوك الدولة الحديثة ، فقد أنهى الملك تحوتمس الرابع  الحروب الدموية مع مملكة ميتاني بعقده زواجا سياسيا دبلوماسيا مع حاكم  ميتاني الذي زوجه إبنته ، فساد السلام لأول مرة بين مصر و دولة أجنبية و  إستمر سياسة السلام في عصر إبنه الملك أمنحتب الثالث و بعد الأحداث التي  وقعت في عصر العمارنة و تغير المشهد السياسي الخارجي بأكمله و عاد ملوك  الأسرة التاسعة عشرة ( ملوك الرعامسة ) إلى إتباع سياسة تحتمس الثالث  العدوانية و أصبح أعدائهم الجدد في هذه المرة الحيثيون إلا أن معركة قادش  الشهيرة كانت نقطة تحول تجاه مملكة خاتي ( الحيثيين ) مما أدى لسيادة  السلام في نهاية المطاف بين مملكتي مصر و خاتي و عقد زواج دبلوماسي آخر  لتوطيد العلاقات بين البلدين . و رغم إعتراف مصر بسياسة السلام و إحترام  ملوك الدولة الحديثة لهذه المعاهدات إلا أنه ينبغي لنا أن نلتفت لحقيقة  هامة و هي : لم يعترف ملوك مصر طوال عصر الدولة الحديثة في النصوص الرسمية  بحدوث معاهدات سلام بالرغم من وجودها الفعلي ، فالملك رمسيس الثاني على  سبيل المثال يقص علينا في الكرنك و أبو سمبل أن ملك خاتي جاء لمصر لكي يرضى  عنه ملك مصر و يمنحه نفس الحياة و لكي يسترضيه يقدم إبنته كزوجة له بل و  قام فنانوا معبد أبو سمبل بتصوير حاكم مملكة خاتي مع إبنته و هم يبتهلون و  يتعبدون للملك رمسيس الثاني و من هنا ندرك أن الأيدولوجية الملكية المصرية  لا تقبل بحاكم آخر في هذا العالم سوى بملك مصر فلا شبيه و لا نظير له ! و  لا تظهر المملكتان ( مصر و خيتا ) في النصوص الرسمية على قدم المساواة بل  تظهر خيتا بوصفها تابعة و خاضعة لمصر .
6 – وجهت مصر شطرها وجه الآلهة  في عصر الدولة الحديثة بشكل لم يسبق له مثيل ، فظهرت المعبودات و كأنها هي  التي توجه السياسة الملكية المصرية ( و إن كان الدارس يعترف بأن مفهوم  توجيه الآلهة للسياسة الملكية المصرية له إرهاصات أولى مبكرة منذ نهاية عصر  الأسرة صفر على أقل تقدير ) و يمكن لنا أن نتلمس قرينة أركيولوجية مادية  على صحة هذه النظرية و هي : زيادة حجم المعابد الذي تناسب و توافق مع مفهوم  التوسع الحدودي ( أنظر مقال سابق للدارس بعنوان مفهوم التوسعة الكونية و  مبدأ مد الوجود في الحضارة المصرية القديمة ) و مما لاريب فيه أن التوسع  المعماري للمعابد في ذلك العصر كان يهدف لحماية عالم مصر و الملكية المصرية  و مد الضياء الشمسي و إتمام عملية الخلق نحو عالم الظلام الفوضوي الذي لم  يخلق في بدء الزمان ، فكان التوسع الحدودي و المعماري تكملة لعمل الإله  الخالق في نشر نور الشمس ناحية تلك المناطق . و نحن هنا نتوقع أن هذه  التوسعة المعمارية لم تقتصر على معابد طيبة وحدها بل شملت معابد منف و عين  شمس ، فهل هذه السياسة المعمارية الجديدة كان سببها الضربة التي وجهها  الهكسوس تجاه مصر في عصر الإنتقال الثاني ؟ هل وجهت مصر شطرها وجه  المعبودات لكي ترجو منهم الهداية و الرشاد فزادت و توسعت من حجم معابدها ؟  هل توسعت المعابد معماريا لتأييد الملك و دعمه في إنتصاراته على أعدائه و  لضمان و إستمرار الخير و العطاء و الخصوبة على البلاد ؟
7 – قامت جميع  الحروب التحريرية و التوسعية بإيحاء من المعبودات المصرية و لاسيما آمون  رع أي أن منشأها ديني مقدس و تصاعدت نغمة وحي آمون رع الذي يوحي للملك  الحاكم بقتال أعداء مصر حتى وصلت لذروتها في معركة قادش حيث يظهر فيها آمون  رع بنفسه الذي يتدخل لإنقاذ الملك من ورطته بعدما أصبح وحيدا في ميدان  القتال و عندما تدخل آمون في قادش ، ظهرت أيدولوجية دينية تاريخية في عصر  الدولة الحديثة تنادي بأن التاريخ يمضي و يسير وفقا لإرادة الآلهة ، فالإله  هو الذي يخطط لأحداث التاريخ و هو الذي يقوم بتوجيه مسار الإنسانية طبقا  لرغبته و إنتشرت هذه الأيدولوجية على المستوى الشعبي و أصبح كل فرد في عصر  الدولة الحديثة ينظر لأحداث حياته بوصفها تدخلا إلهيا في مسيرته الفردية و  تحولت الأعياد و المواكب الإلهية فرصة قوية لعامة الشعب لكي يستشيروا وحي  الإله و لكي منحوا أنفسهم الأمل من خلال تدخل الآلهة في حياتهم من خلال  رؤيتهم أثناء خروج المواكب من معابدها و لقائهم بالآلهة في مواقف إستراحات  الزوارق المقدسة .
8 – تحولت أعياد الآلهة في عصر الدولة الحديثة إلى  ممارسة دينية منتظمة أشرفت عليها الدولة لكي تسمح للطبقات المختلفة لعامة  الشعب لكي يشتركوا فيها و شاهدوا أهم فعالياتها و ليعبروا عن ورعهم و  تقواهم تجاه آلهتهم ، فالعيد الذي يخرج فيه موكب الإله و يتجلى على الرعية  هو الفرصة الوحيدة لرؤيته خارج المعبد و تكشف لنا كسرات الفخار التي تعود  لتلك الفترة عن الأمنيات و الدعوات التي كان القوم يسجلونها عليها خلال عيد  آمون في الوادي في البر الغربي لمدينة طيبة و من هنا كانت هذه الأعياد  تتيح الفرصة لجميع الطبقات الشعبية لكي يجعلوا علاقتهم مباشرة مع الآلهة و  لذلك نتبين هذه النتيجة الهامة : شكلت هذه الأعياد الإلهية المحلية نوعا من  التبعية السياسية و الإجتماعية للطبقات الشعبية تجاه آلهتهم و مدنهم التي  نشأوا فيها خلال عصر الدولة الحديثة ، فتبعية المصري القديم السياسية و  الدينية خلال ذلك العصر تتركز في إطار المدينة التي ولد فيها و يأمل  بالتالي أن يتم دفنه فيها و لا تتعلق تبعية المصري القديم بشخصية حاكم  المدينة السياسي و إنما بإله تلك المدينة ، فالأعياد التي تعيشها مختلف  الطبقات الشعبية و يحتفلون بها هي أعياد رب المدينة و المجتمع الذي يشعر  الفرد بإنتمائه نحوه هو مجتمع المدينة و سكانها و هذا المجتمع لا يقوم إلا  على أسس و مباديء الأعياد الجماعية لإله المدينة . أما عن مفهوم الوطنية  القومية المصرية خلال عصر الدولة الحديثة فهي لم تتعدى الإطار الرسمي  لمعابد الدولة الحديثة التي أشارت لمفهوم الملك حامي حمى مصر و الذي يقوم  بتوسيع حدودها فهذا المفهوم القومي لم يخرج عن نطاق المعابد .
9 – منذ  بداية عصر الدولة الحديثة و حتى عصر العمارنة كان الملك هو سيد الدفن و هو  المتحكم في مصير أتباعه في العالم الآخر و من هنا فإن رضائه عن الرعية  أمرا ضروريا لا غناء عنه للحصول على حق إقامة مقبرة ، إلا أن المتغيرات  السياسية و الدينية التي وقعت في مصر خلال عصر العمارنة جعلت الإله يحل محل  الملك كسيد للدفن و نعني هنا إله المدينة فتحول بتاح في منف لكي يصبح سيدا  للدفن و أصبح آمون في طيبة هو المهيمن على مصائر الموتى في العالم الآخر و  يصبح إله المدينة المحلي هو الإله الذي يرتبط به حياة و موت جميع الناس  تماما كما ورد على شقافات الفخار في عصر الرعامسة و من هنا يظهر مفهوم (  الطاعة القلبية للإله ) و تكشف النصوص الشعبية عن المواطن المصري الذي يصف  الإله كأب و كأم لمن يضعه في قلبه ، و من لا يهتم به يتركه و شأنه غارقا في  الظلام فالمتدين و الورع الحقيقي هو من يتمسك بعبادة إله المدينة المحلي و  يظهر تقواه نحوه حتى يكون جزائه دفنة طيبة في عالم الغرب و مصيرا أخرويا  سعيدا في صحبة ذلك المعبود و من هنا يتبين لنا في هذا التحليل الأخير أمران  هامان :
أ – أن التجارب التاريخية السيئة للملكية في عصر العمارنة  أضاعت الفرصة لرؤية الملك كإله من منظور الفكر الشعبي و بعدما كان الملك هو  المتحكم الأوحد في مصائر العباد الدنيوية و الأخروية حل محله الإله المحلي  لكل مدينة و من هنا نفهم تلك المحاولات المستميتة من جانب ملوك الرعامسة  لإسترداد مفهوم الملكية الإلهية التي أضاع عصر العمارنة هيبتها بتجاربها  التي فشلت وفقا لمعايير الشعب المصري القديم ، فكان لزاما على الرعامسة و  لكي يتملقوا الجماهير إستنزال اللعنات و لأول مرة في التاريخ المصري القديم  على ملك مصري سابق فهذا أمر لم نشهده على الإطلاق فيما سبق .
ب – لم  يكن ولاء المصري القديم يتجه ناحية القومية المصرية خلال عصر الدولة  الحديثة ، بل إتجه ناحية المعبود المحلي للمدينة فجميع النصوص الدينية  الشعبية تخلو تماما من هذا المفهوم و لذا فنحن نقرأ في شقافات الفخار  المنتشرة في طيبة و منف و لا سيما بعد عصر العمارنة العبارات التالية " لم  أبحث عن حام لي بين الناس لأن آمون هو حاميني " و " وضعت كل أموالي و  ممتلكاتي تحت يد الإلهة موت " و " أنا ضعيف في أرض الإلهة موت " و " من  يتخذ آمون حاميا له فليس هناك إله يهاجمه " و لذلك تحول الولاء الشعبي و  بشكل تام تجاه المعبود المحلي  فلا وجود للملكية و لا وجود للوطنية القومية  في هذه النصوص الشعبية
10 – لم نجد طوال عصر الأسرة الثامنة عشرة مناظر تمثل الملك في إلتحام مباشر مع الأعداء في معركة عسكرية على جدران المعابد المصرية إلا عند الملك حورمحب في معبد جبل السلسلة إلا أننا عندما نصل لعصر الرعامسة تظهر مساحات واسعة من جدران المعابد لكي تحتوي على مناظر الحروب التي أقامها الملوك و تظهر تفاصيل حربية جديدة فضلا عن المراحل الزمنية للمعارك في صورة لم تكن مألوفة من قبل ، فنجد الفنانين و قد نجحوا في تصوير الملامح الطوبوغرافية لموقع معركة قادش في عصر رمسيس الثاني ، فظهرت أحداث المعركة في خريطة تفصيلية ناضجة كما نجح الفنان في تصوير خطر الأعداء الذين يحاصرون الملك لأول مرة في الفن المصري القديم فضلا عن أن فكرة تصوير الأعداء في شكل المدافع دائما لم يعد قائما في عصر رمسيس الثاني و لم تعد الفكرة التقليدية التي كانت تصور جبروت الملك في ميدان القتال موجودة ، فالأعداء في قادش يحاصرون الملك من جميع الجهات و يتم تصويرهم وجها لوجه أمام الجيش المصري و دون أن يتساقط منهم أعداد كثيرة مثلما كان يتم تصويرهم من قبل و لم يظهر الملك في قادش في بؤرة العمل الفني التصويري كمهيمن على الأحداث و ذلك إعتراف ضمني و مضمر و غير مباشر بأن الملكية عجزت عن تحقيق أهداف المعركة و هنا يمكن لنا أن نقارن بين الوضع الفني للملك في قادش و الذي لا يحتل بؤرة العمل الفني و بين الملك إخناتون في العمارنة الذي كان دائما في بؤرة العمل الفني طاغيا و مهيمنا على جميع عناصر و أحداث المشهد فشخصية الملك المهيمنة على المنظر غير موجودة الأمر الذي يدل على قوة و جبروت الملكية في العمارنة مقارنة بوضعها في عصر رمسيس الثاني .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق