الاثنين، 4 يونيو 2012

جولة هرمنيوطيقية تاريخية فى مقتطفات من نص نى عنخ سخمت – حول مفهوم الملكية المؤلهة لدى كبير الأطباء نى عنخ سخمت تجاه الملك ساحورع


بسم الله الرحمن الرحيم 

جولة هرمنيوطيقية تاريخية فى مقتطفات من نص نى عنخ سخمت – حول مفهوم الملكية المؤلهة لدى كبير الأطباء نى عنخ سخمت تجاه الملك ساحورع 
.............................................................................يؤمن الدارس بأهمية علم الهرمنيوطيقا فى تفسير النصوص المتعلقة بالحضارة المصرية القديمة بشكل خاص و الحضارات كلها بشكل عام . و الهرمنيوطيقا كعلم تتناول بالدرس و التحليل معضلة تفسير النص التاريخي أو الديني ، و يمكن القول بأنها علم أو فن التأويل ، فهى تركز على علاقة المفسر بالنص التاريخي أو الديني و تطرح التساؤلات التالية :
1 – ما هى العلاقة بين مؤلف النص و النص ذاته ؟
2 – فى أى ظروف تاريخية تمت كتابة النص التاريخي ؟ و ما هى الدوافع لكتابته ؟ 
3 – ما هى إمكانية الفهم الموضوعى لمؤلف النص ؟ و هل من الممكن الوصول إلى القصد الحقيقي للمؤلف ؟
4 – هل يعتمد فهم النص و القصد الحقيقي للمؤلف على ثقافة المفسر أم على ثقافة مؤلف النص فى زمانه و مكانه ؟
5 – هل يمكن فصل معنى النص التاريخي أو الديني عن معنى الآثار المادية المحيطة به ؟
و للرد على هذه التساؤلات ، سنتناول هنا مثالا تاريخيا فى غاية الأهمية ، و هو عبارة عن عبارات أو مقتطفات من نص الكاهن المصري ( نى عنخ سخمت ) المدون على جدران مقبرته فى سقارة و الذي عاش فى عصر الملك ( ساحورع ) ثانى ملوك الأسرة الخامسة . و قد كان يشغل وظيفة كبير كهنة المعبودة سخمت مما يعنى أنه كان كبيرا للأطباء و السحرة و ذلك عطفا على ربوبية سخمت للطب و السحر فى مصر القديمة ، و القضية التى تريد هذه الدراسة أن تناقشها هى : هل كان كبار رجال الدولة يؤمنون بألوهية الملك فى عصر الأسرة الخامسة ؟ و لعلنا ندرك هنا من خلال طرح هذا التساؤل أن الهرمنيوطيقا تسعى نحو التخصيص و ليس التعميم . فموضوع الدرس يختص بفترة زمانية محدودة جدا و هى جزء من الأسرة الخامسة و ليست الأسرة بأكملها ، و لا نعلم هل كانت رؤية ( نى عنخ سخمت ) مطابقة لرؤية كبار رجال الدولة المعاصرين له فى فى مناطق أخرى من البلاد ؟ 
و لذا فعلم الهرمنيوطيقا يسعى نحو الكشف عن عدم ضرورة تطابق الفكر فى ذات الزمان و ذات المكان بشكل كامل . و قبل الولوج فى آفاق بعض العبارات الموجودة فى نص ( نى عنخ سخمت ) ينبغي لنا أن ندرك الظروف السياسية و الدينية و الإجتماعية المحيطة بالعصر الذي نشأ فيه ذلك النص ، فذلك العصر شهد بناء معابد الشمس الملكية التى تناولها علماء المصريات فى دراسات و مقالات عديدة كاشفين عن نتائج هامة تمثلت فيما يلي :
1 – التأكيد على الصلات الجسدية و الروحية التى تجمع الملوك برب الشمس ( رع ) بإعتبارهم أبنائه الذين جاءوا من صلبه 
2 – أن الملك الحاكم هو تجسيد و تصوير صورة ( رع ) الحية و المقدسة على أرض مصر ، فهذه المعابد ألحقت و ضمت الشعيرة الملكية بالشعيرة الشمسية و لاتناقض هنا بين إعتبار الملك كإبن لرب الشمس و بين وصفه و إتحاده بمعبود الشمس و لذا فإن شعائر تقديس الملك بإعتباره ( رع ) تبدأ خلال حياته فى معابد الشمس ( – و ذلك هو ما تم إثباته من خلال ما ورد فى مقابر كهنة الشمس فى الأسرة الخامسة و من خلال كتابات حجر بالرمو - ) و بعد مماته بما يعنى التقديس الدائم للملكية ذات الصبغة الشمسية
3 – أن الملكية خالدة بخلود مؤسسها الأول معبود الشمس ( رع ) و أنها هى الضامن الأوحد للنظام و الخير و العطاء و إستمرار دورة الكون بما يعود بالنفع على البلاد 
و لذا فعندما نقوم هنا بتناول و معالجة بعض العبارات التى تتعلق بتصوير الملكية و مدى قداستها فى نص ( نى عنخ سخمت ) تجاه الملك الحاكم ، تعتمد الهرمنيوطيقا على ربط مدلول النص مع مدلول معابد الشمس الملكية بغرض إحكام و ضبط عملية التفسير قدر الإمكان ، فلا تعزل مثل هذه النصوص عن سياقها الأثري و التاريخي و هى أحد شروط الهرمنيوطيقا ( التأويل ) و ليس كلها و إلا ستقع عملية التفسير فى أخطاء منهجية .
بدأ نص ( نى عنخ سخمت ) بالثناء على الملك ( ساحورع ) الذي منح العطاء و التكريم خلال حياته فقال عنه ( يسمو الملك على قدر و مرتبة كل إله ) و أنه ( يعلم برغبات أتباعه جميعا ) و ( أن أى شيء يصدر من فم جلالته يتحقق فى الحال ) و ( أن الإله وهبه معرفة بواطن الأمور ) . و ليس ثمة شك أن العبارات المقتطفة هنا تعكس إتجاه نحو إضفاء أبعاد تقديسية قوية على شخص الملك الحاكم من وجهة نظر النصوص الرسمية . إلا أنه أضاف على العبارات السابقة مقتطفات أخرى تختلف فى إتجاهها الفكري عن الإتجاه الأول فقال فى سياق ذلك ( أنه دعا كل إله من أجل جلالته ) و ( أنه يستحلف الناس بحبهم لرب الشمس رع أن يبتهلوا للأرباب جميعا لأجل الملك الذي فعل له و فعل ) .
إتجهت مدرسة فكرية فى علم المصريات إلى التأكيد على إتجاهين إختلطا كل منهما بالآخر فى سياق ذلك النص و هما :
1 – إتجاه نعت فيه ( نى عنخ سخمت ) مليكه بألوهية سامية يعلو بها فوق كل إله و قدرة فائقة تمكنه من تنفيذ رغباته كيفما يشاء و معرفة نافذة فلا تخفى عليه خافية 
2 – إتجاه مناقض للإتجاه الأول ، حيث يصور ( نى عنخ سخمت ) مليكه بأنه يحتاج لدعاء و رعاية الأرباب ، بل و يستحلف الناس بحبهم لرع أن يبتهلوا لجميع الآلهة من أجل مليكه
و من هنا رأت هذه المدرسة الفكرية أن هذه النصوص لم تخرج إلى حيز الضوء إلا لكى تشير إلى تقديس شكلى مطلق تجاه الملك دون إيمان فعلى مطلق بألوهية الملك و أن ذلك التقديس الشكلي كان ضرورة سياسية و دينية تتناسب مع رسميات العصر التى كانت تنادى بنظرية القداسة الملكية ، إلا أنها لم تكن عقيدة فعلية لدى كبار رجال الدولة . و لكن لا يتفق الدارس مع النتائج السابقة وفقا لمعطيات و حقائق أخرى تمثلت فيما يلي :
1 – تغافل عدد كبير من الدارسين فى التمييز بين مفهوم الألوهية فى الحضارة المصرية القديمة و مفهوم الألوهية فى الديانات السماوية ، فتأثر معظمهم بثقافتهم المعاصرة و قاموا بتحكيم معاييرهم على ثقافة مصر القديمة فجاء تفسيرهم للنصوص مخالفا لقواعد الهرمنيوطيقا ( التأويل ) فلا تناقض فى الحضارة المصرية القديمة بين إله يقتل نتيجة مؤامرة ( مثال : مقتل المعبود أوزير على يد أخيه ست ) و بين إستمرار الإعتقاد فى ألوهيته و العقيدة المصرية لا تطلب المنطق من معتنقيها و إنما تطلب العاطفة و الوجدان و التجربة الإنسانية و الطبيعية التى يؤمن بها الجميع و لا تناقض بين ألوهية المعبود و عجزه ، فذلك لن يقلل من ألوهيته شيئا فى نظر أتباعه ( مثال : أسطورة رع و لدغة الثعبان و عجزه عن معالجة السم و إحتياجه للمعبودة إيزيس التى دبرت له كل ذلك لمعرفة إسمه الخفى ) فالإله فى مصر القديمة لا تخلع عليه إلا صفات إنسانية و يختلف تماما عن مفهوم الإله فى الديانات السماوية 
2 – تجاهل مفسروا النص إطاره الثقافي و التاريخي و الأثري و السياسي ، فقد كشفت القرائن الأركيولوجية عن وجود عبادة ملكية مؤكدة من جانب كهنة الشمس فى معابد الشمس الملكية و فى معابد الأهرام الجنزية ، كما تجدر الإشارة إلى وجود شعيرة ملكية موجهة لشخص الملك فى معابد الأهرام الملكية الجنزية و تحديدا فى قدس أقداس تلك المعابد حيث كشفت الآثار عن وجود بقايا تماثيل ملوك داخل 5 غرف فى نهاية المعبد تعادل أقداس أقداس الملك الحاكم 
3 – تصور مفسروا النص أن إحتياج الملك و إعتماده على غيره من الكهنة فى عمل شعائر إحياء و تمجيد للملك أن ذلك يقلل من ألوهيته فى نظر أنصاره بالرغم من وجود ذات الشعائر الموجهة لآلهة أخرى بما يعنى إحتياج المعبودات الأخرى لنفس الطقوس حتى يعاد إحياءها من جديد لكى تؤدي دورها فى الكون و الطبيعة بما يضمن الخير للبلاد . و الملك هنا لا يختلف عن الطبيعة الإلهية فى شيء داخل معابده فتوجه له نفس الشعائر لكى يحقق نفس الأهداف – مع الوضع فى الإعتبار أننا هنا نتحدث فقط عن حالة الأسرة الملكية الخامسة فى عصر الدولة القديمة و لا مجال للتعميم على العصور الأخرى اللاحقة .
4 – يتفق الدارس مع تلك المدرسة الفكرية فى وجود إتجاهين فى نص ( نى عنخ سخمت ) إختلطا ببعضهما البعض و لكن يختلف معهما فى تحديد الماهية الحقيقية و المدلول الفكري لتلك الإتجاهين ، فهما إتجاهين فكريين يعكسان ثقافتين كانتا منشرتان فى مصر فى تلك الفترة . الثقافة الأولى و هى الأحدث زمنيا ، ثقافة تأليه الملك الحاكم و إعتباره واحدا من الأرباب القادرين على فعل أى شيء بل و أحيانا كان يظهر ككائن متفوق عليهم ( مثال : نصوص الأهرام التى صورت الملكية فى وضع يفوق الآلهة فى بعض فقراتها ) . أما الثقافة الثانية و هى الأقدم زمنيا ، ثقافة يحتاج فيها الجميع بما فيهم الملك لرعاية و مؤازرة الأرباب . و هنا نجد نص ( نى عنخ سخمت ) يعكس وجود الثقافتين و تجاورهما مع بعضهما البعض فى ذلك العصر و دون أدنى إحساس بوجود تعارض بينهما على الأقل من الناحية الفكرية ، فهو هنا كان مخلصا لمليكه فى تصويره كرب قادر و مقتدر و كان أيضا مخلصا لتقاليد و موروثات العصور السابقة التى صورت قدرة الأرباب و إحتياج الجميع لها 
5 – لم يدرك مفسروا النص أن عبارات تقديس الملك و تأليهه تقدمت و جاءت قبل عبارات تصوير الملك ككائن يحتاج لرعاية الأرباب مما يكشف عن تقدم و سيطرة الإتجاه الثقافى الأول ( إتجاه تأليه الملك ) على الإتجاه الثقافى الثانى ( إتجاه رعاية الملك من جانب الأرباب ) و ذلك على أقل تقدير من وجهة نظر كبار رجال الدولة 
6 – يهدف النص إلى إعلاء شأن الملكية المؤلهة ، فلا مبادرة سياسية تتم دون توجيهات الملك و لا شيء ينطق به الملك إلا و كان رأيا صائبا فينفذ فى الحال ، فهو لا ينطق إلا بالحق ، فالملكية هنا تتقدم المشهد فى النص و نى عنخ سخمت يرد الفضل كله لصالح الملك فيما وصل إليه من إنجازات مما يدل على تراجع صاحب النص للمركز الثانى وراء الملك و الآلهة و تقدمه على الناس ( عامة الشعب ) 
7 – يبدو من الواضح أنه كانت هناك دعوة للترويج ليس فقط بألوهية الملك الحاكم بين الناس و كما يبدو فى النص و لكن يظهر أيضا أنه كان هناك نداء آخر للناس ( عامة الشعب ) بأن يبتهلوا جميعهم للآلهة و بقدر حبهم لمعبود الشمس أن يدعوا للملوك فى ذلك العصر فى دنياهم و بعد مماتهم ، مما يعكس فكرة الترويج لطيبة و صلاح و تقوى و ورع الملوك أمام الرعية 
8 – يظهر من ثنايا النص ، أن عامة الشعب فى عصر الأسرة الخامسة كانت يتجه و يبتهل للآلهة أكثر مما يتجه للملوك فهو يدعوهم لدعاء الأرباب التى يؤمنون بها لأجل الملك و هنا نجد أن عقيدة الملكية المؤلهة لم تكن بالضرورة عقيدة شعبية يؤمن بها جميع الناس و ذلك على النقيض من كبار رجال الدولة و لاسيما الكهنة الذين كانوا على تواصل دائم بشخص الملك الحاكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق