الأحد، 15 سبتمبر 2013

العلاقة بين السلطة الملكية و المراكز الإقليمية منذ عصر الأسرة صفر و حتى نهاية الدولة القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 


العلاقة بين السلطة الملكية و المراكز الإقليمية منذ عصر الأسرة صفر و حتى نهاية الدولة القديمة


لم يكن حدث الوحدة السياسية للبلاد خلال عصر نقادة الثالثة ( و الذي يبدأ
منذ نهاية نقادة الثانية حوالي 3300 ق.م و حتى نهاية عصر الأسرة الثالثة ) بالأمر
اليسير ، فقد إحتاجت السلطة الملكية الناشئة لنظام لتثبيت أقدامها سياسيا بشكل
يكفل لها السيطرة على جميع المقدرات و الإمكانات الإقتصادية للبلاد و كان على
الملك و حاشيته منذ البداية التاريخية للعصر العتيق أن ينتقل من مكان لآخر داخل
الحدود السياسية و الطوبوغرافية للملكة المصرية الموحدة لكي يضع نظام إقتصادي يضمن
من خلاله جمع خيرات و ضرائب مختلف المناطق و المدن المصرية شمالا و جنوبا ،
فالسيطرة الإقتصادية على خيرات الجنوب و الشمال تؤكد هيمنته السياسية و مما لاشك
فيه أنه قد تمخضت عن هذه ( الرحلات الملكية ) رموز السلطة الملكية المصرية التي
إختارت لنفسها منذ البداية أيدولوجيا دينية ذات طبيعة كونية فظهر مفهوم الرحلة
التي يمارسها رب الشمس بنفسه في عالم السماء حيث يستقل مركبه الشمسي و يطوف في
جولة سماوية نهارية و ليلية فيمارس سلطته على الكون و من هنا تم مشابهة السلطة
الملكية على الأرض بالرحلة الشمسية في السماء و هي الفكرة التي ظهرت بواكيرها
الأولى منذ عصر الأسرة صفر و تبلورت إلى حد كبير في بدايات الأسرة الأولى ، فنجد
على سبيل المثال المشط العاجي للملك – جت – و هو ثالث ملوك الأسرة الأولى – و هو
في المتحف المصري و بجوار صلاية نعرمر - حيث ظهر و لأول مرة رب الشمس في هيئة صقر
يستقل قارب و يبحر في عالم السماء و ظهرت هذه المركب على جناح عظيم و هي تحتل
المساحة العلوية للمشط الأمر الذي يؤكد على أن الجناح هنا يعادل مفهوم القبة
السماوية . هنا يمكن أن نستشف عدد من الحقائق الهامة من خلال ذلك المشط العاجي
الذي صور فيه هذا المنظر الهام : 
1 – ظهر هذا المشهد المعبر عن الصقر الشمسي فوق مشهد آخر يمثل الصقر على
واجهة القصر الملكي ( السرخ ) و يحتوي في داخله على العلامة التصويرية – الثعبان -
المعبرة عن القيمة الصوتية لإسم الملك ( جت ) مما يؤكد أن الصقر الشمسي السماوي
يشابه الصقر الملكي الجاثم على القصر و هو يؤكد أن الصقر في هذا السياق هو عبارة
عن رابط مشترك بين الديانة الشمسية و السلطة الملكية الناشئة . 
2 – يعتبر هذا المنظر هو أقدم تعبير فني عن
رحلة شمسية سماوية تسير على قارب و يعبر صفحة السماء في تاريخ الفن المصري القديم
3 – يشير ظهور الصقر في هذا المشهد أنه أحد
أقدم الأشكال التي جسدت كينونة رب الشمس على قاربه السماوي الذي يسير على جناح
عظيم يتجه طرفاه الأيمن و الأيسر نحو الأسفل الأمر الذي مهد لظهور تصوير قرص الشمس
المجنح في مرحلة تاريخية لاحقة في تاريخ الفن المصري ( بداية من عصر الملك زوسر في
نقوش وادي مغارة في سيناء ) حيث تم تجريد رب الشمس من شكله الحيواني – و هو الصقر –
و تم تمثيل قرص الشمس بدلا منه في منتصف الجناح نفسه . 
و لذا فلا غرابة من ظهور الملكية منذ
البدايات الأولى للعصر العتيق و هي مرتبطة بحركة الشمس في القبة السماوية ، فالملك
يمارس سلطته على الأرض بوصفه الصورة المقدسة لمعبود الشمس الذي يمارس سلطته في
السماء ، فإذا إنهار النظام الملكي إنهارت الحركة الشمسية السماوية ، فسياسة الملك
هنا تهدف للحفاظ على النظام الكوني في مصر و هنا يمكن لنا أن نستقرأ أن السلطة
الملكية لم تكتفي من الناحية العملية بالسيطرة الإقتصادية على خيرات البلاد ، بل
إحتاجت أيضا لأيدولوجيا دينية كونية ترنو لإقناع الجميع بمدى خطورة و أهمية الدور
الذي تلعبه على المستوى الكوني .
و هنا يثور تساؤل هام : ما هي الأهمية
الحضارية لتصوير قارب الشمس الذي يظهر فيه الصقر كرابط مشترك بين السلطو الملكية و
الديانة الشمسية ؟ 
أن الحضارة المصرية القديمة هي أقدم حضارة في
حضارات العالم القديم تستخدم فكرة السفينة أو المركب كأداة للتعبير عن مفهوم
السلطة السياسية و الدينية .
و من جانب آخر سعى البلاط الملكي نحو إبراز
إستمرارية الهيمنة الملكية السياسية و الدينية على مصر في العالم الآخر أيضا فظهرت
نصوص الأهرام في النصف الثاني من عصر الدولة القديمة و هي تصف رحلة الملك الشمسية
الأخروية فقالت عنه : " إنه ( الملك ) يطوف في تلال حور و يطوف في تلال ست
" فماذا تعني هذه العبارة ؟ ...... 
1 – إن تلال حور هنا تعني : مصر السفلى أما
تلال ست فهي تعني : مصر العليا 
2 – تشير هذه العبارة التي سجلت زمنيا في
فترة متأخرة من نشأة و قيام الملكية في مصر إلى الرحلات و الزيارات الملكية التي
كان يقوم بها ملوك العصر العتيق جنوبا و شمالا لتأكيد سيطرتهم السياسية و
الإقتصادية و الدينية على البلاد فهذه العبارة تحمل ذكرى حضارية سجلت في النصف
الثاني من عصر الدولة القديمة و لكنها تشير لحدث يرجع للعصر العتيق 
3 – ظهر منذ العصر العتيق على أقل تقدير فكرة
مشابهة طوبوغرافية أرض مصر بالقبة السماوية ، فظهرت قبة السماء بمثابة أرض مصر فهي
تحتوي على تلال حور ( مصر السفلى ) و تلال ست ( مصر العليا ) كما ورد في سياق آخر
من متون الأهرام أن هذه القبة تحتوي على نهر متعرج ( نهر النيل )
و لعلنا هنا نتسائل عن الشكل الإداري الذي
إنتهجته ملكية العصر العتيق للسيطرة على مصر ؟ .............. 
من خلال ما ظهر من وثائق ( آثار ) الأسرات
صفر و الأولى و الثانية يمكن أن نستشف أن شكل السلطة الملكية كان " أبويا
" ، فالملك كان يعتبر الدولة و كأنها عائلته فلم تكن هناك منظمات سياسية
شرعية تمثل عامة الشعب و قد برز هذا النظام الملكي بالتحديد منذ بدايات الوحدة
المصرية في عصر الأسرة صفر حيث تمكن أقوى عائلات الجنوب من عمل إنصهار و تزاوج
سياسي مع كبار عائلات الشمال الأمر الذي أدى إلى خلق عائلة ملكية واحدة لها أفرع
متعددة في الجنوب و الشمال ( و هو ما سبق و أن تناوله الدارس في أكثر من مقال سابق
عن كيفية الوحدة السياسية و يمكن الرجوع لهذه المقالات في أرشيف الملفات الموجودة
في جميع الجروبات ) . فقد إعتمدت السلطة الملكية في ذلك العصر على أقارب لها في
مناطق و مدن الجنوب و الشمال لجمع خيرات و ضرائب تلك الأماكن . و مع مرور الوقت لم
يجب على الملك أن يذهب بنفسه إلى تلك المناطق لكي يحوز على خيراتها و إنما أصبح
هناك من يمثله في جميع المدن من أقاربه حتى تكونت تدريجيا و لأول مرة فكرة "
الأقاليم " و التي يرى بعض علماء المصريات أنها ظهرت فعليا منذ نهاية الأسرة
الثانية أو بداية الأسرة الثالثة و هو ما يحيلنا إلى الإستنتاج التالي : .........
أن مفهوم التقسيم الإداري الذي عرفته مصر تحت مسمى " الأقاليم " لم يكن
من نبت عصور ماقبل الأسرات و لم يكن من إنتاج الأسرات صفر و الأولى و الثانية بل
هو ثمرة سياسية ناضجة و خبرة حكم ملكي إستغرقت فترة طويلة من الزمن . و هنا يمكن
القول أنه مع قيام الأسرة الملكية الثالثة كانت الإدارة الملكية على النحو التالي
1 – يمثل سلطة الملك في الأقاليم مبعوثون من
جانب البلاط الملكي و هذا يعني بأن الموظفين المختارين لإدارة الأقاليم هم ليسوا
من تلك الأقاليم نفسها كما كان يحدث في السابق و إنما جاءوا من مقر السلطة الملكية
المركزية في منف و هو ما يمكن لنا أن نستشفه من السيرة الذاتية و ألقاب الموظف
الشهير " متن "  
2 – يتضح من نصوص السير الذاتية و الألقاب
الخاصة بكبار الموظفين في عصر الأسرة الثالثة أنهم كانوا يعملون في إدارة منف
الملكية في باديء حياتهم العملية و أن هذه الوظائف التي أدوها في البداية كانت هي
الوسيلة الناجزة للوصول إلى منصب " حاكم الإقليم " بل أن بعضهم لم يكن
مسموحا له بأن يدفن في جبانة الإقليم الذي عمل فيه و كانت منف هي الجبانة الملكية
التي كان يدفن فيها حاكم الإقليم و هو ما نستشفه بوضوح في نص الموظف " متن
" الذي كان حاكما إقليميا لإثنى عشر إقليم و دفن في نهاية المطاف في جبانة
سقارة . 
3 – هكذا يمكن القول بأنه قد تشكل تكوين أو
تركيب سياسي على مستويين : صفوة صغيرة من موظفي البلاط الملكي يحكمون و يديرون
عددا كبيرا من سكان الأقاليم الذين لا نعرف عنهم سوى القليل نظرا لقلة الآثار
الخاصة بهم و لذا فقد ظهرت شعوب الأقاليم في ذلك الزمن كجمهور كبير دون بناء سياسي
معين أو معروف و ربما كانت لهذه الجماهير الإقليمية منظمات سياسية معينة إلا أن
رموز هذه المنظمات الشعبية الإقليمية لا ذكر لها على الإطلاق في وثائق ( آثار )
البلاط الملكي . 
4 – تهدف إدارة الأقاليم منذ بداية الأسرة
الثالثة إلى تموين البلاط الملكي في منف و البلاط الملكي في منف يضمن من جانبه
تموين الأقاليم و ما يجب على السلطة الملكية هنا أن تسيطر عليه هو المنتجات
الزراعية . 
5 – لم يكن إهتمام السلطة الملكية منحصر فقط
في جمع خيرات و ضرائب الأقاليم بل إهتمت كذلك بكيفية تخزين جميع المواد الغذائية و
الإحتياجات المادية في مخازن القصر الملكي في منف بحيث تصبح القاعدة الأساسية في
العمل : عدم ربط المستوى الكمي للإنتاج الزراعي بمستوى فيضان النيل الذي قد يتغير
إرتفاعه من سنة إلى أخرى ، فالتخزين هنا يهدف إلى إحتكار الفائض و إستخدامه عند
اللزوم 
6 – من هنا ندرك أن التموين يظل دائما مرتبط
بالسلطة الملكية المركزية في منف و لهذا السبب لا تستطيع الأقاليم الأخرى أن تمون
نفسها بنفسها إذ تبقى دائما مرتبطة بالتموين المركزي في منف و لا يخفى على القاريء
أن أي خلل في هذا النظام المركزي يؤدي حتما إلى أزمات إقتصادية . 
مع بداية عصر الأسرة الرابعة يمكن القول بأن
العلاقة الإدارية بين النظام الملكي و و مختلف الأقاليم المصرية أصبح أكثر تعقيدا
و هو ما يمكن لنا أن نستنبطه بوضوح فيما ورد على حجر بالرمو بأن الملك سنفرو قام
بتأسيس 35 إقليم جديد و لأول مرة في البلاد فضلا عن تخصيصه ل122 ضيعة زراعية أو أراضي
موقوفة داخل هذه الأقاليم الجديدة لصالح القصر الملكي و هنا نوجز ما حدث فيما يلي
1 – تأسيس هذه الأقاليم الجديدة يعكس قيام
نظام إداري ملكي جديد الأمر الذي  يلقي
الضوء عن علة قيام أسرة جديدة في عصر الملك سنفرو ( فضلا عن تشييد الشكل الهرمي
الكامل و إرتباط الملك التام بالديانة الشمسية في المصير الدنيوي و الأخروي ) . 
2 – ظهور مدينة " طيبة " و لأول
مرة في هذا التقسيم الإداري الجديد بدلا من مدينة " نوبت – نقادة " و
التي لم تعد مركز سياسي كبير مع بداية عصر سنفرو بل تم إختيار طيبة كمركز إقليمي
جديد و ذلك هو ما حدث من جانب آخر مع مدينة دندرة التي تأسست في عصر سنفرو كمركز
إقليمي جديد بدلا من المركز الإقليمي القديم " ثني " و هي المدينة التي
دفن في جبانتها " أبيدوس " ملوك الأسرة الأولى و آخر ملكين من الأسرة
الثانية . 
3 – تكشف هذه المراكز الإقليمية الإدارية
الجديدة عن عدم رضاء الملكية عن التقسيم الإداري القديم المتبع خلال عصر الأسرة
الثالثة و هو ما يرجح رأي عدد آخر من علماء المصريات بأن الملك الحاكم أراد القضاء
على ما تبقى من سلطة أقربائه السياسية و الذين حكموا الأقاليم القديمة بشكل تام و
أن البعض منهم لم يدفن في الجبانة الملكية بل دفن في تلك المراكز الإقليمية
القديمة و هو ما ثبت لدينا فعليا من خلال آثارهم و مقاربهم التي وجدت هناك . 
4 – أن التوسع الإداري الإقليمي الذي حدث
خلال عصر الملك سنفرو يعكس وجود إستقرار إقتصادي و سياسي في البلاد مما أدى لوجود
زيادة ديموجرافية ( سكانية ) كشفت عنها وثيقة حجر بالرمو التي تناولت أهم أحداث
عصر الملك سنفرو 
و هنا نقول : أن زيادة و توسع الأنشطة
الإدارية و السياسية في الدولة المصرية خلال بداية عصر الأسرة الرابعة أجبر السلطة
الملكية على إختيار موظفين إداريين جدد لا ينتمون بالضرورة للعائلة الملكية ،
فالإدارة هنا و لكي تسيطر على مختلف الأقاليم الجديدة أصبحت أكثر تعقيدا و تشعبا
فتوسعت الحاجة لموظفين لكي يملأوا مختلف التخصصات و المجالات العملية و لم يعد
بالإمكان قيام السلطة الملكية الإعتماد فقط على أقربائها الذين ينحدرون الأفرع
المتعددة للعائلة الملكية القديمة التي وحدت مصر في الأسرة صفر فضلا عن عدم إنتفاء
الحاجة إليهم نظرا لما يمكن أن يمثلوه من خطورة سياسية على السلطة الملكية نفسها و
لعل ذلك كان الدافع الرئيسي لظهور مدرسة إنجليزية جديدة في علم المصريات إعتبرت
عصر الملك سنفرو و ما حدث فيه من تغيرات إدارية و دينية و معمارية هو البداية
الفعلية لعصر الدولة القديمة و أن الأسرة الثالثة ليست سوى إمتداد حضاري للأسرتين
الأولى و الثانية و لذا فيمكن إدماجها هي الأخرى في العصر العتيق و هو ما تناوله
الدارس بشكل تفصيلي في إحدى مقالاته عن قيام الوحدة السياسية في مصر التي بدأت منذ
نهاية عصر نقادة الثانية ( أواخر المرحلة الزمنية الثانية لعصور ما قبل الأسرات )
و إكتملت في بداية الأسرة الثالثة على أقل تقدير . 
يمكن إبداء ملاحظات هامة حول قيام و تطور
الشكل الإداري السياسي الملكي منذ الأسرة الأولى و حتى بداية الأسرة الرابعة تتمثل
فيما يلي : 
1 – أن شكل الإدارة الملكية في باديء الأمر
كان محدودا عند قيام الوحدة السياسية مقارنة بشكله في بداية عصر الأسرة الرابعة مما
يعني أن حدث قيام الوحدة السياسية المصرية و ما صاحبه من نشأة الإدارة الملكية كان
أقل صعوبة من حدث تطور الدولة إداريا في مرحلة تاريخية لاحقة و من هنا يمكن تقييم
الدور الحضاري الذي لعبه الملك سنفرو بوصفه دورا أكثر غناءا و تعقيدا من الدور
الذي لعبه ملوك الأسرات الثلاث الأولى . 
2 - هنا يمكن طرح التساؤل التالي : "
ماذا لو آلت السلطة الملكية لأي من الملوك الذين شرعوا في إنجاز وحدة مصر السياسية
منذ عصر الأسرة صفر بدلا من الملك سنفرو ، كيف كانت ستتجه الأمور ؟ ... لا يهدف
هذا التساؤل لطرح إجابة محددة بقدر ما يهدف لإبراز شخصية الفرد و دوره الحضاري في
الواقعة التاريخية و تغيير مجريات الأمور . 
3 – أدى وجود هذا الشكل الإداري الملكي
المستحدث منذ بداية عصر الأسرة الثالثة و حتى بداية عصر الأسرة الرابعة إلى إنتقال
تدريجي لمناصب و وظائف الإدارة الملكية من أقرباء عائلة الملوك الممتدة في الجنوب
و الشمال إلى موظفين من ذوي الكفاءات و الذين تربوا في القصر الملكي و هو ما سيتضح
فعليا في كتابة نصوص السير الذاتية في النصف الثاني من عصر الأسرة الرابعة و لم
يكن هؤلاء منحدرين من عائلة الملك . و هنا كان للكتابة أثر هام حيث أصبح هؤلاء
الموظفين من متعلمي الكتابة الذين حازوا على المناصب الإدارية تدريجيا مما يوضح
وجود تداخل و ترابط تام بين الإدارة الجديدة و الكتابة و أن كل مجال منهما ترك
تأثيره على الآخر في ذلك العصر و بهذا أصبحت طبقة المتعلمين من الموظفين الجدد
تحتل بالتدريج مكان الأفراد الذين كانوا ينتمون للعائلة الملكية منذ عصر الأسرة
صفر في الجنوب و الشمال . 
و من خلال ما تم عرضه حتى الآن يمكن لنا أن
نوجز العلاقة بين الشكل الحضاري و الإداري لأقاليم مصر و بين السلطة الملكية المركزية
منذ المرحلة الأخيرة لعصور ما قبل الأسرات و حتى بداية عصر الأسرة الرابعة على
النحو التالي : 
 1 -
كانت مصر تتكون من ممالك مراكز إدارية و سياسية مستقلة في معظم فترات ما قبل
الأسرات و إن كان يسود بينها علاقات التبادل التجاري و إستمر ذلك الموقف حتى بداية
توحيد مصر سياسيا في المرحلة الأخيرة من عصور ما قبل الأسرات و هو ما يعني وجود
حضارات إقليمية ذات شخصية ثقافية مستقلة في الجنوب و الشمال . 
2 – بدأت هذه الحضارات الإقليمية تفقد
شخصيتها الثقافية المستقلة تدريجيا مع قيام السلطة الملكية و سعيها نحو تركيز السلطات
السياسية و الإدارية في قبضتها الوحيدة و إستغرق هذا الأمر فترة زمنية طويلة و
إستلزم تعديلات و تغيرات إدارية إمتدت منذ نهاية الأسرة الثانية و حتى بداية
الأسرة الرابعة كما ينبغي الإشارة من جانب آخر أن هذه التعديلات الإدارية جاءت
ملبية لتغير الشكل الديموجرافي ( السكاني ) المتطور في مصر و الذي جاء غالبا
كنتيجة للإستقرار الإقتصادي منذ بداية الأسرة الثالثة و حتى بداية الأسرة الرابعة
3 – تحول التركيبة السياسية و الإدارية
للبلاد تدريجيا من شكل القرية في عصور ما قبل الأسرات إلى شكل الإقليم المكون من
عدد من المدن المحلية في عصر الأسرة الرابعة مع الوضع في الإعتبار أن ذلك لا يعني
الغياب التام لشكل القرية في عصر الأسرة الرابعة كما لا يعني عدم وجود المدن في
الفترة الأخيرة من عصور ما قبل الأسرات . 
4 – و هكذا طغت حضارة السلطة الملكية
المركزية في منف تدريجيا على حضارات الأقاليم المصرية جنوبا و شمالا منذ عصر
الأسرة صفر و حتى قيام الأسرة الرابعة و لم يشترك في هذه الحضارة الملكية المنفية
سوى الطبقة العليا التي لا تمثل سوى جزء صغير من الشعب و بهذا إنقسمت مصر إلى
مستويين : مستوى الطبقة المسيطرة و مستوى الطبقة الخاضعة لسيطرة الصفوة كما أن
الطبقة المسيطرة ذات الحضارة الملكية و التي تحكم خارج منف لا تمثل إلا جزء ضئيل
جدا من الشعب المصري الذي يعيش في أقاليم البلاد المختلفة و قد نتج عن ذلك نظام
سياسي متزعزع للغاية فلم تستطيع السلطة الملكية خلال عصر الدولة القديمة من خلق
بناء سياسي أصيل حيث لم يتمكن الشعب من التعبير عن نفسه سياسيا فلم يكن له الحق في
الإشتراك في بناء هذه السلطة كما لم يتمكن من التعبير عن حضارته و ثقافته في رموز
و أدوات الحضارة الملكية ( و ذلك على النقيض مما حدث في عصر الدولة الوسطى و هو ما
سبق أن تناوله الدارس في أكثر من مقال و محاضرة في السابق ) . 
 و
هنا ينبغي لنا أن نقف عند التغير الإداري و السياسي الذي حدث في عصر الملك سنفرو و
الذي لم يكن يهدف إلا لإحكام القبضة الملكية على البلاد و إلغاء سلطة أقرباء
العائلة الملكية القديمة ذات الأفرع المتعددة . فإذا كان هذا النظام السياسي هو
البداية للهيمنة الملكية المركزية المطلقة و ظهور طبقة صفوة أخرى جديدة تخضع لهذه
السلطة المركزية و لا تمثل إلا جزء ضئيل من عامة الشعب ، فإن ذلك الواقع التاريخي
يناهض و يناقض بشكل كبير الصورة الأسطورية التي نسبت للملك سنفرو في العصور
اللاحقة بوصفه الملك الرحيم و العادل و الطيب ، فهذه الصورة ليست إلا صناعة من
كهنة الملك سنفرو في معابده الذين نجحوا في ترويجها بين عامة الشعب و هو ما تجلى
في الصورة الأدبية الكهنوتية الشعبية التي برزت في عصر الدولة الوسطى . 
يتضح لنا إذن أن الملكية نجحت في أن تسود
بواسطة حاشية من الموظفين على عامة الشعب في بداية الأسرة الرابعة ، فالملك و
عصابته متسلطين على عامة الشعب في مختلف الأقاليم و يمكن القول بأن هذه الحالة
إستمرت حتى عصر الأسرة الخامسة إلا أن الجانب الإيجابي في تلك الهيمنة هو ظهور
طبقة الموظفين من ذوي الكفاءات و الخبرة الإدارية التي ساهمت بلا شك في تطوير
حضارة الملكية منذ بداية عصر الأسرة الرابعة و حتى عصر الأسرة الخامسة . 
و عند قيام الأسرة الملكية الخامسة طرأت
ظاهرة جديدة في الأقاليم المصرية تتمثل في عدم رضاء حكام الأقاليم بأن يدفنوا في
المقر الملكي في منف و إنما إرتضوا لأنفسهم أن يدفنوا في الأقاليم التي عملوا و
عاشوا حياتهم فيها فما هي الأسباب التي دفعتهم نحو ذلك ؟ ........... 
1 – من المنطقي أن القبر الذي سيدفن فيه حاكم
الإقليم يجب أن يكون في المكان الذي يفترض فيه أن تظهر الطقوس الجنائزية و شعائر
تقدمة القرابين و البعث و الإحياء على أفضل ما يكون من أي مكان آخر و لم يكن هناك
أفضل من المكان الذي خدم و عمل فيه حاكم الإقليم نظرا لسيطرته الفعلية على جميع
الموظفين و الكهنة في منطقة إقليمه . 
2 – من المؤكد أن الذي سيقوم بأداء هذه
الطقوس الجنائزية هو إبن – أبناء – حاكم الإقليم و ذلك حتى يتمكن من وراثة وظائف و
مناصب الأب و لاسيما إذا وضعنا في الإعتبار الترابط التام بين إقامة الطقوس
الجنائزية و شعائر الإحياء و بين ميراث المناصب و الوظائف في الحضارة المصرية
القديمة و بناءا على ذلك سيفضل الإبن – الأبناء – أن يدفن هو الآخر في نفس المكان
الذي عمل فيه طوال حياته . 
3 – نستنتج من ذلك أنه كلما بقيت الدائرة
الوظيفية في مكان ثابت كلما ضمن الإبن وراثة المنصب الإداري للأب في ذات المكان
كما سيكشف ذلك أيضا عن رغبة الأب بأن لا يكون قبره في المركز الملكي و إنما في
الإقليم و ذلك حتى يضمن إنتقال الوظائف الإدارية لأبنائه . 
و هنا نجد أن حالة أبناء حكام الأقاليم الذين
ولدوا و عاشوا و دفنوا في أقاليم جنوبية و شمالية تبلورت بشكل واضح خلال نهاية عصر
الأسرة الخامسة و طوال عصر الأسسرة السادسة و ذلك هو ما يتضح لنا من خلال نص حاكم
أبيدوس ( خوي ) الذي تحدث عن نفسه قائلا : 
" لقد أقمت هذا القبر لي في أبيدوس و
تحت رعاية الملوك : بيبي الثاني و مري رع و بيبي الأول و ذلك لكي أعلن عن حبي
للإقليم الذي ولدت فيه " . 
و خلال عصر الأسرة السادسة تكونت طبقة
إجتماعية عليا من حكام الأقاليم الذين بدأت سيطرتهم السياسية و الإقتصادية تزداد
تدريجيا بشكل مناويء للسلطة الملكية المركزية في منف و لاسيما بعدما توسعت مرة
أخرى الأنشطة الإدارية في البلاد خلال ذلك العصر فمنحت الدولة ( السلطة الملكية )
إحتكارات كانت ملكية و مناصب أخرى جديدة لحكام الأقاليم و بالأخص إحتكار جمع شباب
الإقليم و تجنيده في الجيش الملكي بواسطة حاكم الإقليم فضلا عن ظهور لقب إداري
جديد خلال عصر الأسرة السادسة ألا و هو : حاكم مصر العليا . 
إن بداية ظهور طائفة إجتماعية و سياسية جديدة
و قوية في أقاليم مصر سمح لها بإعادة و إحياء حضارات الأقاليم مرة أخرى ذات
الشخصية الثقافية المتميزة و التي بدأت تختلف عن حضارة المركز الملكي في منف و
يمكن القول أن بداية هذا الإختلاف الحضاري و الثقافي بدأ منذ عصر الأسرة السادسة و
إستمر و تطور تدريجيا خلال عصر اللامركزية الأول إلى أن تبلورت أنماط ثقافية و
حضارية إقليمية ناضجة و قوية و متعددة مع بداية وحدة مصر السياسية مرة أخرى في عصر
الدولة الوسطى
و تلك هي أحد مميزات عصر اللامركزية الأول
الذي ساهم في عمل إنتعاش ثقافي لحضارات الأقاليم في الجنوب و الشمال . 
كما ينبغي لنا هنا أن نشير أيضا إلى واقعة
تاريخية ذات أهمية كبرى خلال عصر الأسرة السادسة و تمثلت في خلق زواج سياسي بين
السلطة الملكية في منف و حاكم الإقليم في أبيدوس حيث تزوج الملك بيبي الأول من
إبنة حاكم الإقليم في أبيدوس مما يعني أن الملكية بدأت تعتمد على إنشاء تحالف
سياسي مع حاكم أبيدوس القوي و بداية ظهور خلق نسب إقليمي قوي يساهم في يد مد العون
للسلطة الملكية لبسط و فرض سيطرتها على مختلف أقاليم الجنوب و لعل تلك السياسة (
أي ظاهرة الزواج السياسي ) تذكرنا بما حدث في عصر الأسرة صفر عندما تمكنت عائلة من
الجنوب ( أبيدوس ) من بسط سيطرتها على الشمال بإقامة ظاهرة الزواج السياسي مع
عائلات الممالك الشمالية الكبرى الأمر الذي أدى لقيام عائلة ملكية واحدة ذات أفرع
متعددة في البلاد . 
 ينبغي أن نؤكد على حقيقة هامة : لا يجب أن نضخم
من ظاهرة الزواج السياسي بين العائلة الملكية في منف و بين عائلة حكام أبيدوس في
عصر الأسرة السادسة فنظن أن السلطة الملكية قد إنهارت أو ضعفت تماما خلال تلك
الفترة فتلك هي الإشارة التاريخية الأولى التي تحدثت عن خلق نسب ملكي إقليمي و لا
نجد حتى الآن في المصادر التاريخية أي حالات نسب أخرى تمت في ذلك العصر فهي مجرد
بداية لعملية تاريخية إستغرقت فترة زمنية طويلة إتضحت معالمها بشكل بارز في عصر
الأسرة الثامنة تحديدا و ذلك عندما ظهرت حالات متعددة من الزواج السياسي بين
العائلة الملكية في منف و بين حكام أقاليم أخرى و ما يؤكد ذلك الطرح أن النص
السابق لحاكم إقليم أبيدوس ( خوي ) يكشف عن إرتباط وثيق بالسلطة الملكية فهو يذكر
أسماء أشهر ملوك في الأسرة السادسة : بيبي الأول و مري رع و بيبي الثاني و يبرز
رعايتهم و فضلهم عليه من خلال إنشائه لمقبرته الشخصية في أبيدوس فهو لا يزال
مرتبطا بالسلطة الملكية بل و يؤكد على خلق صلة واضحة بين مفهوم ( بناء المقبرة
الشخصية ) و مبدأ ( رعاية و فضل الملكية ) فحاكم اٌلإقليم هنا لا يخرج عن المعايير
السياسية و الثقافية المتعارف عليها في عصر الدولة القديمة حتى و إن بدأت الشخصية
الحضارية للإقليم في الظهور مرة أخرى في مواجهة حضارة منف الملكية . 
و نختتم هذا المقال بطرح تساؤل هام : هل كان
حكام الأقاليم في عصر الأسرتين السابعة و الثامنة منحدرين من نفس عائلات حكام
الأقاليم الذين ينتمون لعصر الأسرة السادسة ؟ و كيف كانت علاقتهم بالسلطة الملكية
في منف ؟ ... إن أول من طرح هذا التساؤل الجريء هو عالم المصريات ( مارتن بارداي )
في دراسته القوية عن حكام الأقاليم في عصر الأسرتين السابعة و الثامنة و كيفية
إبرازه لتغير الشكل الإداري لهذه الأقاليم مرة أخرى فضلا عن إتيانه بأدلة قوية و
بارزة ترجح أن حكام أقاليم ذلك العهد لا ينحدرون من حكام أقاليم الأسرتين السابعة
و الثامنة بل هم طبقة إجتماعية جديدة سنسعى لدراستها بإذن الله في مقال آخر .   
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق