بسم الله الرحمن الرحيم
( قضية النشأة الزمنية الأولى لمذهب الخلق فى منف )
....................... يتناول الباحث واحدة من الإشكاليات التى لا تزال مطروحة فى علم المصريات ، و إختلفت آراء الدارسين القدامى و الجدد فيها ، و هي قضية النشأة الزمنية الفعلية الأولى لمذهب الخلق فى منف فهل تم إبتداع ذلك المذهب و لأول مرة كما يروي لنا كاتب النص فى عصر الأسرة الخامسة و العشرين ؟ ..............................
....................... يتناول الباحث واحدة من الإشكاليات التى لا تزال مطروحة فى علم المصريات ، و إختلفت آراء الدارسين القدامى و الجدد فيها ، و هي قضية النشأة الزمنية الفعلية الأولى لمذهب الخلق فى منف فهل تم إبتداع ذلك المذهب و لأول مرة كما يروي لنا كاتب النص فى عصر الأسرة الخامسة و العشرين ؟ ..............................
.
ظهر فى عصر الأسرة الخامسة و العشرين ، لوحة حجرية ضخمة عرفت إصطلاحا بإسم ( لوحة شباكا ) ، قص فيها كاتبها أنه قام بتجديد نسختها القديمة بإذن ملكه ( شباكا ) ، و هنا يروي لنا الكاتب أن محتوى اللوحة ما هو إلا نص قديم كتبه أصحابه الأوائل على الجلد أو البردي ، فأوشك الدود أن يأتى عليه ، فكان ذلك سببا لإحياء متنه القديم ، و كان نصا يصف كيفية نشأة الخلق و الكون - وفقا لرواية كهنة منف - فابتغى انصار المدينة العظيمة أن يظهروا للناس أن ربهم ( بتاح ) كان هو السبب و الأصل القديم فى نشأة الوجود و الآلهة و المخلوقات ، فأعطوه لقب ( بتاح تاتنن ) بمعنى بتاح ( رب ) الربوة الأزلية المرتفعة التى ظهرت لدنيا الوجود فى بدء الزمان ، فكانت مدينة منف هى ذلك التل السرمدي الأول الذى طفى فوق مياه ( نون ) الأزلية و أصبحت هى ذاتها ( منف ) مكان تأسيس الملكية المصرية .
و لايب أن معطيات مذهب الخلق فى منف ترتكز على مقدمات مذهب الخلق فى عين شمس ، فاعترف أصحاب مذهب منف أن ( آتوم ) رب عين شمس هو معبود قد مارس عملية الخلق فى بدء الخليقة و أصبح فاعلا فى الكون ، إلا أنهم أضافوا عليها حلقة ذات أهمية كبرى و هى أن ( بتاح ) رب منف كان هو السبب الذى أتى بآتوم و العالم بأكمله إلى الوجود بفضل فكرة وردت فى قلبه ثم نطق بها لسانه فكان من أمر الخلق ما كان ، و هو نص يعكس وجود تنافس فعلي لا يرقى الى درجة الصدام بين كهنة منف و أنصار عين شمس حول أقدمية المعبود الذي كان له الفضل فى الإتيان الأول لهذا العالم .
إعتقد البعض من الباحثين أن هذا النص قد تم تأليفه و لأول مرة إلى العصر العتيق إستنادا على أهمية منف الدينية و السياسية منذ تلك الفترة ، بينما رأى فريق آخر أن هذا المذهب يرجع لبدايات عصر الدولة القديمة و تحديدا فى عصر الأسرة الثالثة أو الرابعة نظرا لأن الأفكار و المفاهيم الراقية المضمون التى ورد ذكرها فى ذلك النص تتطلب نضج فكري و دينى و عقلي لم يتأتى لأهل منف إلا فى تلك الفترة . و هناك من رجح إمكانية تأليف النص فى نهايات الأسرة الخامسة و بدايات الأسرة السادسة إعتمادا على لغة النص العتيقة التى تحتوى على قواعد و أجروميات و مفردات نصوص الأهرام التى نشأت فى ذات الفترة ، إلا أن الدارس يختلف و بكل إحترام و تقدير لجميع الطروح العلمية السابقة و ينحو منحى آخر طبقا لمعطيات و إعتبارات علمية جديدة و هي :
1 - لا وجود لأى آثار أو نصوص ترجع للعصر العتيق تكشف عن وجود مذهب خلق منفي و لا سيما و أن مفردات الكتابة المصرية القديمة فى ذلك العصر و التى كشف عنها علماء اللغويات قليلة العدد و لا تسمح بإستيعاب الكم اللغوي و الفكري لمذهب ظهر فى عصر الأسرة الخامسة و العشرين
2 - لم تذكر مصادر الدولة القديمة ( نصوص مقابر أو معابد أو أى لقى أثرية أخرى ) أى فكرة عن مذهب الخلق فى منف برغم إستقرار ملوك الدولة القديمة فيها و إتخاذها كعاصمة دينية و سياسية ذات أهمية كبرى ، و لم يشير أحد لهذا المذهب فى نصوص الأهرام الملكية و قد يعترض البعض على ذلك نظرا لأنها متون شمسية ، فكان من الطبيعي أن يتجاهل أتباع عين شمس أى ذكر لمذهب بتاح فى منف ، و لكن و بدراسة مقالات عديدة فى هذا الشأن ، نجد أن كهنة الشمس إعترفوا فى متون الأهرام بوجود أرباب خالقة أخرى مارست عملية الخلق فى بدء الزمان غير إله الشمس رع ، بل و تتجاهل أحيانا دور ( رع ) فيها تماما
3 - لم يتجه ملوك الدولة القديمة لإتخاذ المعبود بتاح كرب رسمي للديانة الملكية ، فلم يدخل فى ديباجة الألقاب الملكية ( عدا الملك سنفرو و إحتمالية إنتسابه لذلك المعبود ) و على النقيض من ذلك إتجه ملوك تلك الفترة الى معبود الشمس رع فكان طبيعيا أن ينتسبوا اليه فى اسمائهم ، فكان من المنطقي أن يظهر و يرتقي مذهب الخلق لعين شمس فى ذلك العصر
4 - لم يكن هناك أى تنافس بين كهنة بتاح و كهنة رع طوال عصر الدولة القديمة أو الوسطى و ذلك هو مضمون مستتر غير مباشر فى مذهب الخلق لمنف الذى ظهر فى الأسرة الخامسة و العشرين لا يتفق مع المعطيات التاريخية لفترتي الدولة القديمة و الوسطى
5 - لم تخرج وظائف الإله بتاح فى عصر الدولة القديمة عن كونه ربا للفن و الفنانين و الصناع كما أكدت نصوص تلك الفترة على ذلك و لم تشير لأى مفهوم يخص بتاح كرب خالق
6 - إتحد الإله ( بتاح ) بالمعبود ( تاتنن ) الذى يجسد الربوة السرمدية الأولى فى عصر الدولة الوسطى و ذلك يناقض كل التصورات الخاصة بنشأة ذلك المذهب فى عصر الدولة القديمة ، فكان بتاح تاتنن هى الصورة التى أنتجها كهنة منف منذ الدولة الوسطى مما يكشف عن وجود إرهاصات أولى محتملة لفكرة إظهار بتاح كرب أزلى و ربما كرب خالق ؟
7 - إن تصور الإله ( بتاح تاتنن ) كرب خالق قبل آتوم و كرب للسلطة الملكية هو تصور نموذجى ينطبق بشكل كبير على عصر الرعامسة ، فقد أكدت نصوص تلك الفترة و لأول مرة أن بتاح تاتنن هو إله خالق قبل آتوم و هو ما يتفق مع مضمون مذهب الخلق فى منف ، كما ظهر فى عصر الملك رمسيس الثانى و لأول مرة نصوص و مناظر تقحم بتاح كأب جسدي و روحي للملك الحاكم ، ( مثلما نجد فى معبدى أبيدوس و أبوسمبل ) ، أعطى أوامره للإله ( خنوم ) لتشكيل ابنه الذي ينحدر من صلبه على عجلة الفخراني ، و هى الأيدولوجية التى سار على نهجها جميع ملوك الرعامسة ، مما كان سببا قويا لإكتمال و نضج المذهب فى عصر الأسرة الخامسة و العشرين
8 - توضح لنا أسطورة مذهب الخلق فى منف كيف تم تقسيم مملكة مصر إلى مملكتين واحدة لحورس و الأخرى لست ، ثم كيفية إعادة توحيدهما مرة أخرى على يد حورس ، و هو ما يتفق مع المعطيات التاريخية للملك شباكا الذى أنهى تماما مفهوم عصر الإنتقال الثالث و السلطة اللامركزية التى كانت موجودة خلال تلك الفترة و أعاد وحدة مصر من جديد ، فالملوك ذوي الأصل الليبي الذين راق لهم فكرة تقسيم البلاد خلال عصر الإنتقال الثالث ، فهم يجسدون فى اسطورة مذهب الخلق فى منف ( الإله ست ) الذى يرفض السلطة المركزية و كان سببا فى تقسيم البلاد ، أما الملك ( شباكا ) فهو ( حورس ) الذي أعاد وحدة البلاد من جديد ، فأسطورة الخلق فى منف لا تبرأ من أهداف أيدولوجية سياسية بعد إعادة توظيف الأسطورة مرة أخرى لصالح السلطة الملكية الحاكمة ، الأمر الذي يكشف عن وجود نصيب معين و واضح للأسرة الخامسة و العشرين و الملك شباكا فى تأليف و تأسيس ذلك المذهب فلم يكن كله من إبتكارات عصر الرعامسة .
9 - يزعم مذهب منف أن قبر المعبود ( أوزير ) كان فى مدينة منف و أنه قد مات فيها و هى معطيات ( و إن ظهرت فى بدايات عصر الدولة الحديثة ) لم تكن تخلو من دلالة : إن الفيضان ينشأ من المدينة التى مات و دفن فيها ذلك المعبود ، و ذلك بوصفه ربا رئيسيا للفيضان القادم من مملكته فى العالم الآخر و ذلك يكشف عن رغبة كهنتها فى إبراز مفهوم العطاء و الخير و الخصوبة و النماء الذى تهبه منف لكل مصر بفضل وجود القبر الأوزيري ، و هى فكرة تتفق مع السياسة الملكية لملوك الأسرة الخامسة و العشرين الذين رفعوا كثيرا من شأنها و أعادوا إكتشاف ماضيها التليد فنسبوا لها تلك المفاهيم الدينية و السياسية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق