الاثنين، 21 مايو 2012

مفهوم إعادة تركيب الماضي التليد فى الحضارة المصرية القديمة - دراسة أنثروبولوجية فلسفية أثرية موجز


بسم الله الرحمن الرحيم

مفهوم إعادة تركيب الماضي التليد فى الحضارة المصرية القديمة -
 دراسة أنثروبولوجية فلسفية أثرية موجزة

- ......................................... عرفت الحضارة المصرية القديمة كيفية خلق ذاكرة لماضيها التليد عبر عصورها المختلفة ، فقد كانت لديها ثقافة لتذكر ماضيها المجيد ، و كانت ( ثقافة التذكر المصرية ) ترنو الى ( التخطيط ) و ( بعث الأمل ) نحو ( المستقبل ) ، إنطلاقا من توجهات ( الماضي ) الحامل لقبس ( الأسلاف ) الذين عاشوا فى حقبة مزدهرة فقاموا بعمل الإنجازات الحضارية الباهرة . و قد بذل المجتمع المصري القديم كل ما فى وسعه و سخر كل ما لديه من طاقات كى يجعل ( الأمس ) و ( اليوم ) فى حالة ( دوام مستمر ) . و من هنا نجد أن الوسيلة المستخدمة لبلوغ ذلك الهدف هو : ( وضع جميع الخطط و الأفكار منذ البداية كى تكون متسقة مع مبدأ الخلود و الأبدية ) . و مثلما أشارت النصوص الرسمية الملكية و منذ عصر الدولة الوسطى أن ( الملك يضع الغد دائما نصب عينيه ) و لا ريب أن من ينظر بهذه الطريقة الى الغد و هو لا يزال يعيش فى يومه الحاضر - على حد تعبير المصري القديم - سيسعى للحفظ على ( الأمس ) من الضياع و النسيان . 
و لكن ينبغى لنا أن نشير إلى حقيقة هامة و هى : أن الماضي فى مصر القديمة لم يكن موجودا و جاهزا و مصمما من قبل ، فالماضي يتم تذكره من خلال إعادة تركيبه و إعادة صياغته من جديد ، فالجماعة الإنسانية بشكل عام و المجتمع المصري القديم بشكل خاص هو الذي يقوم بإعادة مونتاج الماضي ، فالماضي الذي وقع كما هو فعليا يسمى ( الماضي الأول ) و هو الماضي الذي تم و حدث فى زمانه الفعلي و لكن لم يتم تسجيله بشكل موضوعى محايد فى عصره ، أما الماضي الذي يتم إنتاجه فى عصر لاحق هو ( الماضي الثانى ) و هو الماضي الذي أعاد صياغته المجتمع المصري القديم بدءا من عصر الدولة الوسطى و حتى نهايات التاريخ المصري القديم . و ليس من الضروري أن يتطابق ( الماضي الأول ) مع ( الماضي الثانى ) ، فغالبا ما يظهر الماضي الثانى فى ( واجهة مثالية لا يشابهها نقص أو عيب ) و لا يجوز أن نتذكر ( الأخطاء ) التى وقعت فى ذلك الماضي فيتم تنحية جميع العناصر السلبية تحقيقا لأيدولوجيا ( الماضي الثانى المثالى ) .
فمؤسس الأسرة الثانية عشرة و هو الملك ( أمنمحات الأول ) أطلق على نفسه لقبا براجماتيا ( نفعيا ) و هو ( وحم مسوت ) الذي يعنى حرفيا : من يعيد أو يكرر الميلاد ، و جعل من هذا اللقب الركيزة الرئيسية لبدايات حكمه و كانت تلك التسمية تهدف لمشابهة الملك بالمعبود ( آتوم ) - كما أكدت نصوص الدولة الوسطى - الذي قام بخلق الكون فى بدء الزمان و من المعروف أن ذات الأيدولوجية أكدت على توصيف الملك بكونه صورة آتوم الحية و المقدسة على الأرض ، الذي يقوم بإعادة خلق الكون من جديد بعد أن قضى على ( الفوضى ) التى سبقت عصره ، ففوضى ما قبل الخلق تعادل و تطابق فوضى عصر الإنتقال الأول الذى وصفته نصوص الدولة الوسطى بكل شر . و من جانب آخر يعنى هذا اللقب بشكل ضمنى غير مباشر إعادة أمجاد و إنجازات عصر الدولة القديمة و لذا فمن الممكن أن نعطيع كذلك معنا حضاريا و هو ( النهضة ) ، النهضة التى سينادى بها ملوك الأسرة الثانية عشرة لإعادة الأمجاد العظيمة أو الأمجاد الباهرة التى صنعها الملوك الآلهة الأوائل فيصبح السير على خطاهم هو الهدف البارز للملك أمنمحات و بقية ملوك عصر الأسرة الثانية عشرة الذين إتهجوا سياسة مشتركة نحو أسلافهم تمثلت فيما يلي : 
1 - شيد ملوك الأسرة الثانية عشرة منشآت ملكية جنزية تتطابق معماريا و فنيا مع منشآت ملوك الدولة القديمة و لا سيما ملوك الأسرتين الخامسة و السادسة ، فاقتبسوا منهم أشكالا و صورا نموذجية 
2 - أقاموا شعائر عبادة و تقديس الأسلاف من ملوك الدولة القديمة بأكملهم ، فكان ذلك أحد الوسائل التى إستفادوا منها لإضفاء شرعية دينية على حكمهم السياسي 
3 - إتخذوا من الملك ( سنفرو ) مثالا و نموذجا يحتذى به ، فأعطوه ألقاب ( الملك العادل ) و ( الملك الرحيم ) و ( الملك الطيب ) و بشروا بملكية و سياسة حكم تتطابق مع حكم ذلك الملك فقام بعضهم بتشييد قبورا رمزية بجوار هرميه فى دهشور . و لا يهم هنا مدى تتطابق هذه الأوصاف و الألقاب تاريخيا مع شخصية ( سنفرو ) و لكن الذي يهم هو التأكيد لعامة الشعب أن ملوك الأسرة الثانية عشرة هم ( خير خلف لخير سلف )
إن الماضي هنا ( الماضي الثانى ) لايتم تذكره بصورته التى وقع بها فعليا ( الماضي الأول ) ، و لا يعني ذلك أيضا أنه مخالف له تماما ، بل هو ( ماضي إنتقائي ) ننتقي منه ما يهمنا لتحقيق أهدافا عملية تبث الثقة و الأمان فى نفس الشعب المصري القديم من ناحية و تبرر شرعية الملوك فى عصر الدولة الوسطى من ناحية أخرى ، ( فالماضي الثانى ) تمليه الإحتياجات الأيدولوجية ( للزمن الحاضر ) ، فالحاضر هو الذى يصنع ( الماضي الثانى ) و لا يهتم كثيرا ( بالماضي الأول ) و عندئذ يصبح الماضي الثانى هو ( الذاكرة الحضارية ) لمصر سواء للملوك أو لكبار رجال الدولة أو لعامة الشعب ، فتظل هذه الذاكرة هى ( النموذج المثالي و الحقيقي ) الذي يؤسس ( لهوية حضارية ) تعطى معنى و مغزى لحياة المصري القديم خلال حياته و بعد مماته ، و تتحول هذه الذاكرة الحضارية لكى توجه ( المستقبل ) ، فملوك الدولة الوسطى يخلقون الماضي الثانى ( أمجاد الدولة القديمة ) بناءا على توجهات الحاضر ( إضفاء الشرعية السياسية ) لكى يقوموا بتوجيه حركة المستقبل ( الوعد بتحقيق العدالة الناجزة و تحقيق الأمن و النظام الخير للجميع ) و من هنا يعاد تركيب الماضي التليد و يتم تثبيته فى الذاكرة الحضارية لمصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق