الاثنين، 7 مايو 2012

الأسطورة و الوظيفة الفكرية


بسم الله الرحمن الرحيم 

( الأسطورة و الوظيفة الفكرية )
كان و لا يزال البشر دائما هم صناع أسطورة . و منذ بدايات وجود بشريات نياندرتال فى أوروبا و الشرق الأدنى خلال العصر الحجرى القديم الأوسط ( 120000 – 35000 ق.م ) ، تبين لنا من قبورهم وجود أسلحة و أدوات و عظام لحيوانات مضحى بها ، تدل جميعها على وجود معتقد عندهم بعالم آخر يشبه عالمهم ، و بحسب ما بينته قبور النياندرتاليين و بعد يقينهم بحقيقة فناء أجسادهم ، أنهم إبتكروا واقع مضاد ، يمكنهم من التكيف مع ذلك الوعى الجديد و لذلك و حين يدفن النياندرتاليون رفاتهم الموتى بإهتمام و عناية ملحوظتين ، يعنى أنهم قد أصبحوا يعتقدون بأن العالم المادى و المرئي ليس الحقيقة الوحيدة و من هنا يبدو لنا أن بشريات نياندرتال تميزت و منذ زمن مبكر جدا ، بقدرتهم على حيازة أفكار تتجاوز تجاربهم اليومية .
إن دفنات النياندرتال تكشف عن معتقدات دينية بدائية كانت هى الأولى من نوعها فى تكوين و نشأة الأسطورة لدى الجنس البشري تمثلت فى حقائق هامة هى :
1 – دلت هذه الدفنات و ما تحتويها من أدوات على وجود هاجس قلق من تجربة الموت و الخوف من الفناء
2 – ما تشير إليه عظام الحيوانات من أن الدفن قد تم مع تقديم أضحية ، مما يعنى ممارسة لشعيرة ترافق عملية الدفن و أن الطقس هنا لا ينفك أبدا عن المعتقد الأسطورى ( بوجود عالم أخروي ) ، فالأسطورة تصبح عديمة المعنى إذا كانت خارج المشهد الطقسي الذى يبث فيها الحياة ، و لا يمكن فهم مغزاها فى أجواء و ترتيبات إعتيادية
3 – تتكلم دفنات النياندرتال عن عالم ما ورائي غير منظور مواز لعالم الإنسان ، و الإيمان بهذه الحقيقة اللامرئية و الأكثر قوة ، هى التى ستمهد لظهور فكرة الكائنات الماورائية المتحكمة فى مصير الجنس البشري ، و سيطلق عليها فى مراحل لاحقة مصطلح ( آلهة ) ، أليست تلك المعتقدات البدائية هى المهد الأول لنشأة الميثولوجيا ؟
4 – كشفت هذه القبور عن إستحضار الحدود النهائية للحياة البشرية ، و الإنتقال إلى عالم آخر من أجل تجاوز التجارب الشخصية المتمثلة فى الموت ، فالدفنة و ما بها تهيأ الإنسان للذهاب إلى مكان آخر لم يره من قبل ، بل و ترغمه على فعل أمور فى ذلك المكان ، فالأسطورة هنا لا تكتفى بإظهار المجهول بل هى تدل على ما يجب فعله من جانب إنسان نياندرتال المدفون فى قبره
يتبين لنا من تلك الشواهد و الأمور السابقة أن الأسطورة قد تم إبتكارها و تصميمها لمساعدتنا على التعامل مع المآزق البشرية المستعصية ، و إعانة الناس على تحديد موقعهم فى العالمين الدنيوي و الأخروى و إتخاذ موقف عملى مما يحدث حولهم
و من جانب آخر تطمح هذه الدراسة إلى تحديد معنى واضح للأسطورة ، ليس هو المعنى النهائي و المطلق و لكنه التعريف المبدئي الذى تسير عليه خطوات ذلك البحث ، و لذا فالأسطورة هى ( حكاية دينية مقدسة تلعب الكائنات الماورائية - الآلهة – أدوارها الرئيسية )
و يرى الدارس و بعد أن قضى فترة زمنية طويلة فى دراسة علم الميثولوجى أن هناك سمات عامة يمكن من خلالها التعرف على النص الأسطورى و هى :
1 – من حيث الشكل الأسطورة هى قصة تحكمها مبادي السرد القصصي من شخصيات و أبطال و حبكة و عقدة مستعصية ثم أخيرا تقدم حلا لتلك العقدة و غالبا ما يكون حلا إيجابيا
2 – يجرى صياغة الأسطورة فى معظم الأحيان فى قالب شعري يساعد على ترتيلها فى مناسبات و أعياد دينية و ممارسات طقسية
3 – ليس للأسطورة مؤلف محدد ، لأنها ليست نتاج خيال فردى ، بل هى ظاعرة جمعية يخلقها الخيال المشترك للجماعة و عواطفها و تأملاتها و طموحاتها
4 – يلعب الآلهة و أنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية فى الأسطورة ، فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان ظهوره مكملا و لا رئيسيا
5 – يحافظ النص الأسطورى على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن و تتناقله الأجيال طالما حافظ على طاقته الإيحائية و كان يلبى الحاجات الروحية للمجتمع . غير أن خاصية الثبات لا تعنى الجمود و التحجر لأن الفكر الأسطورى يتابع على الدوام خلق أساطير جديدة طالما تغيرت الظروف الإجتماعية و التاريخية و السياسية التى أنتجت الأسطورة الأولى الأقدم
6 – تتناول الأسطورة قضايا جوهرية شغلت عقل الإنسان منذ بواكير وجوده على الأرض مثل خلق العالم و نشأة الحياة و الموت و سر الوجود و العالم الآخر ، و ما إلى ذلك من إشكاليات تناولتها الفلسفة فيما بعد و هنا يتبدى لنا تساؤل مشروع : أليست قضايا الأسطورة و الفلسفة مشتركة ؟ .... الإجابة هى بالطبع نعم و لكن ينبغى لنا أن نشير إلى فارق هام بينهما و هو : أنهما تختلفان فى طريقة التناول و التعبير ، فبينما تلجأ الفلسفة إلى المحاكمة العقلية و تستخدم المفاهيم الذهنية كأدوات لها ، فإن الأسطورة تلجأ إلى الرمز و العاطفة و الخيال ، و يظهر فيها الكائنات الماورائية كصور حية متحركة و مدركة لما تفعل
7 – لا تحكى الأسطورة عن وقائع حدثت فى الماضى و انتهت ، بل هى وقائع ماثلة و للأبد و لا تتحول إلى ماض ، فزمن الأسطورة هو الزمن الذى يلتقى فيه الماضي بالحاضر و المستقبل و لذلك تصبح رسالتها غير مرتبطة بفترة زمنية معينة ، إنها رسالة سرمدية خالدة تنطق من وراء تقلبات الزمن الإنسانى . ففعل الخلق الذى تم فى الأزمان المقدسة الأولى يتكرر كل عام فى معظم أساطير الشرق القديم و يتجدد الكون فى كل مرة يخلق فيها من جديد ، و على سبيل المثال نرى أن إله الخصوبة المصري ( أوزير ) ، يتم قتله كل عام و يعود للحياة بعدها ، فهو يموت لكى يحيا و يجدد دورة الحياة و الطبيعة فى مصر بإعتباره ربا لفيضانها
8 – تتمتع الأسطورة بسلطة عظيمة على عقول و وجدان الناس . إن السطوة التى تمتعت بها الأسطورة فى الماضى ، لا يدانيها سوى سطوة العلم فى العصر الحديث . فنحن اليوم نؤمن بوجود الجراثيم و بقدرتها على تسبيب المرض ، و بأن المادة مؤلفة من جزيئات و ذرات ذات تركيب معين و بأن الكون مؤلف من مليارات المجرات لأن العلم قد قال لنا ذلك . أما فى الماضى فقد آمن الإنسان القديم بالعالم و الكون التى نقلتهما له الأسطورة
يتضح لنا مما تقدم أن الأسطورة هى حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التى أنتجتها بصدق روايتها صدقا لا يتزعزع ، و يرون فى مضمونها رسالة سرمدية خالدة موجه لبنى البشر ، فهى تكشف عن حقائق خالدة و تؤسس لعلاقة و صلة دائمة بين العالم الدنيوي و العالم الماورائى المقدس و هى فى ذات الوقت تعمل على وضع العالمين ( الدنيوي و الماورائي ) فى شكل مفهوم و مرتب و منظم و أن يتغلب الإنسان على حالة القلق و الفوضى الخارجية التى تتبدى للوعى الإنسانى عندما يواجه الطبيعة و ما تفرضه من عوائق و أزمات .
و من جانب آخر ظهر فريق من دارسي علم الميثولوجى ، يرفض النظر إلى الأسطورة فى ديانات العالم القديم على أنها كانت صادقة من جانب أهل الثقافة التى أنشأتها ، بل هى فى نظرهم كانت صحيحة لأنها مؤثرة و فاعلة لا لأنها تزودنا عن بعلومات عن حقائق ، فالأسطورة هى بالأساس دليل موجه و مؤثر ، إنها تخبرنا عن ما يجب علينا فعله لتكون حياتنا أكثر أملا و أكثر سهولة . فهى ليست محاولة لتدوين التاريخ أو فهمه ، كما أنها لا تدعى موضوعية قصصها و صحتها .
و تطمح هذه الدراسة للكسف عن علاقة و رابط بين الأسطورة و المعتقد الدينى و الطقس للكشف عن صلة كلية جوهرية تجمع بينهم ، فلا غناء لأى عنصر منهم عن الآخر و لذا فإن الدارس سيقوم بتناول تعريف بسيط عن المعتقد الدينى و كيفية تكونه . و يرجح علماء الأديان و الأنثروبولوجى أن المعتقد الدينى ينشأ و يتكون بعد مواجهة تتم بين ( الإنسان ) و ( كائن علوى مقدس ) يسكن فى ( عالم ماورائى غير منظور ) و تتمثل هذه المواجهة فى تأمل الإنسان لما يحدث حوله من ظواهر و أحداث طبيعية و كونية و من هنا يدرك الإنسان وجود ( كائن فائق متعالى ) متحكم فى تلك الظواهر و الأحداث ، فيبدأ بإنتاج صورا ذهنية عن ذلك العالم الماورائى و الكائنات التى تسكن فيه و تتحكم فى مصيره ، و لكن هل تلك الأفكار كافية لإنتاج دين معين ؟
إذا كان المعتقد الدينى يرسم صورا ذهنية واضحة و قوية عن ( العالم القدسي الماورائي ) ، إلا أنها لا تصنع دينا حتى لو كانت واضحة و قوية التأثير ، بل تشكل فى أفضل الأحوال فلسفة و ذلك لإفتقادها إلى ( نظام طقسي كامل ) ، فهو يظل مجرد ( معتقد دينى مثالى ) و يبقى ( العالم القدسي الماورائى ) صورة ذهنية باردة تعيش فى عقول أتباع هذه الفلسفة لا فى قلوبهم . إننا هنا لا نتحول من ( الفلسفة ) إلى ( الدين ) إلا عندما يدفعنا المعتقد الدينى إلى ( سلوك ) و ( فعل ) ، فننتقل من ( حالة التأمل ) إلى ( حالة الحركة ) و من هنا تظهر أهمية ( الطقس الدينى )
فالشعيرة الدينية تحرك الإنسان من ( التفكير فى العالم المقدس الماورائي ) إلى ( إتخاذ موقف عملى إيجابى ) تجاه ذلك العالم ، فيقترب من ( كائنات ماورائية متعالية ) لكى يسترضيها بتقدمته للقرابين أو بتلاوة التراتيل أو يقوم بتسخير تلك الكائنات لمصلحته لكى تكف غضبها عنه ، فإذا كان المعتقد الدينى ( حالة ذهنية ) ، فإن الشعيرة ( حالة فعل )
لا يقام الطقس الدينى إلا عندما ينعزل الإنسان عن ( كل ما هو دنيوي غير مقدس ) ، فيقتحم عالم آخر يتسم بطبيعة ( شديدة القداسة ) ، و عندئذ يستطيع أن يفتح قنوات إتصال مع الكائنات المقدسة الماورائية فيتصور أنه فى معيتها و حضرتها . و لا ريب أن الطقس يعبر عن المعتقد الدينى ، فهو يكشف عن ( مغزى المعتقد نفسه ) فيعمل على توضيحه و تفسيره بالنسبة للمؤمن به .
و إستنادا إلى ما تقدم ، يمكن القول بأن هناك علاقة قوية جدا بين المعتقد الدينى و الطقس و الأسطورة ، فجميع المعتقدات الدينية فى الحضارات القديمة هى التى مهدت لنشأة الأساطير ، فالأسطورة تنشأ عن المعتقدات الدينية و تكون بمثابة إمتداد طبيعى لها ، كما يبدو أن المهمة الأساسية للأسطورة هى تزويد فكرة الكائنات الماورائية بظلال و ألوان حية فتتحول تلك الكائنات إلى ( آلهة ) ، فالأسطورة هى التى ترسم صور الآلهة و تعطيها أسمائها و تكتب لها سيرتها الذاتية و تاريخ حياتها و تحدد لها وظائفها و علاقات بعضها ببعض و علاقتها بالإنسان
و إذا ما نظرنا إلى عقائد الخلق فى حضارة مصر القديمة ، سنرى أن كل مذهب قد زعم بوجود إله أزلى قابع فى ( عالم ما قبل الخلق ) أطلقوا عليه لفظ ( نون ) ، و قد كان ذلك الإله أشبه ما يكون بمعبود نظرى ذو طبيعة فلسفية ، و هو لا يباشر وجوده الفعلى إلا عندما يعلن فعاليته فى خلق نفسه بنفسه ثم خلق العالم فيقوم بذلك بإفتتاح الزمن فيدخل فى دنيا الناس و يخرج من العالم الساكن الى العالم المتحرك و لذلك فقد أنتج أهل الفكر و الدين فى مصر القديمة شعائر متعددة تهدف إلى إعادة خلق العالم من جديد كما تم خلقه أول مرة ، فكانت الشعيرة هنا بمثابة إعادة لخلق الكون و الحفاظ على مسيرة ذلك العالم .
فالطقس هنا هو الأسطورة و قد تحولت إلى سلوك يستهدف إستعادة الزمن الميثولوجى الأولى ، عندما خلق الإله الأول العالم والآلهة الأخرى ، فأنشأ النماذج الأولى لكل فعل حضارى خلاق  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق