بسم الله الرحمن الرحيم
( المغزى الحضاري من شعيرة سما – تاوي )
.... تتناول هذه الدراسة الموجزة المغزى الحضاري لطقس السما – تاوي و الذي يعنى حرفيا ( تجميع أو توحيد الأرضين ) ، مصر العليا و مصر السفلى ، و لعلنا فى هذا الصدد نتسائل قبل أى شيء : هل كانت مصر منقسمة إلى مملكتين ( مملكة الشمال و الجنوب ) قبل أن تتوحد فى مملكة واحدة ؟
أشارات الدلائل الأثرية الجديدة التى تعود للفترة التى تعارف عليها الأثريون بإسم ( الأسرة صفر ) أن البلاد لم تكن مكونة من مملكتين واحدة فى الشمال و أخرى فى الجنوب ، مثلما كان يعتقد الدارسون الأوائل ، بعدما إستندوا على دعائم أسطورية ورد ذكرها فى متون الأهرام و رأوا فيها دلائل لإشارات تاريخية تعكس أوضاع مصر السياسية فى عصور ما قبل الأسرات ، و لكن و بعد ظهور دراسات جديدة ناتجة عن حفائر علمية فى مواقع ما قبل الأسرات فى مصر تبين لنا عدد من الحقائق الهامة و هى :
1 – كانت البلاد مكونة من عدد من الممالك أو الأقاليم الصغرى ، و التى ترأس كل إقليم منها زعيم محلى
2 – إحتفظت هذه الممالك بعلاقات ودية سلمية و تجارية فيما بينها ، و لم تعرف صراعات عسكرية مسلحة طوال فترة كبيرة من عصور ما قبل الأسرات
3 – خلال عصر الأسرة صفر ، بدأ زعماء نخن و تحت راية المعبود حورس فى إتخاذ الخطوات الأولى لتوحيد البلاد تحت سلطة ملكية مركزية واحدة
4 – أثبتت الحفائر عدم وجود دلائل لإستخدام العنف بين ممالك الشمال و ممالك الجنوب أثناء زحف زعماء نخن نحو الشمال فلا وجود لأى قرائن أثرية تدل على وجود تدمير بين الطبقات الأثرية المختلفة فى المواقع الشمالية فى فترة الأسرة صفر
5 – بفضل وجود تبادل تجاري و ثقافى فى عصور ما قبل الأسرات بين ممالك الشمال و الجنوب ، نتج عن ذلك وجود علاقات نسب و مصاهرة و زيجات متعددة بين زعماء الجنوب و زعماء الشمال الأمر الذي أدى فى النهاية الى وجود عائلات ترتبط ببعضها البعض دما و ثقافة و سلوكا ، مما جعلها تنصهر فى نهاية الأمر فى عائلة ملكية واحدة مع نهاية الأسرة ( صفر )
6 – لا يجوز الإعتماد على صلايات الأسرة صفر ( و تشمل صلاية الملك نعرمر ) فى إستخلاص حقائق تاريخية ، تكشف عن وجود صراع بين الشمال و الجنوب و إنما هى تصوير فنى دينى و سياسي لترويج مفهوم الملكية الناشئة فى ذلك العصر و إبراز فكرة الملك القاهر لأعدائه و المسيطر على البلاد و الحافظ لنظام الكون و هى ذات الأفكار و المضامين التى ستنتشر فى البلاد طوال العصور التاريخية للحضارة المصرية ، و لم تكن هذه المفاهيم تهدف إلى إبراز حقائق تاريخية بقدر كشفها عن مفهوم الملكية المهيمنة و المتفوقة على أعدائها ( مثال على ذلك : تصوير الملك توت عنخ آمون و هو يقوم بقهر الأعداء على الرغم من عدم تأكد علماء المصريات حتى الآن بقيامه بمعركة محددة )
7 – لم يتأكد لدينا حتى الآن فى أى عصر بالتحديد قامت وحدة مصر السياسية ، و لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الوحدة لم تتم فى عصر جيل واحد أو جيلين أو حتى ثلاثة بل إستغرقت فترة طويلة من الزمن و على خطوات تاريخية و حضارية تمهيدية دامت نحو 150 عام ( و هى الفترة التى تعرف إصطلاحا بإسم الأسرة صفر ) بدءا من عام 3150 قبل الميلاد و حتى عام 3000 قبل الميلاد ، و يرى البعض أن الخطوة النهائية الحاسمة لوحدة مصر السياسية تمت فى عصر الملك ( نعرمر ) – آخر ملوك الأسرة صفر ، بينما يرى البعض الآخر أنها بينما لا يستبعد الدارس أنها قد تمت فى عصر الملك أو الزعيم ( كا ) – و هو الملك الذي سيطر على ما لا يقل عن 90 فى المائة من أراضي البلاد قبل ( العقرب ) - حيث ظهرت فى عصره بوادر تقسيم إداري ملكي – هو الأقدم على الإطلاق – بين الشمال و الجنوب ، مما يرجح إحتمالية وجود إدارة ملكية بارزة دأبت على تقسيم الأمور الإدارية و السياسية فى البلاد بين الأرضين ، أرض الشمال و أرض الجنوب
8 – تعتبر صلاية الملك نعرمر تخليد ذكرى لحدث هام و هو توحيد الأرضين ( الشمال و الجنوب ) دون أن يعنى ذلك أن الشمال كان مملكة سياسية قائمة بذاتها كما سبقت الإشارة ، فالصلاية تعكس ملامح دينية و سياسية تهدف لإبراز هيمنة و سيطرة الملك على الأرضين ، فهى تخليد ذكرى لواقعة هامة و لا تشير بالضرورة إلى أن هذا الحدث قد تم فى عصر الملك ( نعرمر ) و إنما هو يهدف إلى إعادة إحياء تلك الواقعة فى صورة شعائرية و رمزية
و فى ضوء ما تقدم ، بدأت الملكية المصرية ، و بعد توحيد مصر ، تقسم البلاد إداريا إلى أرضين ، أرض الشمال و الجنوب ، و ذلك يرجع الى تصورات المصري القديم و التى تعود لعصور ما قبل الأسرات ، فقد وقر فى عقل البلاط الملكي أن طوبوغرافية و مناخ و بيئة أرض الشمال تختلف عن مثيلاتها فى أرض الجنوب ، علاوة على وجود بعض المظاهر البيئية و الطبيعية التى ألهمته بفكرة الإزدواجية الحضارية فى كل شيء مثل الليل و النهار و القمر و الشمس و البر الشرقي و البر الغربي و طمي الأرض المخصب للأراضي و جفاف الأرض فى فصل الحصاد و قبل و صول الفيضان مما جعل المصري القديم ينتهج تقسيم البلاد إلى أرضين مع نهايات الأسرة ( صفر ) و كانت تلك الخطوة متزامنة مع توحيد مصر سياسيا
إن تقسيم البلاد إلى أرضين هو الذي أوحى بوجود مملكتين سياسيتين منفصلتين عن بعضهما البعض و تعودان لعصر ما قبيل الأسرات ، مثلما إعتقد عدد كبير من أوائل علماء المصريات فى السابق ، و هو ذات الإعتقاد الذي آمن به المصري القديم فى عصور تاريخية لا حقة و ينبغى لنا أن نشير هنا إلى عدد من الإعتبارات العلمية الهامة :
1 – برغم توحيد مصر سياسيا و لأول مرة فى نهايات عصر الأسرة صفر ، و برغم أن مبادرة التوحيد قامت من الجنوب ، إلا أن ذلك لم يلغى على الإطلاق ثقافة الشمال ، فظلت الملكية طوال العصور التاريخية تقيم المعابد و الشعائر لمعبودات الشمال و الجنوب ، فالوحدة السياسية لم تقضى على التعددية الثقافية
2 – مع بدايات الأسرة الأولى ، بدأ البلاط الملكي يروج لمفهوم أن البلد التى يحكمها ملك واحد فى هذه اللحظة الآنية هى نتيجة توحيد لقطريها أنجزه المعبودان ( حورس ) و ( ست ) فى عصر أسطوري سحيق ، فأعطوا لحورس مملكة الشمال و أعطوا لست مملكة الجنوب ولذا يجب على كل ملك يحكم البلاد ، أن يعيد هذا الإنجاز من جديد فيما يعرف بطقسة ( سما تاوي ) بمعنى توحيد الأرضين ، مع توليه مقاليد الحكم ، و مع ممارسة سيادته
3 – تحولت الواقعة التاريخية بأكملها ( و هى واقعة توحيد مصر سياسيا ) مع نهايات الأسرة صفر و بدايات الأسرة الأولى إلى حدث دينى و طقسي ، فلا يهم تذكر من هو الملك الذى قام بذلك الإنجاز و إنما الأهم هو تذكر الحدث ذاته ، فتصبح الواقعة شعيرة دينية ذات مضمون أسطوري ، فالمصري القديم يدرك تماما أن الوقائع ذات الأهمية الكبرى تخلد و تبقى من خلال الأسطورة لا من خلال التاريخ 4 - ظهرت طقسة سما تاوي لأول مرة فى حجر بالرمو فى عصر الملك ( حور عحا ) أول ملوك الأسرة الأولى و الذي يعتبره البعض الملك الأخير الذي قامت الخطوة النهائية لتوحيد مصر على يديه ، فكان البلاط الملكى و تحديدا منذ ذلك العصر هو الذي أوجد المفهوم الطقسي لشعيرة سما تاوي و هى الشعيرة التى تتمثل فى إحكام ربط نبات البردى مع زهرة اللوتس رمزى الشمال و الجنوب من جانب المعبودين حورس و ست ، فأصبح الملك و منذ تلك اللحظة يجسد الربين ( حورس ) و ( ست ) الذي يقوم – من خلال شخصهما – بإعادة توحيد البلاد
5 – إن طقسة سما تاوي تهدف الى إبراز الأيدولوجية الملكية الجديدة فى ثوبها السياسي الجديد : أن هذه البلاد لن تستقيم فيها الأمور و لن يعم الخير على الجميع و لن تنعم مصر برخاء إقتصادي و إستقرار سياسي و إداري إلا من خلال وجود سلطة مركزية واحدة تسيطر على جميع أنحاء البلاد و هذه السلطة تجسد نفسها فى أكبر معبودين عرفتهما البلاد منذ عصور ما قبل الأسرات و هما ( حورس ) و ( ست ) ، و كانت هذه الأيدولوجية الجديدة ضرورية لتثبيت هوية مصر الحضارية و السياسية من جانب ، و تأكيدا على إبراز أهمية الواقعة ذاتها من جانب آخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق