بسم الله الرحمن الرحيم
رؤية عامة على السمات الحضارية لعصر الإنتقال الأول
............................................................
.................يشير عصر الإنتقال الأول إلى الفترة التى بدأت فيها إنهيار السلطة المركزية الملكية ، حيث إختلف علماء المصريات فى بداية تحديدها و مداها الزمنى ، فرأى فريق منهم أنها تبدأ بنهاية الأسرة السادسة ، و رأى فريق آخر أنها تبدأ بنهاية الأسرة الثامنة . كما تنتهى تلك الفترة بإعادة توحيد البلاد مرة أخرى على يد الملك منتوحتب الثانى . و يميل البحث بصفة مبدئية إلى الأخذ بالرأى الثانى و لا سيما بعد إكتشاف شواهد أركيولوجية عديدة ترجح وجود سلطة ملكية مركزية ( و إن إعتبرها البعض شكلية ) حتى نهايات الأسرة الثامنة ، كما تجدر الإشارة إلى ذكر حقيقة هامة و هي : أن المؤرخ المصري مانيتون وضع خطا بالمداد الأحمر تحت نهاية الأسرة الثامنة و بدأ بجمع سنين حكم ملوك تلك الفترة ( منذ الأسرة الأولى و حتى نهاية الأسرة الثامنة ) الأمر الذي يعكس إمكانية و صلاحية وضع ذلك العصر بأكمله فى بوتقة واحدة و هى بوتقة الدولة القديمة
إن التساؤلات التى تطرح نفسها علينا هي :
1 – كيف نظر المصري القديم الى هذه الفترة فى العصور اللاحقة ؟
2 – كيف كانت حال آثار ذلك العصر كما و كيفا ؟
3 – كيف صور حكام الأقاليم أنفسهم فى ذلك العصر ؟
و للإجابة على التساؤلات السابقة ، نشير إلى الحقائق التالية :
1 – لم تعكس قوائم الملوك وجود إنقطاع تاريخي فى السلطة المركزية منذ نهاية عصر الدولة القديمة و حتى بداية عصر الدولة الوسطى ، فظهرت أسماء الملوك واحدا تلو الآخر كما لو كانت مصر لم تمر بهذه الفترة الإنتقالية على الإطلاق ، فالدولة الوسطى تلي مباشرة الدولة القديمة على القوائم الملكية ، و لكن لا ينبغي تصديق ما ورد فى هذه القوائم الملكية التى ظهرت بالتحديد خلال عصر الدولة الحديثة ، ( تورين - سقارة - أبيدوس ) بسبب أنها كانت تهدف لتغطية الإنحلال و اللامركزية التى أصابت البلاد فى ذلك العصر ، فلم تكن قوائم الملوك مادة لكتابة التاريخ و إنما كانت أداة لقياس الزمن و تنظيم الترتيب الزمني لملكية مصر الأزلية و الأبدية
2 – بدأ حكام الأقاليم فى ذلك العصر فى تدوين الأحداث السياسية و الدينية لذلك الزمن ، فصوروا أنفسهم داخل مقابرهم بوصفهم ملوكا على أقاليمهم فكانوا يؤرخون لحكمهم ، و يعتبرون أنفسهم زعماء محليين تولوا زمام الأمور بموافقة شرعية من أرباب أقاليمهم ، فعمل كل منهم على إصلاح الأمور السياسية و الدينية و الإقتصادية داخل إقليمه و خرجت سيرتهم الذاتية على أفضل صورة فصورتهم كأبطال قاموا بإنقاذ أقاليمهم من المجاعات التى أصابت البلاد فأتت على الأخضر و اليابس
3 – لا ينبغى أن نأخذ بكل ما ورد فى كتابات مقابر حكام أقاليم عصر الإنتقال الأول على أنه صائب من الناحية العلمية التاريخية ، فلم يكن الهدف هو كتابة التاريخ للأجيال القادمة داخل مقابرهم ، و إنما هو ذكر أعمالهم الطيبة و أفضالهم و حسناتهم فى العالم الآخر . فضلا عن ذلك فقد ذكروا لأنفسهم سيرة ذاتية مثالية نموذجية لا تنطبق على الواقع الإنسانى التاريخي فضلا عن أن شواهد عصر الإنتقال الأول لا تنسجم و لا تتلائم مع معطيات السيرة الذاتية لهم
4 – يجب توخي الحذر عند دراسة نصوص و أدب عصر الدولة الوسطى التى صورت عصر الإنتقال الأول كعصر مليء بالكوارث و الأزمات و الفوضى ، فكان ذلك هو عمل سياسي أيدولوجي فى المقام الأول و الأخير ، يهدف الى إظهار ملوك الدولة الوسطى كمنقذين من الكوارث و معيدين للسلام و الأمان و الخير فى مصر ، فلم تكن لديهم خطة أخرى للوصول الى العرش و تبريرهم لذلك الحدث سوى تصوير الملكية فى عصر الدولة الوسطى على أنها مرادف للنظام و ذلك فى مقابل فوضوية عصر الإنتقال الأول و هى ذات الفكرة التى إعتمد عليها الرعامسة فيما بعد فى تصوير عصر العمارنة الفوضوي ، فالملكية لا يمكن تصورها كأداة ناجزة و كحالة مثالية إلا فى وجود عصر مظلم سبقها
5 - إزدادت جبانات الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول ، فانتشرت المقابر فى ربوع البلاد مما أكد على وجود زيادة سكانية فى مصر خلال ذلك العصر ، و علاوة على ذلك ، فقد إزداد حجم الأثاث الجنزي فى تلك المقابر فى عدد كبير من الأقاليم مما يكشف عن وجود ثراء نسبي فى أقاليم مصر خلال تلك الفترة ، و هو أمر يناقض تماما ما ورد ذكره فى أدبيات الدولة الوسطى التى صورت الإنهيار السياسي و الإقتصادي لمصر فى صورة بلاغية رمزية لا تتفق مع المعطيات الأثرية لعصر الإنتقال الأول
6 – لم يوجد إنقطاع فى آثار ذلك العصر على الإطلاق ، فقد ظهرت قبور و مصاطب ضخمة الحجم فى جميع أقاليم مصر ، بل و يمكن القول أن الحفائر الجديدة قد كشفت عن نتائج مذهلة تمثلت فى وجود مصاطب و مقابر ذات رسوم و نقوش عالية الجودة و المهارة الفنية ، فقد تم تنفيذها طبقا لأفضل و أجمل قواعد مدرسة منف الفنية الأمر الذي يعكس إنتشار فناني منف نحو بعض الأقاليم المصرية خلال عصر الإنتقال الأول و بعد إنهيار السلطة المركزية طلبا فى السعي وراء الرزق و لتلبية الإحتياجات الفنية لطبقة إجتماعية جديدة
7 – لم تكن كل مقابر الأقاليم فى ذلك العصر قد نفذت رسومها و نقوشها طبقا لقواعد و مباديء مدرسة منف ، فقد منح حكام الأقاليم فى منف الفرصة لأبناء و شعب أقاليمهم لكي يضعوا سمات الفنون الإقليمية داخل مقابرهم و التى لم يكن من الممكن أن تظهر فى عصر الدولة القديمة و فى ظل وجود سلطة مركزية قوية ، و لاريب أن سمات الفن الإقليمي جاءت متواضعة إذا ما قورنت بسمات الفن الملكي لمدرسة منف
8 – إستولى حكام الأقاليم على بكرات الكتابة التى كانت محفوظة فى الأرشيف الملكي و بدأوا يسجلون متونا دينية على جدران توابيتهم ، فكانت تلك الكتابات تضمن لهم مصير أخروي طيب يضاهي مصير الملكية فى عصر الدولة القديمة . و عرفت هذه النصوص بمتون التوابيت التى لم تكن سوى تطور دينى لنصوص الأهرام ، فبدأت هذه المتون تصور الأفراد بشكل عام و حكام الأقاليم بشكل خاص فى أوضاع سياسية و دينية جديدة تتفق وأوضاعهم الإجتماعية الجديدة كما كانت هذه المتون تصور و تصف خريطة للعالم الآخر مصحوبة بنص مخصص لإرشاد المتوفى فى طرق العالم الآخر ، الأمر الذي يدل على تطور الفكر الدينى فى مصر القديمة خلال عصر الإنتقال الأول
9 – لم يعد حاكم الإقليم يشير فى مقبرته إلى فضل الملك عليه ، بل أصبح يتحدث عن سيرته الذاتية و يشير إلى شرعية حكمه كحاكم على الإقليم بفضل إلهه المحلي الذي أعطاه الصفة القانونية لممارسة سلطانه فى الإقليم ، فحاكم الإقليم لم يعتبر نفسه موظف لدى الملك و لا هو ممثل للسلطة المركزية ، و إنما هو موظف مفوض من قبل إله الإقليم ذاته ، و من هنا أصبح معبود الإقليم هو السلطان و الحاكم الحقيقي للإقليم الذي يأمر أتباعه بالعمل فى الأقاليم من أجله ، فالأمر الجديد هنا هو أن المبادرة السياسية أصبحت تأتي و لأول مرة من جانب الإله الذي حل محل الملك
10 – ظهور قبور جماعية متعددة لصغار الموظفين بجوار مقابر حكام الأقاليم ، مما يعكس وجود شخصية إجتماعية و سياسية جديدة و هى شخصية حاكم الإقليم الذي يعد أصحابه و أنصاره فى العالم الآخر بمصير أخروي جيد إن هم دفنوا بجواره ، فيتولى مسألة تموينهم بكل الخيرات و إمدادهم بجميع القرابين تماما كما كان يفعل تجاههم خلا ل حياته ، فيجعل مصيرهم مرتبط بمصيره ، فمن يضع نفسه تحت رحمته – كما جاء فى نصوص ذلك العصر – ينجو و يصل إلى طريق الأمان و السلامة ، و لعلنا هنا نشير إلى أن ذلك الطرح الجديد هو ذات المفهوم الذي إرتكزت عليه الأيدولوجية الملكية خلال عصر الدولة الوسطى
11 – إهتمام حكام الأقاليم بآلهتهم المحلية ، فقد كان ذلك هو السمة المميزة للحياة الدينية فى ذلك العصر ، فقد كان الإله ( أوزير ) على سبيل المثال محط أنظار الأقاليم التى دخلت فى صراع عسكري مسلح مع بعضها البعض ، فمن المعروف أنه كان هو الإله المحلي لمدينة أبيدوس ، التى دارت حولها المعارك فى تلك الفترة ، فقد ظهرت فكرة دينية تنادي بأن رأس المعبود أوزير دفنت فى تلك المدينة ، كما حظيت عبادته بشعبية هائلة فى ذات العصر بفضل المجهودات التى قام بها كهنة أوزير الذين قاموا بتمثيل أسطورة حياته و وفاته و إنتصاره على الموت و ذلك أمام عامة الشعب فى أبيدوس و سمح أنصاره لبعض الأهالي بالإشتراك فى تلك الإحتفالات مما ترك أثرا دينيا كبيرا فى وجدان المصريين ، الأمر الذي يشهد عليه وجود شواهد و نصب لمقابر العامة التى دونت عليها دعوات و توسلات للخروج من القبر بعد الوفاة لمشاهدة تلك الإحتفالات كما كانوا ييشاهدونها خلال حياتهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق