الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

أيدولوجيا مادة الحجر و خلق المكان المقدس بين عصري الدولة القديمة و الوسطى


بسم الله الرحمن الرحيم 

أيدولوجيا مادة الحجر و خلق المكان المقدس بين عصري الدولة القديمة و الوسطى
 بدأ عصر الدولة القديمة بإبتكار أيدولوجية ملكية جديدة سعت نحو تأطير ذاتها في دائرة الخلود و على نحو أقوى مما حدث في العصر العتيق ، فذهب أول ملوكها ( ستتجاوز هذه الدراسة إشكالية لم يتم حسمها بشكل قاطع حتى الآن حول هوية مؤسس عصر الأسرة الثالثة و الدولة القديمة ) – نتري خت – إلى إختراع ما يعرف ( بأيدولوجية الحجر ) . و مما لاريب فيه أن تشييد مثل هذا البناء الحجري الضخم ( المعروف بإسم المجموعة الجنائزية للملك نتري خت ) كان يشكل تحولا ذو معنى حضاري كبير . و بسبب ما أحدثه هذا الملك هو و مهندسه المعماري الكبير ( إيمحوتب ) من تحولات و تغيرات ذات مغزى ، ظلت ذكراه راسخة في أذهان الأجيال اللاحقة و حتى العصور المتأخرة حتى وضعت صورته من جانب الخلف كمعبود تقام له الشعار و تقدم له التقدمات . و من نافلة القول أن المصري القديم و تحت إطار مشروعه الإبستمولوجي ( المعرفي ) ذو المغزى الأيدولوجي في العصور المتأخرة ، و حينما أراد أن يجد مؤسسا لكل فعل حضاري خلاق و قديم ، إعتبر الملك ( نتري خت ) كمؤسس أول لإستخدام الحجر فأطلق لقب ( فاتح الحجر ) عليه ( ستتجاوز هذه الدراسة إشكالية أخرى تم طرحها مؤخرا حول المؤسس الأول الحقيقي لإستخدام الحجر في المنشآت الملكية و لاسيما و أن حفائر البعثة الإسكتلندية في عام 2006 في سقارة كشفت عن وجود بقايا مجموعتين جنزيتين غرب مجموعة نتري خت تم تشييدهما من الحجر و تم تأريخهما لعصر النصف الثاني من الأسرة الثانية في منطقتي جسر المدير و جسر بتاح حتب ) . كما كان من نتيجة ذلك أيضا أن صار مهندسه المعماري ( إيمحوتب ) مؤله و تم تمجيده و تقديسه في العصور المتأخرة بوصفه إبنا للمعبود ( بتاح ) .
و في واقع الأمر إن المجموعة الجنائزية للملك ( نتري خت ) كانت حلقة وصل معمارية حضارية بين التقاليد المعمارية و الفنية للعصر العتيق و ما درجت عليه الملكية فيما بعد و خلال عصر الدولة القديمة من تقاليد معمارية و دينية أخرى نشأت بفضل البذرة الأولى التي زرعت في عصر الملك ( نتري خت ) . كما لا يمكن أن نتجاهل من ناحية أخرى أن مفهوم إقامة القبر في إطار القصر الملكي الذي يحتوي على واجهة ضخمة ذات دخلات و خرجات كان قد أعلن عن نهايته معماريا في عصر ( نتري خت ) فلم نعد نشهد بعد هذا العصر أي تنفيذ عملي معماري للفكرة السابقة . و على النقيض من ذلك نجد أنه قد بدأ التنفيذ العملي لمفهوم القبر الملكي ( الهرم المدرج ) كموضع و نقطة إنطلاق للصعود نحو عالم سمائي .
و هنا يمكن لنا أن نسنتنبط مجموعة من الحقائق الهامة ترتبط بشكل وثيق ببناء مجموعة حجرية ملكية ضخمة لأول مرة و هي :
1 – إن جميع المنشآت الحجرية الموجودة في تلك المجموعة لا تكشف بالضرورة عن إستخدام فعلي لها ، بل تشير لحقيقة أيدولوجية هامة كشفت عن هاجس يؤرق الملكية و هي ( كيفية خلود الشعائر ) التي ترنو لتأطير الملكية ذاتها في دائرة الخلود الإلهي و ذلك بوصفها ملكية لا تقتصر فعاليتها على عالم الدنيا بل تمتد لعالم ما ورائي .
2 – بمقارنة مجموعة الملك ( نتري خت ) الحجرية بمنشآت أخرى تتفق معها في نفس الهدف و الوظيفة ترجع للعصر العتيق و كشف عنها في جبانة أبيدوس في منطقة شونة الزبيب ، يمكن القول بأن جميع هذه المنشآت عرفت وفقا لما ورد في حجر بالرمو و طبقا لما إتفق علماء المصريات على تسميته ( بحصون الآلهة ) . فكانت كل مجموعة جنائزية و منذ بداية العصر العتيق تعتبر موضع تجمع لآلهة مصر الكبرى الذين يعطون البيعة و الشرعية السياسية للملك الحاكم و ذلك بزيارته في قصره الملكي .
3 – تتموضع و تتمركز هذه المعبودات في القصر الملكي من خلال إنشاء مجموعة من المقاصير داخل فناء مفتوح ينتهي بجوسق ملكي يتجه له الملك في مناسبة العيد الشهير المعروف بالحب سد .
4 – تحولت هذه المقاصير الإلهية في مجموعة ( نتري خت ) من مقاصير لبنية في العصر العتيق إلى مقاصير حجرية و ذلك للتأكيد على البعد الأبدي لزيارة الآلهة للملك الحاكم و تجديد ملكيته على نحو دائم و غير منقطع .
 هل يتسنى لنا هنا أن نتحدث عن تغير جذري في أيدولوجيا الملكية مع بداية عصر الدولة القديمة ؟ .............
إن النموذج المعماري للملك ( نتري خت ) - بما يحتويه من أشكال لمنشآت حجرية رمزية ذات مغزى محدد فضلا عن وجود مناظر و كتابات تصويرية محدودة العدد تشرح بشكل مختصر الوظيفة الفعلية لهذه المجموعة – لم يكن مجرد نموذج تصويري تمثيلي لما كانت عليه المنشآت الملكية في عالم الدنيا ، بل هو شكل أبدي مبتكر لواقع ملكي يتسم بالقداسة المطلقة ، فالحجر و المناظر و الأشكال المعمارية و الكتابات التصويرية ترتبط ببعضها البعض و لأول مرة في إطار شعائري رمزي مقدس و محكم لا ينتمي لما هو مؤقت و زائل ، بل ينتمي لمحيط الآلهة التي تقع في عالم أبدي ماورائي غير منظور تجسد و تجلى في مادة حجرية منظورة و هنا يمكن إجتياز المسافة بين ما هو غير مرئي و بين ما هو مرئي و يصبح الماورائي المقدس حاضرا أبديا و منظورا في العالم المرئي .
و عند بداية الأسرة الرابعة و مع التحول الكامل ناحية الديانة الشمسية لم يعد الملك مجرد صورة مقدسة للمعبود ( حورس ) على الأرض ، و إن إحتفظ الملوك بهذه الصورة و لم يتخلوا عنها ، إلا أنه ربط مصيره و بشكل عملي بمعبود الشمس ( رع ) من خلال تشييد أهرام ضخمة و أصبح من الواضح أن الهرم لم يكن مجرد مقبرة ملكية – مثلما كشفت نصوص الأهرام عن ذلك المعنى – بل هو المكان الذي يتحد فيه الملك ب ( با ) رع بمعنى صورة أو قوة رع . فقد كان الهرم و بحجمه الضخم يرنو نحو منح الملك الوسيلة العملية للإرتقاء نحو السماء و هو نفس الهدف الأيدولوجي الذي سعى لتطبيقه ملوك الأسرة الثالثة و لكن مع تعديل بسيط و هو : إلتحام الملك التام بربه رع في العالم السماوي و ربط هذا الإندماج بمادة الحجر . و هنا يمكن لنا أن نسوق القرائن التالية للبرهنة على ما سبق :
1 – تم إعتبار كل هرم – وفقا لمتون الأهرام – أنه موضع الآخت بمعنى ( الأفق ) ، فهو المكان الفاصل الذي يقع بين السماء و الأرض في موضع مكاني بعيد لا يصل إليه إلا معبود الشمس رع . و في هذا الموضع بالتحديد يرتفع إليه إله الشمس رع كل صباح من العالم الآخر و يعود إليه مرة أخرى عند كل غروب . و مثلما يرتفع معبود الشمس رع من ( العالم الآخر ) و حتى ( الآخت ) إلى أن يصل إلى أعلى مكان في ( السماء ) ، ترتفع أيضا ( با ) الملك المتحد بربه الشمسي عن طريق ( الآخت ) فيبلغ القمة السماوية . إن إستخدام الحجر كمادة بناء خلال عصر الأسرة الثالثة و على نطاق واسع زاد من طموح الملكية فجعلها تتطلع عمليا و أيدولوجيا ناحية المصير الشمسي بشكل فعال لم يسبق له مثيل .
2 – كشفت متون الأهرام عن أن الملك لا يظل على الأرض بين الناس و لا ينبغي له أن يكون بينهم عند إنتقاله للعالم الآخر بل هو من أهل السماء و ينتمي لعالم الآلهة التي تسكن السماء فضلا عن إندماجه بمسيرة ربه ( رع ) في رحلة يومية أبدية لا تنقطع . و تجدر الإشارة هنا أن إستخدام الحجر و كتابة متون الأهرام على هذه المادة جعل من هذه النصوص ( شكلا كتابيا دينيا أبديا لا ينقطع ) لتراتيل دينية شفهية معرضة للزوال إن لم يتم حفظها على تلك المادة . و هنا نرى هذه المتون و هي تؤكد على السمة الشمسية المتأصلة في طبيعة الملك الأزلية بوصفه ( آخ ) بمعنى ( قبسا نورانيا شمسيا ) و أن الملك وحده هو الذي ينال هذه الصفة و لا ينالها إلا من تمكن من الوصول لعالم الآخت و عالم السماء فاتحد برع و بمعنى أدق أن الملك لا يتحول إلى آخ إلا من خلال منشأته الضخمة ( المقبرة و ما يتبعها من معابد ) التي شيدت من مادة الحجر
3 – إن أهرام الدولة القديمة و توجهها التام نحو الإتجاهات الكونية الأربعة تهدف لربطها بعالم السماء و إتجاهاته الكونية الأربعة و الملك هنا لا يرتبط فقط بالمصير الشمسي السابق ذكره بل يلتحم أيضا بالمصير النجمي الذي أشارت إليه متون الأهرام و من هنا تتحقق القدسية الفعلية للمقبرة الملكية ، فهذه القدسية تعتمد على الشرطين التاليين :
أ – إنعزال المنشأة ذاتها عن عالم الأحياء و دنيا الأرض و ذلك بفصلها التام عن كل ما ينتمي لعالم الدنيا فتصبح جزءا من منطقة معزولة و فريدة من نوعها .
ب – التطابق التام لإتجاهات المنشأة الأرضية مع الإتجاهات السماوية الأربعة و ذلك للتأكيد على إنتمائها لعالم السماء و نزع صفة الإنتماء الأرضي عنها .
إلا أن هذه القدسية لا تتحقق إلا من خلال المادة الحجرية ، فهي وحدها القادرة على تأبيد المعاني السابقة ، فمادة الحجر هي التي تخلق الوضع الملكي القدسي الأبدي و لا إنفكاك بينهما .
و هنا يتبين للباحث أن المكان المقدس في مصر ( بلاغا سماويا ) و هو في ذات الوقت المكان الذي يسيطر فيه ( زمن السماء ) ، فتشييد المكان المقدس يحتاج لزمن سماوي مقدس يتسم بالإنتظام و الأبدية و عدم الإنقطاع ، فزمن السماء المقدس هو الذي يحقق الأبدية و لا تتحقق هذه الأبدية الزمانية و المكانية إلا من خلال الوسيط و هو مادة الحجر التي تقاوم كل ما ينتمي للعالم المؤقت و الزائل .
و ترتبط سياسة بناء الأماكن المقدسة ( مقابر أو معابد ) في عالم مصر بالملكية و هو ما نستشفه من النصوص التي دونت في عصر الدولة الوسطى و الحديثة و لا سيما عند تأسيس المعبد حيث تقول الآلهة للملك عند إقامة شعائر تشييد المعبد :
" مثلما يرقد نصبك على قواعده و مثلما ترقد السماء على ركائزها سيدوم عملك للأبد و ستصبح سنواته ( سنوات المنشأة ) هي سنوات الآخت ، فلن يقع عليه ( على المنشأة ) أي دمار "
نستشف من هذا النص السابق أن زمن المنشأة المقدسة ( مقبرة أو معبد ) هو زمن السماء – و لا سيما عندما نقرأ عبارة : و ستصبح سنوات المنشأة هي سنوات الآخت ( الأفق ) – إلا أن الملك في عصر الدولة القديمة لا يظهر فقط كمجرد صاحب منشأة مقدسة ( و هي هنا المقبرة الملكية الحجرية ) بل كساكن في المكان المقدس و هو أقدس الأماكن على الإطلاق و لا سيما في ذلك العصر ، حيث لم تكن المعابد المحلية الإقليمية الإلهية في عصر الدولة القديمة تتسم بنفس القداسة و لا سيما و أن معظمها في ذلك العصر لم يكن في إطار مكاني منعزل عن عالم الأحياء و لم تكن إتجاهاته تطابق الأبعاد السماوية و لم تكن تشيد من مادة الحجر فهي مساكن صغيرة الحجم من الطوب اللبن إقتصرت على تقدمات القرابين للآلهة بغرض تحقيق منافع دنيوية و لا تحتوي على أي بلاغ سماوي و لا تصور السماء     على الأرض .
إلا أن أيدولوجية ( المكان المقدس ) تغيرت جذريا خلال عصر الدولة الوسطى ، فألزمت الملكية ذاتها بسياسة جديدة نحو معابد الآلهة و ذلك بتحويلها إلى ( أماكن مقدسة ) ، فنقرأ على سبيل المثال نص الملك ( سنوسرت الأول ) الذي كشف فيه عن تلك السياسة الجديدة و لا سيما تجاه معبد الإله ( آتوم ) في ( هليوبوليس ) فقال و هو يخاطب مستشاريه :
" أنظروا ! إن جلالتي قد صمم على إقامة بناء أبدي لأبي رع حور آختي الذي إصطفاني قبل ولادتي و لقد تجليت على الأرض كحورس لكي أضع القرابين للآلهة و لكي أتمم عمل أبي آتوم و ذلك لكي أجعله غنيا ( أي يجعل معبد آتوم غنيا بالقرابين ) بعدما جعلني أقبض على السلطة . أنا أريد أن أشيد بيتي على أرضه و حتى يتذكر هو كمالي في بيته ، فالأهرام هي إسمي و البحيرة المقدسة هي مكان ذاكرتي ، أما عن أبدية ( نحيح ) فهي دوام البركة و الملك الذي يسمى بأعماله لا يموت و الذكرى التي وضعها و خطط لها لا يمكن أن تضمحل و لذلك فهو يسمى دائما بإسمه لأن أبدية ( جت ) لا يمكن أن تأفل "
يتبين لنا من هذه المقتطفات الخاصة بنص الملك سنوسرت الأول مجموعة من النتائج الهامة و هي :
1 – أن سياسة إقامة المعابد لآلهة في عصر الدولة الوسطى كانت بسبب مدح المعبودات التي وهبت السلطة الملكية للحكام فكان لزاما عليهم أن يوجهوا الشكر الثناء لهم بإقامة معابدهم و تقديم القرابين لهم مما يعني أنه نوع من توجيه العرفان و التقدير لهم
2 – يتحدث النص عن معبد الملك سنوسرت المكرس لأبيه آتوم بوصفه بيتا للملك نفسه تارة ، و بوصفه بيتا لآتوم تارة أخرى مما يعكس مفهوم تلاشي أي فرق بين معبد الملك و معبد الإله ، فالمكان المقدس في عصر الدولة الوسطى ( و هو المعبد ) يهدف لإدماج الملك مع المعبود في بوتقة واحدة بينما كان المكان المقدس في عصر الدولة القديمة ( و هو المقبرة الملكية ) يهدف لذات الهدف و لكن في منشأة الملك و ليس في منشأة الإله .
3 – و عندما يقول أن الأهرام هي إسمي فهو يشير صراحة لمفهوم المكان المقدس و المعروف منذ عصر الدولة القديمة و الذي يرنو لخلق ذكرى أبدية لا تنتهي ، فما حققته الأهرام من خلود لأصحابها في زمن سالف تواصل تحقيقه في زمن الملك سنوسرت و لا سيما عندما يقول أن هذه المنشآت هي إسمه أي أن إسمه لن يزول على الإطلاق من الذاكرة
4 – أما عن البحيرة المقدسة التي وصفت بأنها مكان ذاكرته فهي تعني خلق مكان آخر لذكرى الملك بعمله لبحيرة إلهية داخل معبد الإله .
5 – أما عن أبدية نحيح التي ورد ذكرها فهي كلمة تدل على المسيرة الشمسية اليومية التي لا تنقطع في عالم السماء و التي تحدد الزمن ، فالزمن هنا هو الزمن السماوي المقدس الذي يتحد به الملك في معبد أبيه آتوم و لا يخفى على القاريء أن تواجد و حضور هذه المسيرة الشمسية الأبدية  داخل المعبد يعني أن إتجاهات المعبد الشمسي في عصر الدولة الوسطى أصبحت مطابقة لإتجاهات السماء الكونية الأربعة .
6 – أما عن أبدية جت التي ورد ذكرها في النص فهي تشير لخلق و بناء المكان المقدس ( معبد الإله ) و الذي يمنح إسما لا يزول لصاحبه و ذلك المكان يقع في إطار معزول عن عالم الأحياء
يتبين لنا مما تقدم أن ما حققته الأهرام بوصفها مقابر ملكية في عصر الدولة القديمة حققته كذلك المعابد الإلهية المحلية في عصر الدولة الوسطى مع الوضع في الإعتبار أن معابد ذلك العصر بدأ الملوك في تشييدها من الحجر بدلا من الطوب اللبن و ذلك لمنحها صفات ( المكان المقدس – جت ) و ( الزمان المقدس – نحيح ) و ( خلق ذكرى أبدية لصاحبها ) فلا يموت إسمه أبدا .   
بسم الله الرحمن الرحيم

 بدأ عصر الدولة القديمة بإبتكار أيدولوجية ملكية جديدة سعت نحو تأطير ذاتها في دائرة الخلود و على نحو أقوى مما حدث في العصر العتيق ، فذهب أول ملوكها ( ستتجاوز هذه الدراسة إشكالية لم يتم حسمها بشكل قاطع حتى الآن حول هوية مؤسس عصر الأسرة الثالثة و الدولة القديمة ) – نتري خت – إلى إختراع ما يعرف ( بأيدولوجية الحجر ) . و مما لاريب فيه أن تشييد مثل هذا البناء الحجري الضخم ( المعروف بإسم المجموعة الجنائزية للملك نتري خت ) كان يشكل تحولا ذو معنى حضاري كبير . و بسبب ما أحدثه هذا الملك هو و مهندسه المعماري الكبير ( إيمحوتب ) من تحولات و تغيرات ذات مغزى ، ظلت ذكراه راسخة في أذهان الأجيال اللاحقة و حتى العصور المتأخرة حتى وضعت صورته من جانب الخلف كمعبود تقام له الشعار و تقدم له التقدمات . و من نافلة القول أن المصري القديم و تحت إطار مشروعه الإبستمولوجي ( المعرفي ) ذو المغزى الأيدولوجي في العصور المتأخرة ، و حينما أراد أن يجد مؤسسا لكل فعل حضاري خلاق و قديم ، إعتبر الملك ( نتري خت ) كمؤسس أول لإستخدام الحجر فأطلق لقب ( فاتح الحجر ) عليه ( ستتجاوز هذه الدراسة إشكالية أخرى تم طرحها مؤخرا حول المؤسس الأول الحقيقي لإستخدام الحجر في المنشآت الملكية و لاسيما و أن حفائر البعثة الإسكتلندية في عام 2006 في سقارة كشفت عن وجود بقايا مجموعتين جنزيتين غرب مجموعة نتري خت تم تشييدهما من الحجر و تم تأريخهما لعصر النصف الثاني من الأسرة الثانية في منطقتي جسر المدير و جسر بتاح حتب ) . كما كان من نتيجة ذلك أيضا أن صار مهندسه المعماري ( إيمحوتب ) مؤله و تم تمجيده و تقديسه في العصور المتأخرة بوصفه إبنا للمعبود ( بتاح ) .
و في واقع الأمر إن المجموعة الجنائزية للملك ( نتري خت ) كانت حلقة وصل معمارية حضارية بين التقاليد المعمارية و الفنية للعصر العتيق و ما درجت عليه الملكية فيما بعد و خلال عصر الدولة القديمة من تقاليد معمارية و دينية أخرى نشأت بفضل البذرة الأولى التي زرعت في عصر الملك ( نتري خت ) . كما لا يمكن أن نتجاهل من ناحية أخرى أن مفهوم إقامة القبر في إطار القصر الملكي الذي يحتوي على واجهة ضخمة ذات دخلات و خرجات كان قد أعلن عن نهايته معماريا في عصر ( نتري خت ) فلم نعد نشهد بعد هذا العصر أي تنفيذ عملي معماري للفكرة السابقة . و على النقيض من ذلك نجد أنه قد بدأ التنفيذ العملي لمفهوم القبر الملكي ( الهرم المدرج ) كموضع و نقطة إنطلاق للصعود نحو عالم سمائي .
و هنا يمكن لنا أن نسنتنبط مجموعة من الحقائق الهامة ترتبط بشكل وثيق ببناء مجموعة حجرية ملكية ضخمة لأول مرة و هي :
1 – إن جميع المنشآت الحجرية الموجودة في تلك المجموعة لا تكشف بالضرورة عن إستخدام فعلي لها ، بل تشير لحقيقة أيدولوجية هامة كشفت عن هاجس يؤرق الملكية و هي ( كيفية خلود الشعائر ) التي ترنو لتأطير الملكية ذاتها في دائرة الخلود الإلهي و ذلك بوصفها ملكية لا تقتصر فعاليتها على عالم الدنيا بل تمتد لعالم ما ورائي .
2 – بمقارنة مجموعة الملك ( نتري خت ) الحجرية بمنشآت أخرى تتفق معها في نفس الهدف و الوظيفة ترجع للعصر العتيق و كشف عنها في جبانة أبيدوس في منطقة شونة الزبيب ، يمكن القول بأن جميع هذه المنشآت عرفت وفقا لما ورد في حجر بالرمو و طبقا لما إتفق علماء المصريات على تسميته ( بحصون الآلهة ) . فكانت كل مجموعة جنائزية و منذ بداية العصر العتيق تعتبر موضع تجمع لآلهة مصر الكبرى الذين يعطون البيعة و الشرعية السياسية للملك الحاكم و ذلك بزيارته في قصره الملكي .
3 – تتموضع و تتمركز هذه المعبودات في القصر الملكي من خلال إنشاء مجموعة من المقاصير داخل فناء مفتوح ينتهي بجوسق ملكي يتجه له الملك في مناسبة العيد الشهير المعروف بالحب سد .
4 – تحولت هذه المقاصير الإلهية في مجموعة ( نتري خت ) من مقاصير لبنية في العصر العتيق إلى مقاصير حجرية و ذلك للتأكيد على البعد الأبدي لزيارة الآلهة للملك الحاكم و تجديد ملكيته على نحو دائم و غير منقطع .
 هل يتسنى لنا هنا أن نتحدث عن تغير جذري في أيدولوجيا الملكية مع بداية عصر الدولة القديمة ؟ .............
إن النموذج المعماري للملك ( نتري خت ) - بما يحتويه من أشكال لمنشآت حجرية رمزية ذات مغزى محدد فضلا عن وجود مناظر و كتابات تصويرية محدودة العدد تشرح بشكل مختصر الوظيفة الفعلية لهذه المجموعة – لم يكن مجرد نموذج تصويري تمثيلي لما كانت عليه المنشآت الملكية في عالم الدنيا ، بل هو شكل أبدي مبتكر لواقع ملكي يتسم بالقداسة المطلقة ، فالحجر و المناظر و الأشكال المعمارية و الكتابات التصويرية ترتبط ببعضها البعض و لأول مرة في إطار شعائري رمزي مقدس و محكم لا ينتمي لما هو مؤقت و زائل ، بل ينتمي لمحيط الآلهة التي تقع في عالم أبدي ماورائي غير منظور تجسد و تجلى في مادة حجرية منظورة و هنا يمكن إجتياز المسافة بين ما هو غير مرئي و بين ما هو مرئي و يصبح الماورائي المقدس حاضرا أبديا و منظورا في العالم المرئي .
و عند بداية الأسرة الرابعة و مع التحول الكامل ناحية الديانة الشمسية لم يعد الملك مجرد صورة مقدسة للمعبود ( حورس ) على الأرض ، و إن إحتفظ الملوك بهذه الصورة و لم يتخلوا عنها ، إلا أنه ربط مصيره و بشكل عملي بمعبود الشمس ( رع ) من خلال تشييد أهرام ضخمة و أصبح من الواضح أن الهرم لم يكن مجرد مقبرة ملكية – مثلما كشفت نصوص الأهرام عن ذلك المعنى – بل هو المكان الذي يتحد فيه الملك ب ( با ) رع بمعنى صورة أو قوة رع . فقد كان الهرم و بحجمه الضخم يرنو نحو منح الملك الوسيلة العملية للإرتقاء نحو السماء و هو نفس الهدف الأيدولوجي الذي سعى لتطبيقه ملوك الأسرة الثالثة و لكن مع تعديل بسيط و هو : إلتحام الملك التام بربه رع في العالم السماوي و ربط هذا الإندماج بمادة الحجر . و هنا يمكن لنا أن نسوق القرائن التالية للبرهنة على ما سبق :
1 – تم إعتبار كل هرم – وفقا لمتون الأهرام – أنه موضع الآخت بمعنى ( الأفق ) ، فهو المكان الفاصل الذي يقع بين السماء و الأرض في موضع مكاني بعيد لا يصل إليه إلا معبود الشمس رع . و في هذا الموضع بالتحديد يرتفع إليه إله الشمس رع كل صباح من العالم الآخر و يعود إليه مرة أخرى عند كل غروب . و مثلما يرتفع معبود الشمس رع من ( العالم الآخر ) و حتى ( الآخت ) إلى أن يصل إلى أعلى مكان في ( السماء ) ، ترتفع أيضا ( با ) الملك المتحد بربه الشمسي عن طريق ( الآخت ) فيبلغ القمة السماوية . إن إستخدام الحجر كمادة بناء خلال عصر الأسرة الثالثة و على نطاق واسع زاد من طموح الملكية فجعلها تتطلع عمليا و أيدولوجيا ناحية المصير الشمسي بشكل فعال لم يسبق له مثيل .
2 – كشفت متون الأهرام عن أن الملك لا يظل على الأرض بين الناس و لا ينبغي له أن يكون بينهم عند إنتقاله للعالم الآخر بل هو من أهل السماء و ينتمي لعالم الآلهة التي تسكن السماء فضلا عن إندماجه بمسيرة ربه ( رع ) في رحلة يومية أبدية لا تنقطع . و تجدر الإشارة هنا أن إستخدام الحجر و كتابة متون الأهرام على هذه المادة جعل من هذه النصوص ( شكلا كتابيا دينيا أبديا لا ينقطع ) لتراتيل دينية شفهية معرضة للزوال إن لم يتم حفظها على تلك المادة . و هنا نرى هذه المتون و هي تؤكد على السمة الشمسية المتأصلة في طبيعة الملك الأزلية بوصفه ( آخ ) بمعنى ( قبسا نورانيا شمسيا ) و أن الملك وحده هو الذي ينال هذه الصفة و لا ينالها إلا من تمكن من الوصول لعالم الآخت و عالم السماء فاتحد برع و بمعنى أدق أن الملك لا يتحول إلى آخ إلا من خلال منشأته الضخمة ( المقبرة و ما يتبعها من معابد ) التي شيدت من مادة الحجر
3 – إن أهرام الدولة القديمة و توجهها التام نحو الإتجاهات الكونية الأربعة تهدف لربطها بعالم السماء و إتجاهاته الكونية الأربعة و الملك هنا لا يرتبط فقط بالمصير الشمسي السابق ذكره بل يلتحم أيضا بالمصير النجمي الذي أشارت إليه متون الأهرام و من هنا تتحقق القدسية الفعلية للمقبرة الملكية ، فهذه القدسية تعتمد على الشرطين التاليين :
أ – إنعزال المنشأة ذاتها عن عالم الأحياء و دنيا الأرض و ذلك بفصلها التام عن كل ما ينتمي لعالم الدنيا فتصبح جزءا من منطقة معزولة و فريدة من نوعها .
ب – التطابق التام لإتجاهات المنشأة الأرضية مع الإتجاهات السماوية الأربعة و ذلك للتأكيد على إنتمائها لعالم السماء و نزع صفة الإنتماء الأرضي عنها .
إلا أن هذه القدسية لا تتحقق إلا من خلال المادة الحجرية ، فهي وحدها القادرة على تأبيد المعاني السابقة ، فمادة الحجر هي التي تخلق الوضع الملكي القدسي الأبدي و لا إنفكاك بينهما .
و هنا يتبين للباحث أن المكان المقدس في مصر ( بلاغا سماويا ) و هو في ذات الوقت المكان الذي يسيطر فيه ( زمن السماء ) ، فتشييد المكان المقدس يحتاج لزمن سماوي مقدس يتسم بالإنتظام و الأبدية و عدم الإنقطاع ، فزمن السماء المقدس هو الذي يحقق الأبدية و لا تتحقق هذه الأبدية الزمانية و المكانية إلا من خلال الوسيط و هو مادة الحجر التي تقاوم كل ما ينتمي للعالم المؤقت و الزائل .
و ترتبط سياسة بناء الأماكن المقدسة ( مقابر أو معابد ) في عالم مصر بالملكية و هو ما نستشفه من النصوص التي دونت في عصر الدولة الوسطى و الحديثة و لا سيما عند تأسيس المعبد حيث تقول الآلهة للملك عند إقامة شعائر تشييد المعبد :
" مثلما يرقد نصبك على قواعده و مثلما ترقد السماء على ركائزها سيدوم عملك للأبد و ستصبح سنواته ( سنوات المنشأة ) هي سنوات الآخت ، فلن يقع عليه ( على المنشأة ) أي دمار "
نستشف من هذا النص السابق أن زمن المنشأة المقدسة ( مقبرة أو معبد ) هو زمن السماء – و لا سيما عندما نقرأ عبارة : و ستصبح سنوات المنشأة هي سنوات الآخت ( الأفق ) – إلا أن الملك في عصر الدولة القديمة لا يظهر فقط كمجرد صاحب منشأة مقدسة ( و هي هنا المقبرة الملكية الحجرية ) بل كساكن في المكان المقدس و هو أقدس الأماكن على الإطلاق و لا سيما في ذلك العصر ، حيث لم تكن المعابد المحلية الإقليمية الإلهية في عصر الدولة القديمة تتسم بنفس القداسة و لا سيما و أن معظمها في ذلك العصر لم يكن في إطار مكاني منعزل عن عالم الأحياء و لم تكن إتجاهاته تطابق الأبعاد السماوية و لم تكن تشيد من مادة الحجر فهي مساكن صغيرة الحجم من الطوب اللبن إقتصرت على تقدمات القرابين للآلهة بغرض تحقيق منافع دنيوية و لا تحتوي على أي بلاغ سماوي و لا تصور السماء     على الأرض .
إلا أن أيدولوجية ( المكان المقدس ) تغيرت جذريا خلال عصر الدولة الوسطى ، فألزمت الملكية ذاتها بسياسة جديدة نحو معابد الآلهة و ذلك بتحويلها إلى ( أماكن مقدسة ) ، فنقرأ على سبيل المثال نص الملك ( سنوسرت الأول ) الذي كشف فيه عن تلك السياسة الجديدة و لا سيما تجاه معبد الإله ( آتوم ) في ( هليوبوليس ) فقال و هو يخاطب مستشاريه :
" أنظروا ! إن جلالتي قد صمم على إقامة بناء أبدي لأبي رع حور آختي الذي إصطفاني قبل ولادتي و لقد تجليت على الأرض كحورس لكي أضع القرابين للآلهة و لكي أتمم عمل أبي آتوم و ذلك لكي أجعله غنيا ( أي يجعل معبد آتوم غنيا بالقرابين ) بعدما جعلني أقبض على السلطة . أنا أريد أن أشيد بيتي على أرضه و حتى يتذكر هو كمالي في بيته ، فالأهرام هي إسمي و البحيرة المقدسة هي مكان ذاكرتي ، أما عن أبدية ( نحيح ) فهي دوام البركة و الملك الذي يسمى بأعماله لا يموت و الذكرى التي وضعها و خطط لها لا يمكن أن تضمحل و لذلك فهو يسمى دائما بإسمه لأن أبدية ( جت ) لا يمكن أن تأفل "
يتبين لنا من هذه المقتطفات الخاصة بنص الملك سنوسرت الأول مجموعة من النتائج الهامة و هي :
1 – أن سياسة إقامة المعابد لآلهة في عصر الدولة الوسطى كانت بسبب مدح المعبودات التي وهبت السلطة الملكية للحكام فكان لزاما عليهم أن يوجهوا الشكر الثناء لهم بإقامة معابدهم و تقديم القرابين لهم مما يعني أنه نوع من توجيه العرفان و التقدير لهم
2 – يتحدث النص عن معبد الملك سنوسرت المكرس لأبيه آتوم بوصفه بيتا للملك نفسه تارة ، و بوصفه بيتا لآتوم تارة أخرى مما يعكس مفهوم تلاشي أي فرق بين معبد الملك و معبد الإله ، فالمكان المقدس في عصر الدولة الوسطى ( و هو المعبد ) يهدف لإدماج الملك مع المعبود في بوتقة واحدة بينما كان المكان المقدس في عصر الدولة القديمة ( و هو المقبرة الملكية ) يهدف لذات الهدف و لكن في منشأة الملك و ليس في منشأة الإله .
3 – و عندما يقول أن الأهرام هي إسمي فهو يشير صراحة لمفهوم المكان المقدس و المعروف منذ عصر الدولة القديمة و الذي يرنو لخلق ذكرى أبدية لا تنتهي ، فما حققته الأهرام من خلود لأصحابها في زمن سالف تواصل تحقيقه في زمن الملك سنوسرت و لا سيما عندما يقول أن هذه المنشآت هي إسمه أي أن إسمه لن يزول على الإطلاق من الذاكرة
4 – أما عن البحيرة المقدسة التي وصفت بأنها مكان ذاكرته فهي تعني خلق مكان آخر لذكرى الملك بعمله لبحيرة إلهية داخل معبد الإله .
5 – أما عن أبدية نحيح التي ورد ذكرها فهي كلمة تدل على المسيرة الشمسية اليومية التي لا تنقطع في عالم السماء و التي تحدد الزمن ، فالزمن هنا هو الزمن السماوي المقدس الذي يتحد به الملك في معبد أبيه آتوم و لا يخفى على القاريء أن تواجد و حضور هذه المسيرة الشمسية الأبدية  داخل المعبد يعني أن إتجاهات المعبد الشمسي في عصر الدولة الوسطى أصبحت مطابقة لإتجاهات السماء الكونية الأربعة .
6 – أما عن أبدية جت التي ورد ذكرها في النص فهي تشير لخلق و بناء المكان المقدس ( معبد الإله ) و الذي يمنح إسما لا يزول لصاحبه و ذلك المكان يقع في إطار معزول عن عالم الأحياء
يتبين لنا مما تقدم أن ما حققته الأهرام بوصفها مقابر ملكية في عصر الدولة القديمة حققته كذلك المعابد الإلهية المحلية في عصر الدولة الوسطى مع الوضع في الإعتبار أن معابد ذلك العصر بدأ الملوك في تشييدها من الحجر بدلا من الطوب اللبن و ذلك لمنحها صفات ( المكان المقدس – جت ) و ( الزمان المقدس – نحيح ) و ( خلق ذكرى أبدية لصاحبها ) فلا يموت إسمه أبدا .  

الخميس، 25 أكتوبر 2012

عيد اضحى مبارك

بسم الله الرحمن الرحيم

كل عام و جميع الزملاء و الزميلات بخير
 و يتمنى صاحب المدونة للجميع أن يحققوا أمانيهم و أحلامهم
 و أن نعمل سويا لرفعة شأن هذا الوطن العزيز على قلوبنا جميعا

قراءة تحليلية موجزة لنص الشاعر ( خع خبرر سنب ) في عصر الدولة الوسطى


بسم الله الرحمن الرحيم 

قراءة تحليلية موجزة لنص الشاعر ( خع خبرر سنب ) في عصر الدولة الوسطى .......................................................................................................................................................... يتناول هذا المقال الموجز قراءة تحليلية لنص أحد الشعراء المشهورين في عصر الدولة الوسطى و الذي سعى قدر الإمكان و وفقا لمعايير و معطيات عصره أن يتملص من التراث الكتابي المتداول في عصره و لاسيما بعد أن بلغ هذا التراث أقصى درجات الإحترام و التبجيل من جانب الرأي العام المصري خلال الدولة الوسطى و هو ما يمكن لنا أن نستشفه و بشكل غير مباشر من النص ذاته . إن نص الشاعر ( خع خبرر سنب ) يتناول إحدى إشكاليات مفهوم الحضارة الكتابية ، حيث يظهر النص في الحضارة الكتابية في باديء الأمر كصورة تعمل تثبت الموروث الشفهي في شكل نص مكتوب فهنا يتحول النص من ( صوت ) إلى ( كتابة ) ثم يتحول ( النص المكتوب ) مع الوقت إلى نص ( ذو سلطة ) لا تفرض نفسها من تلقاء ذاتها على الناس ، بل هي سلطة مضافة على النص من جانب أصحاب التراث ( التيار المحافظ ) و الذي يقوم بخلق ( سلطة للنص التراثي ) على الجماهير . و عندما يتقادم زمن ( النص التراثي المكتوب ) تصبح له ( قيمة قدسية ) تعصى على التجاوز أو التجاهل أو النقد و هنا يصل النص التراثي المكتوب إلى ( مرحلته النهائية ) و مع كل قراءة جديدة أو نسخ جديد ( للنص التراثي المكتوب الذي بلغ مرحلته النهائية ) لا يتعدى الأمر عن مجرد تكرار النص ذاته ، فالمعيار هنا ليس بتغير الشكل اللغوي و التعبيرات المستخدمة في النص ، بل فيما يقدمه من معلومات و أشياء جديدة .
يبدأ نص الشاعر ( خع خبرر سنب ) بطرح هذه الإشكالية قائلا :
" يا ليتني أملك عبارات و جمل لم يعرفها أحد قط ، ياليتني أملك أحاديث غريبة و كلام جديد لم يسبق لأحد أن قاله ، ياليتني أمتلك ناصية الكلام و ليس مجرد أقاويل موروثة قالها الآباء و الأجداد و إني أعصر جسدي و أعصر كل ما بداخله و أطلق له الحرية من أسر كلماتي ، فكل ما قيل من قبل يعد تكرارا ، و لا يقال اليوم إلا ما قيل من قبل ، هنا لا يتكلم إنسان تكلم من قبل بل يخاطبكم هنا إنسان يريد أن يتكلم لأول مرة و على الآخرين أن يجدوا و يكتشفوا بماذا سيردون عليه ، و هذا ليس حديثا يقول عنه الآخرون بعد ذلك : لقد قالوه في زمن سالف و أنا هنا أقول لكم : إن كل ما قيل هو تقليد لما قيل في الماضي أما أنا فيا ليتني كنت أعرف ما لا يعرفه الآخرون و يا ليتني كنت أعرف ما لا يعتبر تكرارا "
  يمكن للدارس أن يتبين مجموعة من الحقائق الهامة و هي :
1 – تعتبر هذه القصيدة بمثابة شكوى قاسية لصاحبها في عصر الدولة الوسطى من الضغط الشديد للتراث الكتابي الذي بلغ مرحلة عليا من القوة و الذيوع مما جعل الخروج على نوعية هذا التراث أمرا عسيرا بالنسبه لصاحب النص .
2 – يستشعر مؤلف القصيدة أن التراث ( أو النص التراثي المكتوب الذي بلغ مرحلة من القوة و الذيوع ) شيء خارجي ، و شيء غريب عنه ، بل هو شيء ضخم و عملاق ، لا قبل للمؤلف به ، و لذا فهو هنا يقف في حالة يأس أمام مهمة كبيرة و شاقة تتمثل في كيفية إيجاد الشرعية و القوة لكلامه و هو في مواجهة هذا التراث الضخم العملاق و أن يقدم كلامه أمام هذا التراث على أنه شيء جديد مبتكر و خاص به هو ( خاص بالمؤلف ) .
3 – يسعى المؤلف بكل ما أوتي من قوة تعبيرية بلاغية أن يتملص مما قاله الأسلاف ( و ذلك على النقيض من التيار الفكري المحافظ و المهيمن في عصره و الذي يزهو دائما بما قاله الأسلاف ) و أن يجد لنفسه حالة من التميز الفكري و الإستقلال الفردي عن كل ما قيل في السابق ، فهل يمكن لنا هنا أن نتحدث عن محاولة لصاحبها لإحداث  قطيعة معرفية مع الماضي ؟
4 – لأول مرة نجد نصا في الحضارة المصرية القديمة و لاسيما في عصر الدولة الوسطى يستخدم فيه صاحبه كلمته المكتوبة لكي يرى نفسه من الخارج و هو في مواجهة مع التراث فهو هنا لا يسعى لكي يكون إبن عصره بل صانع عصره و هذه هي رسالته و يا لها من رسالة شاقة ! فهو يشعر بأنه معتمد و بشكل كامل على دخائل نفسه لكي يتمكن أن يثبت ذاته أمام هذا التراث الضخم و العملاق .
و هنا نطرح تساؤل هام : هل كان الشاعر ( خع خبرر سنب ) يمثل نفسه فقط في مواجهة تراث الماضي ذو السلطة القوية أم هو صوت لتيار فكري محدود العدد في عصر الدولة الوسطى لا يمتلك القدرة على مواجهة التيار المحافظ الأقوى تأثيرا و الأكثر عددا ؟
و يستمر ( خع خبرر سنب ) في مخاطبة نفسه أمام الرأي العام و الجماهير قائلا :
" يا قلبي ، تعال كي أقول لك حديثي ، تعال لكي تجيبني عن سؤالي و لكي تحكي لي عن ماذا يدور في بلادي "
و هنا يسعى كاتب النص لكي يظهر نفسه أمام الجماهير كشاعر معذب بكلماته و لا نبالغ إذا إعتبرناه أول من إقتحم تاريخ الأدب في الحضارات القديمة بوصفه شاعرا معذبا بما يكتب و يقول و أن الألم الذي يعتصره يكمن في الوحدة التي تلازم عملية الكتابة ، فالكاتب في وحدته مع نفسه و حيث يتحدث مع قلبه ، ينبغي له " أن يعصر نفسه من الداخل " – على حد وصفه – لكي يستطيع أن يضمن لذاته البقاء في مواجهة تراث الماضي الضخم ، و ذلك بالإتيان بشيء جديد و بالأخص شيء من إبداعه هو .
إن الإشكاليات المضمرة التي يثيرها صاحب هذا النص لا تتمثل فقط فيما سبق تناوله ، بل تكمن أيضا فيما يمكن وصفه  تحت مسميات ( المسافة المتاحة لحرية الكاتب ) و ( تحرر الكاتب من قيود التراث ) بحيث يتمكن ذلك الكاتب من النظر للتراث ( نظرة نقدية ) ، فهو يسعى لكي يجعل لذاته إسهام في تراث الماضي ، و لكنه إسهاما جديدا و غريبا لم يأت به أحد من قبل و أن يجعل منه حديثا غير مسموع من ذي قبل في مواجهة التراث المألوف و المعهود منذ القدم فكلماته نفسها تقول :
" هي أغاني لم يقم أحد بغنائها من قبلي و أحاديث غريبة و كلام جديد لم يسبق لأحد أن قاله ، هو كلام خال من التكرار " و تلك هي رسالة " خع خبرر سنب " في عصر الدولة الوسطى .   

عيد اضحى مبارك

بسم الله الرحمن الرحيم

الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

ظاهرة الحكم الديني للإله بين نهاية عصر الرعامسة و بداية عصر الإنتقال الثالث


بسم الله الرحمن الرحيم 

ظاهرة الحكم الديني للإله بين نهاية عصر الرعامسة و بداية عصر الإنتقال الثالث

إن مفهوم الحكم الديني الثيوقراطي كان قد تم تناوله بشكل مسهب و تفصيلي لأول مرة في تاريخ الحضارات البشرية القديمة من جانب المؤرخ اليهودي ( فلاسيفوس يوسيفوس ) حيث تناول فيه مفهوم ( الدستور اليهودي ) المؤسس على فكرة العهد الإلهي : فالشعب إختار لنفسه ( يهوه ) ملكا كما أن ( يهوه ) إصطفى لنفسه إسرائيل كشعب له . و هنا يمكن القول أن السلطة الحكومية لا تتم ممارستها إلا من جانب الكهنة على شكل وكالة و إتفاق مع الإله ، فيصبح الإله وفقا لهذا المنظور بوصفه السلطان الحقيقي و الفعلي الذي يفرض رغبته و إرادته من خلال قراراته الإلهية على شعبه ، و طالما لا يظهر الكهنة في هذه الحالة كحكام ، فيمكن تسمية هذا النوع من ممارسة السلطة بإسم ( الحكم الديني التطابقي ) حيث يظهر الإله و هو يحكم بنفسه و ليس هناك حاكم يمثله على الأرض ، بل هو الإله و الحاكم في ذات الوقت . أما عن الكهنة الذين يمارسون عمليا الحكم يعتبرون أنفسهم خدما ينفذون أوامر الإله و لا شيء آخر سوى ذلك ، و بمعنى أدق يظهر الإله في الحكم الديني التطابقي كصاحب سلطة تشريعية و قضائية أما الكهنة فهم أصحاب السلطة التنفيذية .
و ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة يختلف عن الحالة التالية و هي :
إذا ظهر الكاهن كحاكم و ممثل فعلي للإله على الأرض فإن هذا النوع من الحكم يسمى ( بالحكم الديني التمثيلي ) فالكاهن هنا يمثل سلطة الإله على الأرض و هو صورته الحية و المقدسة و لذلك يتفق الدارس مع الرأي الذي ينادي بأن السلطة الملكية في الحضارة المصرية القديمة إعتمدت في شكلها الكلاسيكي و في مراحل متعددة من التاريخ المصري القديم على مبدأ ( الحكم الديني التمثيلي ) فالملك يظهر بوصفه الكاهن الأكبر لجميع المعبودات – على أقل تقدير نظريا - و هو في ذات الوقت الصورة المقدسة للإله الأكبر على الأرض فضلا عن كينونته كإبن لهذا المعبود .
و برغم إتفاق الدارس مع الأطروحات السابقة ، إلا أنه يمكن التأكيد على وجود شكل آخر من ممارسة الحكم عرفته الحضارة المصرية القديمة و كان يتوسط مفهومي ( الحكم الديني التطابقي ) و ( الحكم الديني التمثيلي ) و هو ( نموذج الحكم المشترك ) ، فالملك لا يتجسد في الإله الحاكم ( الحكم التطابقي ) كما أنه لا يمثله ( الحكم التمثيلي ) بل يحكمان سويا في ذات الوقت كأب و كإبن و هو النموذج الذي تحقق في عصر العمارنة حيث قام الملك إخناتون بوضع إسم ربه ( آتون ) في خرطوش ملكي و منحه لقب ( الأب ) و أصبح الإله شريكا كبيرا في الملكية المصرية ، فالملك و أبيه آتون يقومان بالحكم سويا و لا أحد يعرفة رغبة آتون سوى إبنه – على حد وصف الملك – و لهذا السبب قام إخناتون بإلغاء منصب كبير الكهنة بل لم يعد للمؤسسة الكهنوتية أي دور فعلي في الديانة الآتونية ، فقد كان إخناتون يقوم بدور كاهن الإله و لا أحد يمثله في هذا المنصب ( إلا الكاهن المعروف بإسم مري رع و في حالات الضرورة القصوى ) و لذلك كان الملك عمليا يحكم و يمارس سلطته بمفرده .
أما عن النظام السياسي الذي قام بتحقيقه الكاهن الأكبر لآمون رع – حريحور – في نهاية عصر الأسرة العشرين هو الأقرب نوعا ما من النظام الديني اليهودي ( الحكم الديني التطابقي ) – و لا يهدف الباحث هنا لعمل مقارنات منهجية بين حالة تاريخية و أخرى - و لكن إذا كان حريحور قد إتخذ لنفسه لقب ملك مصر العليا و السفلى إلا أنه يمكن التأكيد على الحقائق الهامة التالية :
1 – هبط حريحور بمشروع ملكيته إلى درجة الكاهن أو الخادم الفعلي لآمون دون أن يمارس سلطة ملكية فعلية على البلاد .
  2 – لم تتعدى ملكية حريحور نطاق معابد الكرنك ( معبد خونسو و صالة الأعمدة الكبرى ) فعندما تم الكشف عن آثار له خارج معابد الكرنك لم يرافق إسمه لقب الملك .
3 – إحتفظ حريحور بلقب الكاهن ( الخادم ) لآمون فضلا عن إتخاذه لقب كبير الكهنة في ألقابه الملكية .
 بينما يرى البعض الآخر من الباحثين أن حريحور كان يهدف لإحداث إستقلال سياسي عن ملكية تانيس في الشمال مما ينتج عنه الإستئثار بالسلطة الإقتصادية لمعابد آمون ، إلا أن معظم الدارسين يتفقون حول الأمر التالي : أن حريحور لم يقم بتطبيق مفهوم الحكم الديني التمثيلي فهو لا يمثل صورة المعبود آمون على الأرض ، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف لظهور دولة الإله آمون في طيبة في نهاية الأسرة عشرين والأسرة الحادية و العشرين ، فكان كبار كهان آمون خلال الأسرة الحادية و العشرين يعتبرون أنفسهم خدما و ليسوا حكاما لسلطة الإله و لذلك يمكن القول بأنهم تبنوا مفهوم الحكم الديني التطابقي .
ما هي الدوافع التي جعلت حريحور يتجه نحو الحكم الديني التطابقي خلال نهاية الأسرة عشرين ؟
مما لاريب فيه أن الدوافع كانت سياسية و دينية في ذات الوقت و لا يمكن الحديث عن تلك الخطوة التي قام بها حريحور إلا من خلال مراجعة الموقف التاريخي و السياق السياسي للملكية المصرية في عصر الرعامسة . فالملكية المصرية خلال عصر الرعامسة نسجت صيغ دينية سياسية تجاه المعبود آمون و وضعت الملك بوصفه – الفقير الذي وضع الإله في قلبه و قام بخدمته بإخلاص ، فالملك في عصر الرعامسة يظهر في صورة الحاكم التقي و الورع تجاه الإله – آمون – و الذي يسعى لتنفيذ إرادته مما يؤكد مفهوم التدين الملكي خلال ذلك العصر . إلا أننا نرى من جانب آخر إتجاه سياسي ديني ملكي في نصوص الرعامسة يختلف جذريا عن الإتجاه الأول ، حيث يظهر الملك فيه بوصفه إله مطلق " و كل ما ينطق به جلالته ينفذ في الحال " – على حد تعبير النصوص الملكية لعصر الرعامسة – " و لا يمكن أن يكون هناك خطأ فيما يقول جلالته " ، فالملك طبقا لذلك الإتجاه المعاكس يظهر في صورة العالم بكل شيء و العارف بكل ما يحدث في البلاد و القادر على الإتيان بالخوارق ، فضلا عن الألقاب الملكية الرنانة للرعامسة و التي زادت بشكل واضح ، الأمر الذي يؤكد وجود إتجاهين معاكسين و متناقضين لبعضهما البعض ، فملكية الرعامسة تظهر متعالية و متواضعة في آن واحد ! و من هنا قام كبير كهنة آمون في نهاية الأسرة عشرين بإحداث قطيعة معرفية مع مفهوم الملكية المتعالية و التي لا تتناسب – طبقا لأيدولوجية كهنة طيبة – مع مفهوم الإله الخالق و المدبر لأمر كل شيء في الوجود و الذي يقوم بإلهام أتباعه بما ينبغي لهم أن يصنعوه مع فكرة الملكية المتعالية العارفة بكل ما هو في الوجود و القادرة على عمل المعجزات ، و لذلك نجد حريحور و قد تجاهل تماما مفهوم الملكية المتعالية للرعامسة و حافظ على مفهوم الملكية المطيعة الخادمة للإله و المنفذة لجميع أوامره ، فالملكية طبقا لخطاب كهنة طيبة بحاجة إلى خدم و أتباع منفذين لأوامر المعبود و مطيعين له و من هنا قام بوضع السلطة الملكية الفعلية تحت سطوة السلطة في يد الإله ، فتحول آمون رع لكي يتخذ لقب ملك مصر العليا و السفلى ، فهو الحاكم الحقيقي للبلاد ، فالملكية هنا تعود لصاحبها الأول الذي قام بتأسيسها في بدء الزمان ( آمون رع ) و ذلك وفقا للمنظور الأسطوري لكهنة طيبة خلال عصر الدولة الحديثة .
إن الحاجة لإبراز آمون رع كملك مصر العليا و السفلى خلال نهاية عصر الرعامسة توافقت مع الأهداف العملية الأيدولوجية لظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي التي تصاعدت و تيرتها من جانب كهنة آمون في طيبة فقاموا بإعطاء الفرصة لعامة الشعب لكي يستفتوا الإرادة الإلهية لآمون خلال أعياده الكبرى في مدينة طيبة ، فظهر آمون رع من خلال هذه الظاهرة الدينية كحاكم على مدينته بل و على مصر بأكملها و بذلك يتحقق مفهوم الحكم الديني التطابقي . و في واقع الأمر إن ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي التي كانت تمارس في طيبة و خلال الأعياد الكبرى لا تعني التخاطب الإلهي المباشر مع عامة الشعب ، فالإله في مصر لا يتكلم طالما كان متواجدا خارج المعبد خلال مجريات الأعياد ، بل تظهر رغبته و إرادته بواسطة حركاته الموكبية و التي كان القوم يفهم منها بصورة غير مباشرة على أنها  ( مقولة أو رغبة أو قرار إلهي ) ، فالإله يظهر عمليا في موضع من يتخذ القرار بالإيجاب أو السلب من خلال حركة الموكب الخاصة به و هنا ينبغي لنا أن نؤكد على نتيجة هامة تتمثل فيما يلي :
" إن ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي لآمون رع لا ينبغي فهمها على أنها خديعة يقوم بها الكهنة لتضليل من حولهم ، فهذه الظاهرة هي نوع من أنواع العرض المسرحي ، إلا أن ذلك لا يعني عرض خادع و إنما يجب فهمه في سياق يختص بالأعياد المصرية القديمة فالعيد و كل ما يتعلق به من عروض لا يتسم بالخداع أو التضليل بل هو إخراج مسرحي لإستحضار الإله الذي يشارك الناس في حياتهم و يحكم عليهم و يتدخل في شئونهم مع الوضع الإعتبار أن تلك الظاهرة هي تلبية لحاجة نفسية إجتماعية أنثروبولوجية ( إنسانية ) شعبية في المقام الأول و الأخير . و بمعنى أدق كانت مواكب الأعياد الآمونية تعتبر إحتفالات لسلطة الدولة الدينية التي أدت في نهاية الأمر لخلق دولة الإله و الحكم الديني التطابقي في مدينة طيبة ، فكان الإله هو الحاكم الذي يمارس سلطته على شعبه بنفسه كما أن عامة الشعب يحتاج و يشتاق لرؤية الإله في موكبه لكي يتواصل معه و لا معنى للأعياد دون هذه الظاهرة الدينية الشعبية " .
إن تصاعد الوتيرة الخاصة بظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي في نهاية عصر الرعامسة في مدينة طيبة أدى إلى زيادة ظاهرة الورع الشعبي خلال عصر الإنتقال الثالث كما ساهم في إضفاء صفات أخرى على آمون رع من جانب كهنته خلال ذلك العصر ، فنجد على سبيل المثال نصوص تلك الفترة و هي تشير إليه بوصفه :
" أول الآلهة الذي إنحدرت منه أوائل الآلهة ، فهو الإله الواحد الذي جعل من نفسه الملايين و هو الذي خلق الأرض في البداية ، و لا أحد يعرف كيف كانت ولادته الأولى و غني بتجسداته و أشكاله التي لا يعرف أحد أصلها و هو الشمس في شروقها و غروبها الذي بدأ النشأة قبل أن ينشأ أحد و يعبر السماء دون عناء و يجوب العالم الآخر و يضيء عالم الدنيا و العالم الآخر من أجل مخلوقاته "
يتبين لنا من هذا النص مجموعة من الحقائق الهامة و هي :
1 – أن الإله ( آمون ) هو الأصل الأول و الأقدم الذي نتج عنه كل شيء ، فاحتوي في داخله جميع الموجودات و المخلوقات المتعددة في العالم و هو الأصل الحقيقي لجميع الظواهر الطبيعية و البيئية التي تحدث في البلاد
2 – أن سيطرة آمون على ما في الوجود لا تقتصر على عالم الدنيا بل تمتد للعالم الآخر و لاريب أن تأكيد هذا الأمر من جانب كهنة آمون يرجح إلى حد كبير وجود تيار فكري آخر أنكر مفهوم سيطرته على العالم الآخر مما جعل أنصاره يردون على هذه المقولة المعاكسة بوضعه كمعبود ذو قدرة تمتد لماوراء عالم الدنيا .
3 – إن عبارة " فهو الإله الواحد الذي جعل من نفسه الملايين " تعكس أن مفهوم التوحيد الذي كان قد أشرق على مصر في عصر العمارنة لم ينتهي تأثيره بمجرد الزوال الزمني لذلك العصر ، فقد ظلت هذه الفكرة تطرح نفسها و بقوة مما حدا بكهنة آمون أن يحافظوا عليها طوال عصر الرعامسة و ذلك بإستغلالها أيدولوجيا و تحويلها لصالح معبودهم آمون الذي حل محل آتون كإله أوحد مع الوضع في الإعتبار أن أتباع آمون لم يلغوا على الإطلاق فعالية المعبودات الأخرى كما فعل الملك ( إخناتون ) ، فآمون و كما يصفه النص فهو " أول الآلهة الذي إنحدرت منه الآلهة الأوائل "
ولاشك أن ظهور مثل هذا النص و مثله من النصوص الأخرى قد ساهم إلى حد كبير في صياغة مذهب الخلق في طيبة الذي ظهر فيه آمون كأصل أول للوجود و كحاكم على البلاد منذ الأزل بداية من عصر الإنتقال الثالث ( أنظر مقال سابق للدارس عن مذهب الخلق في طيبة في ملفات الجروبات التالية : صالون ماعت الحضاري و اكتشف مصر و أ.أحمد فهيم ) .
و لم يكتفي أنصار آمون بما خلعوه من صفات على ربهم فقالوا عنه في نصوص عصر الإنتقال الثالث :
" غني بعينيه و كبير بأذنيه و هو سيد الحياة الذي يهبها لمن يشاء و العليم بكل ما في الأرض و السماء ، يأمر فتستجاب أوامره دون إعتراض ذو إسم وديع و حبه يملأ القلوب و ينقذ الضعيف من يد القوي و هو عنيف و مفزع و كبير القوة و كل إله هو تحت رحمته و هو ثور فتي يصد الغاضبين و قوي الذراع بضرب أعدائه و هو الإله الذي أنشأ البلد بمشيئته و الغائب الحاضر و المقدس الذي لا يعرفه أحد و هو الملك الذي خلق الملوك و يسجد الآلهة و الآلهات أمام سلطته و ذلك لخشوعهم العظيم له "
و هنا يمكن للدارس أن يستشف هذه النتيجة الهامة وهي :
أن الإله ( آمون ) لا يمثل فقط سلطة كونية على عالم الدنيا و العالم الآخر ، بل هو الكائن العارف و العالم بكل شيء و الحاكم و الآمر و المعاقب و المنقذ و مؤسس الملكية و الذي يسجد له جميع المعبودات و كل ذلك ينسب له في آن واحد . و لذلك يستنتج الباحث أن الحكم الديني التطابقي لآمون رع كان قد بلغ الذروة في بداية عصر الإنتقال الثالث فكان هو الحاكم الفعلي للبلاد و للكون بأسره ( أسطوريا ) من وجهة نظر أنصاره في طيبة .
و إستكمالا لما تقدم نجد نفس النص السابق يشير إلى مايلي :
" هو ( آمون ) سري التجسدات التي لا يعرفها أحد و الذي إختفى عن كل الآلهة و يغيب مثل الشمس التي لا يمكن معرفتها و يقضي الإنسان يومه بالنظر إليه فلا يشبع من ذلك و عند طلوع الفجر تصلي له كل الوجوه و هيئته تصلح لكل إله و هو الذي يصدر أوامره لملايين السنين دون أن ترتجف يداه و أوامره مؤثرة و لا يمكن أن يخفق في شيئ و هو الذي يهب العمر و يضاعف سنينه لكل من كان تحت رحمته و نعمته و هو الذي يستجيب لمن يناديه و هو ملك مصر العليا و السفلى آمون رع ملك الآلهة و هو أقوى و أسمى و أعظم و أقدم من جميع الآلهة  " .
نلاحظ من تلك الفقرة الأخيرة أن الإله ( آمون ) رغم خفائه ( فهو إختفى عن كل الآلهة و تجسداته لا يعرفها أحد – مثلما يشير النص ) إلا أنه حاضر ( فعند طلوع الفجر تصلي له كل الوجوه ) و هذا يعني أنه وفقا لأيدولوجية كهنة طيبة أنه حاضر بإختفائه و أن وحي هذا المعبود ينجلي و يظهر بواسطة إحتجابه و خفائه عن الجميع فضلا عن ذلك يسعى أنصاره لكي يجعلوا من هيئته شكلا صالحا لجميع الآلهة ( و هيئته تصلح لكل إله ) الأمر الذي يعني أن آمون يحتوي في داخله جميع الآلهة فهي التي إنبثقت و إنحدرت منه كما نجد في هذا السياق الملكية الفعلية لآمون رع و سيطرته على مصر العليا و السفلى كحاكم أوحد للبلاد مما يعكس إنتقال سمات الملكية المصرية ( التي لم تعد تمنح الثقة و الفعالية لكهنة طيبة في نهاية عصر الرعامسة ) إلى ذات المعبود ( آمون ) و بعدما كان الملك هو الممثل للإله على الأرض ( الحكم الديني التمثيلي ) أصبح الإله هو الملك الفعلي للبلاد ( الحكم الديني التطابقي ) فتحول الحكم الديني من صفة التمثيل إلى صفة التطابق مع إنتقال الملكية من الملوك إلى آمون في نهاية عصر الرعامسة و بداية عصر الإنتقال الثالث وفقا لأنصار آمون في طيبة الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف لإنشاء دولة الإله ذات الطابع الديني في طيبة كدولة داخل الدولة .
إن مفهوم ( حكم الإله ) لم يكن أمرا جديدا عرفته مصر لأول مرة خلال نهاية عصر الرعامسة ، بل يميل الدارس إلى تقبل الرأي الذي ينادي بوجود إرهاصات أولى لتلك الفكرة منذ عصر العمارنة فهل من الممكن عقد مقارنة بين هذين العصرين حول المفهوم السابق ؟ و ما هي أوجه الشبه و الإختلاف بين حكم الإله في عصر العمارنة و حكم الإله في عصر الرعامسة ؟
نتفق في باديء الأمر أنه من المفيد أن نقارن بين بعض الفقرات التي وردت في نشيد العمارنة و بين بعض ما ورد في النص السابق لكي نلمس أوجه الشبه الواضحة بين العصرين حول مفهوم ( حكم الإله  )  فكلاهما أي دولة الإله في طيبة و آتون في العمارنة ، يشتركان في سمة الحكم الديني للمعبود ، فآتون في العمارنة يشترك مع الملك الحاكم في حكم البلاد و يأخذ سمات الملكية فينسب له الملك ألقابا ملكية و يضع له الصل الملكي و يعتبره شريكا معه في حكم المملكة المصرية ( نموذج الحكم المشترك بين الأب و الإبن ) فأتون هو الإله الخالق الذي أوجد كل شيء و هو المسئول الأوحد الذي كلف نفسه بالحفاظ على الكون وفقا لخطاب العمارنة الملكي فهو هنا يتشابه مع خطاب طيبة في صفة الإله الخالق و الحافظ للكون مع الوضع في الإعتبار أن دين العمارنة لا يعترف على الإطلاق بوجود آلهة أخرى تشارك آتون في عملية الخلق أو الحفاظ على الكون بما فيه من مخلوقات و ذلك على النقيض من دين طيبة في عصر الرعامسة الذي يعترف بوجود الآلهة الآخرين و لو أنه يضع آمون طيبة في صورة مرتفعة و متفوقة و بارزة و مهيمنة على جميع المعبودات الأخرى بوصفه إله المنشأ و الأصل الأوحد في بدء الزمان و الذي أوجد الآلهة الآخرى في مرحلة زمنية لاحقة .
كما نلاحظ من ناحية أخرى أن إله العمارنة يخلو من الملامح الشخصية الواضحة ، فليست له قصة تحكي عن كيفية نشأته الأولى و هو لا يتسم بصفة الخفاء التي يتمتع بها نظيره الطيبي كما لا يتحكم في مصائر و حياة الأفراد و لا ينقذ الضعيف من يد القوي و لا يأمر بشيء و لا وجود لظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي لإله العمارنة فهو إله صامت لا يتحدث لأحد و لا يعرف أحد رغبته سوى إبنه ( الملك إخناتون ) و ذلك على النقيض تماما من إله طيبة الذي تميز بسمات مناهضة و معاكسة لإله العمارنة . و لكن السمة المشتركة بين آمون طيبة و آتون العمارنة في نشيد إخناتون و النص الطيبي السابق هو ( إشراقة إله الشمس ) و إبراز الفارق بين حضور الإله و إختفائه فنقرأ على سبيل المثال في نشيد العمارنة :
" إن شعاعك يضيء الأرض بالرغم من بعدك ، و لا يمكن معرفة مسيرتك بالرغم من أنك في وجوههم "
فهنا نرى فكرة الخلابة تنادي بأن الإله بالرغم من وجوده البارز و الكامل و الشامل إلا أنه أكثر بعدا و أكثر إختفاءا فنص العمارنة يصف الإله بالبعد و بغموض مسيرته الشمسية بالرغم من حضوره البارز في الكون و هو هنا يشترك في نفس الصفة مع آمون طيبة الحاضر بإختفائه كما تقدم ذكره . ولاشك أن الدارس لتاريخ الديانة الشمسية في عصر الدولة الحديثة يكتشف أن دين العمارنة منبثق بأفكاره و مفاهيمه من ديانة الشمس التي ظهرت بشكل متطور مع بدايات عصر الدولة الحديثة ( عصر ما قبل العمارنة ) إلا أن أفكار العمارنة لم تختفي بنهاية ذلك العصر بل إندمجت و تطورت و إنصهرت في دين طيبة في عصر الرعامسة بعدما إنتحل الإله الطيبي لنفسه سمات الإله الآتوني و زاد عليه أنصاره صفات أخرى .
و هناك سمة أخرى متشابهة نلمحها بين آتون العمارنة و آمون طيبة فنقرأ في فقرة أخرى من نشيد العمارنة :
 " إنك خالق ملايين التجسدات أيها الواحد الأحد : مدنا و قرى و حقولا و طرقا و أنهارا "
و هذه الفقرة تعكس أن عملية الخلق لا تنشأ من لاشيء و إنما هي من صنع الإله و هي تشير أيضا إلى فكرة هامة و هي : أن نور الشمس هو الذي يخلق الكائنات فما يقع عليه الضياء الشمسي فهو كائن مخلوق و ذلك لأن النور عندما يلامس أي كائن يجعله مرئيا و يمنحه شكلا معين و هذا هو مفهوم الإله الخالق في العمارنة و هي ذات الفكرة التي وجدت في آمون طيبة في عصر الرعامسة كما نلاحظ من النص الطيبي الذي سبق تناوله إلا أن كهنة آمون طوروا تلك الفكرة السابقة و جعلوا آمون رع ( با ) = ( روح ) العالم ، فالعالم هو جسده و الجسد يحيا بواسطة الروح ( البا ) ، فلا يحيا هذا العالم دون وجود آمون رع ( البا ) فيه . و لم يكن تعبير ( البا ) موجود في عصر العمارنة نظرا لأنه لا يتوافق و لا يتناسب مع خطاب العمارنة الملكي  بل ظهر في عصر الرعامسة كخطة دينية أيدولوجية من جانب كهنة آمون لإبراز العلاقة بين الإله و العالم .
أما التشابه الآخر الذي نلمسه بين خطاب العمارنة و خطاب طيبة يتمثل في علاقة الإله بعمر الإنسان . فقد جاء في العمارنة :
" إذا ظهرت ( آتون ) فسيعيشون ( البشر )
و إذا إختفيت ( آتون ) فسيموتون
فأنت نفسك هو الزمن الذي يعيش به و بواسطته الإنسان "
كما جاء في طيبة :
" هو الذي يهب العمر و يضاعف السنين لكل من كان تحت نعمته و رحمته "
و هنا يظهر الفارق بينهما بوضوح ، فبالرغم من إشتراكهما في خلق الزمن و منح الحياة للبشر إلا أن الإله الطيبي يهب هذا الزمن لمن هو تحت رحمته و نعمته فالحياة و العمر التي يهبهما آمون مشروطتان بمن يضع نفسه تحت رحمته و لا وجود لذلك في العمارنة .
يتبين لنا مما تقدم أن مفهوم حكم الإله للعالم بأكمله بالرغم من وجوده البارز في نهاية عصر الرعامسة وبداية عصر الإنتقال الثالث إلا أن بواكيره الأولى تمتد لعصر العمارنة و ما قبله - بدايات الدولة الحديثة - و أن المعبود الحاكم للعالم يستمد هذه الصفة من قدرته على الخلق و المحافظة على النظام الكوني و التحكم في جميع مظاهر الطبيعة و الكون و وهب العمر للإنسان و ما إلى ذلك من سمات أخرى سبق ذكرها .

الأربعاء، 10 أكتوبر 2012

معركة قادش فيديو


بسم الله الرحمن الرحيم 

معركة قادش 
أ/احمد فهيم 








تم رفع الفيديو بواسطة الاستاذ احمد سعد 

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

المفهوم الشعبي و الكهنوتي للألوهية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة


بسم الله الرحمن الرحيم



المفهوم الشعبي و الكهنوتي للألوهية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة ..........................................................................................................................................................ظهر مفهوم الإله في عصر الرعامسة و هو يحتل سمات الملكية بمفهومها الذي كانت قد روجت له منذ عصر الدولة الوسطى ، فالإله في عصر الرعامسة هو ( أب لليتامى ) و ( زوج للأرامل ) و ( ملجأ للمكروبين ) و ( نصير الفقراء ) فهو الذي يقوم بإنقاذ البؤساء ممن هم أقوى منهم . و من جانب آخر ظهر الفرد المتدين في عصر الرعامسة بوصفه فقيرا و ضعيفا مما يجعله في حاجة ماسة لحماية الإله بصرف النظر عن مكانته الإجتماعية الحقيقية فلا ينبغي إضفاء صفة الصدق المطلق لأصحاب نصوص الأدعية التي يتوجهون من خلالها لأربابهم و لذلك فقد ظهرت عبارات دينية بعد عصر العمارنة تكشف صراحة عن أن أصحابها يبحثون عن مفهوم ( حماية الإله ) فقط و ليست هذه الحماية يمكن طلبها أو توجيهها لأحد آخر في عالم الدنيا ، فنقرأ على سبيل المثال في نصوص ذلك العصر :
" لم أبحث عن حام لي بين الناس ، فالإله ( آمون ) – و في نصوص أخرى ترجع لذات العصر ( بتاح ) – هو حاميني "
يتضح لنا من هذه العبارة و ما شابهها من عبارات أخرى مماثلة لها ظهرت في نفس العصر أن الفرد المتدين لم يعد يتحدث عن ( ماعت ) و لم يعد يضع ثقته في ( ماعت ) و لا سيما خلال عصر الرعامسة فمما لاريب فيه أن المحقق لدور ماعت التاريخي في حضارة مصر قبل ذلك العصر يكتشف أنها العمل الذي كان يوحي به دائما قلب الإنسان ، فلا عمل طيب دون فكرة نابعة من القلب و لا قلب دون أن يمتليء بالماعت ، فالعمل الطيب هو فعل منبثق من القلب المليء بماعت ، فكانت هذه هي الرسالة الحضارية طوال عصر الدولة الوسطى و حتى ما قبل عصر العمارنة ، إلا أن ( ماعت ) في نصوص الرعامسة و لاسيما في مدينة طيبة تكاد تختفي تماما و لا وجود لها في ذهنية كهنة و شعب مدينة طيبة إلا فيما ندر و لذلك يتجه المرء في طيبة لعالم الآلهة كبديل لمفهوم الماعت التي تأثرت كثيرا من أضرار السياسة الملكية للعمارنة .
لم يعد الخلاص يتحقق بتطبيق ماعت التي كانت تعمل على وضع الفرد المتدين في مساره الصحيح ، بل أصبح الخلاص مرتبطا بالخضوع لإرادة الإله و من هنا ينبغي للفرد أن يثق في حمايته له تماما مثلما كانت تنادي النصوص المصرية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة طائفة من الناس الذين وصفتهم بأنهم " الذين يضعون أنفسهم في يد الإله " إلا أن الدارس يود أن يؤكد على حقيقة هامة و هي : إن وضع الفرد المتدين لذاته في يد الإله الذي يتولى رعايته و حمايته كان أمرا معروفا منذ بدايات عصر الأسرة الثامنة عشرة و لاسيما في مدينة طيبة فهناك بواكير و إرهاصات أولى لذلك المفهوم منذ تلك الفترة و لكن هذا المفهوم بلغ الذروة القصوى في عصر الرعامسة فلا يكاد يخلو نص من تلك الفكرة .
ما هي القرائن التي تؤكد على ذلك المفهوم ؟ ....... من الدلائل التي نسوقها على صحة النتائج السابقة هو ما ورد في اللوحة الخشبية للموظف ( آمون إم إيبت ) المحفوظة حاليا في متحف برلين ( رقم 6910 ) و الذي تم دفنه في دير المدينة و كان قد عاش في عصر الملك سيتي الأول ، حيث يقول هذا الموظف في لوحته :
" كم هو جميل الجلوس بين يدي آمون حامي الصامتين و منقذ الفقراء و الذي يرشده – يرشد صاحب اللوحة – إلى عمر طويل في غرب طيبة ، النعيم لمن وصل الغرب لكي يكون سعيدا بين يدي الإله " .
من الممكن أن نستقي بعض الملاحظات الهامة من هذا النص الأخير تتمثل فيما يلي :
1 – لا وجود لمفهوم الماعت التي ينبغي العمل بها في عالم الدنيا لكي ترافق صاحبها في العالم الآخر .
2 – لا حديث عن الملك أو الملكية التي تتحكم في مصير الفرد المتدين في العالم الآخر ، فصاحب اللوحة أو المقبرة ليس من المطلوب منه أن يضع الملك في قلبه أو يجلس بين يديه و إنما يسعى للجلوس بين يدي آمون لكي يحظى بنعيم عالم الغرب .
3 – أن المعبود ( آمون ) و ليس ( أوزير ) و لا سيما في مدينة طيبة بالنسبة لعدد كبير من أهلها ، هو الذي يرشد المتوفى إلى عمر طويل في غرب طيبة ، فالغرب في طيبة بالنسبة له يقع تحت السيطرة الحصرية لآمون و هنا لا وجود لعالم آخر أوزيري و لا حديث عن محكمة أخروية أوزيرية و لا وجود للقب ( ماع خرو ) بمعنى صادق الصوت و هو اللقب الذي حاز عليه أوزير في العالم الآخر بعد تبرئته في المحكمة الأخروية .
و لكي تصبح الصورة الدينية الشعبية الكهنوتية أكثر وضوحا و قوة في مدينة طيبة نستشهد بقرينة أخرى وردت في قبر الموظف – كيكي – في غرب طيبة في عصر الرعامسة ، حيث قام هذا الموظف بتسليم كل ممتلكاته إلى الإلهة ( موت ) و جعلها الإلهة الوحيدة الحامية له خلال حياته فضلا عن رعايتها له بعد مماته فنقرأ في قبره ما يؤكد صحة الإستنتاجات السابقة :
" و عندما قام هو بالتفكير مع نفسه – صاحب القبر – عسى أن يجد له وليا ، وجد ( موت ) على قمة الآلهة ، و كان المصير و النجاح بيدها ، و الحياة و الهواء تحت تصرفها ، و كل ما يحدث لا يحدث إلا بأمرها " ثم قال " أريد أن أضع كل ممتلكاتي تحت يديها فهي قد أخذت مني الخوف و حمتني ساعة العوز ( الفقر ) و أنا ضعيف في أرضها و أحد الفقراء الذين يحجون لمدينتها ( معبدها و كل ما يتعلق به ) و لم أتخذ من البشر أحدا لحمايتي و لم أبحث بين الكبار عن ولي يحميني و لم أجد إبنا لي ينظم عملية دفني ، فمسألة دفني هي رهينة بيدي ( موت ) و من يتخذ ( موت ) حامية له فلا يوجد إله يهاجمه و لا يمسه أي سوء و سيصبح سيد القبر و لا يعرف الموت "
يتضح لنا من هذا النص الأخير نتائج هامة تتمثل فيما يلي :
1 – إن الحديث عن إتخاذ إله أو إلهة كولي و كحامي و كملجأ للفرد المتدين لا ينبغي فهمه بالشكل المجازي و لا سيما في عصر الرعامسة ، فالفرد المتدين عندما يسمي الإله أو الإلهة أب أو أم له فهو كذلك في عالمه الحقيقي و هو هنا يؤكد على هذه الأبوة أو الأمومة الإلهية عندما يعترف و يقر بها في النص ، فالإله في عصر الرعامسة أصبح بالنسبة لشرائح متعددة من مجتمع طيبة وليا و سيدا و حاميا للفرد المتدين و لا سيما عندما يقول في النص " لم أتخذ من البشر أحدا لحمايتي و لم أبحث بين الكبار عن و لي يحميني "
2 – تحول مفهوم التدين الشعبي و الكهنوتي نحو الإله و تحل هنا إرادة الإله محل مفهوم ماعت ، فلم تعد ماعت تلعب الدور الرئيسي في العالم الآخر بالنسبة لهذه الشرائح من المجتمع الطيبي و لم تظهر ماعت بوصفها تهبط لعالمه الأخروي حتى يسعد بها مثلما كانت النصوص تؤكد على ذلك المفهوم من قبل .
3 – يكفي صاحب المقبرة أن يتخذ من موت حامية له حتى لا يهاجمه أي إله آخر ، فالمعبودة ( موت ) بالنسبة له هي التي تحميه في عالمه الدنيوي و الأخروي و لا حديث هنا عن ( آمون ) أو ( رع ) أو ( أوزير ) أو أي إله آخر الأمر الذي يكشف عن حقيقة هامة : أن بعض شرائح المجتمع الطيبي في عصر الرعامسة لم يعبر عن إيمانه بأن هذه الآلهة الأخرى كان لها سلطان عليها في عالمها الدنيوي و الأخروي مما يشير إلى نتيجة أخرى :
" أن الإيمان بدور هذه المعبودات الأخرى لم يكن حقيقة أو حتمية ثقافية مطلقة و ملزمة للجميع ، بل هي حقيقة نسبية و لم تكن كل الأفكار التي تتعلق بمعبود بعينه ملزمة إلزاما حتميا بالتصديق و الإيمان بالنسبة لفئات أخرى من المجتمع "
4 – يختفي هنا من هذا النص مفهوم الملكية التي كانت موجودة قبل عصر الرعامسة بوصفها المتحكمة في سعادة الفرد في عالمه الدنيوي و المتحكمة و المهيمنة على مصيره الأخروي فلا حديث عن الملك الحاكم في مدينة طيبة عند هؤلاء الأفراد في عصر الرعامسة لا في عالم الدنيا و لا في العالم الآخر .
5 – لا يتحدث صاحب المقبرة عن عن إنجازاته في عالم الدنيا التي جعلته مؤهلا لكي ينال الخلاص في عالمه الأخروي و لا يشير إلى أنه قام بإطعام الجائع أو أنه منح الجعة أو الشراب لمن لا يملك أو أنه أعطى تابوتا لمن لا تابوت له أو أنه قام برعاية الأرامل أو الفقراء و لا يتحدث عن محكمة المعبود أوزير التي من المفترض أن يلقاها عندما لعالم الغرب الأخروي ، فكل ما سبق لا وجود له في نص هذه المقبرة ، بل يكتفي بالتعبير عن ورعه و تقواه و ثقته التي وضعها في يدي الإلهة ( موت ) التي إتخذها ولية و حامية وحيدة و لا أحد سواها في عالمه الدنيوي و الأخروي " فمن يتخذها حامية له " مثلما يقول " ليس هناك إله آخر يهاجمه " .
6 – وصف المتوفى نفسه بأنه " أحد الفقراء الذين يحجون لمدينتها و أنها قامت بحمايته في ساعة العوز ( الفقر ) " و هنا لا ينبغي أن نأخذ بحرفية النص الذي يزعم صاحبه أنه كان فقيرا مما إستوجب حمايتها له في ساعة العوز ، فمثل هذه النصوص تركز على أمر آخر و هو " كلما كان الفرد المتدين فقيرا كلما إشتدت حاجته الماسه لموت التي تحميه من أضرار و عواقب الفقر ، بصرف النظر عن مكانته الإجتماعية الحقيقية فلا علاقة بذلك بوضع الإنسان الإجتماعي الفعلي في عالم الدنيا و الدليل على ذلك أنه يقول في سياق آخر " أريد أن أضع كل ممتلكاتي في يدي الإلهة موت " ، مما يعني وجود ممتلكات لصاحب القبر و هو الأمر الذي يتعارض مع مفهوم الفقر المطلق إذا ما تم إدراك النص بظاهره و حرفيته .
و لكن و برغم ما تقدم من معطيات و نتائج يطرحها صاحب هذه الدراسة إلا أنه يلقي الضوء على حقيقة أخرى :
" أن إتجاه الورع و التدين الشعبي نحو آمون كان أكثر عمقا و إنتشارا من التيار الفكري الذي أعلن عن ولائه و تدينه نحو الإلهة موت في عصر الرعامسة في مدينة طيبة حيث وجهت الدعوات و الأمنيات و التراتيل له أكثر مما وجهت لقرينته موت ، فنقرأ على سبيل المثال في اللوحة الخشبية للموظف ( آمون إم إيبت ) :
" لقد مكثت بالأمس و اليوم في يد آمون و قد شعرت بالنجاة و بقوة خطته و من يتخذ لنفسه وليا بين الناس تفشل خططه ، أما أنا فقد جعلني آمون منحدرا منه و به وجدت الخير "
و مما لاريب فيه أن جميع هذه النصوص الدينية التي عبرت عن ورع و تقوى أصحابها تجاه آمون في طيبة كشفت عن مفهوم ( تدخل الإله آمون في حياة الناس و مصائرهم ) فالإله ( و لاسيما آمون ) هو من يعمل تاريخيا في حياة البشر ( مجتمع طيبة ) و هو الذي يرشدهم نحو درب الخير و الخلاص ، و هو الأمر الذي مهد تدريجيا نحو بزوغ مفهوم ( دولة الإله آمون في طيبة ) في نهاية عصر الرعامسة فقد تكونت في نهاية الأسرة عشرين في مدينة طيبة دولة إلهية يتصدرها المعبود آمون الذي صار يحكم بين الناس من خلال ما يعرف بظاهرة ( العرافة و النبوءة و الوحي ) و هي الظاهرة المجتمعية الشعبية الكهنوتية التي كانت معروفة قبل عصر الرعامسة و زاد تأثيرها الديني فيما بعد ، حيث كان يخرج موكب آمون المقدس من الكرنك خلال الأعياد و المناسبات الإلهية ، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور نتيجة أنثروبولوجية ثقافية هامة و هي :
" بعدما كان الملك الحاكم هو الصورة المقدسة للإله على الأرض أصبح الإله ( و لاسيما آمون ) هو الملك الذي يحكم بين الناس في نهاية عصر الرعامسة مما نتج عنه ظهور دولة الإله في طيبة على هيئة و شكل ( الحكم الديني المباشر لآمون ) من خلال ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي "
و تزامن ذلك كله مع إنحلال السلطة الملكية للرعامسة في نهاية الأسرة عشرين و بداية إنتقال مصر لمرحلة تاريخية جديدة و هي عصر الإنتقال الثالث الذي تميز باللامركزية و عدم وجود سلطة ملكية موحدة في البلاد و تأكيدا على المفهوم السابق طرحه نقرأ على سبيل المثال في نصوص تلك الفترة :
" قوي هو ( آمون ) في حكمه أقوى من سخمت ، كالنار في العاصفة و هو الذي يقوم بإمداد و تموين كل من يعبده و هو الذي يشفي من الألم و يرى كل الناس و يسمع الملايين منهم و هو الذي يمضي في السماء و يجوب العالم الآخر لكي يضيء كلا العالمين من أجل مخلوقاته و هو آمون رع ( ملك مصر العليا و السفلى ) و هو الذي يهب العمر و يضاعف السنين لكل من كان تحت رحمته و نعمته "
يتضح لنا مما تقدم أن أحد الدوافع الرئيسية وراء ظهور و تنامي و إزدياد ظاهرة الورع الشعبي و الكهنوتي نحو المعبود آمون في طيبة في عصر الرعامسة هو الممارسة المجتمعية الدينية لخروج مواكب آمون المقدسة التي كانت تتجه إما للبر الغربي في عيد الوادي الجميل أو إلى معبد الأقصر في عيد الأوبت ، فتحولت مثل هذه الأعياد إلى مجال لإتصال القوم في طيبة بمعبودهم روحيا و أصبحت المجال الوحيد الذي يرى فيه الناس بهاء و روعة ربهم آمون كحاكم لمدينته حيث يمارس سلطته على الجميع و يعد أتباعه بالخلاص إن إتبعوه و قدسوه و من هنا تجاوب أنصاره و كهنته مع هذا الورع الشعبي فأضفوا عليه من الصفات ما تقدم ذكره و تحول آمون إلى إله يتدخل تاريخيا و روحيا في حياة و مصائر الناس الأمر الذي مكنه من إنشاء دولة روحية له ذات طابع سياسي ، فصار هو ملك مصر العليا و السفلى المهيمن على كل شيء في الوجود .

بسم الله الرحمن الرحيم

المفهوم الشعبي و الكهنوتي للألوهية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة ..........................................................................................................................................................ظهر مفهوم الإله في عصر الرعامسة و هو يحتل سمات الملكية بمفهومها الذي كانت قد روجت له منذ عصر الدولة الوسطى ، فالإله في عصر الرعامسة هو ( أب لليتامى ) و ( زوج للأرامل ) و ( ملجأ للمكروبين ) و ( نصير الفقراء ) فهو الذي يقوم بإنقاذ البؤساء ممن هم أقوى منهم . و من جانب آخر ظهر الفرد المتدين في عصر الرعامسة بوصفه فقيرا و ضعيفا مما يجعله في حاجة ماسة لحماية الإله بصرف النظر عن مكانته الإجتماعية الحقيقية فلا ينبغي إضفاء صفة الصدق المطلق لأصحاب نصوص الأدعية التي يتوجهون من خلالها لأربابهم و لذلك فقد ظهرت عبارات دينية بعد عصر العمارنة تكشف صراحة عن أن أصحابها يبحثون عن مفهوم ( حماية الإله ) فقط و ليست هذه الحماية يمكن طلبها أو توجيهها لأحد آخر في عالم الدنيا ، فنقرأ على سبيل المثال في نصوص ذلك العصر :
" لم أبحث عن حام لي بين الناس ، فالإله ( آمون ) – و في نصوص أخرى ترجع لذات العصر ( بتاح ) – هو حاميني "
يتضح لنا من هذه العبارة و ما شابهها من عبارات أخرى مماثلة لها ظهرت في نفس العصر أن الفرد المتدين لم يعد يتحدث عن ( ماعت ) و لم يعد يضع ثقته في ( ماعت ) و لا سيما خلال عصر الرعامسة فمما لاريب فيه أن المحقق لدور ماعت التاريخي في حضارة مصر قبل ذلك العصر يكتشف أنها العمل الذي كان يوحي به دائما قلب الإنسان ، فلا عمل طيب دون فكرة نابعة من القلب و لا قلب دون أن يمتليء بالماعت ، فالعمل الطيب هو فعل منبثق من القلب المليء بماعت ، فكانت هذه هي الرسالة الحضارية طوال عصر الدولة الوسطى و حتى ما قبل عصر العمارنة ، إلا أن ( ماعت ) في نصوص الرعامسة و لاسيما في مدينة طيبة تكاد تختفي تماما و لا وجود لها في ذهنية كهنة و شعب مدينة طيبة إلا فيما ندر و لذلك يتجه المرء في طيبة لعالم الآلهة كبديل لمفهوم الماعت التي تأثرت كثيرا من أضرار السياسة الملكية للعمارنة .
لم يعد الخلاص يتحقق بتطبيق ماعت التي كانت تعمل على وضع الفرد المتدين في مساره الصحيح ، بل أصبح الخلاص مرتبطا بالخضوع لإرادة الإله و من هنا ينبغي للفرد أن يثق في حمايته له تماما مثلما كانت تنادي النصوص المصرية في عصر الرعامسة في مدينة طيبة طائفة من الناس الذين وصفتهم بأنهم " الذين يضعون أنفسهم في يد الإله " إلا أن الدارس يود أن يؤكد على حقيقة هامة و هي : إن وضع الفرد المتدين لذاته في يد الإله الذي يتولى رعايته و حمايته كان أمرا معروفا منذ بدايات عصر الأسرة الثامنة عشرة و لاسيما في مدينة طيبة فهناك بواكير و إرهاصات أولى لذلك المفهوم منذ تلك الفترة و لكن هذا المفهوم بلغ الذروة القصوى في عصر الرعامسة فلا يكاد يخلو نص من تلك الفكرة .
ما هي القرائن التي تؤكد على ذلك المفهوم ؟ ....... من الدلائل التي نسوقها على صحة النتائج السابقة هو ما ورد في اللوحة الخشبية للموظف ( آمون إم إيبت ) المحفوظة حاليا في متحف برلين ( رقم 6910 ) و الذي تم دفنه في دير المدينة و كان قد عاش في عصر الملك سيتي الأول ، حيث يقول هذا الموظف في لوحته :
" كم هو جميل الجلوس بين يدي آمون حامي الصامتين و منقذ الفقراء و الذي يرشده – يرشد صاحب اللوحة – إلى عمر طويل في غرب طيبة ، النعيم لمن وصل الغرب لكي يكون سعيدا بين يدي الإله " .
من الممكن أن نستقي بعض الملاحظات الهامة من هذا النص الأخير تتمثل فيما يلي :
1 – لا وجود لمفهوم الماعت التي ينبغي العمل بها في عالم الدنيا لكي ترافق صاحبها في العالم الآخر .
2 – لا حديث عن الملك أو الملكية التي تتحكم في مصير الفرد المتدين في العالم الآخر ، فصاحب اللوحة أو المقبرة ليس من المطلوب منه أن يضع الملك في قلبه أو يجلس بين يديه و إنما يسعى للجلوس بين يدي آمون لكي يحظى بنعيم عالم الغرب .
3 – أن المعبود ( آمون ) و ليس ( أوزير ) و لا سيما في مدينة طيبة بالنسبة لعدد كبير من أهلها ، هو الذي يرشد المتوفى إلى عمر طويل في غرب طيبة ، فالغرب في طيبة بالنسبة له يقع تحت السيطرة الحصرية لآمون و هنا لا وجود لعالم آخر أوزيري و لا حديث عن محكمة أخروية أوزيرية و لا وجود للقب ( ماع خرو ) بمعنى صادق الصوت و هو اللقب الذي حاز عليه أوزير في العالم الآخر بعد تبرئته في المحكمة الأخروية .
و لكي تصبح الصورة الدينية الشعبية الكهنوتية أكثر وضوحا و قوة في مدينة طيبة نستشهد بقرينة أخرى وردت في قبر الموظف – كيكي – في غرب طيبة في عصر الرعامسة ، حيث قام هذا الموظف بتسليم كل ممتلكاته إلى الإلهة ( موت ) و جعلها الإلهة الوحيدة الحامية له خلال حياته فضلا عن رعايتها له بعد مماته فنقرأ في قبره ما يؤكد صحة الإستنتاجات السابقة :
" و عندما قام هو بالتفكير مع نفسه – صاحب القبر – عسى أن يجد له وليا ، وجد ( موت ) على قمة الآلهة ، و كان المصير و النجاح بيدها ، و الحياة و الهواء تحت تصرفها ، و كل ما يحدث لا يحدث إلا بأمرها " ثم قال " أريد أن أضع كل ممتلكاتي تحت يديها فهي قد أخذت مني الخوف و حمتني ساعة العوز ( الفقر ) و أنا ضعيف في أرضها و أحد الفقراء الذين يحجون لمدينتها ( معبدها و كل ما يتعلق به ) و لم أتخذ من البشر أحدا لحمايتي و لم أبحث بين الكبار عن ولي يحميني و لم أجد إبنا لي ينظم عملية دفني ، فمسألة دفني هي رهينة بيدي ( موت ) و من يتخذ ( موت ) حامية له فلا يوجد إله يهاجمه و لا يمسه أي سوء و سيصبح سيد القبر و لا يعرف الموت "
يتضح لنا من هذا النص الأخير نتائج هامة تتمثل فيما يلي :
1 – إن الحديث عن إتخاذ إله أو إلهة كولي و كحامي و كملجأ للفرد المتدين لا ينبغي فهمه بالشكل المجازي و لا سيما في عصر الرعامسة ، فالفرد المتدين عندما يسمي الإله أو الإلهة أب أو أم له فهو كذلك في عالمه الحقيقي و هو هنا يؤكد على هذه الأبوة أو الأمومة الإلهية عندما يعترف و يقر بها في النص ، فالإله في عصر الرعامسة أصبح بالنسبة لشرائح متعددة من مجتمع طيبة وليا و سيدا و حاميا للفرد المتدين و لا سيما عندما يقول في النص " لم أتخذ من البشر أحدا لحمايتي و لم أبحث بين الكبار عن و لي يحميني "
2 – تحول مفهوم التدين الشعبي و الكهنوتي نحو الإله و تحل هنا إرادة الإله محل مفهوم ماعت ، فلم تعد ماعت تلعب الدور الرئيسي في العالم الآخر بالنسبة لهذه الشرائح من المجتمع الطيبي و لم تظهر ماعت بوصفها تهبط لعالمه الأخروي حتى يسعد بها مثلما كانت النصوص تؤكد على ذلك المفهوم من قبل .
3 – يكفي صاحب المقبرة أن يتخذ من موت حامية له حتى لا يهاجمه أي إله آخر ، فالمعبودة ( موت ) بالنسبة له هي التي تحميه في عالمه الدنيوي و الأخروي و لا حديث هنا عن ( آمون ) أو ( رع ) أو ( أوزير ) أو أي إله آخر الأمر الذي يكشف عن حقيقة هامة : أن بعض شرائح المجتمع الطيبي في عصر الرعامسة لم يعبر عن إيمانه بأن هذه الآلهة الأخرى كان لها سلطان عليها في عالمها الدنيوي و الأخروي مما يشير إلى نتيجة أخرى :
" أن الإيمان بدور هذه المعبودات الأخرى لم يكن حقيقة أو حتمية ثقافية مطلقة و ملزمة للجميع ، بل هي حقيقة نسبية و لم تكن كل الأفكار التي تتعلق بمعبود بعينه ملزمة إلزاما حتميا بالتصديق و الإيمان بالنسبة لفئات أخرى من المجتمع "
4 – يختفي هنا من هذا النص مفهوم الملكية التي كانت موجودة قبل عصر الرعامسة بوصفها المتحكمة في سعادة الفرد في عالمه الدنيوي و المتحكمة و المهيمنة على مصيره الأخروي فلا حديث عن الملك الحاكم في مدينة طيبة عند هؤلاء الأفراد في عصر الرعامسة لا في عالم الدنيا و لا في العالم الآخر .
5 – لا يتحدث صاحب المقبرة عن عن إنجازاته في عالم الدنيا التي جعلته مؤهلا لكي ينال الخلاص في عالمه الأخروي و لا يشير إلى أنه قام بإطعام الجائع أو أنه منح الجعة أو الشراب لمن لا يملك أو أنه أعطى تابوتا لمن لا تابوت له أو أنه قام برعاية الأرامل أو الفقراء و لا يتحدث عن محكمة المعبود أوزير التي من المفترض أن يلقاها عندما لعالم الغرب الأخروي ، فكل ما سبق لا وجود له في نص هذه المقبرة ، بل يكتفي بالتعبير عن ورعه و تقواه و ثقته التي وضعها في يدي الإلهة ( موت ) التي إتخذها ولية و حامية وحيدة و لا أحد سواها في عالمه الدنيوي و الأخروي " فمن يتخذها حامية له " مثلما يقول " ليس هناك إله آخر يهاجمه " .
6 – وصف المتوفى نفسه بأنه " أحد الفقراء الذين يحجون لمدينتها و أنها قامت بحمايته في ساعة العوز ( الفقر ) " و هنا لا ينبغي أن نأخذ بحرفية النص الذي يزعم صاحبه أنه كان فقيرا مما إستوجب حمايتها له في ساعة العوز ، فمثل هذه النصوص تركز على أمر آخر و هو " كلما كان الفرد المتدين فقيرا كلما إشتدت حاجته الماسه لموت التي تحميه من أضرار و عواقب الفقر ، بصرف النظر عن مكانته الإجتماعية الحقيقية فلا علاقة بذلك بوضع الإنسان الإجتماعي الفعلي في عالم الدنيا و الدليل على ذلك أنه يقول في سياق آخر " أريد أن أضع كل ممتلكاتي في يدي الإلهة موت " ، مما يعني وجود ممتلكات لصاحب القبر و هو الأمر الذي يتعارض مع مفهوم الفقر المطلق إذا ما تم إدراك النص بظاهره و حرفيته .
و لكن و برغم ما تقدم من معطيات و نتائج يطرحها صاحب هذه الدراسة إلا أنه يلقي الضوء على حقيقة أخرى :
" أن إتجاه الورع و التدين الشعبي نحو آمون كان أكثر عمقا و إنتشارا من التيار الفكري الذي أعلن عن ولائه و تدينه نحو الإلهة موت في عصر الرعامسة في مدينة طيبة حيث وجهت الدعوات و الأمنيات و التراتيل له أكثر مما وجهت لقرينته موت ، فنقرأ على سبيل المثال في اللوحة الخشبية للموظف ( آمون إم إيبت ) :
" لقد مكثت بالأمس و اليوم في يد آمون و قد شعرت بالنجاة و بقوة خطته و من يتخذ لنفسه وليا بين الناس تفشل خططه ، أما أنا فقد جعلني آمون منحدرا منه و به وجدت الخير "
و مما لاريب فيه أن جميع هذه النصوص الدينية التي عبرت عن ورع و تقوى أصحابها تجاه آمون في طيبة كشفت عن مفهوم ( تدخل الإله آمون في حياة الناس و مصائرهم ) فالإله ( و لاسيما آمون ) هو من يعمل تاريخيا في حياة البشر ( مجتمع طيبة ) و هو الذي يرشدهم نحو درب الخير و الخلاص ، و هو الأمر الذي مهد تدريجيا نحو بزوغ مفهوم ( دولة الإله آمون في طيبة ) في نهاية عصر الرعامسة فقد تكونت في نهاية الأسرة عشرين في مدينة طيبة دولة إلهية يتصدرها المعبود آمون الذي صار يحكم بين الناس من خلال ما يعرف بظاهرة ( العرافة و النبوءة و الوحي ) و هي الظاهرة المجتمعية الشعبية الكهنوتية التي كانت معروفة قبل عصر الرعامسة و زاد تأثيرها الديني فيما بعد ، حيث كان يخرج موكب آمون المقدس من الكرنك خلال الأعياد و المناسبات الإلهية ، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى ظهور نتيجة أنثروبولوجية ثقافية هامة و هي :
" بعدما كان الملك الحاكم هو الصورة المقدسة للإله على الأرض أصبح الإله ( و لاسيما آمون ) هو الملك الذي يحكم بين الناس في نهاية عصر الرعامسة مما نتج عنه ظهور دولة الإله في طيبة على هيئة و شكل ( الحكم الديني المباشر لآمون ) من خلال ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي "
و تزامن ذلك كله مع إنحلال السلطة الملكية للرعامسة في نهاية الأسرة عشرين و بداية إنتقال مصر لمرحلة تاريخية جديدة و هي عصر الإنتقال الثالث الذي تميز باللامركزية و عدم وجود سلطة ملكية موحدة في البلاد و تأكيدا على المفهوم السابق طرحه نقرأ على سبيل المثال في نصوص تلك الفترة :
" قوي هو ( آمون ) في حكمه أقوى من سخمت ، كالنار في العاصفة و هو الذي يقوم بإمداد و تموين كل من يعبده و هو الذي يشفي من الألم و يرى كل الناس و يسمع الملايين منهم و هو الذي يمضي في السماء و يجوب العالم الآخر لكي يضيء كلا العالمين من أجل مخلوقاته و هو آمون رع ( ملك مصر العليا و السفلى ) و هو الذي يهب العمر و يضاعف السنين لكل من كان تحت رحمته و نعمته "
يتضح لنا مما تقدم أن أحد الدوافع الرئيسية وراء ظهور و تنامي و إزدياد ظاهرة الورع الشعبي و الكهنوتي نحو المعبود آمون في طيبة في عصر الرعامسة هو الممارسة المجتمعية الدينية لخروج مواكب آمون المقدسة التي كانت تتجه إما للبر الغربي في عيد الوادي الجميل أو إلى معبد الأقصر في عيد الأوبت ، فتحولت مثل هذه الأعياد إلى مجال لإتصال القوم في طيبة بمعبودهم روحيا و أصبحت المجال الوحيد الذي يرى فيه الناس بهاء و روعة ربهم آمون كحاكم لمدينته حيث يمارس سلطته على الجميع و يعد أتباعه بالخلاص إن إتبعوه و قدسوه و من هنا تجاوب أنصاره و كهنته مع هذا الورع الشعبي فأضفوا عليه من الصفات ما تقدم ذكره و تحول آمون إلى إله يتدخل تاريخيا و روحيا في حياة و مصائر الناس الأمر الذي مكنه من إنشاء دولة روحية له ذات طابع سياسي ، فصار هو ملك مصر العليا و السفلى المهيمن على كل شيء في الوجود .