الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012

بسم الله الرحمن الرحيم

 بدأ عصر الدولة القديمة بإبتكار أيدولوجية ملكية جديدة سعت نحو تأطير ذاتها في دائرة الخلود و على نحو أقوى مما حدث في العصر العتيق ، فذهب أول ملوكها ( ستتجاوز هذه الدراسة إشكالية لم يتم حسمها بشكل قاطع حتى الآن حول هوية مؤسس عصر الأسرة الثالثة و الدولة القديمة ) – نتري خت – إلى إختراع ما يعرف ( بأيدولوجية الحجر ) . و مما لاريب فيه أن تشييد مثل هذا البناء الحجري الضخم ( المعروف بإسم المجموعة الجنائزية للملك نتري خت ) كان يشكل تحولا ذو معنى حضاري كبير . و بسبب ما أحدثه هذا الملك هو و مهندسه المعماري الكبير ( إيمحوتب ) من تحولات و تغيرات ذات مغزى ، ظلت ذكراه راسخة في أذهان الأجيال اللاحقة و حتى العصور المتأخرة حتى وضعت صورته من جانب الخلف كمعبود تقام له الشعار و تقدم له التقدمات . و من نافلة القول أن المصري القديم و تحت إطار مشروعه الإبستمولوجي ( المعرفي ) ذو المغزى الأيدولوجي في العصور المتأخرة ، و حينما أراد أن يجد مؤسسا لكل فعل حضاري خلاق و قديم ، إعتبر الملك ( نتري خت ) كمؤسس أول لإستخدام الحجر فأطلق لقب ( فاتح الحجر ) عليه ( ستتجاوز هذه الدراسة إشكالية أخرى تم طرحها مؤخرا حول المؤسس الأول الحقيقي لإستخدام الحجر في المنشآت الملكية و لاسيما و أن حفائر البعثة الإسكتلندية في عام 2006 في سقارة كشفت عن وجود بقايا مجموعتين جنزيتين غرب مجموعة نتري خت تم تشييدهما من الحجر و تم تأريخهما لعصر النصف الثاني من الأسرة الثانية في منطقتي جسر المدير و جسر بتاح حتب ) . كما كان من نتيجة ذلك أيضا أن صار مهندسه المعماري ( إيمحوتب ) مؤله و تم تمجيده و تقديسه في العصور المتأخرة بوصفه إبنا للمعبود ( بتاح ) .
و في واقع الأمر إن المجموعة الجنائزية للملك ( نتري خت ) كانت حلقة وصل معمارية حضارية بين التقاليد المعمارية و الفنية للعصر العتيق و ما درجت عليه الملكية فيما بعد و خلال عصر الدولة القديمة من تقاليد معمارية و دينية أخرى نشأت بفضل البذرة الأولى التي زرعت في عصر الملك ( نتري خت ) . كما لا يمكن أن نتجاهل من ناحية أخرى أن مفهوم إقامة القبر في إطار القصر الملكي الذي يحتوي على واجهة ضخمة ذات دخلات و خرجات كان قد أعلن عن نهايته معماريا في عصر ( نتري خت ) فلم نعد نشهد بعد هذا العصر أي تنفيذ عملي معماري للفكرة السابقة . و على النقيض من ذلك نجد أنه قد بدأ التنفيذ العملي لمفهوم القبر الملكي ( الهرم المدرج ) كموضع و نقطة إنطلاق للصعود نحو عالم سمائي .
و هنا يمكن لنا أن نسنتنبط مجموعة من الحقائق الهامة ترتبط بشكل وثيق ببناء مجموعة حجرية ملكية ضخمة لأول مرة و هي :
1 – إن جميع المنشآت الحجرية الموجودة في تلك المجموعة لا تكشف بالضرورة عن إستخدام فعلي لها ، بل تشير لحقيقة أيدولوجية هامة كشفت عن هاجس يؤرق الملكية و هي ( كيفية خلود الشعائر ) التي ترنو لتأطير الملكية ذاتها في دائرة الخلود الإلهي و ذلك بوصفها ملكية لا تقتصر فعاليتها على عالم الدنيا بل تمتد لعالم ما ورائي .
2 – بمقارنة مجموعة الملك ( نتري خت ) الحجرية بمنشآت أخرى تتفق معها في نفس الهدف و الوظيفة ترجع للعصر العتيق و كشف عنها في جبانة أبيدوس في منطقة شونة الزبيب ، يمكن القول بأن جميع هذه المنشآت عرفت وفقا لما ورد في حجر بالرمو و طبقا لما إتفق علماء المصريات على تسميته ( بحصون الآلهة ) . فكانت كل مجموعة جنائزية و منذ بداية العصر العتيق تعتبر موضع تجمع لآلهة مصر الكبرى الذين يعطون البيعة و الشرعية السياسية للملك الحاكم و ذلك بزيارته في قصره الملكي .
3 – تتموضع و تتمركز هذه المعبودات في القصر الملكي من خلال إنشاء مجموعة من المقاصير داخل فناء مفتوح ينتهي بجوسق ملكي يتجه له الملك في مناسبة العيد الشهير المعروف بالحب سد .
4 – تحولت هذه المقاصير الإلهية في مجموعة ( نتري خت ) من مقاصير لبنية في العصر العتيق إلى مقاصير حجرية و ذلك للتأكيد على البعد الأبدي لزيارة الآلهة للملك الحاكم و تجديد ملكيته على نحو دائم و غير منقطع .
 هل يتسنى لنا هنا أن نتحدث عن تغير جذري في أيدولوجيا الملكية مع بداية عصر الدولة القديمة ؟ .............
إن النموذج المعماري للملك ( نتري خت ) - بما يحتويه من أشكال لمنشآت حجرية رمزية ذات مغزى محدد فضلا عن وجود مناظر و كتابات تصويرية محدودة العدد تشرح بشكل مختصر الوظيفة الفعلية لهذه المجموعة – لم يكن مجرد نموذج تصويري تمثيلي لما كانت عليه المنشآت الملكية في عالم الدنيا ، بل هو شكل أبدي مبتكر لواقع ملكي يتسم بالقداسة المطلقة ، فالحجر و المناظر و الأشكال المعمارية و الكتابات التصويرية ترتبط ببعضها البعض و لأول مرة في إطار شعائري رمزي مقدس و محكم لا ينتمي لما هو مؤقت و زائل ، بل ينتمي لمحيط الآلهة التي تقع في عالم أبدي ماورائي غير منظور تجسد و تجلى في مادة حجرية منظورة و هنا يمكن إجتياز المسافة بين ما هو غير مرئي و بين ما هو مرئي و يصبح الماورائي المقدس حاضرا أبديا و منظورا في العالم المرئي .
و عند بداية الأسرة الرابعة و مع التحول الكامل ناحية الديانة الشمسية لم يعد الملك مجرد صورة مقدسة للمعبود ( حورس ) على الأرض ، و إن إحتفظ الملوك بهذه الصورة و لم يتخلوا عنها ، إلا أنه ربط مصيره و بشكل عملي بمعبود الشمس ( رع ) من خلال تشييد أهرام ضخمة و أصبح من الواضح أن الهرم لم يكن مجرد مقبرة ملكية – مثلما كشفت نصوص الأهرام عن ذلك المعنى – بل هو المكان الذي يتحد فيه الملك ب ( با ) رع بمعنى صورة أو قوة رع . فقد كان الهرم و بحجمه الضخم يرنو نحو منح الملك الوسيلة العملية للإرتقاء نحو السماء و هو نفس الهدف الأيدولوجي الذي سعى لتطبيقه ملوك الأسرة الثالثة و لكن مع تعديل بسيط و هو : إلتحام الملك التام بربه رع في العالم السماوي و ربط هذا الإندماج بمادة الحجر . و هنا يمكن لنا أن نسوق القرائن التالية للبرهنة على ما سبق :
1 – تم إعتبار كل هرم – وفقا لمتون الأهرام – أنه موضع الآخت بمعنى ( الأفق ) ، فهو المكان الفاصل الذي يقع بين السماء و الأرض في موضع مكاني بعيد لا يصل إليه إلا معبود الشمس رع . و في هذا الموضع بالتحديد يرتفع إليه إله الشمس رع كل صباح من العالم الآخر و يعود إليه مرة أخرى عند كل غروب . و مثلما يرتفع معبود الشمس رع من ( العالم الآخر ) و حتى ( الآخت ) إلى أن يصل إلى أعلى مكان في ( السماء ) ، ترتفع أيضا ( با ) الملك المتحد بربه الشمسي عن طريق ( الآخت ) فيبلغ القمة السماوية . إن إستخدام الحجر كمادة بناء خلال عصر الأسرة الثالثة و على نطاق واسع زاد من طموح الملكية فجعلها تتطلع عمليا و أيدولوجيا ناحية المصير الشمسي بشكل فعال لم يسبق له مثيل .
2 – كشفت متون الأهرام عن أن الملك لا يظل على الأرض بين الناس و لا ينبغي له أن يكون بينهم عند إنتقاله للعالم الآخر بل هو من أهل السماء و ينتمي لعالم الآلهة التي تسكن السماء فضلا عن إندماجه بمسيرة ربه ( رع ) في رحلة يومية أبدية لا تنقطع . و تجدر الإشارة هنا أن إستخدام الحجر و كتابة متون الأهرام على هذه المادة جعل من هذه النصوص ( شكلا كتابيا دينيا أبديا لا ينقطع ) لتراتيل دينية شفهية معرضة للزوال إن لم يتم حفظها على تلك المادة . و هنا نرى هذه المتون و هي تؤكد على السمة الشمسية المتأصلة في طبيعة الملك الأزلية بوصفه ( آخ ) بمعنى ( قبسا نورانيا شمسيا ) و أن الملك وحده هو الذي ينال هذه الصفة و لا ينالها إلا من تمكن من الوصول لعالم الآخت و عالم السماء فاتحد برع و بمعنى أدق أن الملك لا يتحول إلى آخ إلا من خلال منشأته الضخمة ( المقبرة و ما يتبعها من معابد ) التي شيدت من مادة الحجر
3 – إن أهرام الدولة القديمة و توجهها التام نحو الإتجاهات الكونية الأربعة تهدف لربطها بعالم السماء و إتجاهاته الكونية الأربعة و الملك هنا لا يرتبط فقط بالمصير الشمسي السابق ذكره بل يلتحم أيضا بالمصير النجمي الذي أشارت إليه متون الأهرام و من هنا تتحقق القدسية الفعلية للمقبرة الملكية ، فهذه القدسية تعتمد على الشرطين التاليين :
أ – إنعزال المنشأة ذاتها عن عالم الأحياء و دنيا الأرض و ذلك بفصلها التام عن كل ما ينتمي لعالم الدنيا فتصبح جزءا من منطقة معزولة و فريدة من نوعها .
ب – التطابق التام لإتجاهات المنشأة الأرضية مع الإتجاهات السماوية الأربعة و ذلك للتأكيد على إنتمائها لعالم السماء و نزع صفة الإنتماء الأرضي عنها .
إلا أن هذه القدسية لا تتحقق إلا من خلال المادة الحجرية ، فهي وحدها القادرة على تأبيد المعاني السابقة ، فمادة الحجر هي التي تخلق الوضع الملكي القدسي الأبدي و لا إنفكاك بينهما .
و هنا يتبين للباحث أن المكان المقدس في مصر ( بلاغا سماويا ) و هو في ذات الوقت المكان الذي يسيطر فيه ( زمن السماء ) ، فتشييد المكان المقدس يحتاج لزمن سماوي مقدس يتسم بالإنتظام و الأبدية و عدم الإنقطاع ، فزمن السماء المقدس هو الذي يحقق الأبدية و لا تتحقق هذه الأبدية الزمانية و المكانية إلا من خلال الوسيط و هو مادة الحجر التي تقاوم كل ما ينتمي للعالم المؤقت و الزائل .
و ترتبط سياسة بناء الأماكن المقدسة ( مقابر أو معابد ) في عالم مصر بالملكية و هو ما نستشفه من النصوص التي دونت في عصر الدولة الوسطى و الحديثة و لا سيما عند تأسيس المعبد حيث تقول الآلهة للملك عند إقامة شعائر تشييد المعبد :
" مثلما يرقد نصبك على قواعده و مثلما ترقد السماء على ركائزها سيدوم عملك للأبد و ستصبح سنواته ( سنوات المنشأة ) هي سنوات الآخت ، فلن يقع عليه ( على المنشأة ) أي دمار "
نستشف من هذا النص السابق أن زمن المنشأة المقدسة ( مقبرة أو معبد ) هو زمن السماء – و لا سيما عندما نقرأ عبارة : و ستصبح سنوات المنشأة هي سنوات الآخت ( الأفق ) – إلا أن الملك في عصر الدولة القديمة لا يظهر فقط كمجرد صاحب منشأة مقدسة ( و هي هنا المقبرة الملكية الحجرية ) بل كساكن في المكان المقدس و هو أقدس الأماكن على الإطلاق و لا سيما في ذلك العصر ، حيث لم تكن المعابد المحلية الإقليمية الإلهية في عصر الدولة القديمة تتسم بنفس القداسة و لا سيما و أن معظمها في ذلك العصر لم يكن في إطار مكاني منعزل عن عالم الأحياء و لم تكن إتجاهاته تطابق الأبعاد السماوية و لم تكن تشيد من مادة الحجر فهي مساكن صغيرة الحجم من الطوب اللبن إقتصرت على تقدمات القرابين للآلهة بغرض تحقيق منافع دنيوية و لا تحتوي على أي بلاغ سماوي و لا تصور السماء     على الأرض .
إلا أن أيدولوجية ( المكان المقدس ) تغيرت جذريا خلال عصر الدولة الوسطى ، فألزمت الملكية ذاتها بسياسة جديدة نحو معابد الآلهة و ذلك بتحويلها إلى ( أماكن مقدسة ) ، فنقرأ على سبيل المثال نص الملك ( سنوسرت الأول ) الذي كشف فيه عن تلك السياسة الجديدة و لا سيما تجاه معبد الإله ( آتوم ) في ( هليوبوليس ) فقال و هو يخاطب مستشاريه :
" أنظروا ! إن جلالتي قد صمم على إقامة بناء أبدي لأبي رع حور آختي الذي إصطفاني قبل ولادتي و لقد تجليت على الأرض كحورس لكي أضع القرابين للآلهة و لكي أتمم عمل أبي آتوم و ذلك لكي أجعله غنيا ( أي يجعل معبد آتوم غنيا بالقرابين ) بعدما جعلني أقبض على السلطة . أنا أريد أن أشيد بيتي على أرضه و حتى يتذكر هو كمالي في بيته ، فالأهرام هي إسمي و البحيرة المقدسة هي مكان ذاكرتي ، أما عن أبدية ( نحيح ) فهي دوام البركة و الملك الذي يسمى بأعماله لا يموت و الذكرى التي وضعها و خطط لها لا يمكن أن تضمحل و لذلك فهو يسمى دائما بإسمه لأن أبدية ( جت ) لا يمكن أن تأفل "
يتبين لنا من هذه المقتطفات الخاصة بنص الملك سنوسرت الأول مجموعة من النتائج الهامة و هي :
1 – أن سياسة إقامة المعابد لآلهة في عصر الدولة الوسطى كانت بسبب مدح المعبودات التي وهبت السلطة الملكية للحكام فكان لزاما عليهم أن يوجهوا الشكر الثناء لهم بإقامة معابدهم و تقديم القرابين لهم مما يعني أنه نوع من توجيه العرفان و التقدير لهم
2 – يتحدث النص عن معبد الملك سنوسرت المكرس لأبيه آتوم بوصفه بيتا للملك نفسه تارة ، و بوصفه بيتا لآتوم تارة أخرى مما يعكس مفهوم تلاشي أي فرق بين معبد الملك و معبد الإله ، فالمكان المقدس في عصر الدولة الوسطى ( و هو المعبد ) يهدف لإدماج الملك مع المعبود في بوتقة واحدة بينما كان المكان المقدس في عصر الدولة القديمة ( و هو المقبرة الملكية ) يهدف لذات الهدف و لكن في منشأة الملك و ليس في منشأة الإله .
3 – و عندما يقول أن الأهرام هي إسمي فهو يشير صراحة لمفهوم المكان المقدس و المعروف منذ عصر الدولة القديمة و الذي يرنو لخلق ذكرى أبدية لا تنتهي ، فما حققته الأهرام من خلود لأصحابها في زمن سالف تواصل تحقيقه في زمن الملك سنوسرت و لا سيما عندما يقول أن هذه المنشآت هي إسمه أي أن إسمه لن يزول على الإطلاق من الذاكرة
4 – أما عن البحيرة المقدسة التي وصفت بأنها مكان ذاكرته فهي تعني خلق مكان آخر لذكرى الملك بعمله لبحيرة إلهية داخل معبد الإله .
5 – أما عن أبدية نحيح التي ورد ذكرها فهي كلمة تدل على المسيرة الشمسية اليومية التي لا تنقطع في عالم السماء و التي تحدد الزمن ، فالزمن هنا هو الزمن السماوي المقدس الذي يتحد به الملك في معبد أبيه آتوم و لا يخفى على القاريء أن تواجد و حضور هذه المسيرة الشمسية الأبدية  داخل المعبد يعني أن إتجاهات المعبد الشمسي في عصر الدولة الوسطى أصبحت مطابقة لإتجاهات السماء الكونية الأربعة .
6 – أما عن أبدية جت التي ورد ذكرها في النص فهي تشير لخلق و بناء المكان المقدس ( معبد الإله ) و الذي يمنح إسما لا يزول لصاحبه و ذلك المكان يقع في إطار معزول عن عالم الأحياء
يتبين لنا مما تقدم أن ما حققته الأهرام بوصفها مقابر ملكية في عصر الدولة القديمة حققته كذلك المعابد الإلهية المحلية في عصر الدولة الوسطى مع الوضع في الإعتبار أن معابد ذلك العصر بدأ الملوك في تشييدها من الحجر بدلا من الطوب اللبن و ذلك لمنحها صفات ( المكان المقدس – جت ) و ( الزمان المقدس – نحيح ) و ( خلق ذكرى أبدية لصاحبها ) فلا يموت إسمه أبدا .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق