بسم الله الرحمن الرحيم
ظاهرة الحكم الديني للإله بين نهاية عصر الرعامسة و بداية عصر الإنتقال الثالث
ظاهرة الحكم الديني للإله بين نهاية عصر الرعامسة و بداية عصر الإنتقال الثالث
إن مفهوم الحكم الديني الثيوقراطي كان قد تم تناوله بشكل مسهب و تفصيلي لأول مرة في تاريخ الحضارات البشرية القديمة من جانب المؤرخ اليهودي ( فلاسيفوس يوسيفوس ) حيث تناول فيه مفهوم ( الدستور اليهودي ) المؤسس على فكرة العهد الإلهي : فالشعب إختار لنفسه ( يهوه ) ملكا كما أن ( يهوه ) إصطفى لنفسه إسرائيل كشعب له . و هنا يمكن القول أن السلطة الحكومية لا تتم ممارستها إلا من جانب الكهنة على شكل وكالة و إتفاق مع الإله ، فيصبح الإله وفقا لهذا المنظور بوصفه السلطان الحقيقي و الفعلي الذي يفرض رغبته و إرادته من خلال قراراته الإلهية على شعبه ، و طالما لا يظهر الكهنة في هذه الحالة كحكام ، فيمكن تسمية هذا النوع من ممارسة السلطة بإسم ( الحكم الديني التطابقي ) حيث يظهر الإله و هو يحكم بنفسه و ليس هناك حاكم يمثله على الأرض ، بل هو الإله و الحاكم في ذات الوقت . أما عن الكهنة الذين يمارسون عمليا الحكم يعتبرون أنفسهم خدما ينفذون أوامر الإله و لا شيء آخر سوى ذلك ، و بمعنى أدق يظهر الإله في الحكم الديني التطابقي كصاحب سلطة تشريعية و قضائية أما الكهنة فهم أصحاب السلطة التنفيذية .
و ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة يختلف عن الحالة التالية و هي :
إذا ظهر الكاهن كحاكم و ممثل فعلي للإله على الأرض فإن هذا النوع من الحكم يسمى ( بالحكم الديني التمثيلي ) فالكاهن هنا يمثل سلطة الإله على الأرض و هو صورته الحية و المقدسة و لذلك يتفق الدارس مع الرأي الذي ينادي بأن السلطة الملكية في الحضارة المصرية القديمة إعتمدت في شكلها الكلاسيكي و في مراحل متعددة من التاريخ المصري القديم على مبدأ ( الحكم الديني التمثيلي ) فالملك يظهر بوصفه الكاهن الأكبر لجميع المعبودات – على أقل تقدير نظريا - و هو في ذات الوقت الصورة المقدسة للإله الأكبر على الأرض فضلا عن كينونته كإبن لهذا المعبود .
و برغم إتفاق الدارس مع الأطروحات السابقة ، إلا أنه يمكن التأكيد على وجود شكل آخر من ممارسة الحكم عرفته الحضارة المصرية القديمة و كان يتوسط مفهومي ( الحكم الديني التطابقي ) و ( الحكم الديني التمثيلي ) و هو ( نموذج الحكم المشترك ) ، فالملك لا يتجسد في الإله الحاكم ( الحكم التطابقي ) كما أنه لا يمثله ( الحكم التمثيلي ) بل يحكمان سويا في ذات الوقت كأب و كإبن و هو النموذج الذي تحقق في عصر العمارنة حيث قام الملك إخناتون بوضع إسم ربه ( آتون ) في خرطوش ملكي و منحه لقب ( الأب ) و أصبح الإله شريكا كبيرا في الملكية المصرية ، فالملك و أبيه آتون يقومان بالحكم سويا و لا أحد يعرفة رغبة آتون سوى إبنه – على حد وصف الملك – و لهذا السبب قام إخناتون بإلغاء منصب كبير الكهنة بل لم يعد للمؤسسة الكهنوتية أي دور فعلي في الديانة الآتونية ، فقد كان إخناتون يقوم بدور كاهن الإله و لا أحد يمثله في هذا المنصب ( إلا الكاهن المعروف بإسم مري رع و في حالات الضرورة القصوى ) و لذلك كان الملك عمليا يحكم و يمارس سلطته بمفرده .
أما عن النظام السياسي الذي قام بتحقيقه الكاهن الأكبر لآمون رع – حريحور – في نهاية عصر الأسرة العشرين هو الأقرب نوعا ما من النظام الديني اليهودي ( الحكم الديني التطابقي ) – و لا يهدف الباحث هنا لعمل مقارنات منهجية بين حالة تاريخية و أخرى - و لكن إذا كان حريحور قد إتخذ لنفسه لقب ملك مصر العليا و السفلى إلا أنه يمكن التأكيد على الحقائق الهامة التالية :
1 – هبط حريحور بمشروع ملكيته إلى درجة الكاهن أو الخادم الفعلي لآمون دون أن يمارس سلطة ملكية فعلية على البلاد .
2 – لم تتعدى ملكية حريحور نطاق معابد الكرنك ( معبد خونسو و صالة الأعمدة الكبرى ) فعندما تم الكشف عن آثار له خارج معابد الكرنك لم يرافق إسمه لقب الملك .
3 – إحتفظ حريحور بلقب الكاهن ( الخادم ) لآمون فضلا عن إتخاذه لقب كبير الكهنة في ألقابه الملكية .
بينما يرى البعض الآخر من الباحثين أن حريحور كان يهدف لإحداث إستقلال سياسي عن ملكية تانيس في الشمال مما ينتج عنه الإستئثار بالسلطة الإقتصادية لمعابد آمون ، إلا أن معظم الدارسين يتفقون حول الأمر التالي : أن حريحور لم يقم بتطبيق مفهوم الحكم الديني التمثيلي فهو لا يمثل صورة المعبود آمون على الأرض ، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف لظهور دولة الإله آمون في طيبة في نهاية الأسرة عشرين والأسرة الحادية و العشرين ، فكان كبار كهان آمون خلال الأسرة الحادية و العشرين يعتبرون أنفسهم خدما و ليسوا حكاما لسلطة الإله و لذلك يمكن القول بأنهم تبنوا مفهوم الحكم الديني التطابقي .
ما هي الدوافع التي جعلت حريحور يتجه نحو الحكم الديني التطابقي خلال نهاية الأسرة عشرين ؟
مما لاريب فيه أن الدوافع كانت سياسية و دينية في ذات الوقت و لا يمكن الحديث عن تلك الخطوة التي قام بها حريحور إلا من خلال مراجعة الموقف التاريخي و السياق السياسي للملكية المصرية في عصر الرعامسة . فالملكية المصرية خلال عصر الرعامسة نسجت صيغ دينية سياسية تجاه المعبود آمون و وضعت الملك بوصفه – الفقير الذي وضع الإله في قلبه و قام بخدمته بإخلاص ، فالملك في عصر الرعامسة يظهر في صورة الحاكم التقي و الورع تجاه الإله – آمون – و الذي يسعى لتنفيذ إرادته مما يؤكد مفهوم التدين الملكي خلال ذلك العصر . إلا أننا نرى من جانب آخر إتجاه سياسي ديني ملكي في نصوص الرعامسة يختلف جذريا عن الإتجاه الأول ، حيث يظهر الملك فيه بوصفه إله مطلق " و كل ما ينطق به جلالته ينفذ في الحال " – على حد تعبير النصوص الملكية لعصر الرعامسة – " و لا يمكن أن يكون هناك خطأ فيما يقول جلالته " ، فالملك طبقا لذلك الإتجاه المعاكس يظهر في صورة العالم بكل شيء و العارف بكل ما يحدث في البلاد و القادر على الإتيان بالخوارق ، فضلا عن الألقاب الملكية الرنانة للرعامسة و التي زادت بشكل واضح ، الأمر الذي يؤكد وجود إتجاهين معاكسين و متناقضين لبعضهما البعض ، فملكية الرعامسة تظهر متعالية و متواضعة في آن واحد ! و من هنا قام كبير كهنة آمون في نهاية الأسرة عشرين بإحداث قطيعة معرفية مع مفهوم الملكية المتعالية و التي لا تتناسب – طبقا لأيدولوجية كهنة طيبة – مع مفهوم الإله الخالق و المدبر لأمر كل شيء في الوجود و الذي يقوم بإلهام أتباعه بما ينبغي لهم أن يصنعوه مع فكرة الملكية المتعالية العارفة بكل ما هو في الوجود و القادرة على عمل المعجزات ، و لذلك نجد حريحور و قد تجاهل تماما مفهوم الملكية المتعالية للرعامسة و حافظ على مفهوم الملكية المطيعة الخادمة للإله و المنفذة لجميع أوامره ، فالملكية طبقا لخطاب كهنة طيبة بحاجة إلى خدم و أتباع منفذين لأوامر المعبود و مطيعين له و من هنا قام بوضع السلطة الملكية الفعلية تحت سطوة السلطة في يد الإله ، فتحول آمون رع لكي يتخذ لقب ملك مصر العليا و السفلى ، فهو الحاكم الحقيقي للبلاد ، فالملكية هنا تعود لصاحبها الأول الذي قام بتأسيسها في بدء الزمان ( آمون رع ) و ذلك وفقا للمنظور الأسطوري لكهنة طيبة خلال عصر الدولة الحديثة .
إن الحاجة لإبراز آمون رع كملك مصر العليا و السفلى خلال نهاية عصر الرعامسة توافقت مع الأهداف العملية الأيدولوجية لظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي التي تصاعدت و تيرتها من جانب كهنة آمون في طيبة فقاموا بإعطاء الفرصة لعامة الشعب لكي يستفتوا الإرادة الإلهية لآمون خلال أعياده الكبرى في مدينة طيبة ، فظهر آمون رع من خلال هذه الظاهرة الدينية كحاكم على مدينته بل و على مصر بأكملها و بذلك يتحقق مفهوم الحكم الديني التطابقي . و في واقع الأمر إن ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي التي كانت تمارس في طيبة و خلال الأعياد الكبرى لا تعني التخاطب الإلهي المباشر مع عامة الشعب ، فالإله في مصر لا يتكلم طالما كان متواجدا خارج المعبد خلال مجريات الأعياد ، بل تظهر رغبته و إرادته بواسطة حركاته الموكبية و التي كان القوم يفهم منها بصورة غير مباشرة على أنها ( مقولة أو رغبة أو قرار إلهي ) ، فالإله يظهر عمليا في موضع من يتخذ القرار بالإيجاب أو السلب من خلال حركة الموكب الخاصة به و هنا ينبغي لنا أن نؤكد على نتيجة هامة تتمثل فيما يلي :
" إن ظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي لآمون رع لا ينبغي فهمها على أنها خديعة يقوم بها الكهنة لتضليل من حولهم ، فهذه الظاهرة هي نوع من أنواع العرض المسرحي ، إلا أن ذلك لا يعني عرض خادع و إنما يجب فهمه في سياق يختص بالأعياد المصرية القديمة فالعيد و كل ما يتعلق به من عروض لا يتسم بالخداع أو التضليل بل هو إخراج مسرحي لإستحضار الإله الذي يشارك الناس في حياتهم و يحكم عليهم و يتدخل في شئونهم مع الوضع الإعتبار أن تلك الظاهرة هي تلبية لحاجة نفسية إجتماعية أنثروبولوجية ( إنسانية ) شعبية في المقام الأول و الأخير . و بمعنى أدق كانت مواكب الأعياد الآمونية تعتبر إحتفالات لسلطة الدولة الدينية التي أدت في نهاية الأمر لخلق دولة الإله و الحكم الديني التطابقي في مدينة طيبة ، فكان الإله هو الحاكم الذي يمارس سلطته على شعبه بنفسه كما أن عامة الشعب يحتاج و يشتاق لرؤية الإله في موكبه لكي يتواصل معه و لا معنى للأعياد دون هذه الظاهرة الدينية الشعبية " .
إن تصاعد الوتيرة الخاصة بظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي في نهاية عصر الرعامسة في مدينة طيبة أدى إلى زيادة ظاهرة الورع الشعبي خلال عصر الإنتقال الثالث كما ساهم في إضفاء صفات أخرى على آمون رع من جانب كهنته خلال ذلك العصر ، فنجد على سبيل المثال نصوص تلك الفترة و هي تشير إليه بوصفه :
" أول الآلهة الذي إنحدرت منه أوائل الآلهة ، فهو الإله الواحد الذي جعل من نفسه الملايين و هو الذي خلق الأرض في البداية ، و لا أحد يعرف كيف كانت ولادته الأولى و غني بتجسداته و أشكاله التي لا يعرف أحد أصلها و هو الشمس في شروقها و غروبها الذي بدأ النشأة قبل أن ينشأ أحد و يعبر السماء دون عناء و يجوب العالم الآخر و يضيء عالم الدنيا و العالم الآخر من أجل مخلوقاته "
يتبين لنا من هذا النص مجموعة من الحقائق الهامة و هي :
1 – أن الإله ( آمون ) هو الأصل الأول و الأقدم الذي نتج عنه كل شيء ، فاحتوي في داخله جميع الموجودات و المخلوقات المتعددة في العالم و هو الأصل الحقيقي لجميع الظواهر الطبيعية و البيئية التي تحدث في البلاد
2 – أن سيطرة آمون على ما في الوجود لا تقتصر على عالم الدنيا بل تمتد للعالم الآخر و لاريب أن تأكيد هذا الأمر من جانب كهنة آمون يرجح إلى حد كبير وجود تيار فكري آخر أنكر مفهوم سيطرته على العالم الآخر مما جعل أنصاره يردون على هذه المقولة المعاكسة بوضعه كمعبود ذو قدرة تمتد لماوراء عالم الدنيا .
3 – إن عبارة " فهو الإله الواحد الذي جعل من نفسه الملايين " تعكس أن مفهوم التوحيد الذي كان قد أشرق على مصر في عصر العمارنة لم ينتهي تأثيره بمجرد الزوال الزمني لذلك العصر ، فقد ظلت هذه الفكرة تطرح نفسها و بقوة مما حدا بكهنة آمون أن يحافظوا عليها طوال عصر الرعامسة و ذلك بإستغلالها أيدولوجيا و تحويلها لصالح معبودهم آمون الذي حل محل آتون كإله أوحد مع الوضع في الإعتبار أن أتباع آمون لم يلغوا على الإطلاق فعالية المعبودات الأخرى كما فعل الملك ( إخناتون ) ، فآمون و كما يصفه النص فهو " أول الآلهة الذي إنحدرت منه الآلهة الأوائل "
ولاشك أن ظهور مثل هذا النص و مثله من النصوص الأخرى قد ساهم إلى حد كبير في صياغة مذهب الخلق في طيبة الذي ظهر فيه آمون كأصل أول للوجود و كحاكم على البلاد منذ الأزل بداية من عصر الإنتقال الثالث ( أنظر مقال سابق للدارس عن مذهب الخلق في طيبة في ملفات الجروبات التالية : صالون ماعت الحضاري و اكتشف مصر و أ.أحمد فهيم ) .
و لم يكتفي أنصار آمون بما خلعوه من صفات على ربهم فقالوا عنه في نصوص عصر الإنتقال الثالث :
" غني بعينيه و كبير بأذنيه و هو سيد الحياة الذي يهبها لمن يشاء و العليم بكل ما في الأرض و السماء ، يأمر فتستجاب أوامره دون إعتراض ذو إسم وديع و حبه يملأ القلوب و ينقذ الضعيف من يد القوي و هو عنيف و مفزع و كبير القوة و كل إله هو تحت رحمته و هو ثور فتي يصد الغاضبين و قوي الذراع بضرب أعدائه و هو الإله الذي أنشأ البلد بمشيئته و الغائب الحاضر و المقدس الذي لا يعرفه أحد و هو الملك الذي خلق الملوك و يسجد الآلهة و الآلهات أمام سلطته و ذلك لخشوعهم العظيم له "
و هنا يمكن للدارس أن يستشف هذه النتيجة الهامة وهي :
أن الإله ( آمون ) لا يمثل فقط سلطة كونية على عالم الدنيا و العالم الآخر ، بل هو الكائن العارف و العالم بكل شيء و الحاكم و الآمر و المعاقب و المنقذ و مؤسس الملكية و الذي يسجد له جميع المعبودات و كل ذلك ينسب له في آن واحد . و لذلك يستنتج الباحث أن الحكم الديني التطابقي لآمون رع كان قد بلغ الذروة في بداية عصر الإنتقال الثالث فكان هو الحاكم الفعلي للبلاد و للكون بأسره ( أسطوريا ) من وجهة نظر أنصاره في طيبة .
و إستكمالا لما تقدم نجد نفس النص السابق يشير إلى مايلي :
" هو ( آمون ) سري التجسدات التي لا يعرفها أحد و الذي إختفى عن كل الآلهة و يغيب مثل الشمس التي لا يمكن معرفتها و يقضي الإنسان يومه بالنظر إليه فلا يشبع من ذلك و عند طلوع الفجر تصلي له كل الوجوه و هيئته تصلح لكل إله و هو الذي يصدر أوامره لملايين السنين دون أن ترتجف يداه و أوامره مؤثرة و لا يمكن أن يخفق في شيئ و هو الذي يهب العمر و يضاعف سنينه لكل من كان تحت رحمته و نعمته و هو الذي يستجيب لمن يناديه و هو ملك مصر العليا و السفلى آمون رع ملك الآلهة و هو أقوى و أسمى و أعظم و أقدم من جميع الآلهة " .
نلاحظ من تلك الفقرة الأخيرة أن الإله ( آمون ) رغم خفائه ( فهو إختفى عن كل الآلهة و تجسداته لا يعرفها أحد – مثلما يشير النص ) إلا أنه حاضر ( فعند طلوع الفجر تصلي له كل الوجوه ) و هذا يعني أنه وفقا لأيدولوجية كهنة طيبة أنه حاضر بإختفائه و أن وحي هذا المعبود ينجلي و يظهر بواسطة إحتجابه و خفائه عن الجميع فضلا عن ذلك يسعى أنصاره لكي يجعلوا من هيئته شكلا صالحا لجميع الآلهة ( و هيئته تصلح لكل إله ) الأمر الذي يعني أن آمون يحتوي في داخله جميع الآلهة فهي التي إنبثقت و إنحدرت منه كما نجد في هذا السياق الملكية الفعلية لآمون رع و سيطرته على مصر العليا و السفلى كحاكم أوحد للبلاد مما يعكس إنتقال سمات الملكية المصرية ( التي لم تعد تمنح الثقة و الفعالية لكهنة طيبة في نهاية عصر الرعامسة ) إلى ذات المعبود ( آمون ) و بعدما كان الملك هو الممثل للإله على الأرض ( الحكم الديني التمثيلي ) أصبح الإله هو الملك الفعلي للبلاد ( الحكم الديني التطابقي ) فتحول الحكم الديني من صفة التمثيل إلى صفة التطابق مع إنتقال الملكية من الملوك إلى آمون في نهاية عصر الرعامسة و بداية عصر الإنتقال الثالث وفقا لأنصار آمون في طيبة الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف لإنشاء دولة الإله ذات الطابع الديني في طيبة كدولة داخل الدولة .
إن مفهوم ( حكم الإله ) لم يكن أمرا جديدا عرفته مصر لأول مرة خلال نهاية عصر الرعامسة ، بل يميل الدارس إلى تقبل الرأي الذي ينادي بوجود إرهاصات أولى لتلك الفكرة منذ عصر العمارنة فهل من الممكن عقد مقارنة بين هذين العصرين حول المفهوم السابق ؟ و ما هي أوجه الشبه و الإختلاف بين حكم الإله في عصر العمارنة و حكم الإله في عصر الرعامسة ؟
نتفق في باديء الأمر أنه من المفيد أن نقارن بين بعض الفقرات التي وردت في نشيد العمارنة و بين بعض ما ورد في النص السابق لكي نلمس أوجه الشبه الواضحة بين العصرين حول مفهوم ( حكم الإله ) فكلاهما أي دولة الإله في طيبة و آتون في العمارنة ، يشتركان في سمة الحكم الديني للمعبود ، فآتون في العمارنة يشترك مع الملك الحاكم في حكم البلاد و يأخذ سمات الملكية فينسب له الملك ألقابا ملكية و يضع له الصل الملكي و يعتبره شريكا معه في حكم المملكة المصرية ( نموذج الحكم المشترك بين الأب و الإبن ) فأتون هو الإله الخالق الذي أوجد كل شيء و هو المسئول الأوحد الذي كلف نفسه بالحفاظ على الكون وفقا لخطاب العمارنة الملكي فهو هنا يتشابه مع خطاب طيبة في صفة الإله الخالق و الحافظ للكون مع الوضع في الإعتبار أن دين العمارنة لا يعترف على الإطلاق بوجود آلهة أخرى تشارك آتون في عملية الخلق أو الحفاظ على الكون بما فيه من مخلوقات و ذلك على النقيض من دين طيبة في عصر الرعامسة الذي يعترف بوجود الآلهة الآخرين و لو أنه يضع آمون طيبة في صورة مرتفعة و متفوقة و بارزة و مهيمنة على جميع المعبودات الأخرى بوصفه إله المنشأ و الأصل الأوحد في بدء الزمان و الذي أوجد الآلهة الآخرى في مرحلة زمنية لاحقة .
كما نلاحظ من ناحية أخرى أن إله العمارنة يخلو من الملامح الشخصية الواضحة ، فليست له قصة تحكي عن كيفية نشأته الأولى و هو لا يتسم بصفة الخفاء التي يتمتع بها نظيره الطيبي كما لا يتحكم في مصائر و حياة الأفراد و لا ينقذ الضعيف من يد القوي و لا يأمر بشيء و لا وجود لظاهرة العرافة و النبوءة و الوحي لإله العمارنة فهو إله صامت لا يتحدث لأحد و لا يعرف أحد رغبته سوى إبنه ( الملك إخناتون ) و ذلك على النقيض تماما من إله طيبة الذي تميز بسمات مناهضة و معاكسة لإله العمارنة . و لكن السمة المشتركة بين آمون طيبة و آتون العمارنة في نشيد إخناتون و النص الطيبي السابق هو ( إشراقة إله الشمس ) و إبراز الفارق بين حضور الإله و إختفائه فنقرأ على سبيل المثال في نشيد العمارنة :
" إن شعاعك يضيء الأرض بالرغم من بعدك ، و لا يمكن معرفة مسيرتك بالرغم من أنك في وجوههم "
فهنا نرى فكرة الخلابة تنادي بأن الإله بالرغم من وجوده البارز و الكامل و الشامل إلا أنه أكثر بعدا و أكثر إختفاءا فنص العمارنة يصف الإله بالبعد و بغموض مسيرته الشمسية بالرغم من حضوره البارز في الكون و هو هنا يشترك في نفس الصفة مع آمون طيبة الحاضر بإختفائه كما تقدم ذكره . ولاشك أن الدارس لتاريخ الديانة الشمسية في عصر الدولة الحديثة يكتشف أن دين العمارنة منبثق بأفكاره و مفاهيمه من ديانة الشمس التي ظهرت بشكل متطور مع بدايات عصر الدولة الحديثة ( عصر ما قبل العمارنة ) إلا أن أفكار العمارنة لم تختفي بنهاية ذلك العصر بل إندمجت و تطورت و إنصهرت في دين طيبة في عصر الرعامسة بعدما إنتحل الإله الطيبي لنفسه سمات الإله الآتوني و زاد عليه أنصاره صفات أخرى .
و هناك سمة أخرى متشابهة نلمحها بين آتون العمارنة و آمون طيبة فنقرأ في فقرة أخرى من نشيد العمارنة :
" إنك خالق ملايين التجسدات أيها الواحد الأحد : مدنا و قرى و حقولا و طرقا و أنهارا "
و هذه الفقرة تعكس أن عملية الخلق لا تنشأ من لاشيء و إنما هي من صنع الإله و هي تشير أيضا إلى فكرة هامة و هي : أن نور الشمس هو الذي يخلق الكائنات فما يقع عليه الضياء الشمسي فهو كائن مخلوق و ذلك لأن النور عندما يلامس أي كائن يجعله مرئيا و يمنحه شكلا معين و هذا هو مفهوم الإله الخالق في العمارنة و هي ذات الفكرة التي وجدت في آمون طيبة في عصر الرعامسة كما نلاحظ من النص الطيبي الذي سبق تناوله إلا أن كهنة آمون طوروا تلك الفكرة السابقة و جعلوا آمون رع ( با ) = ( روح ) العالم ، فالعالم هو جسده و الجسد يحيا بواسطة الروح ( البا ) ، فلا يحيا هذا العالم دون وجود آمون رع ( البا ) فيه . و لم يكن تعبير ( البا ) موجود في عصر العمارنة نظرا لأنه لا يتوافق و لا يتناسب مع خطاب العمارنة الملكي بل ظهر في عصر الرعامسة كخطة دينية أيدولوجية من جانب كهنة آمون لإبراز العلاقة بين الإله و العالم .
أما التشابه الآخر الذي نلمسه بين خطاب العمارنة و خطاب طيبة يتمثل في علاقة الإله بعمر الإنسان . فقد جاء في العمارنة :
" إذا ظهرت ( آتون ) فسيعيشون ( البشر )
و إذا إختفيت ( آتون ) فسيموتون
فأنت نفسك هو الزمن الذي يعيش به و بواسطته الإنسان "
كما جاء في طيبة :
" هو الذي يهب العمر و يضاعف السنين لكل من كان تحت نعمته و رحمته "
و هنا يظهر الفارق بينهما بوضوح ، فبالرغم من إشتراكهما في خلق الزمن و منح الحياة للبشر إلا أن الإله الطيبي يهب هذا الزمن لمن هو تحت رحمته و نعمته فالحياة و العمر التي يهبهما آمون مشروطتان بمن يضع نفسه تحت رحمته و لا وجود لذلك في العمارنة .
يتبين لنا مما تقدم أن مفهوم حكم الإله للعالم بأكمله بالرغم من وجوده البارز في نهاية عصر الرعامسة وبداية عصر الإنتقال الثالث إلا أن بواكيره الأولى تمتد لعصر العمارنة و ما قبله - بدايات الدولة الحديثة - و أن المعبود الحاكم للعالم يستمد هذه الصفة من قدرته على الخلق و المحافظة على النظام الكوني و التحكم في جميع مظاهر الطبيعة و الكون و وهب العمر للإنسان و ما إلى ذلك من سمات أخرى سبق ذكرها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق