بسم الله الرحمن الرحيم
الوظائف الطقسية للكاهن المرتل في عصر الدولة القديمة ......................................................................................................................................................
....
كان ظهور الكاهن المرتل في الحضارة المصرية القديمة هو حجر الزاوية في الميثولوجيا الشعائرية القديمة ، فأهمية الشعيرة تتمثل في كيفية تسخير القوى الغيبية الغير المنظورة و التحكم فيها من خلال أداء حركات إيقاعية و تراتيل دينية تصور لصاحبها أنه قد أمسك بتلابيب هذه القوى ، كما تظهر أهمية الطقسة من ناحية أخرى من خلال تحريم التغيير و إنعدام التجديد في معطياتها و طريقة أدائها ، فيتم تكرارها و إعادتها لمرات متعددة ضمانا لعدم تحريفها و لذلك إقتصرت الكتابة ذات المضمون الشعائري منذ عصر الدولة القديمة على مجموعة محدودة من الكهنة تعارف عليهم الدارسون بإسم الكهنة المرتلين . و لم يكن الكاهن المرتل عرافا أو نبيا ( و ذلك على النقيض مما تم تصويره في الأدبيات الشعبية المصرية القديمة مثل قصة خوفو و السحرة و تنبؤات نفررحو التي تظهر فيها قدرة الكاهن المرتل على التنبؤ بالمستقبل ) طبقا لما ورد من كتابات و مناظر الدولة القديمة الرسمية ، و إقتصرت علاقته بالسلطات العليا للدولة بوصفه خبيرا في قراءة التراتيل الدينية المقدسة و ما يرافقها من إقامة الشعائر اللازمة في زمان و مكان محددين .
من هو الكاهن المرتل في عصر الدولة القديمة ؟ ....... في باديء الأمر يتكون لقب الكاهن المرتل من كلمتين و هما ( غري حب ) و التي تعني حرفيا " الذي تحت كتاب التراتيل " أو " حامل كتاب التراتيل أو الطقوس " و هو المعنى الذي يطابق فعليا لقب الكاهن المرتل و الذي كثيرا ما نراه مصورا على جدران معابد و مقابر الدولة القديمة و هو يرتل من ورقة بردي يحملها بين يديه و في بعض الأحيان نراه يحملها في يده اليسرى و هي مطوية أما اليمنى فتقوم بأداء بعض المهام الدينية الأخرى . و نضيف هنا أن الكاهن المرتل كان شخص ذي مكانة إجتماعية مرموقة و على دراية كبيرة بالطقوس في المعابد و الشعائر الجنائزية في المقابر ، و قد حمل هذا اللقب في عصر الدولة القديمة مائة و ثلاثة ( 103 ) أشخاص كان من بينهم الأمراء من أولياء العهد و الوزراء و حكام الأقاليم و كهنة الشمس و كبار رجال الدولة .
ما هو الدور الديني للكاهن المرتل في عصر الدولة القديمة ؟ .... يبدو من الواضح أن الإشراف على إقامة الشعائر الدينية و الملكية في البلاط الملكي أو في المعابد المختلفة قد تكفل به كبار الكهنة الذين حملوا لقب الكهنة المرتلين كما يبدوا أنهم قد أشرفوا على تلاوة الدعوات السحرية اليومية و الموسمية لصالح الملك و لذلك فهم يمثلون عصب الحياة الدينية منذ عصر الدولة القديمة و ما تلاها من العصور اللاحقة ، فقد كانوا من ذوي المعارف و الخبرات الدينية الواسعة كما كشفت بعض نصوص مقابر الدولة القديمة عن براعتهم بوجه عام في فنون الشعائر السحرية . و يقوم الكاهن المرتل بأداء الشعيرة في مكان منعزل عن العالم الخارجي ، فلا يراه أحد في اللحظة التي يدلف فيها لعالم المقدس كما أنه لا يكشف لأحد عن طبيعة وظيفته و ماهية الطقوس التي يؤديها نظرا لقداستها المطلقة و أهميتها البارزة .
ما هي الوظائف الطقسية للكاهن المرتل في عصر الدولة القديمة ؟
1 – يقوم الكاهن المرتل بأداء التطهير و الغسل للمتوفى ، فطبقا لما ورد في متون الأهرام أن إله الشمس رع آتوم يفترض أنه يتطهر و يغتسل قبل ظهوره في الأفق الشرقي كل صباح ، و كنتيجة لهذا التطهر و الغسل اليومي نجد كلا من حورس و جحوتي يقومان بتطهيره لكي تعاد ولادته مرة أخرى و لذلك ورد في مصادر الدولة القديمة أن الملك و قبل دخوله معبد الشمس كان يغتسل و يتطهر داخل منشأة دينية تعرف بإسم بيت الصباح ( بر دوات ) – أنظر مقال سابق للدارس بعنوان المغزى الديني من منشأة بر دوات في الحضارة المصرية القديمة – حيث كان يفترض أن المطهرين هنا هما حورس و جحوتي أو حورس وست التابعين للملك بوصفهما ممثلين لمصر العليا و السفلى . فلا غرابة عندما نجد أن من يتقمص أدوار حورس و ست في تطهير و غسل الملك هنا هم الكهنة المرتلين و كانت عملية التطهير تتم أيضا عند الوفاة في مكان تم إعداده خصيصا من أجل غسل المتوفى قبل إجراء التحنيط و قد إصطلح على تسمية هذا المكان بإسم ( إيبو إن وعب ) بمعنى مكان أو خيمة التطهير ، فكان الكاهن المرتل يرافق جثة المتوفى حتى هذه الخيمة و يقوم بغسله و تطهيره لهدف هام و هو : تأهيل المتوفى لمرافقة و مصاحبة إله الشمس رع . و نظرا لما يحتويه الأمر من أهمية بالغة ظهرت في مقابر الأفراد لعصر الدولة القديمة عبارت تؤكد على أن الملك كان يمنح خيمة تطهير كاملة لصاحب المقبرة مجهزة بكل القرابين اللازمة التي يحتاجها الكاهن المرتل لأداء الشعائر المصاحبة لعملية التطهير و الغسل .
2 – كان الكاهن المرتل المسئول المباشر عن التراتيل الدينية اللازمة و المرافقة لعملية التحنيط منذ عصر الدولة القديمة للملوك و الأفراد ، فلما كانت الطهارة مثلما رأينا شرطا رئيسيا للدخول إلى العالم السماوي ، فإن عملية التحنيط نفسها مع الطهارة و الغسل تمثل القدرة الكاملة للجسد على التخلص من الأعداء و مقاومة الفناء ليحظى بعدها الجسد بحالة دائمة مستقرة من الكمال لذلك فقد جاءت التسمية المعبرة أحيانا عن مقصورة التحنيط – بر نفر – بمعنى بيت الكمال و أحيانا أخرى تم التعبير عنها بلفظ – وعبت نت وت – بمعنى مقصورة التحنيط ، فهي تسمية تشير للمكان المخصص لإتمام شعائر التحنيط بالنسبة للملوك و الأفراد . ينبغي لنا هنا أن نشير لأمر هام و هو : أنه إذا كانت شعائر الغسل و التطهير تسعى لمشابهة المتوفى بإله الشمس رع و إعادة ولادته كل صباح من المياه الأزلية الأولى ، فإن طقوس التحنيط هي المعبر الرئيسي للمتوفى إلى عالم الغرب ، مقر أوزير و ذلك لكي يتحد و يندمج به .
3 – يمكن ترتيب الشعائر الجنائزية المرتبطة بالمتوفى وفقا لمناظر مقابر الأفراد في الدولة القديمة على النحو التالي :
بمجرد إنتهاء شعائر الغسل و التطهير في خيمة التطهير يتم حمل تابوت المتوفى حتى يصل لمقصورة التحنيط في حضرة المحنط و الكاهن المرتل و في وجود ندابة . و لقد كان من الضروري أن يلازم الكاهن المرتل الكاهن المحنط أثناء القيام بعملية التحنيط ، فلا يصح وجود أحدهما دون الآخر . فالكاهن المرتل هو المسئول الأول عن أداء جميع التراتيل أي أنه يقوم بالدور المعنوي و ذلك النقيض من المحنط الذي يقوم بالدور المادي .
4 – بعد عمليتي التطهير و التحنيط ، يقوم مجموعة من الكهنة بتقديم القرابين للمتوفى و هم عرفوا بلفظ ( حمو – كا ) بمعنى خدم أو كهنة الكا ، فيتولون عملية إعداد الطعام و الشراب لتقديمه كقربان ثم يأتي بعد ذلك دور الكاهن المرتل في ترتيل فقرات و عبارات دينية هامة أثناء عملية التقدمة ، و أحيانا كان هو نفسه يتكفل بتقديم القربان و الترتيل الملازم له و الهدف من تقدمات القرابين و ترتيل النصوص الدينية المصاحبة لها هو : تهيئة المتوفى لكي يتناول طعامه و شرابه لمواصلة الحياة في عالمه الآخر . و حقيقة الأمر أن تقدمات القرابين و صيغها الدينية المسجلة على جدران المقابر كانت تعتبر منحة مقدمة من الملك للمتوفى مباشرة أو قد تكون أحيانا أخرى هبة مقدمة من الملك لإله جنائزي مثل أوزير أو أنوبيس ثم يصل نفعها للمتوفى بعد أن يستفيد المعبود منها روحيا و رمزيا . و من هنا كان كبار رجال الدولة يحرصون على ذكر مجيء الكاهن المرتل إلى مقابرهم إلى الأبد لكي يقوم بتقدمة القربان المقدم من الملك بلا إنقطاع .
5 – يقوم الكاهن المرتل بعد ذلك بعمل شعيرة ( النورانية ) و هي تعتمد على ما يتلو الكاهن المرتل من تراتيل و دعوات لتحويل المتوفى إلى ( آخ ) بمعنى روح مبجلة أو روح نيرة مباركة ، فإذا ما تمكن من تحويله لحالة ( الآخ ) أصبح بريئا من أي تهمة و يتحول إلى قبس نوراني شمسي فينطلق نحو السماء ، فلا تتم عملية الصعود نحو السماء إلى بعد الحصول على البراءة و التحول إلى حالة الآخ و لهذا نقرأ في نصوص الأهرام أن حورس قام بتزكية و تبرئة أبيه أوزير ، فتحول إلى قبسا نورانيا و انطلق إلى السماء و لهذا نقرأ " صمتا صمتا أيها الناس سمعا سمعا أيها الناس ، إسمعوا هذا الحديث الجليل الذي قاله حور لأبيه أوزير فأصبح به آخا حيا – أي روحا مبجلا – و انطلق نحو السماء " . و كان الكهنة المرتلين يقومون بهذه الشعيرة في وضع الركوع واضعين يدهم اليمنى على صدرهم و رافعين ذراعهم الأيسر لأعلى . نفهم من ذلك أن شعيرة النورانية و تحويل المتوفى إلى آخ تهدف لتبرئته و لمساعدته على الإرتقاء إلى الدرجات العلى في السماء بصحبة الملوك و الآلهة فيحظى بأبدية شمسية سماوية مكرما و مبجلا للأبد .
6 – يتجه الكاهن المرتل بعد ذلك نحو أحد الطقوس الهامة عقب الإنتهاء من طقسة النورانية ، و هي شعيرة ( إينت – رد ) بمعنى محو أو إزالة آثار القدم . و هي تعتبر آخر شعيرة تقام في المقبرة أو المعبد وفقا لمصادر الدولة القديمة . و يظهر دور الكاهن المرتل واضحا في هذه الشعيرة من خلال مناظر مقابر أفراد الدولة القديمة إذ نراه و هو يخطو تاركا صالة القرابين و في يده مكنسة تصل إلى الأرض حيث يقوم بتنظيف المكان بأكمله ( المقبرة أو المعبد ) بعد الإنتهاء من تقدمات القرابين بهدف طرد الأرواح الشريرة و جعل المكان نظيفا كما كان قبل أداء الطقوس . و كانت هذه المكنسة التي ينظف بها تصنع من نبات أطلق عليه نبات الهدن وفقا لما ورد في نصوص الأهرام ، فهو نبات مقدس و له رائحة نفاذة تؤذي الأعداء و تطرح الأرواح الشريرة .
ما هو الدافع لإزالة آثار قدم الكاهن المرتل بعد أدائه لتقدمات القرابين في المعبد أو المقبرة ؟
وفقا لما ورد في متون الأهرام أن شعيرة ( الإينت – رد ) إزالة آثار القدم كانت تتم لكي يحفظ عين حورس التي تعني الحفاظ على جميع القرابين المقدمة للملك أو للمتوفى في المعبد أو المقبرة ، فنقرأ في التعويذة رقم 400 من متون الأهرام " إن عين حورس تدمع على حزمة نبات الهدن ، أنت يا كا حورس ، يا سيد القرابين ، إعطي الملك الخبز ، إعطي الملك البيرة ، إملأ مائدة الملك بالقربان ، يا أيها الآلهة و الآلهات المختصة بنبات الهدن لا تستخدموا رائحة نبات الهدن ضد الملك " و من هنا نجد أن نبات الهدن يقوم بالحفاظ على عين حورس بوصفها القرابين المادية اللازمة للملك ، كما يتم إبعاد خطر رائحة هذا النبات عن شخص الملك الحاكم .
7 – كان الكاهن المرتل هو المسئول عن ترتيل طقوس فتح الفم و هي من الشعائر المتممة لإعداد المتوفى قبل دفنه في مثواه الأخير و يتضح من ممارسة هذه الشعائر أن الغرض منها إحياء حواس المتوفى و إعادة الجثة الهامدة إلى وظائفها التي حرمت منها بالموت أو التحنيط و هي شعائر تهدف لتنبيه الحواس حتى تتمكن من إستلام القرابين و التمتع بها . و قد كان الكاهن المرتل و كاهن آخر يدعى كاهن – السم – هما المسئولين عن أداء هذه الطقسة إذ يقوم الكاهن المرتل بقراءة التراتيل المصاحبة من لفافة البردي التي يحملها في يديه و يتقدمه كاهن – السم – الذي يمسك في يده أداة تشبه المطرقة و تعرف بإسم أداة ( ستب ) و هي الأداة التي كانت تستخدم لإجراء شعائر فتح الفم على تمثال المتوفى في المقبرة و على جثمانه قبل دفنه
يتبين لنا مما تقدم أن الكاهن المرتل هو الحارس الأمين لإقامة شعائر المقبرة للمتوفى ( الملك أو كبار رجال الدولة ) أو المعابد الجنائزية الملكية بوصفه الإبن الشرعي الذي يتم الشعائر لأبيه في مقبرته أو في معبده فإن لم يقيمها إبنه مباشرة تولى وظيفته من يحل محله و ذلك نظرا للإعتبارات و الأسباب الدينية الهامة التي تكمن وراء مفهوم إقامة الشعيرة للسلف من جانب الخلف إحياءا لذكراهم و تأكيدا على عودتهم للحياة مرة أخرى و هو ما جعل الكاهن المرتل يكتسب أهمية و مكانة إجتماعية كبرى في المجتمع و ذلك من خلال النداء الذي كان يوجهه الكاهن المرتل بوصفه صاحب المقبرة للأحياء المارين أمام المقبرة فيقول لهم بصوته ( صوت الكاهن كما لو كان هو نفسه صاحب المقبرة المتوفى ) " أيها الأحياء الذين على الأرض و الذين سيعبرون أمام هذه المقبرة ، يا من تحبون الحياة و تكرهون الموت فلتقولوا : فليوهب ألف من الرغيف و ألف من إناء الجعة كي تكون ملكا لصاحب المقبرة ، و بفضلها أتمكن من قضاء حياتي في الجبانة لقد كنت مقربا لدى الملك و كنت شخصا ماهرا و صاحب فم عليم "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق