بسم الله الرحمن الرحيم
الدلالات التاريخية و الأيدولوجية لآثار عصر الإنتقال الأول ......................................................................................................................................................
....
يشير مصطلح عصر الإنتقال الأول إلى الفترة التي تحللت فيها السلطة الملكية المركزية في نهاية عصر الدولة القديمة إلى أن بدأت البلاد مرة أخرى في التوحد سياسيا تحت زعامة و سلطة سياسية واحدة في بداية عصر الدولة الوسطى . فلم تكن هناك سلطة ملكية قادرة على فرض نفسها سياسيا و دينيا و شرعيا في مختلف أنحاء البلاد ، الأمر الذي جعل حكام الأقاليم يستقلون بسلطاتهم السياسية داخل أقاليمهم ، بل و يسجلون أسمائهم في ألقاب ملكية على جدران مقابرهم ، و لعل التساؤل الذي تفرضه هذه الدراسة هو : كيف نظر المصري القديم في العصور اللاحقة للفترة التي إختفت فيها السلطة الملكية المركزية من البلاد ؟
على المستوى الرسمي الديني و عندما سجلت قوائم الملوك على جدران المعابد المصرية في عصر الدولة الحديثة ، لم يظهر فيها أي إنقطاع حضاري أو تاريخي أو تسلسلي بين أسماء الملوك التي تولت زمام الأمور في البلاد منذ عصر الملك " مني " مؤسس الملكية ( لا وجود تاريخي لملك يدعى – مني – أنظر مقال سابق للدارس بعنوان الملك مني بين التاريخ و الأسطورة ) و حتى عصر الملك الذي سجلت في عهده القائمة الملكية . فقد كان الغرض من هذه القوائم الملكية يتمثل في هذه الحقائق :
1 – أن الملكية المصرية لم تكن من إبتكار الملوك و إنما هي ميراث الآلهة الأوائل الذين إخترعوها و أورثوهها لخلفائهم الملوك
2 – أن هذه الملكية لم تنقطع عن البلاد على الإطلاق و أنها ظلت مستمرة و كانت تورث من ملك لآخر حتى وصلت لحكم الملك الذي أمر بتسجيلها على جدران المعبد ، فهذه القوائم صنعت خصيصا لإخفاء أي فترات إنقطاع في التاريخ المصري إتسمت بعدم وجود سلطة ملكية في البلاد .
3 – لم يكن لهذه القوائم شأن بكتابة التاريخ و لكنها قوائم ذات أهداف دينية طقسية ، حيث توضع بهدف تخليد ذكرى ملوك مصر و إحياء شعائرهم في إطار ما يعرف بتقديس الأسلاف .
يتضح لنا أن هذه القوائم لم تعترف بوجود عصر الإنتقال الأول على المستوى الرسمي الكهنوتي في المعابد المصرية القديمة و ذلك بسبب أن الملكية وفقا لمعطيات الديانة الرسمية لا ينبغي لها أن تنقطع عن عالم مصر و إلا أفضى ذلك إلى نهاية الزمن و توقف حركة الكون و إنهيار العالم بأكمله . و لكن نلاحظ من جانب آخر في بردية تورين ( كشفت المقالات الحديثة أن بردية تورين تعود لنهاية عصر الإنتقال الثاني و لا تنتمي لعصر الرعامسة كما كان يعتقد في السابق ) أن الكاتب وضع خطا تحت حكم آخر ملك من ملوك الأسرة الثامنة الأمر الذي يعني أنه جعل ملوك مصر منذ الأسرة الأولى و حتى نهاية الأسرة الثامنة في بوتقة تاريخية و وحدة حضارية واحدة إتسمت بوجود سلطة مركزية و لهذا السبب يعتقد العديد من علماء المصريات أن عصر الدولة القديمة ينتهي عند آخر ملوك الأسرة الثامنة و يبدأ عصر الإنتقال الأول عند أول ملك في الأسرة التاسعة و ذلك عندما تحولت سلطة البيت المالك من منف إلى إهناسيا .
و لاريب أن عصر الإنتقال الأول في مصر إتسم بعدد من الملامح التاريخية و الأيدولوجية طبقا لمعطياته الأثرية تمثلت فيما يلي :
1 – تخلت السلطة الملكية الشكلية و الإسمية في إهناسيا فضلا عن حكام الأقاليم عن سياسة بناء الهرم كمقبرة ملكية ، فهل ذلك دليل ضمني غير مباشر على عدم رؤيتهم الفعلية لأنفسهم كملوك على البلاد بأكملها أم مجرد محاولة لإجتناب تقاليد و عادات ملوك منف الدينية و الإبتعاد التام عن رموزهم السياسية و الحضارية القديمة ؟
2 – لا يوجد إنقطاع حضاري أثري في تشييد المقابر خلال عصر الإنتقال الأول ، بل على النقيض من ذلك ، كشفت الحفائر عن زيادة واضحة في عدد المقابر في جميع أنحاء البلاد مما أدى لمعرفة حقيقة علمية هامة و هي : أن التعداد السكاني لمصر قد تزايد بشكل واضح خلال ذلك العصر عما كان في عصر الدولة القديمة . و من جانب آخر كشفت بعثة حفائر أسبانية مؤخرا عن مجموعة مصاطب و مقابر في بعض الأقاليم المصرية و لاسيما في إهناسيا و أسيوط تنتمي لعصر الإنتقال الأول ، و يظهر فيها مناظر و نقوش تتسم بمستوى فني عالي الجودة يؤكد على إتباع قواعد فن البلاط الملكي التي كانت متبعة طوال عصر الدولة القديمة و كان ذلك أمرا منطقيا و خاصة في أقاليم مصر الوسطى بحكم قربها النسبي من منطقة منف و ذلك على النقيض من أقاليم مصر العليا التي إنتهجت أساليب و قواعد فنية مختلفة تماما عن الأسلوب المنفي ، فلم تعد هناك حاجة لممارسة و تطبيق القانون الفني البلاط الملكي في منف لدى حكام أقاليم مصر العليا و لم تعد هناك حاجة لإستعاء فناني و عمال منف لنحت التماثيل و نقش المقابر الإقليمية لمصر العليا ، فقد كانت هذه فرصة ذهبية للتعبير السياسي الأيدولوجي وفقا لمفاهيم و أفكار مستقلة و منفصلة عن حضارة البلاط الملكي المنفي ، الأمر الذي أفضى لوجود حضارات إقليمية متعددة في مصر العليا إختلفت قيمها المحلية عن قيم البلاط الملكي في منف و إهناسيا و مصر الوسطى
3 – وجود زيادة واضحة في صناعة الأثاث الجنائزي لمقابر عصر الإنتقال الأول في جميع أنحاء البلاد و هو ما تم إكتشافه في عدد لا بأس به من مقابر عصر الإنتقال الأول ، فضلا عن التحسن الواضح في صناعة بعض المنتجات و الأثاث الجنائزي الموضوع في المقابر و لا سيما صناعة الأواني الفخارية . و لعلنا نتسائل هنا : ما مدى مصداقية أدبيات الدولة الوسطى التي نادت بوجود أزمات إقتصادية و كوارث إجتماعية خلال عصر الإنتقال الأول ؟
4 – ظهور متون التوابيت لأول مرة و التي لم تكن سوى إمتداد لنصوص الأهرام و لكن بصورة معدلة تناسب معطيات العصر ، فأصبحت هذه النصوص و بعد أن كانت حكرا على البيت الملك ، في متناول أعداد كبيرة من حكام الأقاليم و أتباعهم . و تميزت هذه المتون عن نصوص الأهرام في بعض الأمور الهامة و هي :
أ – ظهر فيها وصف و إرشادات كاملة للمتوفى لكي يتعرف على مداخل و طرق و ممرات العالم الآخر ، فتحولت لكي تكون بمثابة خريطة تفصيلية واضحة بالطرق التي ينبغي أن يسير فيها المتوفى في العالم الآخر .
ب – يظهر فيها لأول مرة تصورات و تمنيات و دعوات المتوفى لكي يلتقي بجميع أعضاء عائلته مرة أخرى في عالمه الآخر فلا ينفصل عنهم أبدا تماما مثلما كان معهم دائما في عالم الدنيا .
ج – لا يغلب على متون التوابيت المصير الشمسي الأخروي بمفرده بل تتسم بوجود صبغة أوزيرية واضحة تتجاور مع المصير الشمسي فيتخذ المتوفى كلا من المصيرين في العالم الآخر بل و يصبح له الحق في أن يصبح " أوزير " و ينال " صدق الصوت " و " حكم البراءة " في محكمة العالم الآخر ، فيتطابق بشكل تام مع المعبود أوزير و يصبح ملكا على حقول الإيارو و حقول البوص ( مملكة أوزير في العالم الآخر )
5 – ظهور شخصية إجتماعية جديدة خلال عصر الإنتقال الأول و هي شخصية ( الكفيل الصالح ) و هو الشخص الذي يتكفل بتموين و إمداد أتباعه و كل من يريد أن يخضع لسلطته بكل مستلزمات الحياة المادية و المعنوية فلا يصل الفقر أبدا لكل من يرضى أن يتخذه وليا له في عالم الدنيا و عالم الآخرة ، فهو نصير الفقراء و رب المستضعفين و الراعي الصالح الذي يتكفل بهم و بعائلاتهم بكل ما يلزمهم و قد لعب حكام الأقاليم هذا الدور ( الكفيل و الولي الصالح ) بدرجة إمتياز أمام شعوب الأقاليم ، فمن أراد أن ينجو من الأزمات و الكوارث و جميع إشكاليات الحياة ، عليه أن يتخذ له في عالم الدنيا وليا و كفيلا صالحا يقوم برعايته في مقابل أن يخضع لسلطته و يكون ولائه التام له فيضمن لنفسه النجاح الدنيوي و الخلاص الأخروي
و لعلنا هنا نتسائل : ألم تكن أيدولوجية الراعي الصالح و الرب الذي يرعى شعبه و الولي الذي يتكفل بأبنائه التي إنتشرت في الأدبيات السياسية لملوك الدولة الوسطى كانت هي ذاتها أيدولوجية حكام الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول ؟ .... ترجح هذه الدراسة أن ملوك الدولة الوسطى إنتحلوا لأنفسهم أيدولوجيا حكام أقاليم عصر الإنتقال الأول السياسية حتى يرتكزوا في حكمهم على نفس المبررات الأيدولوجية التي إبتكرها حكام الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول .
6 – قام حكام الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول بكتابة سيرتهم الذاتية على جدران مقابرهم ، فكشفوا من خلالها على وجود الشخصية الذاتية المستقلة في كل شيء و لا تخضع للسلطة الملكية في قراراتها ، فهو عصر ( الأنا و الفردية ) ، و قاموا بتصوير فوضى و أزمات و مجاعات في أقاليمهم و لكنهم و بفضل حكمتهم و عبقريتهم تمكنوا من حل جميع هذه الإشكاليات و الأزمات ، مما يؤكد عدم وجود جهة رسمية ملكية مختصة تسيطر عليهم و تشرف على كتابة السير الذاتية لهم على جدران المقابر ، إلا أننا لا نسلم بصحة معظم ما ورد من كتابات على جدران هذه المقابر نظرا لطابعها الأيدولوجي المغرض و الذي لا يستهدف المعنى التاريخي الواقعي بشكل مباشر بقدر ما يستهدف المغزى الأيدولوجي ذو الطابع المثالي ، فهم جميعا يظهرون في صورة مثالية و كأبطال خارقين للعادة لا يستعصي عليهم شيئا و لا تقف أمامهم عوائق أو صعوبات و لا إستمرارية للأزمات طالما هم قاموا بحلها و عن جدارة .
7 – لم تعد الصفة الشرعية لحاكم الإقليم تتخذ من السلطة الملكية المنفية أو الإهناسية ، بل قاموا بإعطاء أنفسهم صفة قانونية دينية من خلال آلهة الأقاليم المحليين ، فهذا هو ما يمكن لنا أن نستشفه من خلال ما ورد في كتابات نصوص السير الذاتية التي سجلت على مقابرهم ، فأصبح كل حاكم إقليم يشير في مقبرته أنه تولى حكم الإقليم بناءا على أمر صادر من معبود الإقليم المحلي و أنه أرسله للإقليم لكي ينظم أموره و يرعى معابده و يرمم المقاصير القديمة و يقدم القرابين و يقيم الأعياد و أن يرعى شعبه و لا يتركهم في حالة فقر أو ضنك و لا وجود لأي ذكر في هذا السياق للسلطة الملكية . و من هنا يتحول إله الإقليم إلى صاحب السلطة الحقيقية الذي يصطفي لنفسه حاكم الإقليم قبل أن يولد . و لا ينبغي أن نتجاهل طرح تساؤل آخر مشروع في هذا السياق : ألم تكن أيدولوجيا الملك الذي إصطفاه المعبود قبل ولادته لكي يحكم البلاد و يشيد المعابد و يرممها و يقدم القرابين لمعبوداتها و يقوم بالسهر طوال الليل لكي يرعى شعبه هي المفاهيم التي إنتشرت في أدبيات الدولة الوسطى الملكية و كانت في ذات الوقت هي نفس الأفكار التي نادى بها من قبل حكام الأقاليم في عصر الإنتقال الأول ؟
8 – إنتشرت كتابات و نصوص اللعنة في معظم قبور الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول ، و كانت هذه الكتابات تلعب دورا هامشيا خلال عصر الدولة القديمة أما في عصر الإنتقال الأول أصبحت ذات أهمية بالغة ، حيث تتوجه هذه الكتابات صراحة بصب اللعنات على كل من تسول له نفسه بالإعتداء على القبور مما يكشف عن النتيجة التالية : وجود حالة إضطراب أمني محتمل في أقاليم مصر و عدم وجود سلطة أو هيئة مختصة من جانب القصر الملكي لحماية هذه المقابر و لذلك تشير نصوص اللعنات في تلك المقابر أن المقبرة أصبحت تحت حماية الإله المحلي للإقليم و من يتعدى عليها سيتعرض لقوانين صارمة و عقوبات حاسمة مما يكشف عن إستمرارية أيدولوجية حرمة المساس بالمقابر كنموذج ديني كلاسيكي مقدس له صفته القانونية الحضارية الملزمة للجميع ، فلا يجوز الإعتداء على القبر و لا يجوز إستخدام أجزاء و عناصر معمارية من قبور قديمة لأجل إنشاء قبور جديدة .
9 – إتسمت جميع قبور حكام الأقاليم بإبراز وجود فكرتين : الأولى هي المجاعة و الثانية هي كيفية تموين و إمداد شعب الإقليم بالغذاء للتغلب على المجاعة . فالسند القانوني الأول لكل حاكم إقليم هو تموين الإقليم التابع له بالغذاء في أيام المجاعة . و هناك آراء من جانب بعض علماء المصريات التي تنادي بتحويل نصوص المجاعات إلى آثار صادقة و غير مغرضة تكشف عن وقوعها ( المجاعات ) فعليا خلال عصر الإنتقال الأول بسبب إنخفاض مستوى فيضانات النيل لأكثر من مرة مما كان سببا أساسيا في إنهيار السلطة الملكية المركزية في نهاية عصر الدولة القديمة فلم تعد قادرة على أن تفي بواجباتها تجاه الأقاليم ، و هو ما جعل كل حاكم إقليم أن يستقل بإقليمه و يتجه لحل مشاكل الإقليم بنفسه دون الرجوع للسلطة الملكية و برغم صحة هذا الإستنتاج ، إلا أننا نشير هنا إلى نتيجة هامة و هي :
لم يكن الهدف من وصف هذه المجاعات على جدران مقابر حكام الأقاليم كتابة الوقائع التاريخية ، و إنما لإبراز مكانة و أهمية و دور حكام الأقاليم في حل هذه الإشكاليات ، فالمجاعة هنا تقف في خلفية الموضوع ، و كلما زادت الأزمات و أثر المجاعات ، كلما زادت أهمية حكام الأقاليم الذين أنقذوا شعوبهم من هذا الخطر مما يرجح فكرة حدوث المجاعة ( كنواة تاريخية حقيقية ) خلال عصر الإنتقال الأول أما آثار هذه المجاعات و نتائجها التي وردت في هذه المقابر فلا تقع في إطار ( الوقائع التاريخية ) نظرا لمناهضتها و عدم إنسجامها مع المعطيات الأثرية لذلك العصر ( راجع النقطتين رقم 2 و 3 ) .
10 – تم تصوير هذه المجاعة بصورة دينية رمزية مجازية لأول مرة على جدران مقابر حكام الأقاليم في عصر الإنتقال الأول ، فالمجاعة هي كومة رمال أبوفيس الموجودة على المياه . و أبوفيس هنا هو الثعبان المائي الضخم المعروف بإسم ( عبب ) و يقوم بتهديد مركب الشمس خلال مسيرتها في السماء ، فإذا ما قام بإبتلاع مياه السماء التي تسير عليها مركب الشمس ، تكونت و تشكلت رمال على المياه السماوية مما يعرقل من حركة مركب الشمس فتتوقف و كان ذلك التصوير الديني الرمزي يعادل تصوير إنخفاض مستوى مياه فيضان النيل في مصر . و من هنا يظهر خطر الثعبان ( عبب ) على الكون بأكمله و تصبح المجاعة في مصر مرادفا لوباء يشمل العالم بأسره . و لا يمكن تغجاهل طرح هذا التساؤل التالي : ألم تكن فكرة الثعبان المهدد للكون و حركة مركب الشمس التي ظهر تصويرها في أدبيات الدولة الوسطى و مقابر ملوك الدولة الحديثة هي ذات المفهوم الذي ظهر أولا في مقابر حكام أقاليم عصر الإنتقال الأول ؟ .... إن هذه الأيدولوجية الكونية الشمسية كانت من إبتكار حكام الأقاليم خلال ذلك العصر ثم تبنتها السلطة الملكية و إنتحلتها لنفسها في المراحل التاريخية اللاحقة .
11 – إعتمدت أدبيات السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى على أفكار عصر الإنتقال الأول الذي قام فيه حكام الأقاليم بتصوير عالم من الأزمات و المجاعات التي نجحوا في حلها في نهاية المطاف مع إستدراك بسيط و هو : إبقاء صورة الشقاء و الكوارث و الأزمات على عصر الإنتقال الأول بهدف تشويهه و إبراز صورة سلبية لحكام الأقاليم ثم المبالغة في تصوير عصر الإنتقال الأول على أنه زمن الفوضى المطلق و ذلك لبث الشعور الدائم بالخطر في البلاد و الحاجة إلى وجود سلطة ملكية مركزية تتسلط على الرعية و ترعاها و تنقذها و تحميها من الأزمات و الكوارث . و من هنا ندرك أن أدبيات الدولة الوسطى السياسية هي التي سعت قدر الإمكان لإبراز صورة سلبية مطلقة عن عصر الإنتقال الأول و ذلك في مقابل الصورة الإيجابية المطلقة لملوك الدولة الوسطى و هنا يمكن إستنتاج ما يلي :
أ – إن الماضي ( أحداث عصر الإنتقال الأول ) في مصر في حد ذاته لا يوجد طالما أنه لا يوجد من يتذكره .
ب – يتم تذكر الماضي ( عصر الإنتقال الأول ) من خلال وجود سلطة و مؤسسة تقوم بإعادة بنائه ( ملوك عصر الدولة الوسطى )
ج – هذا البناء الخاص بالماضي ( عصر الإنتقال الأول ) لا يتم إلا من خلال أسس و أهداف الحاضر ( السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى ) مما يعني إعادة مونتاج الماضي .
د – من هنا لا يظهر الماضي ( عصر الإنتقال الأول ) في صورته الحقيقية ( و هي لا تتحقق إلا من خلال الآثار الغير مغرضة ) و إنما يظهر من خلال تعديل و تغيير في ملامحه الرئيسية ( و ذلك هو ما تم في عصر الدولة الوسطى ) .
يتبين لنا مما تقدم أنه و لأول مرة لا يظهر لنا الماضي ( عصر الإنتقال الأول ) في فترة الدولة الوسطى كعصر ذهبي و كماضي مجيد مثلما كان يحدث في معظم الأحيان ، و إنما تم النظر لهذا الماضي على أنه فترة سيئة مليئة بالكوارث ، فلم يكن هناك إشتياق للماضي بل تسليط الضوء عليه بشكل مغرض و ذلك لكي يقوم الحاضر ( السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى ) بتصوير نفسه بمثابة المنقذ و المعيد للسلام و النظام و العدالة و للعصر الذهبي مع التذكير بأمر هام و هو : أن العصر الذهبي بالنسبة لأدبيات الدولة الوسطى هو عصر ينتمي لماضي أسطوري حكمت فيه الآلهة بنفسها على الأرض .
و لذلك لا يمكن الإعتماد على أدبيات الدولة الوسطى المغرضة في وصف و كتابة تاريخ عصر الإنتقال الأول كما لا يمكن الإعتماد أيضا على نصوص و كتابات عصر الإنتقال الأول ( و لاسيما السير الذاتية لمقابر حكام الأقاليم ) في تأريخ هذه الفترة بشكل منهجي و إنما يستنطق ذلك العصر من خلال الشواهد الأثرية الموضوعية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق