بسم الله الرحمن الرحيم
المهام الدينية لأرواح بوتو و نخن في المعابد المصرية القديمة ............................................................
.................
يتناول الدارس من خلال هذا المقال موضوعا يتعلق بواحد من أهم المفاهيم الدينية الخاصة بالعقيدة المصرية القديمة و التي تتمثل فيما يعرف بإسم باوات ( أرواح ) بوتو و نخن . و بوصف الباحث ممن يعرفون هذه الباوات جيدا نظرا لعكوفه على دراستها لفترة طويلة على جدران المعابد المصرية القديمة ، فقد قرر كتابة هذه البحث الموجز عن ذلك الموضوع .
لاريب أن لباوات ( أرواح ) بوتو و نخن دورا هاما في الشعائر و المناظر المصورة على جدران المعابد المصرية القديمة منذ عصر الدولة القديمة و حتى العصرين البطلمي و الروماني ، و لذا فهناك من يعتقد – من خلال ما ورد على نصوص المعابد المرافقة لهذه المناظر أحيانا - أن هذه الباوات هي تجسيد لأرواح الحكام الأسلاف الذين حكموا مدينتي بوتو ( في الشمال ) و نخن ( في الجنوب ) منذ عصور ما قبل الأسرات في مصر ، فكان أرواح بوتو و نخن هم زعماء المدينتين قبل توحيد مصر ، و من هنا فقد تعمد الملوك في العصور التاريخية في العصور التاريخية أن يربطوا أنفسهم بهؤلاء الزعماء الأسطوريين و بهاتين المدينتين ( بوتو و نخن ) و بآلهتهما في محاولة منهم للظهور بمظهر الخلفاء الشرعيين لأسلافهم ممن حكموا هاتين المدينتين ، بل و تصور المصري القديم مع بدايات العصور التاريخية أن مصر قبل أن يحكمها الملوك التاريخيون كانت تنقسم إلى مملكتين : مملكة بوتو في الشمال و مملكة نخن في الجنوب و بصرف النظر عن هذا الإدعاء الأسطوري ( قام الدارس في أكثر من مقال سابق بتفنيد فكرة إنقسام مصر إلى مملكتين في عصور ما قبل الأسرات ) ، فقد كان في كل الأحوال ضروريا لجميع الملوك في العصور التاريخية حيث يظهر الملك مصورا و هو في رفقة و معية باوات ( أرواح ) بوتو و نخن في جميع المناسبات الدينية حتى يؤكد على شرعيته كملك وارث لملكية الأسلاف ممن حكموا مملكتي الشمال و الجنوب قبل الوحدة .
و قبل أن نتناول المهام الدينية لأرواح بوتو ونخن التى صورت كمناظر على جدران المعابد المصرية القديمة ، ينبغي لنا أن نتناول بشكل موجز مفهوم ( البا ) في العقيدة المصرية القديمة و نظرا لعلاقة ذلك المصطلح بموضوع المقال . فنحن عندما نطلق معنى الروح على البا ، فذلك لا يعدو كونه تفسير بسيط للمصطلح ذاته و الذي لا يتحدد معناه الفعلي إلا من خلال سياق النص الذي وردت فيه هذه الكلمة . و لذا يمكن لنا أن نحدد سمات البا على النحو التالي :
1 – طبقا لما ورد في نصوص الأهرام الملكية منذ عصر الدولة القديمة ، تعتبر البا مظهر قوة الملك المادية في العالم الآخر كما أنها تجسيد لقوة الإله الظاهرة ، كما أكدت متون الأهرام على أمر هام : إذا تمكن الملك في العالم الآخر من إمتلاك البا و الإتحاد بها ، أصبحت لديه القدرة للصعود نحو السماء لكي يخلد بين الآلهة فهي تضمن له السعادة الأبدية و الخلود الأخروي .
2 – وفقا لمتون التوابيت و كتاب الموتى ، تظهر البا كصورة مادية مرئية للمتوفى في عالمه الآخر و يكون لديها القدرة على إختراق مسافات شاعة عند تنقلها من عالم الدنيا إلى العالم الآخر و العكس صحيح
3 – أما بالنسبة للمعبودات ، فالبا التي يمتلكها المعبود – وفقا لما ورد في متون الأهرام و متون التوابيت – ما هي إلا مظهر قوته ، فعلى سبيل المثال تم إعتبار الهواء ( با ) المعبود ( شو ) و الماء ( با ) المعبود نون أي أن الهواء هنا يعتبر المظهر المادي و المحسوس للمعبود ( شو ) و كذلك الحال بالنسبة للمياه التى هي الصورة المرئية المدركة للمعبود ( نون ) أى أن البا هنا هي وسيلة لنقل ما هو غير مدرك أو صعب الإدراك إلى هيئة أو شيء مدرك و له وجود .
يتبين لنا هنا أن البا كانت ذات طبيعة مقدسة تنتمي إلى عالم يصعب إدراكه بالنسبة لعالم البشر كما كانت قادرة على القيام ببعض المهام الصعبة ( مثل الصعود نحو السماء ) فضلا عن كونها تجسد صورة الكائن أو الإنسان في العالم الآخر .
ما هي الهيئة التي ظهر عليها باوات ( أرواح ) بوتو و نخن ؟
ظهر تصوير باوات بوتو و نخن في هيئاتهم الكاملة المتعارف عليها في هيئة آدمية و برؤوس صقور بالنسبة لباوات ( أرواح ) بوتو و في هيئة آدمية و برؤوس بنات آوى بالنسبة لباوات ( أرواح ) نخن . و لعل تصويرهما بهاتين الهيئتين يدفعنا لطرح تساؤل آخر :
لماذا إستئثرت باوات ( بوتو ) بهيئة الصقر ( حور ) بالرغم من أن المعبود ( حور ) كان صاحب المكانة البارزة في مدينة ( نخن ) و هو معبود الملكية القديم الذي توحددت مصر تحت رايته من جانب زعماء و ملوك الأسرة صفر الذين ينحدر منشأهم من مدينة نخن ؟
أليس من الأولى أن تختص باوات نخن بهيئة الصقر و لا سيما و أن ملوكها وحدوا مصر و حاربوا تحت لوائه ؟
ترجح ( زكية زكي ) في رسالتها عن المعبود ( حور ) أنه حورس كان معبودا شماليا في الأساس ثم إنتشرت عبادته في الجنوب خلال عصر الوحدة الأولى التي تمت في عصور ما قبل الأسرات ثم تحللت هذه الوحدة و إنفصل الشمال عن الجنوب ثم قام زعماء نخن بإتخاذه كمعبود حامي لهم فحاربوا تحت لوائه إلى أن تمكنوا من توحيد مصر للمرة الثانية .
و في واقع الأمر أن التفسير السابق لا يتطابق مع المعطيات الأثرية لعصور ما قبل الأسرات في مصر للأسباب التالية :
1 – لم يكن هناك توحيد سابق للبلاد تم قبل عصر الأسرة صفر فهذه الفكرة إرتكزت على قرائن أسطورية و لم تعتمد على دلائل مادية
2 – لا يمكن تحديد المنشأ الأصلي لعبادة الصقر في مصر ، فمعطيات ما قبل الأسرات تكشف عن عبادته في مرحلة زمنية متعاصرة في مراكز متعددة في الشمال و الجنوب و بأسماء مختلفة أحيانا فلا نعلم على وجه التحديد أين تمت عبادة حورس لأول مرة ؟
3 – لا يوجد أي غرابة في إتخاذ هيئة الصقر كرمز لباوات بوتو و ذلك بسبب وجود عبادة رئيسية لصقر بوتو المتعارف عليه بإسم ( جبعوتي ) و الذي كان يتم تقديسه منذ عصور ما قبل الأسرات في مدينة بوتو . و عندما إتجه زعماء نخن نحو الشمال خلال الأسرة صفر ، قاموا بدمج و توحيد حورس ( نخن ) بجبعوتي ( بوتو ) و لاسيما و أن المعبودين كانت لهما نفس لهيئة .
و لكن إذا كان صقر ( جبعوتي ) في بوتو هو المعبود الرئيسي للمدينة منذ عصور ما قبل الأسرات ، فكان ذلك سببا كافيا لإعتبار هيئته رمزا لباوات بوتو ( و هم هنا زعماء بوتو الذين حكموها في عصور ما قبل الأسرات ) ، فلماذا إختصت باوات ( نخن ) بهيئة الذئب أو إبن آوى بالرغم من أن معبود المدينة الرئيسي كما سبق و أن أشرنا هو الصقر ( حور ) ؟
هذا التساؤل تجيب عنه متون الأهرام ، حيث نقرأ في بعض فقراتها أن هيئات الذئاب أو بنات آوى لباوات نخن إنما كانت تمثيل و تجسيد آخر للمعبود ( حور ) حيث تقول إحدى الفقرات :
" هذا ما أعطاه حور نخن لك – أيها الملك – فقد أعطى لك ( آخاته ) الذئاب " و مصطلح الآخ هنا – طبقا لمقتضيات العقيدة المصرية القديمة – يدل على كائن أو قبس نوراني من معبود الشمس رع و يعبر عن الضياء الذي يحل على العالم قبل شروق الشمس ، فنحن نلاحظ أنه و قبل الشروق بفترة وجيزة يضيء العالم بأكمله بفضل النور القادم من الشرق ، فنظر المصري القديم لهذا الضياء الموجود في العالم قبل شروق الشمس على أنه قبس نوراني من رع يبشر بوجوده قبل إشراقته على عالم الدنيا ومن هنا تصبح باوات نخن هي أرواح السلف من زعماء تلك المدينة في عصور ما قبل الأسرات حيث نظر إليهم المصري القديم بكونهم قبسا نورانيا من رع يعلن عن إشراقته على الدنيا و يبدو من الواضح أن هذه العقيدة كانت منتشرة في جنوب مصر منذ عصور ما قبل الأسرات و لا سيما في نخن فلا غرابة من إتخاذ هيئاتها لكي تعبر عن باوات نخن .
ما هي أهم المهام الدينية المقدسة لباوات بوتو و نخن التي صورت و نقشت على جدران المعابد المصرية القديمة ؟
1 – تظهر باوات – أرواح - بوتو و نخن في مناظر الولادة الإلهية للملوك ( الدير البحري و الأقصر ) و هم يقومون بالتهليل لولادة الملك الحاكم و يتم تصويرهم في هذه اللحظة و هم في وضع ركوع حيث يضمون قبضة يدهم اليسرى على صدورهم بينما يرفعون ذراعهم اليمنى لأعلى . فهم هنا شهود صالحين على ولادة الملك الحاكم و يقومون بمنحه ( الواس ) السلطة المطلقة و ( السا ) الحماية و تهدف مشاركتهم في مشهد الولادة الإلهية للتأكيد على أمر هام و هو : أن الملك يأتي إلى عالم الدنيا بوصفه رع و يتمثل دورهم هنا بالتهليل للشمس المشرقة ، مما يعني خروج الملك من نطاق القدرة البشرية إلى آفاق الشمس الوليدة منذ الولادة الأولى .
2 – كان لهم دورا هاما في مراسم التتويج ، حيث تم تصويرهم دائما في الموكب الختامي من مراسم التتويج و هو محمولا على محفة على أيدي باوات – أرواح - بوتو و نخن و هو ما نره في منظر تم تصويره على الجدار الجنوبي لحجرة الولادة الإلهية في معبد الأقصر و تشير النصوص المرافقة لهذا المنظر إلى " ظهور باوات بوتو و نخن كممثلين و شهود صالحين لشطري البلاد جاءوا لكي يشهدوا على تتويجه و منحه ملكية رع " فهم هنا يظهرون كحلقة وصل و كجيل وسط بين ( الآلهة الأوائل ) أو ( رع ) و بين ( الملك الحاكم ) فيقومون بنقل ( ملكية رع ) إلى ( حاكم مصر ) و هم بذلك يعتبرون شهود صالحين على ( شرعية حكمه ) بوصفهم من تسلم هذه الملكية المقدسة بعد الجيل الأول ( جيل الآلهة ) فنقلها إلى الجيل الأخير ( جيل الملوك ) .
3 – يظهر باوات بوتو و نخن و هم دائما يهللون للملوك و الآلهة حيث ظهروا بهذه الهيئة في عدة مناظر في المعابد المصرية القديمة و كانت لهم تماثيل تجسدهم بهذا الوضع ، حيث عثر على تمثالين لواحد من باوات بوتو و آخر من باوات نخن من عهد الملك أمنحتب الثالث و قد تم تصوي كلا منهما في وضع التهليل السابق شرحه في النقطة رقم ( 1 ) و هو الوضع المتعارف عليه بلفظ ( هنو ) أو ( هي هنو ) بمعنى ( التحية ) أو ( السلام ) و لاريب أن تهليل هذه الباوات كان يهدف إلى :
أ – التعبد للشمس المشرقة على مصر ( الشمس هنا الملك الوليد أو المتوج )
ب – مبايعة باوات بوتو و نخن للملك لحكم البلاد بوصفهم زعماء أسلاف و شهود صالحين على شرعية الحكم .
4 – لم يقتصر دور باوات بوتو ونخن على حياة الملوك الدنيوية فقط بل إمتدت لحياتهم الأخروية أيضا و هو ما أشارت له نصوص الأهرام في عدة مواضع حيث كشفت عن مساعدة باوات بوتو و نخن في صعود الملك المتوفى نحو السماء من خلال درج أو سلم يقومون هم بتثبيته لكي يصعد عليه الملك و هو ما تم تصويره على سبيل المثال على جدران صرح معبد رمسيس الثاني في أبيدوس ، فقد ظهر الملك رمسيس الثاني جالسا على عرشه في نهاية درج أو سلم تشكل من ثلاثة من باوات بوتو و ثلاثة من باوات نخن جالسين و يعلو كل منهم الآخر . إن تصوير هذا المنظر على جدران صرح المعبد له دلالة دينية هامة تتمثل فيما يلي :
صرح المعبد المصري القديم هو بمثابة الأفق الذي يتجلى منه إله الشمس رع على الدنيا ، و الملك هنا يتجه لعالم الأفق الشمسي ( و هو صرح المعبد ) حتى يشرق من خلاله ، فتتكفل باوات بوتو و نخن
بمهمة إرتقاء الملك نحو عالم الأفق السماوي .
5 – كان لباوات بوتو و نخن دورا هاما في الترحيب بالملك عند قدومه للعالم الآخر و هو ما تم تصويره على الباب الوهمي لحجرة قدس أقداس المعبد الجنزي للملك ساحورع . و كما أشارت نصوص الأهرام لهذا الدور فقد كشفت عن ما يلي :
أ – تمنح باوات بوتو و نخن بهجة و سعادة القلب للملك المتوفى عند وصوله للعالم الآخر
ب – تتأهب باوات بوتو و نخن لتتويج الملك مرة أخرى في العالم الآخر تماما كما قاموا بنفس الدور في عالم الدنيا
ج – يتكفلون بإبعاد الخطر و الضرر عن الملك الحاكم و طرد الجوع و العطش منه .
6 – إرتبطت باوات بوتو و نخن بباوات ( أرواح ) أخرى ، تعارفت عليها النصوص بتسمية ( باوات إيونو ) أو أرواح عين شمس و التي ظهرت لأول مرة في مناظر المعابد المصرية القديمة منذ عصر الأسرة الخامسة و هي ذات الفترة التي شهدت إزدياد واضح في نفوذ الديانة الشمسية . و ذكرت باوات إيونو في نصوص الأهرام جنبا إلى جنب مع باوات بوتو و نخن ، إلا إنها إحتلت مكانة خاصة و حظيت بالتفضيل على باوات بوتو و نخن و ليس في ذلك أي غرابة نظرا لأنها قد ظهرت في الوقت الذي أصبحت فيه الديانة الشمسية هي الديانة الرسمية للبلاد و تحول الملك في معابد الشمس لكي يقوم بدور إبن رع و في ذات الوقت هو يتحد و يندمج برب الشمس نفسه و لذا كانت هناك حاجة لإبتكار مفهوم باوات إيونو بكونها أرواح زعماء إيونو – عين شمس – الذين حكموا مصر في الزمن الأسطوري الأول و تسلموا الملكية من رع و إستقروا في إيونو كعاصمة لهم ثم أصبحوا هم من يتولون نقل ميراث الملكية للملوك التاريخيين . و نظرا لتشابه دورهم الأسطوري مع وظيفة باوات بوتو و نخن ، كان يتم خلطهم أحيانا مع باوات بوتو و نخن دون أن يكون في ذلك أي خطأ عقائدي ، و هو ما حدث على سبيل المثال في قدس أقداس الملك سيتي الأول في معبده بأبيدوس ، حيث تم تصوير باوات بوتو و نخن بهيئتهم المعروفة أمام الملك سيتي الأول الذي يقوده كلا من المعبودين ( آتوم ) رب ملكية الشمال و ( مونتو ) رب ملكية الجنوب للإتجاه نحو طقس التتويج و يقول النص المرافق للمنظر " إن باوات إيونو يهيئون لك الطريق لكي يتم تتويجك كحاكم على الجنوب و الشمال " و هو ما يعني صراحة أنهم و برغم ظهورهم في هيئة باوات بوتو و نخن إلا أنهم يذكرون في النص بوصفهم باوات إيونو الذين مهدون الطريق للحاكم حتى يتم تتويجه كملك على مصر سواء في عالم الدنيا أو في العالم الآخر داخل قدس أقداس الملك سيتي الأول في معبد بأبيدوس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق