الثلاثاء، 7 أغسطس 2012

الأوقاف و الشعائر الجنائزية لدى كبار الأفراد في عصر الدولة القديمة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الأوقاف و الشعائر الجنائزية لدى كبار الأفراد في عصر الدولة القديمة  ...................................................................................................................................................... 
....إتجهت  الشعائر في مصر القديمة نحو إدامة و إستمرارية عبادة الآلهة و تقديس  الأسلاف من الملوك و الأفراد و ذلك من خلال ربطها و دمجها بمفهوم المحافظة  على النظام الكوني و إستمرارية الوجود و عدم توقف الزمن ، فالشعيرة تمكن  الفرد الذي يؤديها تجاه الآخر من التحول و الإنتقال من عالم دنيوي غير مقدس  إلى عالم آخر يمتاز بالقداسة المطلقة حيث تسيطر عليه قوى ما ورائية ( آلهة  أو أنصاف آلهة – أرواح الملوك – أرواح الأفراد ) فيتحقق له الإتصال بها و  يستحثها على الإستجابة له بما يعود بالنفع عليه و على من حوله من أفراد  المجتمع . و أصل الشعيرة يتمثل في أداء حركي أو تقدمة قربان يرافقه ترتيل  صوتي ، فتتجه نحو مخاطبة قوى تسكن فيما وراء الطبيعة الظاهرة لكي تسجيب له .

و نظرا لخطورة أداء الشعيرة و ما يمكن أن يترتب عليه من نتائج خطيرة و  سلبية إذا أقيمت بشكل خاطيء ، فقد إقتصر أدائها منذ عصر الدولة القديمة على  عدد محدود من الأفراد تعارف عليهم معظم الدارسون بمصطلح حديث غير دقيق و  هو ( الكهنة ) ، و قد أوكلت السلطة الملكية لهذه الطائفة من المجتمع حق  إقامة الطقوس للمعبودات و الملوك و الأفراد وحدهم دون غيرهم ، و لم يكن  لهذه الطائفة وفقا لوضعها القانوني في البلاد حق التدخل في قرارات السلطة  الملكية أو إملاء و فرض آرائها على الحاكم ، بل كان نشاطهم يقتصر على عمل  واجبات و مهام دينية بحتة ( أنظر مقال سابق للدارس بعنوان السلطة الحقيقية  لكهنة آمون في النصف الأول من عصر الأسرة الثامنة عشرة ) ، و أهم ماكان  يميز أداء الطقس من جانب هؤلاء الكهنة في عصر الدولة القديمة هو ( تكرار  عمل الشعيرة ) و في ( وقت محدد )  فبهذا التكرار الدائم للطقس في أوقات  بعينها يضمن الكاهن عدم إحداث تغيير أو تعديل أو إضافة على الشعيرة مما  يؤدي لإنتظام دورة الطبيعة في الحياة و الكون ، فالطقس في مصر القديمة  ببساطة شديدة هو ( صورة الكون في حالة منتظمة ) و إقامته تعكس من جانب آخر  مفهوما فكريا نشأ مع بدايات الوحدة المصرية السياسية للبلاد يتمثل في (  وجود خطر دائم و متواصل ) يهدد و يحيط ( بالإستقرار الكوني ) أو ( عالم مصر  ) . و من هنا نتفهم أهمية و ضرورة وجود طائفة الكهنة في المجتمع المصري  القديم . و حقيقة الأمر أن الملك هو المؤدي الفعلي لشعائر المعبودات في  معابدهم على المستوى النظري ، و لم يكن وجود الكهنة في المعبد سوى أنهم  يؤدونها نيابة عنه و على شرف الشعب المصري القديم .
 و كان من نتائج  إقامة الشعائر للملوك و المعبودات و الأفراد ، أن تألفت طبقة من الكهنة  الملكيين كبيرة العدد و ذات نفوذ في عصر الأسرات الرابعة و الخامسة و  السادسة في جميع أنحاء البلاد و كان يتم إختيارهم من بين عظماء رجال الدولة  و كبار الموظفين و أهل الثقة و أقارب الملك ، و من هنا نشأت لهم ألقابا  خاصة كشفت عن تميزهم الديني و الإداري ، فكان من أهمها لقب ( إيماخو خر نسو  ) بمعنى المبجل أو المقرب لدى الملك و كان هذا اللقب يعني عددا من الحقائق  الهامة تتمثل في المعطيات التالية :
1 – أن صاحبه له الحق في إقامة مقبرة خاصة به خلال حياته بعد الحصول على الموافقة الملكية .
2 – أن يترك وصية وراثية مسجلة على جدران مقبرته لمن سيقوم بوراثة ممتلكاته من أبنائه بعد موته
3 – أن يتكفل أبنائه بواجب إقامة الشعائر الخاصة بتقديسه و إحياء ذكراه للأبد أمام الأجيال التالية .
4 – لا يشترط لحامل هذا اللقب أن يدفن في الجبانة الملكية ، بل يمكن له أن  يدفن في جبانة من جبانات الأقاليم و لاسيما إذا كان قضى حياته كلها في  العمل داخل إقليم محدد .
5 – لابد لحامل هذا اللقب أن يكون تولى منصب خادم لمعبود أو معبودة ( كاهن ) في معبده في أي منطقة في مصر .
6 – لا يمنح هذا اللقب إلا بعد التقاعد عن الخدمة في المعبد أو خدمة القصر  الملكي ، فيصبح لصاحبه الحق في إقامة مثواه الأبدي ، فذلك هو ما نفهمه من  العديد من نصوص السير الذاتية لكبار رجال الدولة في عصر الدولة القديمة .
7 – يضمن لقب المقرب لصاحبه و على نحو خاص حماية الإله الذي عمل في خدمته  داخل المعبد ( و لاسيما حكام الأقاليم ) أو حماية الملك نفسه الذي عمل في  خدمته مباشرة و تترجم هذه الحماية بمنحه أرضا أو دخلا جنائزيا تتمثل في  قطعة أرض ( ضيعة ) توهب للمقرب لدى الإله أو الملك ، فيستخرج منها قرابين  عينية مادية توهب له في قبره بعد وفاته و لا تقدم له إلا من خلال ورثته  الذين يقومون بهذا العمل بوصفهم كهنة جنائزيين له .
و من خلال النقطة  الأخيرة نطرح التساؤل التالي : ما هي حقيقة وراثة الهبات المخصصة و الضياع  الموهوبة لإقامة الشعائر الدينية في عصر الدولة القديمة ؟
في الواقع كانت هذه الضياع الموهوبة إلى حاملي لقب ( المقرب ) تنتقل بالوراثة إلى أهل هذا المقرب إلا أنها كانت مقيدة بشرطين :
1 – الشرط الأول أن يكون الشخص الذي وهبت له هذه التركة حاملا هو الآخر  لقب المقرب ، فإذا وضعنا في الإعتبار أن هذا اللقب لا يمنح إلا عند التقاعد  عن الخدمة ، فذلك يعني - نظريا على أقل تقدير – أن هذه التركة لا يستفيد  بها إلا إذا أدى الخدمة للملك أو المعبود أو لسلفه الميت بإخلاص و تفاني  مما يعني إظهار ولاءه التام لمن يقوم بخدمته بعد مضي فترة طويلة من حياته .
2 – الشرط الثاني أن تقتصر هذه الهبات لإقامة الطقوس أو الشعائر الدينية الجنائزية على صاحبها أو الموهوب له .
إلا أننا ندرك من خلال نصوص السير الذاتية لكبار الموظفين في عصر الدولة  القديمة ، أن هذه الهبات أحيانا تزيد على ما يحتاج إليه الشخص المتوفى  لإقامة شعائره ، و لذا فإن الزائد على هذا الدخل كان يعد ملكا حقيقيا للشخص  الذي وهبت له هذه العطية .
و يرى البعض من الدارسين أن هذين الشرطين  السابقين اللذين لابد من توافرهما قد جعل هؤلاء المقربين من الملك كانوا في  واقع الأمر من كهنة الملك الذين كانوا يتمتعون بتربية أولادهم في القصر  الملكي مع أبناء الملك و من ثم كانوا يتقلدون الوظائف الهامة و الألقاب  المميزة منذ نعومة أظافرهم ، مما يجعلهم مؤهلين للحصول على لقب المقرب لدى  الملك ، إلا أن الدارس لا يتفق مع هذا الرأي الأخير للسببين التاليين :
1 – لا ينبغي تعميم الحالات التي ورد فيها تربية أبناء بعض الموظفين داخل  القصر الملكي مع أبناء الملك على جميع كبار رجال الدولة ، فهناك أمثلة  متعددة و واضحة لموظفين آخرين معروفين في عصر الدولة القديمة ( و تحديدا في  عصر الأسرة الخامسة ) و لاسيما في الأقاليم لم يرسلوا أبناءهم للقصر  الملكي و رغم ذلك حصلوا هم و أبنائهم على لقب ( المقرب لدى الملك )
2 –  رغبة عدد كبير من حكام الأقاليم في عصر الدولة القديمة في إنشاء قبورهم في  أقاليمهم و ليس عند الجبانة الملكية ، أي في المكان الذي عملوا و خدموا  فيه طوال حياتهم و يكمن السبب في ذلك في أن أفضل و أعظم الطقوس الجنائزية  ستؤدى له في منطقة إقليمه من خلال الضيعة الجنزية التي وهبت له ، و بما أن  الأبناء هم الذين يتولون عملية إقامة شعائر أسلافهم  و من هنا فهم يحتلون  مناصب و أعمال أسلافهم في أقاليمهم التي ولدوا و تربوا فيها و لم يتربوا  على الإطلاق داخل القصر الملكي كما تخبرنا نصوص سيرهم الذاتية المسجلة على  مقابرهم ، فالضيعة الجنائزية توهب لهم في الأقاليم و من هنا نفهم و ندرك  سبب إصرارهم على دفنهم في الأقاليم التي ولدوا و تربوا و عاشوا فيها معظم  حياتهم .
ما هو تأثير إقامة الشعائر و منح الهبات الجنائزية الموروثة  على المجتمعات الأسرية لكبار الموظفين في العاصمة و حكام الأقاليم في عصر  الدولة القديمة ؟
من المعروف أن المصري القديم و منذ بدايات الوحدة  المصرية السياسية التي تمثلت في وجود السلطة المية المركزية ، كان يسعى و  يجتهد خلال حياته الأولى في خدمة الملك و إظهار تفانيه له من أجل إقامة قبر  دائم له في عالمه الآخر كما يضمن لنفسه إقامة الشعائر له في حياته الثانية  و كانت السلطة الملكية تأخذ على عاتقها أمر إقامة الشعائر الدينية  الجنائزية عن طريق منح موظفيها مرتبات عينية مادية خلال حياتهم و ندلل على  ذلك من نصوص السيرة الذاتية المسجلة على جدران مقبرة ( متن ) - الذي عاش  خلال أواخر عصر الأسرة الثالثة - أنه قد خصص لنفسه دخلا جنائزيا يشمل على  إثنى عشرة ضيعة حصل عليها من القصر الملكي بإعتباره موظفا غير أنه لم يمنح  هذا الدخل على أنه حق رقبة أو حق ملكية دائمة و في هذا نرى أن السلطة  الملكية كانت على أقل تقدير حتى النصف الأول من عصر الأسرة الرابعة كانت  تمنح حق إدارة الأراضي و الأوقاف الجنائزية لكبار الموظفين دون أن يكون لهم  حق ملكية رقبة الأرض بشكل مطلق أو بشكل منفصل عن إدارة القصر الملكي لهذه  الأراضي و أنها كانت تباشر تقديم القرابين الضرورية و اللازمة للموظفين من  خلال ما يتم إستخراجه من الأراضي التي وهبتها لهم كحق إدارة .
فلما  أصبح لكبار الموظفين و لاسيما حكام الأقاليم بدءا من النصف الثاني من عصر  الأسرة الرابعة حق ملكية الأراضي الممنوحة لهم من جانب السلطة الملكية ،  ترك تأثيرا واضحا على مفهوم الأسرة لهذه النخبة المتميزة في المجتمع المصري  تمثل في حقيقتين هما :
1 – أصبحت العائلات الكبيرة في البلاد تمثل  وحدات إجتماعية متماسكة و مترابطة حيث يتحد جميع أعضاء الأسرة الواحدة حول  هدف واحد و هو : إقامة الشعائر للأب أو الجد المتوفى من خلال تقسيم الهبات  الجنائزية الممنوحة للمتوفى على الأبناء و تحديد نصيب كل منهم ، فلا توزع  هذه الثروة إلا من خلال تأديتهم لشعائر تقديس سلفهم القديم .
2 - أن  يضمن أفراد العائلة الواحدة و بترابطهم الأسري أن تظل و تبقى هذه الهبات و  الثروة الجنائية في محيط عائلتهم مما يؤدي لزيادة نفوذهم في المكان الذي  ورثوا فيه هذه الهبات الجنائزية .
و عطفا على ما سبق ، يمكن التأكيد  على حقيقة هامة و هي : أن كبار الموظفين و حكام الأقاليم و منذ النصف  الثاني من عصر الأسرة الرابعة إستخدموا طريقة جديدة للأوقاف الجنائزية وذلك  بإقامة الطقوس الجنائزية لهم عن طريق وضع هذه الأوقاف في يد مجموعة من  أسرهم ، فكانوا يضمنون بذلك إقامة شعائرهم و في نفس الوقت يستفيد أعضاء  أسرهم من هذا الدخل بعد وفاتهم ( وفاة أصحاب الوقف ) الذي كان يتمتع به  غيرهم من  الكهنة الجنائزيين المعينيين من جانب السلطة الملكية قبل النصف  الثاني من عصر الأسرة الرابعة فنجد على سبيل المثال الكاهن الأكبر للإلهة  حتحور في قوص ( ني كا عنخ ) و هو يروي لنا سيرته الذاتية على جدران مقبرته  فيقول ما يلي " لقد حباني جلالة الملك ( أوسر كاف ) بأن أكون خادما للإلهة  حتحور ربة قوص و كنت أنا الخادم ( الكاهن ) الذي يتسلم كل شيء يدخل المعبد و  الآن إن أفراد أسرتي سوف يكونون من بعدي كهنة للإلهة ( حتحور ) كما كنت  أنا ، و إني سأذهب إلى الغرب الجميل رجلا مبجلا تاركا كل هذا في ذمة خلفي  من بعدي " و من خلال دراسة نص سيرته الذاتية كاملا يتبين لنا الحقائق  التالية :
1 – منح الملك أوسركاف كبير كهنة حتحور في قوص ني كا عنخ  أرضا أو وقفا يتمكن من خلالها الصرف على مستلزمات و قرابين المعبد و على  نفسه و على شعائر مقبرته .
2 – وضع ني كا عنخ إلتزاماته بصفته الكاهن  الأكبر للمعبودة حتحور في قوص في يد جماعة من أسرته برئاسة إبنه الأكبر و  بذلك جعل جميع أبنائه يستفيدون من دخل هذا الوقف الجنائزي
3 – أصبح منصب الكهانة لحتحور في قوص ( و في جميع الأقاليم بشكل عام ) وراثيا .
4 – حمل جميع أفراد أسرة ني كا عنخ لقب ( رخ نسوت ) بمعنى المعروف لدى  الملك فضلا عن لقب المقرب – السابق شرحه – رغم عدم توليهم مناصب أو ولادتهم  في العاصمة .
و من جانب آخر نلاحظ أن ني كا عنخ لم يضم شعائره إلى  شعائر جده ( غنو كا ) الذي عاش في عصر الملك ( منكاورع ) ، فقد كانت هذه  الطقوس الخاصة بجده كانت لا تزال تخضع للنظام القديم الذي يتمثل في سيطرة  الدولة و مباشرتها على عمل الشعائر لموظفيها سواء في العاصمة أو في  الأقاليم فكانت إن وهبت لهم أرضا كما شرحنا سابقا ، تظل هذه الأرض ممنوحة  لهم كحق إدارة دون حق ملكية الرقبة و هو الأمر الذي بدأ يتغير مع بداية  الأسرة الخامسة أو في أواخر الأسرة الرابعة . و من هنا ندرك أن الأوقاف  الجنائزية الوراثية عملت على تماسك الأسرة بجمع شملها حول الهبات حيث أصبح  دخل كل فرد منها كافيا لإقامة هذه الشعائر ، و الواقع أن مركز هؤلاء  بالنسبة لوالد الأسرة في هذه الحالة كمركز المقرب بالنسبة للملك حيث نجد أن  المقرب كان يحتفل بشعائر الملك في العاصمة أو شعائر المعبود في الإقليم و  يتسلم مقابل ذلك هبه خاصة هو و زوجته و أبنائه الذين يتحولون بمرور الوقت  إلى كهنة مقربين لوالد الأسرة فيحتفلون بإقامة شعائره و يتقاضون جزءا من  إيراد أوقافه منذ أواخر الأسرة الرابعة لذا نجد في بعض الحالات أن الزوجة  تعترف بأنها مقربة لزوجها و أن الإبن الأكبر هو الآخر مقرب لوالده .
يتبين لنا مما تقدم أن الأملاك و الأوقاف الجنائزية التي كانت تتعلق بعبادة المعبودات و خدمة الملك و تقديس السلف في عصر الدولة القديمة تحولت تدريجيا لكي تقع في نهاية المطاف تحت يد الأسر و العائلات الكبيرة في البلاد و نجد أن هذا النظام تم تطبيقه في باديء الأمر على أوقاف والد الأسرة و يبدو هنا أنه كلما إزداد نفوذ هؤلاء العائلات و توارثوا هذه الأوقاف جيلا بعد جيل فضلا عن ضعف السلطة الملكية في مراحل لاحقة من الدولة القديمة ، كلما إزدادت عقيدة المعتقدات الجنائزية لدى كبار رجال الدولة و حكام الأقاليم و ما يرافقها من هبات و أراضي و أوقاف ممنوحة و مكرسة لهم ، فلاشك أن مفهوم إقامة الشعيرة لهؤلاء الأفراد بعد مماتهم و إلى الأبد هو المنبع الأصلي الذي إنبعثت منه فكرة الضياع الجنائزية الموقوفة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق