الاثنين، 28 نوفمبر 2011

التطابق بين الحضارة و الكون

بسم الله الرحمن الرحيم

التطابق بين الحضارة و الكون

.................................... لاريب أن كل حضارة تميل إلى مساواة نظامها الحضارى بنظام العالم ككل ، و بمعنى أدق : أن الحضارة الواحدة تجنح غالبا إلى جعل نفسها بمثابة ( النظام الأوحد ) للعالم ككل و تقوم هذه النظرة على أساس هام : إدماج الصورة الذاتية للحضارة الواحدة و صورة العالم ككل ، و لكن لا ينبغى أن نتجاهل حقيقة جلية و هى أن هذه الرؤية تخف و طأتها فى معظم الأحيان عندما تتعامل الحضارات مع بعضها البعض ، و يتصل الأفراد ( بالآخر المختلف حضاريا ) و عندئذ تتجمع الخبرات المختلفة و يتم تحصيل المعارف الحضارية المتباينة و لذلك نرى أن التعرف على ( الآخر ) و التعامل مع ( الغير ) يؤدى إلى ( النظرة النسبية ) للحضارة الواحدة ، فتتحول حقائق الحضارة من ( مطلقة ) إلى ( نسبية ) و عند الوصول إلى هذه المرحلة تصبح الهوية الحضارية للمجتمع ليست هى الشىء المطابق لنظام العالم ككل ، بل يفهم هذا المجتمع نفسه على أنه جزء من كل ، فتصبح حضاراته واحدة من بين الحضارات ، و هويته واحدة من بين الهويات . و نقول أن ذلك هو مايحدث غالبا فى الأحوال العادية . لكن ماحدث فى مصر فى عصورها المتأخرة كان يمثل نوعا من الخروج عن هذه القاعدة ، فلدينا هنا إستثناءا فريدا فى ذاته ، فلقد تكون لدى مصريى العصور المتأخرة إقتناعا بالتواصل التام مع ( الماضى المجيد ) منذ ( بدايات الخليقة الأولى ) و حتى عصرهم ، فلما جاء ( زمن الإنكسارات الحضارية ) فى العصور المتأخرة و بالتحديد فى الألفية الأولى قبل الميلاد وقع مايسمى أنثروبولوجيا ( تثبيت و تصعيد الهوية الحضارية ) مما أفضى إلى تكون وعى خاص لدى مصريى العصور المتأخرة يتمثل فى ( التميز ) و ( التفرد ) و ( التفوق ) ، فقد عاش المصريون القدماء وهم على إقتناع يقينى أنه لو إنهارت حضارتهم ، فسوف ينهار معها العالم و النظام الكونى و يتبين لنا هنا أن ( الهوية الحضارية ) لمصر و ( بقاء الكون ) هما أمران كلاهما ملازم للآخر .
و فى واقع الأمر أن المصرى القديم بدأ ينظر فى العصور المتأخرة إلى المعابد على أنها أماكن لرعاية و إنقاذ تراث مصر و موسوعتها الحضارية التى تعود إلى ( عصور ماقبل التاريخ ) ، فكان الهدف من إنشاء هذه المعابد هو الحفاظ على ( ديمومة و إستمرارية الكون ) من خلال تأدية ( الطقوس ) التى تؤدى بدورها إلى الحفاظ على ( هوية مصر الحضارية ) ضد خطر ( ضياع الذاكرة الثقافية ) أمام ( التحديات ) التى فرضها ( المحتل ) على ( الثقافة المصرية ) و لكن أخطر ماأتت به هذه الرؤية من نتائج هو ( إنسحاب الحضارة المصرية ) فى عصورها المتأخرة من الحياة العامة و ( الإنزواء داخل المعابد ) فأصبح نموذج المعبد و كل مايحتويه هو ( العالم الحقيقى ) و ليس العالم الخارجى ( المزيف ) و من هنا أصبحت وظيفة المعبد هى ( إقامة الشعائر ) من أجل ( مطابقة العالم الخارجى بالعالم الداخلى ) فكانت هذه هى مهمة الكهنة ، فلم يكن لديهم سوى تصور واحد و هو ( أن مصر هى الكون بأكمله ) و هكذا أصبحت مصر ( مكان سكن الآلهة ) و ( معبد العالم ) و ( أقدس البلدان ) و لاريب أن هذه الرؤية تنطلق من ( الخوف ) من ( عدم إستمرارية الطقوس ) فى ( مناطق الهوية الحضارية = المعابد ) حيث تؤدى إلى ( قطيعة نهائية ) بين ( الآلهة و البشر ) و مايؤكد ذلك هو ذلك النص الذى دونه كهنة مصر فى العصر المتأخر فيقول مايلى :
( نعم سيأتى يوم لا تنفع فيه للمصريين أعمالهم و تضرعاتهم للآلهة . كل ذلك لأن الآلهة قد تركوا الأرض وصعدوا إلى السماء ثانية وتركوا مصر لحالها . فهذا البلد سيكون مجردا من حاضر الآلهة و سيقطن الأجانب فى مصر و سيمنع الدين و ستحرم العبادة للآلهة و سوف يبطل الإعجاب بالكون و لن يقدس بعد اليوم ... الويل لك يامصر ! ستنفصل الآلهة عنك و ماأقسى هذا الإنفصال و ستكون الأرض فى تلك الأيام غير صلدة و السماء لاترعى النجوم فى صحة مساراتها و هذه هى شيخوخة العالم : عالم دون أديان و دون نظام و دون تفاهم إنسانى ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق