بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم تفوق الخلف على إنجازات السلف فى الحضارة المصرية القديمة
................................ يتناول هذا المقال واحدة من أهم المفاهيم الفكرية و الدينية للحضارة المصرية القديمة فيما يتعلق برؤية المصرى القديم للأسلاف و إنجازاتهم و كيفية الكشف الدعائى عن ( تفوق الخلف ) على ماأتى به ( السلف ) من إنجازات حضارية . و أود أن أهدى هذا المقال للأخ و الصديق العزيز المحترم الأستاذ ( عادل عبد الظاهر - adel abdel zaher ) ، فقد كان دائما خير معين لزملائه من المرشدين و المرشدات فى تحصيل العلم و كسب المعرفة
يهدف هذا المقال إلى إبراز مفهوم فكرى هام لدى المصرى القديم وهو ( تصميم المصرى القديم على الإتيان بما لم يأتى به الأسلاف بل و إبراز التفوق على ماصنعته أيديهم ) ، و لاريب أن هذا المبدأ كان قد دخل حيز التنفيذ منذ ( عصر الدولة القديمة ) حتى وإن لم تنوه إليه النصوص صراحة و من هنا نرى أن ( المجموعة الجنزية للملك زوسر ) كانت هى أول تطبيق فعلى لذلك المبدأ فقد سعى ذلك الملك إلى تشييد مجموعة دينية حجرية بعناصر و أجزاء معمارية كانت هى الأولى فى التاريخ المصرى القديم و سار على نهجه ملوك النصف الأول من الأسرة الرابعة ( سنفرو و خوفو و خع إف رع ) عندما أقاموا أهرامات ضخمة تأوى أجسادهم الملكية و تؤمن لهم عالمهم الآخر و لم يشذ عن هذه القاعدة ملوك الأسرة الخامسة الذين كشفوا عن ولائهم التام لربهم ( رع ) فأقاموا له معابد شمسية فائقة الحجم فنقشوا فيها مناظر ( ظهرت لأول مرة ) تهدف إلى إبراز الصلات القوية و الحميمة بين الملك و مختلف المعبودات ثم شيدوا مسلات من الحجر الجيرى داخل تلك المعابد لم يسبق لها مثيل قبل ذلك العصر . فلما إرتقى الملك ( ونيس ) عرش البلاد أوجد تقليدا دينيا جديدا ، فنقش على الجدران الداخلية لمقبرته الملكية ( نصوص الأهرام ) ، فضمن لنفسه سعادة أبدية فى العالم الآخر مع أربابه دون الإعتماد بالضرورة - فيما يرى البعض - على الطقوس التى كان يؤديها الكهنة لصالح ملوكهم .
لم يختفى هذا المفهوم الفكرى الدينى خلال عصر الإنتقال الأول ، بل ظهر صراحة و لأول مرة فى مصادر و نصوص تلك الفترة فيكشف لنا الملك ( خيتى الثالث ) فى تعاليمه و هو يقول لولده ( مرى كا رع ) أنه ( يريد أن يأتى بملك من الأسلاف فيتوفق عليه و يزيد مما حققه هو ) و عندما عرفت مصر الإستقرار السياسى فى عصر الدولة الوسطى ، زادت من إنجازاتها الفكرية و الدينية و الحضارية ، فنجد الملك ( سنوسرت الأول ) يقول ( لقد صنعت أعمالا عظيمة و زدت ماورثته عن أسلافى ) . و شيد الملك ( سنوسرت الثالث ) مجموعة من القلاع العسكرية فى بلاد النوبة لحماية الحدود المصرية من الجنوب فعمل على ( توسعة رقعة الحدود المصرية ) و أقام ( لوحات الحدود الشهيرة ) عند هذه القلاع فكان بذلك أول الملوك الذين يقيمون هذا الإنجاز الحضارى متفوقا على أسلافه .
أما فى عصر الدولة الحديثة فقد أصبح هذا المبدأ أكثر وضوحا فى عصر الدولة الحديثة ، و لذلك بدأ الملوك يضيفون على أنفسهم ألقابا تؤكد مالم يأتى به الأسلاف و هكذا أصبح الملك ( هو الذى يوسع حدود مصر ) ، و هو بذلك لم يحافظ فقط على ماورثه من أسلافه ، بل سعى نحو زيادة هذا الميراث . كما نجد الملك ( تحتمس الثالث ) يقول ( إننى أفعل أكثر مما فعله الملوك من قبلى ) و لم لا ؟ ألم يكن ذلك الملك صاحب أعظم إنتصارات حربية فى بلاد الشرق القديم؟ ......... كما ينبغى لنا أن نذكر مسلتى الملكة حتشبسوت التى أقامهما المهندس المعمارى ( سن إن موت ) فى أضيق الأماكن لمعبد الإيبت سوت ( = الكرنك ) القديم ، و كانتا فى ذلك الوقت من أكبر المسلات المصرية حجما فكان ذلك أكبر ( تحدى حضارى معمارى ) للمهندس المصرى ، إلا أنه تفوق على نفسه و نجح فى ذلك المضمار فاستحق الخلود هو و مليكته مما يتبين لنا أن ( المصرى القديم كان لايؤمن بمبدأ القناعة كنز لايفنى ) أو ( مبدأ الرضاء بالقليل ) قالتفوق لا يأتى إلا بالسعى الدؤوب و التحدى و عدم الإكتفاء بما حققناه سابقا و التصميم و العزيمة الصلبة و الإرادة الفولاذية .
إلا أنه يجب أن نشير إلى حقيقتين هامتين و هما : 1 - أن هذا المبدأ ( تفوق الخلف على السلف ) لا يعنى أبدا ( أن المصرى القديم لايحترم الأسلاف ) بل على النقيض تماما فهو لايكتسب أى شرعية فى أعماله و إنجازاته إلا إذا كان مؤديا لطقوس عبادة الأسلاف مقلدا لما فعلوه من سلوك يقتدى به لكنه كان فقط يزيد ميراثه الحضارى فلا يقتنع بما تحقق فى زمن الأوائل . 2 - لاينبغى أن نأخذ بحرفية تاريخية لهذا المبدأ فى كل ماقاله الملوك عن أنفسهم ، فهذا المفهوم كان ساريا بينهم على الأقل من الناحية النظرية ، فالملك ( توت عنخ آمون ) يتحدث عن نفسه بأنه ( أتى بما لم يأت به الملوك الأسلاف !! ) و الملكة حتشبسوت ذكرت فى الدير البحرى ( أنها أرسلت رحلة إلى بلاد بونت التى لم يصل إليها المصرى القديم من قبل !! ) فالأمر فى هذه الحالة لايتعدى إطار الدعاية الملكية السياسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق