بسم الله الرحمن الرحيم
( نشأة الخطاب الأثرى فى الحضارة المصرية القديمة و رسالة القبور )
............................... نشأت الكتابة و ترعرعت فى ظل المؤسسة الملكية المصرية القديمة ، إذ كانت وظيفة الكتابة فى نشأتها الأولى تقتصر على تدوين الأحداث ذات المغزى ( السياسى ) ، فكانت بمثابة نشرات أو إعلانات سياسية تهدف لخدمة السلطة الملكية الناشئة . فأى حدث تتم كتابته فى الزمن ( الحاضر ) يهدف إلى أن يتجه لزمن ( المستقبل ) و هكذا يظل ( الحاضر ) حيا و ماثلا فى ( الذاكرة الحضارية للمجتمع ) . و لايمكن أن نتجاهل حقيقة أن إنجازات الملك السياسية فى العصر العتيق كانت تتجلى داخل ( المعابد المصرية ) ، التى لم تكن سوى إطار يتسم ( بالثبات ) و ( الدوام ) و ( الأبدية ) فلا تظهر إلا فى وسط دينى مقدس و هو ( عالم المعبودات ) فتظل مشاهدة لهذه الإنجازات فتباركها و تتذكرها إلى الأبد و من هنا تصبح ( نموذج حضارى ) يحتذى به فى المستقبل . و لذلك بدأ ملوك العصر العتيق فى تسجيل الحدث التاريخى الأهم الذى وقع فى كل عام و تسمية ذلك العام بإسم الحدث الرئيسى و كانت هذه الوقائع تدون فى ( الموقع المقدس لعالم الخلود و الأبدية ) حتى تبقى فى صورة مرئية و ظاهرة . و هنا يكمن أصل الكتابة الهيروغليفية عند ولادتها الأولى ، فالخط الهيروغليفى يعتبر ضربا من ضروب فن النقوش و التصوير و التمثيل و لذلك إستقر فى الأذهان منذ بدايات العصر العتيق أن هذا الخط هو ( الكتابة التى تدون فيها كلمات الآلهة ) .
يتبين لنا مما تقدم أن مصطلح ( الخطاب الأثرى ) يعنى ببساطة ( الأداة الكتابية ) التى تظهر فيها ( السلطة الملكية ) نفسها ، و التى تعبر عن ( نظام الخلود الدائم ) حيث تتضح لنا جيدا هذه العلاقة المزدوجة للكتابة و الفن : ( الدولة ممثلة فى السلطة الملكية ) من جانب و ( الخلود ) من جانب آخر . فالدولة بهذا المعنى ليست مجرد مؤسسة لضمان السلام و النظام و العدل فقط ، بل هى أيضا فى الوقت نفسه مؤسسة للتمكين من مبدأ ( الخلود ) أو على الأقل للتمكين من مواصلة الحياة من فوق حاجز الموت فيصبح كل أثر كتابى هيروغليفى و كل علامة تصويرية هيروغليفية تهدف إلى ( تخليد الإنسان الفرد ) ، و الفرد هنا يدين بالشكر و العرفان ( للسلطة الملكية ) على منحها ( الخلود ) له ، و لاريب أن حرفة ( الكتابة ) بدأت فى أحضان ( السلطة الملكية الناشئة ) فهى ملكا لها و تحتكر كل أدواتها ، فلا يستطيع الإنسان الفرد أن يمارسها إلا من خلال الخدمة فى الدولة .
إن مفهوم ( الخطاب الأثرى ) يتمثل فى السيطرة على الوسيلة الوحيدة الهادفة لمواصلة الحياة بعد الموت فى ( الذاكرة الإجتماعية ) . و ذلك الخطاب يقوم بتهيئة فرصة الإتصال مع ( عالم الموتى ) ، فالأحياء يتجهون لرؤية الموتى فى عالمهم من خلال ماتركوه على جدران مقابرهم و الموتى هنا يحرصون على إظهار فضائلهم و خصالهم الحميدة عندما كانوا بين الأحياء فتبقى سيرتهم العطرة قائمة فى ( الذاكرة الجماعية ) و كلما ظلت سيرتهم ماثلة أمام العيان كلما بقوا و داموا فى الذاكرة فنالوا ( طريق الخلاص ) .
و لذلك يرى العديد من علماء المصريات أن الخطاب الأثرى فى الحضارة المصرية القديمة هو بحق خطاب ( الفضيلة و الخصال الحميدة ) التى يتمتع بها الفرد و هو أيضا خطاب يهدف للخلود و الدوام و الإنتماء للسلطة الملكية . و بسبب هذا الخطاب نشأ فى مصر القديمة تراث ضخم للقبور ، فلايوجد فى العالم القديم بأكمله تراث إرتبط بالعالم الآخر و طقوس تقديس الأسلاف و إبراز السيرة الذاتية مثلما كان فى مصر ، فالقبر يتجه الى الأجيال القادمة أى انه يوجه خطابه لها حتى يخلد إسم صاحب القبر فى أذهان الأجيال القادمة ، فيظهر دائما صاحب القبر ( كمؤلف ) لقبره و كتابة و سيرته الذاتية . فالقبر هو الذى يعيش من أجله المصرى القديم ، و ينفق على إكماله كل مالديه من مال و فكر و إعتقاد و لذلك ظهرت صيغة كتابية محددة لكتابة السيرة الذاتية العطرة داخل القبور المصرية منذ البدايات الأولى لإبراز الأهداف السابقة فنقرأ سويا نص السيرة التالية :
أنا الذى عاش على هذه الأرض
لكى تكون مدينة الأموات لى ، فأنفذ فيها أمنيتى
لقد أعددت كل الأمور المتعلقة بقبرى
و كنت ممن يحب الخير و يكره الشر
فقضيت أيامى طبقا لما تستوجبه الأمور
و كنت مبجلا لدى الملك
فلا غرابة إذن عندما نرى المصرى القديم و هو يختار الموقع الملائم لقبره ، فيكون هذا الموقع هو المقر و النتيجة الذاتية لتحرياته ، فهو ينظر إلى قبره مثلما ينظر فى المرآة التى تعكس الشكل المثالى الذى يسعى إليه مما يعن أن القبر هنا يجعل للكتابة صوتا ، فيصبح الموتى فى إتصال كلامى دائم مع الأحياء ، فالقبر يربط صاحبه بشبكة الذاكرة الإجتماعية