السبت، 4 مايو 2013

العلاقة بين الإيمان بآلهة مصر و إقامة الشعائر لها بالمباديء الأخلاقية في نهاية عصر الدولة الحديثة


بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين الإيمان بآلهة مصر و إقامة الشعائر لها بالمباديء الأخلاقية في نهاية عصر الدولة الحديثة



في أواخر عصر الدولة الحديثة ، قامت نصوص التعاليم و
الحكم و المواعظ المصرية بصهر و إدماج التقوى الدينية و الأخلاق الطيبة مع النصائح
الدنيوية في ( نمط أدبي ديني ) أكثر علانية و أكثر صراحة من النصوص التي ترجع لما
قبل أواخر عصر الدولة الحديثة . و لعل ذلك يتفق و مفهوم الدولة الثيوقراطية
الدينية التي نشأت كظاهرة تاريخية في نهاية عصر الرعامسة و سعت لربط و إيجاد صلة
قوية و واضحة بين مفهومي ( المباديء الأخلاقية ) و الإيمان ( بالقوى الإلهية و
إقامة الشعائر لها ) . 
من جانب آخر تؤكد لنا تعاليم ( آمون إم إيبت ) و لعدة مرات
أن كل ما يحدث للبشر يعتبر ( قضاء و قدرا من الإله ) ، إلا أنها تكشف في ثناياها و
بصدق عن المثال المصري القديم و الأوسع إنتشارا الذي يتحدث عن ( الإنسان صادق
الولاء و المستكين ) ، فقد كان هذا المثال بارزا بقوة في التراتيل و الصلوات
الشعبية الموجهة للمعبودات . 
إن تعاليم
آمون إم إبيت تشير لحقائق هامة تمثلت فيما يلي : 
1 – أن الآلهة
خلقت القضاء و القدر و ظلت تدعمه ، و لكنها و رغم ذلك ظلت حرة في التصرف و السلوك
تجاه البشر وفقا لما تراه ، حتى لو بدت هذه الرؤية للبشر على أنها نزوة غير مفهومة
2 – الظهور
البارز و بقوة لمفهوم أن قدر الآلهة يحمل في طياته أحيانا كثيرة مصدر حزن و أسى
عشوائي لجنس البشر و هو أمر فكري لم يظهر بهذه الدرجة من الوضوح قبل أواخر عصر
الدولة الحديثة . و لكن في واقع الأمر أن هذه الفكرة ليست جديدة في حد ذاتها بل
نجد إرهاصات أولى لها في نصوص تعاليم الدولة الوسطى التي أكدت أن ما يحدث على
الأرض هو من تدبير الإله ، و ليس ما يريده الناس . إن الفارق هنا بين تعاليم آمون
إم إيبت و تعاليم الدولة الوسطى فارق في الدرجة ( كمي ) و ليس فارقا في النوع ( أي
في توصيف الظاهرة ذاتها ) . 
3 – تربط
تعاليم آمون إم إيبت القيم الأخلاقية بمفهوم الإيمان بالآلهة و تقبل القضاء و
القدر و تقبل الأحداث كما هي . 
و من جانب آخر
جاءت نصوص التعاليم الأخلاقية في نهاية عصر الرعامسة لكي تبرز هدفا هاما و يتمثل
في نشر الطمأنينة في قلب الإنسان بعد أن يقوم بتسليم كل شيء إلى مشيئة الإله ، حيث
نرى في أحد الخطابات أن الكاتب بعد الإطمئنان على صحة المرسل إليه ، يكمل حديثه
بعبارة : 
" أنا
الآن على قيد الحياة ، و غدا بين يدي الإله " 
و في واقع
الأمر أمدتنا نصوص التعاليم التي وصلت لنا من أواخر عصر الدولة الحديثة بمعلومات
هامة تتعلق بجمهور عريض من المتعبدين المصريين يتواجدون في هيئة حشد كبير داخل
المعابد ( في مواقع محددة ) و خارجها و ذلك لحثهم على تقديم القرابين و إقامة
التراتيل للمعبودات ، بل و لتبادل الهدايا بينهم . فإذا صدق ما ورد في الخطابات ،
فإن الناس ( عامة الشعب ) كان يجب عليهم أن يذهبوا إلى المقاصير المحلية ثلاث مرات
كل عشر أيام ، أو حتى يوميا للإستعلام و البحث عن الأقارب الغائبين و للصلاة من
أجلهم ، بل و ينبغي لهم الذهاب ثلاث مرات كل عشر أيام ليقوموا بالتطهر . 
يتبين لنا من
واقع ما ورد في هذه النصوص التي ترجع لنهاية عصر الدولة الحديثة نتائج في غاية
الأهمية و هي : 
1 – تنامي
ظاهرة الورع الشعبي نحو الآلهة المصرية خلال نهاية عصر الرعامسة و هو الزمن الذي
بدأ يشهد إنحلال صورة الملكية الإلهية المقدسة و بداية إختفاء مفهوم الملك البطل
المنقذ . 
2 – محاولة
الكهنوت المصري القديم لإستقطاب ظاهرة التقوى الشعبية تجاه المعابد المصرية
ومقاصير الآلهة المحلية تحقيق طلبات العامة من الناس بل و التأكيد على ربط كل ذلك
بمفهوم الأخلاق الطيبة التي يسعى الإله لنشرها و تعميمها بين الناس . فالإله في
عالم مصر يهتم بالشعائر التي تقام له و يطلب منهم في ذات الوقت أن يتمتعوا
بالأخلاق الحميدة ، فإله المصريين هو إله خالق للسلوك الطيب و الأخلاق الحسنة . 
3 – بداية
وجود تلاحم كهنوتي و شعبي داخل المعابد ( في مواقع محددة ) المصرية و خارجها و
بشكل قوي يهدف للتأكيد بأن آلهة المصريين تسمع شكوى الناس و تحل أزماتهم فضلا عن
بداية وجود نية كهنوتية لتعليم بعض طوائف العامة كيفية التطهر و إقامة بعض الشعائر
للإتصال بمعبوداتهم وفقا لقواعد و نظم دينية ينبغي مراعاتها و تطبيقها . 
تزامن كل ما
سبق مع وجود ظاهرة أخرى تمثلت في التغير المذهل للأنماط و الطرز الفنية التي ظهرت
في نهاية عصر الدولة الحديثة في مقابر كبار الأفراد ، حيث إختفت تقريبا المشاهد
الدنيوية من زخرفة المقابر و بدأت تزداد المناظر التي تختص بالعالم الآخر ، بل و
ظهرت مشاهد جديدة تناولت العالم الآخر للمصريين و لم تكن سائدة من قبل ، و تهدف
لما يلي : 
1 – إبقاء
المتوفى على قيد الحياة في عالمه الآخر بفضل المعبودات التي ستتكفل برعايته للأبد
2 – كشفت
زيادة المناظر الأخروية في تلك المقابر عن تنامي ظاهرة التقوى الشعبية تجاه
المعبودات المصرية خلال عالم الدنيا و إستمرار تلك الظاهرة أيضا في العالم الآخر و
لاسيما و أنها إحتوت على أناشيد و أشعار وجهت للآلهة المصرية القديمة و تزامن كل
ذلك مع مظاهر التدين الشعبي التي مورست داخل و خارج المعابد المصرية . 
و من ضمن
الظواهر التي طرأت بشكل جديد و واضح في نهاية عصر الدولة الحديثة ، بل و إستمرت و
تنامت في العصور المتأخرة ، هي ظاهرة التوسع الكبير في الممارسات الدينية المرتبطة
بالحيوانات . فقد كانت الحيوانات المقدسة تعد تجليات للآلهة كان من الممكن الإتصال
بها و مخاطبتها أكثر من التماثيل و المناظر الدينية المحفوظة في المعابد بل و
تحولت إلى رموز فعالة و أهداف لظاهرة التدين و التقوى الكهنوتية و الشعبية و
لاسيما في العصور المتأخرة حيث لعبت هذه الحيوانات دورا هاما في ظاهرة العرافة و
النبوءة و الوحي . و لم يكن إختيار هذه الحيوانات المعبرة عن تجليات الآلهة أمرا
عشوائيا ، بل كان يخضع لشروط و قواعد و صفات معينة ينبغي توافرها في الحيوان الذي
يعبر عن كينونة المعبود ( و هنا نذكر على سبيل المثال حالة العجل أبيس في منف و
صفاته التي أضفاها الكهنة عليه لكي يكون عجل المعبود بتاح ) . و بما أن الأحياء من
هذه الحيوانات كان يتم الإحتفاظ بها في أماكن محددة من المعبد ، لذلك أصبح من الطبيعي
أن يتم دفنها في سراديب أو ممرات أو مقابر تحت الأرض ، الأمر الذي يقودنا نحو
الإستنتاج التالي و هو : 
" أن
ظاهرة إنتشار و تنامي تقديس الحيوانات منذ نهاية عصر الدولة الحديثة و حتى العصور
المتأخرة كانت بسبب زيادة الممارسات الشعائرية الجماهيرية الشعبية نحوها الأمر
الذي أدى لوجود إستجابة كهنوتية لهذه الظاهرة و محاولة إستيعابها في نطاق المعابد
المصرية " . 
و في أواخر
عصر الدولة الحديثة و أعقابها ، إنهارت السلطة الملكية و لم يعد للملك تأثير واضح
في الديانة المصرية القديمة ، و ذلك على الرغم من أن وضعه المركزي على جدران و
مناظر المعابد المصرية القديمة ظل دون تغير كبير . أما وضعه خارج المعبد فهو مختلف
تماما ، فنجد في أحد نصوص أواخر عصر الرعامسة تساؤلا واضحا عما إذا كان هناك أحد
يخضع لسيطرة الملك ؟ ... و الإجابة هي بالطبع بأنه لا أحد . و في نص آخر يوصف
الملك بوضوح بأنه ( رجل متناقض مع الإله آمون ! ) الأمر الذي يشير لحقيقة هامة و
هي : 
" لم يعد
ملك مصر ممثلا فعليا لصورة الإله على الأرض ( و لا سيما فيما ورد عنه خارج المعبد
) و أنه ليس بالضرورة هو ذلك الرجل الذي يقيم أوامر و رغبات و قوانين الإله على
الأرض و لم يكن من الممكن تصور مثل هذا الأمر على الأقل قبل قرن من نهاية عصر
الرعامسة " . 
يتبين لنا مما
تقدم أن تنامي و إزدياد ظاهرة الورع الشعبي قد تمت بشكل لم يسبق له مثيل تجاه
معبودات مصر و سعى أنصارهم من الكهنة لخلق رابط قوي جدا بين الإيمان بهذه الآلهة
التي تسمع و تحقق رغبات و طلبات الناس و مفهوم الأخلاق الحميدة و إقامة الشعائر
لها فضلا عن تماسك و ترابط أفراد المجتمع فيما بينهم من خلال تطبيق السلوك الحسن
التي تدعو لها آلهة مصر و تزامن كل ذلك مع تضائل تدخل السلطة الملكية في الشئون
المحلية للمعابد المصرية فضلا عن التجاهل التام لهذه السلطة من خلال تركيز ظاهرة
الورع ناحية معبودات المدينة وحدها الأمر الذي أدى إلى ظهور نتيجة بارزة الأهمية
تمثلت فيما يلي : 
" أصبح
المجتمع أكثر إتجاها ناحية المدينة ، و أصبح المواطن المصري أكثر ولاءا لإله
مدينته في نهاية عصر الرعامسة و ما تلاها زمنيا ، و أصبح الإنسان في عالم مصر
يستمد تبعيته و هويته الإجتماعية من إله مدينته المحلية الذي يحقق رغباته و يطلب
منه شعائر و سلوكا حسنا في دنياه " .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق