دور التفاعل الحضاري بين زعماء الجنوب و الشمال و أثره في قيام المملكة المصرية - طرح آخر حول توحيد مصر السياسي
في البدايات الأولى لعلم المصريات نشأ إعتقاد
بين الباحثين يتمثل في وجود مملكتين واحدة في الجنوب و أخرى في الشمال و لاسيما في
عصر ما قبيل الأسرات و أن سكان الجنوب و هم كانوا في الأصل يمتهنون حرفة الصيد
قاموا بالإستيلاء على أراضي المزارعين في الشمال بعد إقامة معارك ضارية معهم إنتهت
بعمل توحيد سياسي و ثقافي للبلاد و إعلان المملكة المصرية الموحدة تحت حكم الملوك
الثينيين الذين دفنوا في أبيدوس . و ذهب العالم الألماني فيرنر كايزر بطرح هام و
هو : وجود ثقافة جنوبية أطلق عليها تسمية ثقافة نقادة و إعتبر هذه الثقافة ممتدة
نحو الشمال فيما يعرف بإسم ( التوسع الثقافي النقادي ) و إعتبر ذلك التوحد الثقافي
الذي كان مبادرة حضارية جنوبية هو الأساس الأول الذي مهد لقيام الوحدة السياسية في
مصر خلال ما يسمى بعصر الأسرة صفر .
يهدف هذا المقال لإعادة النظر في مفاهيم : (
ثقافة نقادة الجنوبية ) و ( التوسع الثقافي النقادي ) و ( الوحدة الثقافية المطلقة
بين الجنوب و الشمال ) و ( الوحدة السياسية المطلقة أو أحادية المركز ) كما نشير
هنا بعد إعادة رصد و تحليل المعطيات الأثرية الخاصة بعصور ما قبل الأسرات و حتى
بداية عصر الدولة القديمة إلى حقيقة هامة و هي : أن تطور تكوين الدولة في مصر لم
يتبع خط موحد و لم يتبع سرد منتظم للأحداث كما كان يعتقد العديد من الباحثين من
قبل و لكنها كانت وحدة سياسية بالغة التعقيد بدأت منذ نهاية عصر نقادة الثانية (
أواخر المرحلة الثانية من عصور ما قبل الأسرات و تؤرخ بحوالي 3300 ق.م ) و تنتهي
عند بداية عصر الدولة القديمة على أقل تقدير .
و ينبغي هنا أن نشير إلى أن المصادر المصرية
في العصور التاريخية ساعدت و لاشك على تكوين تصور بأن مصر قبل الوحدة السياسية
كانت تنقسم لمملكتين في الجنوب و الشمال فهذا هو ما أشارت إليه أساطير نصوص
الأهرام ثم توحدت المملكتان تحت زعامة ملك واحد أطلقت عليه الوثائق الرسمية
الكهنوتية لأول مرة إسم ( مينا – مني ) في نهاية عصر الإنتقال الثاني . و ما ساعد
على تكوين هذه الصورة هو صلاية نعرمر التي ظهر فيها ملك من الجنوب بالتاج الأبيض و
هو يقمع عدو من الشمال . و مع ذلك فلا يجب إعتبار هذه الصلاية مصدر لوقائع تاريخية
ذات معنى حقيقي أو حتى إعتبارها تحوي إشارة لغزو الشمال و هو ما سبق و أن تناوله
الدارس في مقال منفصل سابق عن صلاية الملك نعرمر و منشور في جميع الجروبات حيث كشف
عن الجانب الأيدولوجي و الشعائري لمناظر الصلاية التي لا تتناول واقعة غزو أو
إنتصار عسكري جنوبي ضد الشمال .
هناك أمر هام يمكن لنا أن نستشفه من آثار
عصور ما قبل الأسرات في الجنوب و هو : لا يوجد حتى الآن أي دليل على وجود مملكة
موحدة في مصر العليا تحت قيادة زعيم واحد تمكن من إخضاع جميع أقاليم أو كل ممالك
الجنوب في عصر الأسرة صفر و من جانب آخر لا يوجد برهان مادي على وجود هيكل سياسي و
إقتصادي يسمح بعمل حروب طويلة الأمد للإستيلاء على أراضي شاسعة تمتد من الجنوب حتى
الشمال و ذلك على النقيض مما تصوره فيرنر كايزر الذي خرج بطرح علمي يتمثل في وجود
تخطيط عسكري منظم و متطور من زعماء الجنوب الذين زحفوا عسكريا و سياسيا و حضاريا
نحو الشمال .
هناك مجموعة من النتائج ينبغي لنا هنا أن
نشير إليها عند تناولنا لفترة توحيد البلاد سياسيا و ما سبقها زمنيا من أحداث هامة
تتمثل فيما يلي :
1 – لم تشير مصادرو آثار ما قبل الأسرات و
حتى قيام الأسرة الأولى إلى أي شيء يكشف عن وجود مملكتين منفصلتين عن بعضهما البعض
فلم يأتي هذا التصور إلا بعد قيام الأسرة الأولى و ظهر لأول مرة طقس سما تاوي (
تناول الدارس من قبل هذه الشعيرة في مقال سابق منشور على معظم الجروبات ) على حجر
بالرمو التي أشارت إلى حور عحا بوصفه أول ملك يقيم هذه الطقسة .
2 – ينتمي جميع المصريين إلى نسب ( نيوليتي )
واحد أو بمعنى أدق ترتد الجذور العرقية للمصري القديم الذي تواجد في وادي النيل
طوال عصور ما قبل الأسرات إلى العصر الحجري الحديث ( الذي يبدأ في وادي النيل
تقريبا منذ الألف السادس قبل الميلاد ) فلم يكن هناك فارق عرقي بين إنسان الجنوب و
إنسان الشمال بل و يمكن القول بأن المصريين تعارفوا على بعضهم البعض و لفترة طويلة
من الزمن في صحراوي مصر الشرقية و الغربية خلال العصور الحجرية القديمة و قبل
إستقرارهم في وادي النيل مع بدايات العصر الحجري الحديث .
3 – وجود إتصالات حضارية و تجارية متبادلة
بين أقاليم و مراكز و ممالك الجنوب و الشمال طوال عصور ما قبل الأسرات مما أدى
لإنتشار بعض المنتجات التجارية و الأفكار و المعتقدات و المفاهيم الدينية هنا و
هناك دون أن يعني ذلك بالضرورة أن ثقافة نقادة الجنوبية حلت محل ثقافة حضارات و
مراكز الشمال و العكس صحيح في نهاية عصور ما قبل الأسرات .
4 – نشأ و نما و تطور كل إقليم في الجنوب و
الشمال بمعزل عن الإقليم الآخر ، فالنشأة الأولى خرجت من داخل كل إقليم في البلاد
، مما يعني أن التبادل الحضاري و التجاري الموجود الذي كان موجودا بينهم لا يعني
إلغاء التميز و الإستقلالية الثقافية لكل إقليم .
5 – إن الحديث عن وجود تجانس ثقافي مطلق و
كامل بين مراكز و ممالك الجنوب خلال عصور ما قبل الأسرات هو أمر يحتاج لإعادة نظر و
لاسيما بعد إكتشاف عادات دفن و تقاليد مختلفة و أثاث جنائزي متباين و متنوع بين
ممالك أبيدوس و نخن و نقادة في الجنوب مما يؤيد فكرة التميز الإقليمي و إستقلالية
الثقافة في كل إقليم منهم طوال عصور ما قبل الأسرات و هو ما يلقي ظلالا كبيرة من
الشك حول جدوى مصطلح ( الثقافة النقادية الجنوبية ) الذي إبتكره فيرنر كايزر .
6 – إن أحد الأدلة التي تؤكد على عدم إحلال ثقافة
الجنوب محل ثقافة الشمال في نهاية عصور ما قبل الأسرات هو ما تم إكتشافه في منشأة
أبو عمر ( شمال شرق الدلتا ) حيث وجد عدد كبير من أواني الفخار المحلي و المصنوع
في ورشة محلية شمالية كما أن معظم المقابر هناك إحتوت على آنية واحة فقط في كل
مقبرة تقريبا مستوردة من الجنوب ( و هو الفخار ذو المقابض المتموجة ) كدليل على
وجود تبادل تجاري بين منشأة أبو عمر في أقصى شمال شرق الدلتا و بعض الممالك
الجنوبية آنذاك و من ناحية إختلفت عادات الدفن و تقاليد وضع الموتى و الأثاث
الجنائزي في تلك المنشأة عن نظيرتها في مراكز و ممالك الجنوب منذ عصر نقادة
الثانية و حتى نهاية العصر العتيق الأمر الذي يؤكد مرة أخرة على وجود ( تعدد
للأنماط الثقافية بين مراكز الجنوب و الشمال ) و أن مفهوم ( توسع و إمتداد ثقافة
نقادة الجنوبية نحو الشمال ) لا يخلو من شك كبير .
من هنا يمكن طرح نتيجة هامة بعد إستعراض ما
سبق و هي :
نشأت و تطورت أقاليم و مراكز و ممالك مصر في
الجنوب و الشمال بشكل تدريجي و من داخلها ، حيث إعتمدت كلا منها على موقعها
الجغرافي و ظروفها البيئية و المناخية و تأثرت كل منها بالأخرى و لكن ( بشكل جزئي
) و ( ليس كلي ) و كان كل إقليم له بلاشك إتصالاته الحضارية و التجارية بالأقاليم
الأخرى الأمر الذي ساعد على إنتشار بعض المنتجات و المعتقدات الدينية هنا و هناك (
بشكل جزئي ) فعلى سبيل المثال وجدت المعبودة نيت و التي كان مركز عبادتها الرئيسي
في سايس بالشمال على رسوم فخار مركز نقادة في الجنوب منذ عصر نقادة الثانية على
أقل تقدير الأمر الذي يشير لعبادتها هنا و هناك في نفس الفترة الزمنية كما يرجح من
جانب آخر وجود علاقة نسب و مصاهرة بين عائلة سايس في الشمال و عائلة نقادة في
الجنوب ؟
و من جانب آخر يمكن القول بأن طبيعة و بيئة
أرض الجنوب تميزت عن طبيعة و بيئة أرض الشمال ، فعلى سبيل المثال وجود الصحراء
الشرقية بالقرب من الصعيد و إقتراب وديان الجنوب من مصادر الثروات المعدنية ، أدى
سهولة الإنتقال إليها من جانب زعماء ممالك الجنوب الأمر الذي ساعد على إثراء
الجنوب و هذا ما يفسر لنا لماذا كانت مقابر الجنوب أغنى من مقابر الشمال طوال عصور
ماقبل الأسرات في مصر ؟ كما يفسر لنا لماذا كانت بضائع و منتجات الجنوب نادرة و
قليلة في الشمال ؟ فلا شك أن إستيراد مثل هذه المنتجات من الجنوب كان غالي الثمن و
من ناحية أخرى نجد أن تعدد الفروع المائية و القنوات في الشمال أدى إلى خلق صعوبة
إتصال بين مراكز الشمال نفسها بل و صعوبة وصول هذه الممالك إلى مصادر الثروة
المعدنية في الصحراء الشرقية و الغربية . و هنا يمكن لنا أن نخرج بنتيجة هامة و هي
:
أن الشمال لم يكن أكثر ثراءا من الجنوب كما
تصور فيرنر كايزر و العديد من الباحثين و لهذا السبب تنتفي فكرة غزو زعماء الجنوب
لأرض الشمال خلال عصر الأسرة صفر بدافع السيطرة على ثروات أرض الشمال التي كانت
أغنى من أرض الجنوب و هو التصور الذي نادى به من قبل عدد لا بأس به من الباحثين .
و عند هذه النقطة تحديدا يتسائل الدارس عن
مدى إحتمالية وجود منافسة تجارية بين بعض زعماء ممالك الجنوب خلال عصر نقادة
الثانية تحديدا أدى إلى قيام بعض المناوشات العسكرية الصغيرة بسبب محاولات السيطرة
على طرق و مصادر التجارة في الصحراوين الشرقية و الغربية و في النوبة السفلى ؟ و
هو ما يمكن لنا أن نستمده من أكثر من دليل و هم :
1 – تصوير الزعيم في مقبرة نخن لأول مرة و هو
يقوم بضرب ثلاثة أعداء بمقمعته على جدران مقبرته في نهاية عصر نقادة الثانية .
2 – تصوير الزعيم في نسيج منطقة الجبلين ( في
متحف تورينو ) و هو منتصر على زعيم آخر تم تصويره بمفرده على مركب مستقل و هو موثق
الأيدي كأسير في نهاية عصر نقادة الثانية .
3 – ظهور زعيم أبيدوس و لأول مرة و هو يمسك
بمقمعة على فخار أبيدوس ( معروض في المتحف المصري ) و ينتمي زمنيا لنهاية عصر
نقادة الأولى و ربما يشير هنا لإنتصاره في معركة ما .
تطورت و نمت أقاليم و ممالك و مراكز الجنوب و
الشمال في عصر نقادة الثالثة ( آخر مراحل عصور ما قبل الأسرات التي تبدأ من 3300
ق.م تقريبا ) و زادت العلاقات التجارية و الحضارية بينهم كما زادت علاقات النسب و
المصاهرة بين كبرى عائلات زعماء الجنوب و الشمال مما أدى لظهور هياكل سياسية و
إقتصادية قوية عبرت عن نفسها لأول مرة من خلال تصوير ( السرخ – أو واجهة القصر )
الذي عبر عن مكان إقامتهم في أماكن مختلفة في أقاليم الجنوب و الشمال ، فكان كل
سرخ فارغ ( لا يحتوي في داخله على أي علامات تصويرية أخرى ) يعبر عن مملكة سياسية
و دينية صغيرة قائمة بذاتها و مستقلة عن الممالك الأخرى .
إن وجود السرخ الفارغ في مناطق و مراكز
مختلفة في الجنوب و الشمال يعكس أمرا هاما و هو : إتفاق هؤلاء الحكام على أولى
العلامات التصويرية الكتابية في صيغة و شكل فني معين و متفق عليه في ذلك الوقت و
أنهم أوحوا لبعضهم البعض في إطار حلقة التفاعل الحضاري و السياسي فيما بينهم بهذا
الشكل التصويري المعبر عن السيادة و الزعامة دون أن يكون هناك زعيم واحد مسيطر
سياسيا و بشكل كامل على الزعماء الآخرين فقد تبادلوا تصوير السرخ فيما بينهم داخل
محل إقامتهم ربما لكي يعبروا عن وجود ( إئتلاف سياسي متعدد المراكز ) نتيجة لوجود
تبادل تجاري و صلات حضارية و علاقات نسب و مصاهرة مشتركة بينهم جميعا
و قد تكرر هذا الأمر مرة أخرى عندما قام
بعضهم ربما في مرحلة لاحقة بتصوير صقرين متقابلين على واجهة سرخ فارغ ينظران
لبعضهما البعض و هو تصوير إنتشر في مراكز الجنوب و الشمال على الأواني و الصلايات
و الفخار لكي يعكس نتائج هامة و هي :
1 - أن الزعيم هنا هو تجسيد لصقرين و هما صقر
الجنوب و صقر الشمال بصرف النظر عن مكان منشأ هذا الزعيم .
2 – أن الصقر هو أكبر معبود ديني و سياسي في
البلاد إنتسب إليه هؤلاء الزعماء لكي يعبروا عن أصلهم الإلهي و منشأهم السماوي و
لكي يدللوا من جانب آخر على شرعية حكمهم داخل أقاليمهم و دون أن تعبر هذه العلامة
بالضرورة عن وجود زعيم قد تمكن من الهيمنة على جميع الممالك الأخرى
3 -
إنتشرت هذه العلامة في مراكز الشمال أكثر من الجنوب ، فلم توجد في الجنوب
إلا في منطقة واحدة و هي أبيدوس بينما إنتشرت في مناطق متعددة في الشمال مثل منشأة
أبو عمر و جرزة و طرخان و بوتو و سايس و حلوان و غيرها من المناطق الشمالية الأخرى
.
4 – عكس وجود هذه العلامة بداية نشأة أسطورة
حورس منذ عصر الأسرة صفر على أقل تقدير و التي تتمثل في أن حورس الملك كان قد حكم
الأرضين ( و لنتذكر هنا شكل العلامة : الصقران في مواجهة بعضهما البعض فوق السرخ
الفارغ ) في فترة زمانية عتيقة فقد كان هو أول ملوك مصر الشرعيين .
5 – وجود الصقر مرتان فوق السرخ لا يعبر عن
وجود مملكتين بل يشير هنا إلى أرض الوادي و أرض الدلتا و مفهوم الإزداوجية الفنية
و الدينية المستمدة من البيئة المصرية منذ عصور ما قبل الأسرات و التي تتمثل في
وجود شمس و قمر – شروق و غروب – نهر النيل و الصحراء – سماء و أرض .. إلخ .
و في هذا الصدد نذكر هنا واحدة من أهم وثائق
عصر الأسرة صفر و المتمثلة في مقبض سكين متحف المتروبوليتان و التي صورت مجموعة من
الزعماء و يمسكل كل واحد منهم بعلامة الحقا ( عصا الراعي التي تدل على الزعامة ) و
هم يتجهون ناحية واجهة قصر و قد تم تصوير مجموعة من الأسرى تحتهم و هم موثوقي
الأيدي و يتم إقتيادهم حيث يتجهون ناحية ذلك القصر .
إن مقبض سكين المتروبوليتان يكشف عن حقائق
هامة تتمثل فيما يلي :
1 – إعتراف مباشر و صريح بوجود زعامات سياسية
متعددة بدليل تصوير كل واحد منهم بعلامة الحقا .
2 – وجود هدف مشترك بين هؤلاء الزعماء ربما
في إطار إتفاق سياسي و ديني للقضاء على أي معارضات أو مناوئات ضدهم و لذا تم تصوير
مجموعة الأسرى أسفلهم .
3 – سيعرف هؤلاء الزعماء بإسم الشمسو حور (
أتباع الإله حورس ) و الذين تم تصويرهم على صلاية صيد الأسد التي تنتمي لعصر
الأسرة صفر على مجموعتين حيث تم تصوير كل واحد منهم بشارات السلطة و السيادة (
علامة الحقا و الفأس و الريشة فوق الرأس و الذيل و اللحية ) و هم في صحبة صقر
الجنوب و صقر الشمال لكي يصطادوا أسدا غالبا في أرض الدلتا .
4 -
إن إتجاه هؤلاء الزعماء ناحية القصر يعكس وجود زعامة كبرى لأول مرة في عصر
الأسرة صفر ، إلا أن هذه الزعامة الكبرى لم تلغي فعالية أو سيادة الزعماء المحليين
الآخرين و بمعنى آخر لم يكن هذا التحالف يعبر عن وحدة سياسية مطلقة أو أحادية
المركز بل هي وحدة متعددة المراكز .
بقي لنا أن نقول أن هذه الوحدة المتعددة
المراكز نشأت تحت مظلة زعامة جنوبية كبرى و لاسما و أن آخر الملوك المعروفين في
عصر الأسرة صفر دفنوا في جبانة أبيدوس و هم ( إري حور و كا و العقرب و نعرمر ) و
لا ندري حتى الآن بشكل قاطع و مؤكد الظروف التاريخية التي أدت لظهور تلك الزعامة
الكبرى ذات المنشأ الجنوبي و كيفية تقبلها من جانب الأقاليم الأخرى ؟
و لعل ما سبق يفسر لنا إصرار بعض ملوك الأسرة
صفر مثل العقرب و نعرمر على تصوير أنفسهم في صحبة حكام و آلهة الأقاليم الأخرى (
الشمسو حور ) على آثارهم المتعددة ، فالملك لا يكتسب شرعيته كحاكم إلا من خلال
كبرى عائلات الجنوب و الشمال أو بمعنى أدق من خلال آلهة الأقاليم في الجنوب و
الشمال ، فحاكم الإقليم هنا هو أحد أتباع حورس ( الشمسو حور ) الذي يؤكد على منح
البيعة و الشرعية للملك الحاكم من خلال معبود الإقليم الذي ينتمي إليه . و قد
تبلورت تلك الفكرة عمليا في الإحتفال الملكي الشهير المعروف ( بالحب سد ) و التي
ظهرت إرهاصاته الأولى في عصر الأسرة صفر للتأكيد على المعنى السياسي و الديني
السابق و لذلك السبب إستمرت هذه التقاليد الدينية و السياسية من خلال المنشآت الجنائزية
التي شيدها ملوك العصر العتيق في جبانات مصر الكبرى في أبيدوس و سقارة و نخن و
التي إحتوت في داخلها على مقاصير آلهة الجنوب و الشمال التي تعطي شرعية الحكم
للملك من خلال آلهة و عائلات و زعماء كبار البلد في الجنوب و الشمال بل و يمكن
القول أن هذه التقاليد إستمرت حتى عصر الملك زوسر حيث نشاهد ذات المقاصير هناك في
مجموعته الجنائزية و من هنا يمكن لنا أن نستنبط النتائج التالية و هي :
1 – برغم ظهور زعامة لها السيادة الكبرى من
الجنوب إلا أنها لم تسعى على الإطلاق لإلغاء ثقافة الشمال ، فالزعيم أو الملك هنا
يستمد شرعية حكمه من آلهة الشمال كما يستمدها من آلهة الجنوب و لهذا السبب إحتفظت
الملكية بالشكل المميز لمقاصير الجنوب و مقاصير الشمال و دون أن تسعى لإلغائها على
مر العصور و هو ما يؤكد على الطرح الذي نادى به الدارس و هو : أن ثقافة نقادة
الجنوبية لم تلغي ثقافة الشمال لا في عصور ما قبل الأسرات و لا في عصر الأسرة صفر
و لا في العصور التاريخية .
2 –
لم تفرض هذه السيادة الجنوبية زعامتها على أقاليم الجنوب و الشمال من خلال حرب
عسكرية مدمرة فذلك ما لاتؤيده الآثار و لا تشير إلى ذلك على الإطلاق و لاسيما خلال
عصر الأسرة صفر .
3 –
إستمرت فكرة آلهة الأقاليم الجنوبية و الشمالية التي تمنح الشرعية السياسية و
الدينية للملك الحاكم معماريا حتى عصر الملك زوسر ( و ذلك من خلال وجود مقاصير
آلهة الجنوب و الشمال في مجموعته الجنائزية ) الأمر الذي يؤكد بعدم وجود سلطة
سياسية مطلقة أو أحادية المركز طوال العصر العتيق بل و حتى بداية الدولة القديمة ،
فالملك هنا لا يتمكن من حكم البلاد إلا من خلال آلهة الأقاليم ( الشمسو حور ) التي
تجسد كبرى عائلات زعماء الأقاليم في الجنوب و الشمال .
4 – إختفت هذه المقاصير كشكل معماري ( و لم
تنتهي كشكل ديني و فني موروث ) إلا عند نهاية عصر الأسرة الثالثة و بداية عصر
الأسرة الرابعة حيث تحول الملك سنفرو عن شكل المجموعات الجنائزية القديمة و تبنى
شكل معماري آخر و جديد و يختلف تماما عن موروثات الأسرة صفر و العصر العتيق و
الأسرة الثالثة و هو شكل المجموعة الهرمية مما كان الدافع الرئيسي الذي جعل بعض
العلماء يعتبرون أن نهاية عصر نقادة الثالثة تبدأ من ما قبل الأسرة صفر أي منذ
نهاية نقادة الثانية و تنتهي عند نهاية الأسرة الثالثة حيث لا حظوا أن موروثات
عصور ما قبل الأسرات إستمرت معماريا و ثقافيا و حضاريا خلال الأسرات الثلاث الأولى
و هو ما يعني وجود و إستمرارية :
أ – تعدد الأنماط الثقافية المختلفة للجنوب و
الشمال خلال الأسرات الثلاث الأولى رغم قيام وحدة سياسية .
ب – أن الوحدة السياسية هنا لم تلغي تعدد
الأنماط الثقافية لأنها لم تكن وحدة مطلقة أو أحادية المركز حيث وجدت أدلة متعددة
على عدم وجود تغير ثقافي كلي أو جذري في المعتقدات الدينية الخاصة بحكام الأقاليم
أو حتى عامة الشعب داخل مختلف الأقاليم المصرية .
ج –
أن العصر العتيق ينتهي عند نهاية الأسرة الثالثة نظرا لأنه يحتوي على ذات
الموروثات الثقافية للأسرات صفر و الأولى و الثانية بل و لم يتغير كثيرا عن ثقافة
مصر في عصور ما قبل الأسرات و من هنا يمكن قبول الرأي الذي نادى بأن البداية
الفعلية للدولة القديمة تبدأ فعليا مع عصر الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة حيث
بدأت ثقافة البلاد تصبح متجانسة و ذات صبغة حضارية واحدة إلى حد كبير في الجنوب و
الشمال .
و لعل وجود حكام أقاليم العصر العتيق و ما
يشير ضمنيا لوجود دلائل نسب و مصاهرة بينهم وبين الملك الحاكم يرجح ما طرحه الدارس
من قبل بأن هذه السياسة قد بدأت منذ النصف الثاني لعصر نقادة الثانية ( راجع فكرة
إنتشار بعض معبودات الجنوب و الشمال هنا و هناك في هذا المقال ) و هو ما يؤدي
للنتيجة التالية :
أن هذه العائلات إرتبطت ببعضها البعض من خلال
زعمائها ( الشمسو حور ) عن طريق المصالح التجارية و الصلات الدينية و الحضارية و
علاقات النسب و المصاهرة الأمر الذي نتج عنه وجود ( عائلة كبرى متعددة الأفرع في
الجنوب و الشمال ) إلا أن مركز هذه العائلة كان غالبا في الجنوب و لاسيما في منطقة
أبيدوس مع الإعتراف الرسمي بوجود هذه الزعامات المحلية من خلال منح الشرعية للملك
عن طريق آلهة الجنوب و الشمال في إطار الحب سد و الذي يتم التعبير عن رغبتهم (
رغبة الآلهة لتجديد الشرعية للملك ) عن طريق زعماء الأقاليم الذين لم يكونوا في واقع
الأمر سوى أقرباء البيت المالك و هو ما يفسر لنا وجود نظام إداري ملكي في العصر
العتيق يتكون من بيت مالك يعتمد على أقاربه من حكام الأقاليم ( الشمسو حور ) في
جمع الضرائب و فرض السيطرة و هو ما ظهرت أدلة له على حجر بالرمو و نصوص الأهرام
التي تحدثت عن خروج الملك الحاكم لأقاليم مصر المختلفة في صحبة حكام الأقاليم أو
الشمسو حور ( أقاربه من نفس العائلة الكبرى ذات الأفرع المنتشرة في الجنوب و
الشمال ) لجمع الضرائب و إقامة الأعياد الإلهية و إنشاء المعابد و تقديم القرابين
و أخذ الشرعية من آلهة الجنوب و الشمال و كان المخصص الفني التصويري المعبر عن
الشمسو حور هو شكل المركب إشارة إلى مراكب الزعماء التي صورت منذ عصر نقادة
الثانية على رسوم الفخار و التي عبرت عن أدوات السلطة و السيادة لهؤلاء الزعماء
عندما كانوا على إتصال ببعضهم البعض خلال إقامة التبادل التجاري و إنتشار المعتقدات
هنا و هناك .
إن ظهور العلامة التصويرية للمركب و المعبرة
عن الشمسو حور في حجر بالرمو و نصوص الأهرام ظهرت فعليا في الآثار من خلال المراكب
المكتشفة في شونة الزبيب بأبيدوس بجوار مجموعة الملك خع سخموي حيث عبرت تلك
المراكب عن مرافقة الشمسو حور ( زعماء الأقاليم الذين يمنحون الشرعية للملك من
خلال آلتهم و يرافقونه في جميع رحلاته
لمساعدته في فرض السيطرة السياسية و الهيمنة الإقتصادية على الجنوب و الشمال )
للملك نفسه في عالمه الآخر تماما كما كانوا يرافقونه في عالم الدنيا الأمر الذي
يؤكد وجود وحدة سياسية متعددة المراكز و تحت مظلة زعامة كبرى لا تستغني عنهم أبدا
كما لا يستغنون هم أيضا عنها .
و من جانب آخر نؤكد أنه حتى الآن لا نعلم
بالتحديد تتابع و ترتيب زعماء الأسرة صفر بشكل قاطع ، و الأمر المؤكد أنهم لم
يسيطروا مناطق متعددة من البلاد ( ما عدا الزعماء المنتسبين لأواخر عصر الأسرة صفر
مثل إري حور و كا و العقرب و نعرمر الذين إنتشرت آثارهم في مناطق متعددة من الجنوب
و الشمال و دفنوا في مكان واحد في أم الجعاب بأبيدوس ) و أن معظم عاصر زمنيا بعضهم
البعض و كانوا على إتصالات فيما بينهم كما لم ينحدروا من مكان واحد و هو ما يلقي
بظلال كبيرة من الشك حول مصطلح الأسرة صفر الذي إبتكره الباحثون الألمان فهم ليسوا
من بيت ملكي واحد بل من مناطق متعددة كما عاصر معظمهم بعضهم البعض و دفنوا في
جبانات مختلفة و أقاموا إئتلاف سياسي بينهم متعدد المراكز و الأطراف و قاموا
بالقضاء على الزعماء الذين لم ينضموا ينضموا لهذا الإئتلاف السياسي و دون أن
يخربوا مدنهم . و من ناحية أخرى لم تكن هذه الوحدة السياسية كاملة أو نهائية و
الدليل على ذلك وجود إشارت تاريخية لصراع حدث خلال العصر العتيق بين بعض ملوك
الأسرتين الأولى و الثانية ضد بعض المناطق المصرية مما نتج عنه إنفصال سياسي مرجح
في منتصف عصر الأسرة الثانية بين الجنوب و الشمال و هو ما نستشفه من عدم إنتشار
أسماء بعض الملوك مثل ( ونج ) و ( سنج ) في مواقع الجنوب فضلا عن وجود إشارة أخرى
على قاعدة تمثال الملك خع سخموي في المتحف المصري تشير لإقماع تمرد في بعض المناطق
الشمالية أدى لقتل أكثر من أربعين ألف شخص ( هذا في حالة إذا ما كان الرقم هنا لا
يميل للمبالغة ) كما لا ينبغي لنا أن ننسى وجود حالات لكشط أسماء بعض الملوك خلال
الأسرتين الأولى و الثانية و عدم الإعتراف بشرعيتهم و كذلك ظهور الملك بر إيب سن
في منتصف الأسرة الثانية و تنكره للمعبود حورس و رفعه لراية المعبود ست و إبتعاده
عن جبانة سقارة في الشمال و عودته مرة أخرى لجبانة أبيدوس في الجنوب الأمر الذي
يشير لإحتمالية وجود قلاقل سياسية و هو ما يجعلنا نرجح الخروج بالنتيجة التالية :
أن الوحدة السياسية بدأت منذ نهاية عصر نقادة الثانية و مرت بمراحل تدريجية و لم
تكن مطلقة أو أحادية المركز خلال عصر الأسرة صفر و العصر العتيق و لم تكتمل بشكل
نهائي و لم تستقر بشكل قاطع إلا في عصر الملك زوسر أو ما بعد عصر الملك زوسر كما
يرجح الدارس و تحديدا مع بداية عصر الملك سنفرو الذي أوجد نظاما إداريا يختلف
تماما عن ما سبقه من الملوك ساعده على قبض سيطرته الكاملة سياسيا و دينيا و
إقتصاديا على مختلف الأقاليم المصرية و إلغاء الشكل المعماري لمقاصير الشمسو حور
في مجموعته الهرمية و تبني الشكل الهرمي الكامل و إعلان الملكية المطلقة أحادية
المركز و الإختفاء التام لأي إشارة عن الشمسو حور في عصره و محاولة نشر ثقافة
مصرية ملكية واحدة في جميع البلاد إتضحت معالمها في جبانات الأقاليم مع بداية
الأسرة الرابعة و هو ما يجعل ادارس يتفق تماما مع الطرح القائل بوجوب وضع المراحل
التالية : عصر ما قبيل الأسرات ( نهاية نقادة الثانية و مرحلة نقادة الثالثة ) و
عصر الأسرات الأولى و الثانية و الثالثة في إطار زمني واحد يعرف بعصر نقادة
الثالثة الذي يبدأ من 3400 ق.م و ينتهي تقريبا عند 2690 ق.م و هو ما يعني أن
الوحدة السياسية المصرية الطلقة و الأحادية المركز و ذات الثقافة الواحدة لم تكتمل
في صورتها النهائية إلا بعد ما يقرب من سبعة قرون كما يعترف الدارس من جانب آخر أن
هذه النتائج ليست نهائية و هي قابلة لدرس و التحليل و المناقشة مرات أخرى كما لا
تدعي هذه الدراسة طرح إجابات نهائية على تساؤلات متعددة تتناول فترة التوحيد
السياسي لمصر و لكن سيسعى الدارس بإذن الله نحو المزيد من العمل في المستقبل للكشف
عن الثغرات و النقاط الغامضة من خلال إعادة رصد و تحليل الآثار التي تتحدث عن هذا
العصر و ربما يصل لنتائج أخرى