الجمعة، 29 يونيو 2012

الظروف السياسية و الدينية فى مصر خلال نهايات عصر الأسرة التاسعة عشرة


بسم الله الرحمن الرحيم 

( الظروف السياسية و الدينية فى مصر خلال نهايات عصر الأسرة التاسعة عشرة ) ................................................................................................................يتناول الدارس فى هذا المقال واحدة من فترات مصر الغامضة و هى نهايات عصر الأسرة التاسعة عشرة و ما حدث فيها من وقائع سياسية و دينية و لذا فنبدأ بطرح التساؤل التالي : ما هى الظروف التى مرت بها مصر سياسيا و دينيا بعد وفاة الملك ( مرنبتاح ) ؟ ... بعد موت الملك ( مرنبتاح ) تولى من بعده مجموعة من الملوك لا نعرف ترتيبهم على وجه التحديد و هناك من يرى أن الملك ( سيتى الثانى ) إبن الملك ( مرنبتاح ) هو من تولى زمام الأمور و حكم سبع سنوات و ترك لنا بجانب قبره فى وادى الملوك عددا من الآثار كان من أهمها مقصورة فى الفناء الأول لمعابد الكرنك .
تشير الدلائل لوجود شخصية ذات أهمية كبرى و دور فعال فى عصر الملك ( سيتى الثانى ) و هى الملكة ( تاوسرت ) التى كانت زوجته و يرى البعض أنها كانت هى اليد المحركة لشئون الدولة فى عهده . و بعد وفاة ( سيتى الثانى ) تمكن ( سا بتاح ) من تولى ملكية مصر و هنا نجد بعض الآراء التى رجحت أنه كان إبن محتمل للملك ( سيتى الثانى ) من زوجة ثانوية و يحتمل أن تاوسرت شاركته فى الحكم الفترة التى عاشها و التى إستمرت سبع سنوات و بعد ذلك إنفردت بالحكم لمدة عامين .
و قد إتخذت الملكة ( تاوسرت ) كما فعلت ( حتشبسوت ) من قبل ، الألقاب الملكية كما إصطفت لنفسها أحد رجالها و هو حامل الأختام ( باي ) الذي كان ربما سوري الأصل . و قد نقرت مقبرتها فى وادي الملوك بجوار مقبرة ( سا بتاح ) . و فى غمرة تلك الأحداث و منذ عصر ( سيتى الثانى ) و حتى عصر الملكة ( تاوسرت ) ظهر على مسرح الأحداث كبير كهنة ( آمون ) و هو المدعو ( آمون مس ) الذي أعلن نفسه ملكا و إتخذ هو الآخر الألقاب الملكية و استمر لمدة خمس سنوات على العرش مما جعل البعض ينظر إليه على أنه كان مغتصبا للحكم ، إلا أننا لا نعلم على وجه اليقين فى أى فترة بالتحديد قام بإعلان نفسه ملكا ؟ هل هو فى عصر ( سيتى الثانى ) أم ( سابتاح ) أم ( تاوسرت ) ؟
و هنا علينا أن نراجع الموقف التاريخي بعد وفاة الملك ( رمسيس الثانى ) ، مرتكزين على حقيقة هامة و هى : أن طول مدة حكم الملك ( رمسيس ) الثانى كان سببا للعداء داخل البيت المالك فى نهاية هذه الأسرة حيث أنه عاش فترة أطول من العديد من أبنائه مما ترتب عليه إضطراب و غموض الخط الوراثي ، و قد يفسر ذلك لنا عدم التأكد الفعلي حتى الآن من أنساب ملوك هذه الفترة بعد وفاة ( مرنبتاح ) و كيفية تتابعهم على العرش . كما لا ينبغي إغفال حقيقة أخرى موازية للحقيقة السابقة و هى : أن الملك ( رمسيس الثانى ) قد إستنزف موارد الدولة و مصادرها إما فى الإنفاق على معاركه الحربية و لا سيما فى بداية حكمه أو فى تشييد العمائر الدينية و المدنية و نحت التماثيل الضخمة له و للمعبودات فضلا عن تكريس و تخصيص العديد من الأراضي الزراعية للإنفاق على آثاره مما أدى إلى نضوب الخزينة فى نهاية حكمه و ربما كان ذلك سببا فى أن آثار و مبانى ( مرنبتاح ) قليلة نسبيا و معظمها مشيد من مواد مأخوذة من آثار أسلافه و لعل أوضح مثال على ذلك هو معبده الجنزى فى غرب طيبة الذي شيده من أحجار مأخوذة من المعبد الجنزى للملك ( أمنحتب الثالث ) 
و بطبيعة الحال إستمرت ظاهرة قلة الآثار مصاحبة لنهاية الأسرة بل إننا لم نتأكد حتى هذه اللحظة من تشييدهم لمعابد للمعبودات و إكتفى هؤلاء الملوك ببناء مقابرهم و معابدهم الجنائزية و بعض الإضافات لمعابد الآلهة و لم يشذ عن هذه القاعدة إلا الملك ( سيتي الثانى ) الذي شيد إستراحة لثالوث طيبة المقدس فى الفناء الأول لمعابد الكرنك .
و هنا ينبغي لنا ملاحظة عدد من الأمور و الحقائق الهامة التى وقعت خلال تلك الفترة و هى :
1 – كانت تلك الفترة مضطربة سياسيا و دينيا ، فقد قام تمرد فى الجنوب بقيادة كبير كهنة آمون المدعو ( آمون مس ) ضد حكم الرعامسة فى الشمال و هناك من يرى أن ذلك التمرد كان قد حدث خلال عهد ( سيتى الثانى ) و البعض الآخر يراه قد وقع خلال عصر ( سا بتاح ) حيث تطلع ( آمون مس ) للحكم بينما لم يكن الدم الملكي الخالص يجري فى عروقه و لهذا تم إعتباره مغتصبا و ملكا غير شرعي 
2 – ربما ساعد ( آمون مس ) فى الوصول للعرش ، كهنة آمون الذين أرادوا أن يعبروا عن سخطهم على أصحاب العاصمة الجديدة ( بررعمسو ) و ربها ( ست ) و قد يؤكد ذلك أن إسم الولادة لهذا الملك هو ( آمون مس حاكم طيبة ) أى أنه إنتسب للمعبود ( آمون ) و أكد على أنه حاكم طيبة و لاسيما و أن بداية الحكم الملكي لعصر الرعامسة إتجهت نحو إضعاف نفوذ الكهان من أصحاب آمون دون أن يجردوهم من كل سلطانهم كما حدث فى عصر العمارنة ، فقام ملوك الرعامسة و منذ بدايات الأسرة التاسعة عشرة بتوزيع مظاهر عقيدتهم بين أرباب البلاد الكبرى و إتضح فى هذا التوزيع ميلهم نحو الشمال و الذي يتضح فى أسمائهم الشخصية و خلوها من إسم ( آمون ) و لا يكاد يبرأ من ذلك غير واحد من الأدعياء يدعى ( أمون مس ) الذي ظهر أيام النزاع على العرش بعد وفاة مرنبتاح . و من جانب آخر تحول لقب المعبود آمون من ( الأول المطلق ) خلال عصر الأسرة الثامنة عشرة إلى ( الأول بين أقرانه ) من المعبودات مثل رع و بتاح و ست خلال عصر الأسرة التاسعة عشرة الأمر الذي يرجح إثارة حفيظة كهنة آمون ضد الرعامسة 
3 – مما لاشك فيه أن حالة تحدي ( آمون مس ) لسلطة الرعامسة لم تكن هى الوحيدة ، فقد زاد نشاط كهنة آمون فى ذلك العصر مما جعل كبير كهنة آمون ( روم روي ) يصور نفسه و خلفه إبنه الكاهن الثانى لآمون ( باك إن خنسو ) على الجدار الجانبي للصرح الثامن و هما يتعبدان لآمون بينما كان هذا الأمر قاصرا تصويره بلاشك على الملك فقط داخل معابد البلاد و لعل ما دعاه لذلك شعوره بضعف سلطة الملك و قلة هيبته و ربما كانت تلك إشارة إلى بداية سخط كهنة آمون على العاصمة الجديدة و كذلك بداية تطلعهم للسلطة و حكمهم البلاد و الذي تحقق جزئيا قرب نهاية الأسرة 20 و خلال الأسرة 21 
4 – يرى بعض العلماء أن وصول الملكة تاوسرت للعرش أدى إلى إضطراب الأمور فى عهدها مما كان سببا فى إنتقال زمام الأمور من فرعها إلى فرع آخر أشد شكيمة منه و هو فرع الأسرة 20 فهى إعتبرت نفسها ملكة بعد وفاة سيتى الثانى و هى التى تآمرت على آمون مس و تسببت فى عزله أو موته فى رأى البعض الآخر . ثم هى التى خططت مع المدعو ( باى ) حامل الختم فى رفع ( سابتاح ) إلى العرش و تزوجته و على أى حال فإن وجود تاوسرت على العرش قد أطمع الكثيرين فى التطلع إلى الحكم مما جعل فترة حكمها لم تزد عن سنتين فقط 
5 – يرى بعض الدارسين و منهم ( آلتن مولر ) أن الملك ( ست نخت ) مؤسس الأسرة 20 كان على رأس حزب معارض ضد حكم تاوسرت و أنه بعد إنتصاره عليها راح يؤرخ لعهده عقب وفاة سابتاح متخطيا فترة حكمها بل و قام بحملة تخربية واسعة ضد آثارها حيث حطم تماثيلها و نسب آثارها لنفسه أى أنه أراد إبادة شخصية هذه الملكة مع إنكار حكمها 
6 – من ناحية أخرى ربما إعتبرت تاوسرت من وجهة نظر الأجيال اللاحقة مقصرة فى أداء واجبها الديني كملك حيث أشارت بردية تورين التى ترجع لعصر الملك رمسيس السادس إلى أن عبادة رمسيس الثانى أو إقامة الشعائر لتماثيله و تماثيل غيره قد توقفت فى وقت حكومة تاوسرت . و لكن ألا يمكن إعتبار ما ورد فى بردية تورين دعاية مضادة لتشويه فترة حكمها من جانب ملوك الرعامسة ؟ هل نصدق النص أم نلجأ للآثار ؟ فإذا كانت ملكة غير معترف بها فى عصر الرعامسة ، إلا أن مانيتون قد ذكر إسمها كآخر من حكم البلاد فى نهاية الأسرة 19 الأمر الذي يعنى أنه يعترف بشرعيتها 
7 – ذكرت بردية تورين رجلا سوريا يدعى ( إيرسو ) أمسك بزمام الأمور فى نهاية الأسرة 19 حيث أن الدور الذي لعبه هذا الأجنبي يجعلنا نضيف سببا هاما من أسباب إنهيار تلك الأسرة ألا و هو زيادة نفوذ الأجانب الذين تدفقوا نحو مصر منذ عصر الأسرة 19 سواء جاءوا كأسرى حرب أو وفدوا إليها كتجار ثم إستقروا فيها و كان بعضهم يخدم كجنود مرتزقة فى الجيش المصري و منهم من عمل فى المؤسسات الحكومية و البلاط الملكي و من هنا فقد كان وصولهم للمناصب الرفيعة مثل القضاة و السقاة الملكيين و أمناء الأسرار أمرا طبيعيا و برغم تمصرهم بشكل كبير إلا أن منهم ( و لاسيما المدعو باي و غيره ) لم يكن ولائه الكامل لمصر و ملوكها بل كان عندهم الإستعداد للخيانة حتى و لو للملك نفسه مثل الأجانب الذين شاركوا فى مؤامرة القضاء على الملك رمسيس الثالث قرب نهاية حكمه 
8 – وجود أزمة إجتماعية تمثلت فى إنتشار الرشوة و الفساد الإداري و إزدياد السرقات و التى لم يسلم منها مقابر الملوك فضلا عن عدم إحترام الشعب للهيبة الملكية هذا بجانب كثرة الأجانب ذوي المناصب المرتفعة و الذين كان بعضهم من غير الموالين الولاء الكلي لمصر مما نتج عنه وجود خلل أثر على المجتمع المصري آنذاك 
9 – صورت مناظر معبد هابو على الجدار الشرقي للفناء الثانى مجموعة من تماثيل الملوك فى سياق عيد الإله مين الذين إعتبرهم الملك رمسيس الثالث مشيد معبد هابو من أسلافه المباشرين مرتبين كالتالى : مرنبتاح – سيتى الثانى – ست نخت ( مؤسس الأسرة 20 ) أى أن هذا النقش ( الذي يعتبر حتى هذه اللحظة آخر قائمة ألقاب ملكية معروفة فى الحضارة المصرية القديمة ) قد تجاهل تاوسرت و آمون مس و سابتاح رغم أنهم حكموا فعليا خلال تلك الفترة كما أثبتت آثارهم و المصادر الكتابية الأخرى و لعل تجاهلهم خلال عصر الملك رمسيس الثالث يرجع إلى خلافات أسرية أو سياسية .
10 – جاء فى بردية هاريس على لسان الملك رمسيس الثالث أن الظروف التى مرت بها مصر قبل سيطرة أبيه ست نخت عليها كانت فى غاية السوء و الفساد و لم يكن هناك سوى الشر فى البلاد بل أن زمام الأمر قد وصل فى النهاية للمدعو السوري ( إيرسو ) و لم تحترم المعبودات أو تقدم القرابين ! فهل نعتمد هنا على ما ورد كنص فى بردية هاريس أم أنه مجرد دعاية سياسية إتجه إليها كأمثاله من الملوك السابقين الذين كانوا يظهروا أعمالهم كإنجازات عظيمة و تثبيتا لأحقيتهم فى العرش من خلال تسجيلهم لكتابات تبالغ فى وصف حالة الإنهيار التى كانت موجودة قبل توليهم العرش ؟ إن معيار الحكم هنا يكون للآثار و ليس للنص ثم نقارن ماجاء على الآثار و نواجهه بمدى مصداقية النص فنزيل منه ما هو غير مطابق للآثار و نقر بما هو مطابق للآثار . و هنا و طبقا لما ظهر من الآثار من وجود تحدى واضح لكهنة آمون للسلطة الملكية و تفشي الفساد الإدارى المثبت فى أكثر من بردية و شقافات الفخار لعمال دير المدينة و عدم وضوح الخط الوراثى بعد وفاة مرنبتاح و عدم ولاء بعض الأجانب لمصر و تهديد مصر من جانب شعوب البحر و قبائل الليبيين فضلا عن توجيه سباب واضح ضد الملك سيتى الثانى ظهر لأول مرة فى شقافات الفخار لدير المدينة من جانب بعض العمال يدعم فكرة وجود أزمات فعلية فى مصر خلال نهايات عصر الأسرة التاسعة عشرة أما عن المبالغات التى وردت فى بردية هاريس فهى تتمثل فى توقف العبادة فى المعابد و عدم إحترام المعبودات أو عدم تقديم القرابين لهم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق