بسم الله الرحمن الرحيم
( طبيعة الدور الملكي فى نصوص و فن العمارنة ) ..........................................................................................
....................... كان الإتجاه بمذهب البلاد الرئيسي إلى عقيدة الشمس وحدها و الإنتماء إلى المعبود الأوحد ( آتون ) ، هو الإطار العام الذي تحددت من خلاله ملامح عقيدة الملكية و اكتسب الملك ( إخناتون ) على أساسها مركزا متميزا عبرت عنه النصوص و المناظر الملكية و غير الملكية فى وضوح كبير . فمن الملاحظ أن هناك تركيز واضح فى نصوص و مناظر العمارنة على إبراز دور الملك كوسيط وحيد بين المعبود الأوحد آتون و بين أفراد الشعب فى مجتمع العمارنة ولاشك أن ذلك قد جاء على نحو متميز
و لعل التساؤل الذي يطرح نفسه فى هذا الصدد : ما هى علاقة الملك بربه آتون فى عصر العمارنة ؟ ...........................
أكدت النصوص الملكية و نصوص كبار رجال الدولة على أن إخناتون هو إبن آتون الوحيد من جسده . فعلى سبيل المثال نقرأ عبارة مثل ( إبنك الوحيد الذي خرج من جسدك ) ، و فى سياق آخر ( أنت أنجبت جلالته كما تنجب نفسك كل يوم دون توقف ، أنت كونته من أشعتك بنفسك ) . و لم يقتصر تأكيد بنوة الملك لآتون على النصوص وحدها بل أن المناظر و الأعمال الفنية أسهمت بدور فعال فى هذا الصدد . و لم يلجأ الملك فى ذلك إلى الطريقة التقليدية التى تتمثل فى مناظر الولادة الملكية التى كانت معروفة فى النصف الأول من الأسرة الثامنة عشرة و كان أقربها إلى عهده مناظر ولادة أبيه أمنحتب الثالث فى الأقصر إذ أن مثل هذه المناظر لم تكن تتلائم طبيعة العقيدة الآتونية التى مالت إلى ( التجريد ) فى إطار ديانة ( التوحيد ) ، بدلا من ( التجسيد ) فى ظل ( التعددية ) .
و لكن الملك لجأ إلى أسلوب فنى فريد للتعبير عن خصوصية العلاقة بينه و بين أبيه ، فحرص على تصوير الحقائق التالية 1 - أن آتون هو الذي منحه الحياة تولاه بالرعاية و الحضانة فى نفس الوقت . فقرص الشمس الذي يجسد آتون تنبعث أشعته فى هيئة أذرع بشرية تنتهى فى العادة إلى الإبن إخناتون دون غيرهم من الناس و هى تقدم لهم الحياة
2 – فى بعض هذه المناظر لا تكتفى أيدي آتون بتقديم الحياة إلى أنف الملك و الملكة ، بل تمتد أيضا إلى جسد الملك و زوجته لتحيط بخاصرة كل منهما و كأنها تحيط بالإبن إخناتون و زوجته بالرعاية ، على نفس النحو الذي كان المسئولون عن الحضانة ( رجالا و نساءا ) يقومون به ، فيحيطون الأمراء و الأميرات بالذراعين تعبيرا عن معنى الرعاية فى فترة الحضانة .
3 – يمكن القول بوجه عام أن فكرة الحضانة كانت ترتبط دون شك بالأذرع المنبعثة من آتون ، فقد عبرت نصوص العمارنة عن تأثير هذه الأشعة على نمو النباتات و غيرها من الكائنات بلفظ ( منع ) و هو الإسم الذي ظهر قديما فى نصوص الأهرام معبرا عن بحيرة غذاء أسطورية لازمة لحضانة الملك فى العالم الآخر ، كما إشتقت منه ( لفظ منع ) ألقاب المرضعات القائمين على الحضانة مثل ( منعت ) و ( منعي )
يتبين لنا مما تقدم أن هذه المناظر تؤكد من ناحية على أن إخناتون هو إبن آتون كما تؤكد على أن آتون هو الذي يمده مع زوجته على الدوام بالحياة و يشملهما بالرعاية و الإنماء .
و على الجانب الآخر ، حرصت مناظر و نصوص العمارنة على إبراز العلاقة بين الملك و بقية الناس فى مجتمع العمارنة بحيث يظهر الملك فى هذه العلاقة كمصدر مباشر و وحيد يستمد منه طوائف الشعب و الموظفون أسباب معيشتهم . فهو الذي يتولى بنفسه تعيينهم فى وظائفهم و يمنحهم مساكنهم و كذلك مقابرهم و يجود عليهم بالعطايا و الهدايا . أى أن أسباب الحياة و مصدر الرزق بالنسبة لهم يرتبط دائما بشخص الملك فقط
و من هنا نلاحظ تلك الحقيقة الفكرية الهامة و هى : أن عصر العمارنة أقام مستويين متتاليين لعلاقة العطاء يلتقي طرفاها الأعلى ( آتون ) و الأدنى ( الشعب ) فى الأوسط ( الملك و الملكة ) و ذلك ما يمكن إدرامه لأول وهلة فى أى منظر يجمع أطراف هذه العلاقة الثلاثية لاسيما فى مناظر الهبة أو المنحة الملكية ، و هى التى تجسد علاقة العطاء حيث يظهر بوضوح فى قمة المناظر من أعلى آتون بأشعته التى تصل بالحياة و الرعاية الى الملك و الملكة فى الشرفة الملكية ( أى فى المستوى الأوسط من المنظر ) . بينما يقوم الملك و الملكة بدورهما بإلقاء الهدايا و العطايا و كلمات المديح للموظف الواقف فى المستوى الأدنى من المنظر
إن مثل هذه العلاقة النمطية فى عصر إخناتون تعكس بوضوح دور الملك كوسيط وحيد بين عالم المعبود الأوحد و بين عالم البشر على نحو متميز و بطريقة ملحة و متكررة و لو أن دور الملك كوسيط بين عالم المعبودات و عالم البشر ليس جديدا فى حد ذاته ، بل أنه كان على الأرجح هو الدور الأساسي الذي تتعلل به نظرية الحكم الملكي فى مصر القديمة إلا أن بيت القصيد هنا هو التأكيد و التكرار و الإلحاح على تصوير هذه الفكرة
و من الواضح أن حرص العصور السابقة لعصر العمارنة على تسجيل ولادة الملك من أصل إلهي و رضاعته من المعبودات و تغذيته على يد آلهة تجسد طاقات و قدرات إلهية ، كانت تهدف فى النهاية إلى التأكيد على أن الملك قد إكتسب من خلال كل ذلك ما يؤهله لممارسة دور الوساطة بين المعبودات و البشر نظرا لإكتسابه خصائص و طاقات المعبودات من خلال الرضاعة و التغذية فضلا عن أصله الإلهى .
يجدر التنويه هنا إلى أن تلك الطاقات و القدرات التى تمنحها الآلهة للملك الحاكم عرفت فى النصوص المصرية القديمة بإسم ( كاوات ) ، فالكاوات الإلهية يتم منحها من المعبودات الى الملك فيصبح مكتسبا لذات الكاوات . و لذلك فقد حرصت مناظر الولادة الملكية قبل عصر العمارنة على تصوير حضانة الملك و تغذيته على يد الآلهة التى تجسد الكاوات الإلهية ، لتؤكد على إكتسابه هذه الخصائص و الصفات ( التى تجسدها تلك الكاوات ) لكي يصبح من بعدها ذا قدرة فعالة فى العطاء و فى تجسيد الخصوبة و النماء .
و هنا ينبغي لنا أن ندرك حقيقة بالغة الأهمية و هى : أن الآلهة التى تتولى مسئولية حضانة الملك و تغذيته كانت فى العادة هى كاوات المعبود رع و التى تتجسد فى صورة كائنات مذكرة و كائنات مؤنثة يصل عددها فى العادة إلى أربعة عشرة ، و تتخذ عادة هيئة معبود النيل ( حعبي ) بإعتبارها الهيئة المناسبة لتجسيد الخصوبة و النماء و أن أقدم ظهور لهذه المعبودات يرجع لعصر الأسرة الخامسة حيث ظهرت فى معابد الشمس فى أبوغراب و فى المعبد الجنزى للملك ساحورع فى أبوصير
و فى هذا الضوء ، يمكن فهم الدور الذي مارسه اخناتون فى العمارنة كوسيط بين آتون و بين الناس من خلال الحقائق التالية :
1 – لوحظ أن صلوات أفراد الشعب و الموظفين فى العمارنة تتجه لأول مرة فى التاريخ المصري إلى ( كا ) آتون و ( كا ) إخناتون و أحيانا ( كا ) الأم الملكية تى
2 – تسجل نصوص العمارنة فيما لايقل عن عن أربعة عشرة مرة خطاب أفراد الشعب لإخناتون بقولهم ( أنت حعبي )
3 – تبين لنا مما سبق أن هناك إرتباط بين كاوات المعبود رع بهيئة معبود النيل حعبي و إرتباط ظهور هذه الكاوات من خلال تلك الهيئة للمرة الأولى خلال عصر إزدهار ديانة الشمس فى الأسرة الخامسة
4 – إن عودة ظهور هذه العلاقة مرة أخرى فى عصر العمارنة أمر له دلالته الخاصة لاسيما أن هذا الإمتزاج بين ( الكا ) و بين ( حعبي ) يتجسد الآن فى شخص ( الملك ) نفسه . و هو الأمر الذي لا يقتصر تأكيده على النصوص وحدها بل أنه يجد تأكيدا أكبر من خلال أعمال الفن ( النحت و النقش ) فى عصر العمارنة و بالتحديد من خلال الشكل الجسمانى للملك
و تميل هذه الدراسة مبدئيا و لعدة إعتبارات إلى الأخذ بأن إخناتون كان يجسد من خلال هيئته معبود النيل حعبي ( دون الدخول فى الجدل المحتدم بين الباحثين حول المظاهر الفنية الخاصة بعصر العمارنة و لا سيما الهيئة الجسمانية للملك و أفراد أسرته و كل الأشخاص الذين يعيشون معه فى العمارنة ) و لا يرجع ذلك إلى ما تذكره النصوص أو تصوره المناظر و التماثيل فقط ، بل لأن طبيعة الدور الذي قام به الملك تجاه أفراد أسرته و تجاه عامة الشعب هى التى تؤيد مثل هذا المعنى .
فقد صورت المناظر علاقات ود متبادلة بين الملك و زوجته فى أكثر من مناسبة ثم بينهما و بين بناتهما فضلا عن مناظر المداعبات المشهورة بين العائلة الملكية . و يبدو أن هذه الروابط الحميمة كانت إحدى المظاهر التى تعكس طبيعة الدور الذي قام به الملك فى العمارنة بإعتباره وسيطا بين آتون و بقية الناس . فهذه الوساطة جعلته يستمد الحياة مباشرة من معبود الشمس آتون و اكسبته بالتالى مظاهر الخصوبة المتمثلة فى ترهل البطن و إمتلاء الأفخاذ و الصدر و هى تلك المظاهر التى تعبر عن قدرات و طاقات معبود الشمس و تتجسد فى كاواته التى تتخذ عادة هيئة معبود النيل حعبي و لعل هذا يفسر تسمية إخناتون بإسم حعبي و توجيه الصلوات إلى شخصه مباشرة و يتبين من ذلك أن الملك كان يؤدي نفس الدور الذي كانت تقوم به كاوات رع الأربع عشرة تجاه حضانة الأمراء ، أى أنه كما كانت كاوات المعبود رع ( التى تتجسد فى هيئة معبود النيل حعبي ) هى التى تتكفل بإمداد الأمراء فى فترة الطفولة بقدرات و طاقات المعبود رع ، فإن الملك هنا هو الذي يلعب هذا الدور ( حيث أنه لا يوجد فى العمارنة معبودات تقليدية و اقتصر الأمر على آتون ) و لذا فإن الملك هنا هو الذي يؤدي وظيفة كاوات رع المتجسدة فى هيئة معبود النيل حعبي و ربما ذلك يفسر ظاهرة تأليه إخناتون فى العمارنة حيث كان له كهنة يترأسهم الكاهن الأكبر الشخصي له و الذي كان يأخذ لقب ( حم وع إن رع ) بمعنى خادم رجل رع الأوحد و من هذا المنطلق يمكن تفسير ظاهرة هامة فى فن العمارنة تتمثل فى ظاهرة التفاوت الواضح فى تجسيد خصائص الخصوبة بين أفراد البيت المالك و عامة الشعب . فمن الواضح ان هذه الخصائص كان أكثر من يجسدها الملك و الملكة و يأتى من بعدهما الأميرات ثم كبار الموظفين ثم من هم أقل منهم شأنا ثم عامة الناس الذي تظهر لديهم هذه الخصائص فى صورة مخففة لا تزيد عن إمتلاء طفيف فى البطن و من المرجح فى ضوء ما سبق أن هذا التفاوت يرجع إلى أن الملك و الملكة كانا يستمدان هذه الخصائص مباشرة من آتون و من ثم كانا أكثر ترهلا فى البطن و إمتلاء فى الصدر و الأفخاذ .
و من ناحية أخرى فإن العلاقة المباشرة بين الملك و الملكة و الأميرات جعلت هذه الخصائص لدى الأميرات أكثر وضوحا عنها لدى كبار الموظفين و عامة الشعب . و هكذا تقاس درجة وضوح هذه الخصائص لدى الموظفين بمدى علاقتهم و قربهم من شخص الملك و بناءا عليه فقد كانت هذه الخصائص أكثر وضوحا لدى كبار الموظفين لا سيما أولئك الذين يتلقون العطايا و المنح من الملك مباشرة عند ظهوره فى نافذة التجلي
يتبين لنا فى نهاية المطاف أن جوهر العقيدة الملكية فى عصر العمارنة كما تعبر عنه النصوص و أعمال الفن كان يتركز حول التأكيد على دور الوساطة التى يلعبها الملك بين عالم المعبود آتون و عالم البشر و هى ذات النظرية التى ترتبط دائما بعقيدة الملكية فى مصر القيدمة عبر عصورها التاريخية و لكنها تبدو فى عصر إخناتون كما لو كانت هى بيت القصيد الذي أراد أ يعبر عنه الملك بوسائل متعددة و مبتكرة و متكررة