الثلاثاء، 26 فبراير 2013

صورة المعبود ست بين الأسطورة و الواقع في العصور المتأخرة


بسم الله الرحمن الرحيم

صورة المعبود ست بين الأسطورة و الواقع في العصور المتأخرة

أثارت صورة المعبود ( ست ) الأسطورية و الفكرية جدلا كبيرا بين الباحثين في علم المصريات فمنهم من إعتبره رب الشر و الفساد بشكل مطلق منذ بداية ظهوره على مسرح الأحداث التاريخية و منهم من رآه معبود ذو أهمية قصوى و لاسيما و أنه لعب أدورا هامة منذ عصور ما قبل الأسرات و حتى نهاية عصر الدولة الحديثة فضلا عن إرتباطه بالملكية المصرية منذ فترة التوحيد السياسي و إعتبار الملك منذ العصر العتيق بأنه تجسيد لصورتي المعبودين ( حورس ) و ( ست ) و يسعى الدارس من خلال هذا المقال معالجة و تناول الصورة الأسطورية لذلك المعبود في العصور المتأخرة و مدى إرتباطها بالواقع السياسي و التاريخي لمصر آنذاك و لاشك أننا نحتاج لإلقاء بعض الضوء على الشكل الأسطوري لذلك المعبود قبل العصور المتأخرة في عجالة سريعة و ذلك كمحاولة تمهيدية لفهم ما طرأ عليه من تغيرات في تلك العصور
مما لاشك فيه أن أقدم دلائل تقديس للمعبود ست ظهرت منذ عصر حضارة نقادة الأولى ( منذ 3800 و حتى 3500 ق.م ) في عصور ما قبل الأسرات و لاسيما على مشط عاجي تم العثور عليه في منطقة المحاسنة ( بجوار سوهاج ) و نستشف أدواره القديمة مما ورد في متون الأهرام اللاحقة زمنيا و التي وصفته بأنه ربا للصواعق و الرياح و الأمطار و الزعابيب و العواصف الرملية . و من ناحية أخرى تمكن أنصار المعبود ست في الجنوب من إيجاد مركز عبادة له في منف منذ النصف الثاني من عصر نقادة الثانية ( المرحلة الثانية من عصور ما قبل الأسرات و تمتد من 3500 و حتى 3200 ق.م ) حيث كشفت الحفائر عن وجود تمام و أختام في جبانة حلوان ( الإمتداد الشرقي لمنف ) منذ عصر نقادة الثانية و صور عليها هيئة المعبود ست . أما في عصر نقادة الثالثة ( آخر مراحل ما قبل الأسرات و تمتد زمنيا من 3200 و حتى 3000 ق.م ) فقد إنتسب إليه بعض زعماء الأسرة صفر - و كان أشرهم الملك ( العقرب ) - فقد نشأوا و تربوا في المدن التي تم تقديسه فيها فكان من المنطقي أن يتخذوه هو الآخر ربا للملكية منذ تلك الفترة ( لمزيد من التفاصيل أنظر مقال سابق للدارس بعنوان حورس و ست بين الأحداث الأسطورية و الوقائع التاريخية منذ عصور ما قبل الأسرات و حتى نهاية عصر الدولة القديمة ) .
و هنا ينبغي أن ننوه لأهم أدوار و سمات المعبود ست قبل العصور المتأخرة في النقاط التالية :
1 – كشفت المصادر المصرية القديمة عن صورة المعبود ست بوصفه قاتل أخيه المعبود أوزير و هي الصورة التي ظهرت لأول مرة في متون الأهرام في عصر الدولة القديمة حيث وصفته بأنه طرح أخيه أرضا و لذلك لا يمكن تجاهل الرأي الذي نادى بأن المعبود ( ست ) قد تم إعتباره لدى شريحة ليست هينة من المصريين القدماء رمزا للجبروت و الطغيان منذ تلك الفترة .
2 – هناك إصرار شديد في العديد من المصادر الدينية المصرية القديمة – بدءا من عصر الدولة القديمة و ما تلاها – على إستبعاد نوال قدر الموت لرقبة المعبود ست ، و كانت متون الأهرام هي الأكثر صراحة و وضوحا في التعبير عن هذه القناعة حيث تنص إحدى فقراتها كأمنية على لسان الملك يرجو بها تفادي قدر الموت الدائم و تقول : " لقد هربت من يوم موتي كما هرب ست من يوم موته . لقد هربت من نصف شهر موتي كما هرب ست من نصف شهر موته . لقد هربت من سنة موتي كما هرب ست من سنة موته " و هنا يمكن لنا أن نطرح الحقيقة التالية :
أن المعبود ست هو الأوحد دون المعبودات الأخرى الذي كانت لديه القدرة على الإفلات من الموت وفقا للأطر العقائدية الخاصة بأنصاره منذ عصر الدولة القديمة مما يحمل في ثناياه صورة إيجابية تجاه ذلك المعبود على الأقل من جانب أتباعه و مريديه .
3 – وصفت نصوص عصر الدولة الحديثة المعبود ست بإعتباره الأقوى ضمن أرباب التاسوع و حيث نسب له في بردية شيستر بيتي أنه قد هدد المعبودات المتعاطفة مع حورس ضمن مجمع الأرباب بالقتل بواسطة صولجان ضخم يمتلكه و يزن 4500 دبن و بحيث يقتل به واحدا منهم كل يوم .
4 – ورد ضمن نصوص الفصل رقم 175 من كتاب الموتى إشارة مشابهة للنقطة السابقة مفادها أن الرب الخالق آتوم قد قام بحجز و حبس ست حتى لا يثير مزيدا من الفزع بين الأرباب
5 – تم تفسير سبب طرد الهكسوس من مصر على خلفية و ضوء أسطورة حورس و ست التي تم تعديل بعض معطياتها مع بدايات عصر الدولة الحديثة . فقد ظهر المعبود ست بملامح و صفات آسيوية في النصوص المصرية التي تنتمي لبدايات ذلك العصر و لا سيما و بعد إتخاذه كرب رسمي للدولة خلال عصر الإنتقال الثاني من جانب الهكسوس الذين إستقروا في الشمال . فقد كان ست ربا للهكسوس فأصبح بذلك آسيويا وفقا للمعطيات الأيدولوجية الدينية المصرية التي وصفته بأنه يميل للعنف و يهدف للتوسع و غزو مصر . إلا أن ذلك لم يكن يعني بأي حال من الأحوال أنه كان يمثل صورة سلبية مطلقة فقد تم إستيعاب و هضم الآسيوي الأجنبي الغريب بواسطة المعبود ست ، حيث تم ترويضه و إخضاعه لسيطرة حورس ( الملك الشرعي لمصر في الأسطورة المصرية ) و من هنا لم يعتبر ست رمزا للتشيطن المطلق ، بل هو يمثل العالم الآسيوي الذي سيطر عليه الملك المصري بواسطة ست خلال عصر الدولة الحديثة .
و بعد عرض ما تقدم يمكن أن نضيف أيضا نتيجة هامة :
برغم ظهور المعبود ست أحيانا في صورة سلبية ، إلا أنه تمتع بالحظوة و الرضا الدائمين لدى ( رع ) بإعتباره الرب الأوحد الذي يستطيع بحربته الضخمة و هو يقف على مقدمة المركب الليلية لرب الشمس أن يقهر و يقمع عدو الشمس الفوضوي الأزلي أبوفيس و هو ما تجلى أيقونوجرافيا ( تصويريا ) في كتب العالم الآخر منذ بداية عصر الدولة الحديثة على جدران وادي الملوك في طيبة الغربية
و هو ما يعكس ميل كهنة الشمس في هليوبوليس - و ربما بسبب التأثير المباشر لأنصار المعبود ست في اللاهوت شمسي – خلال عصر الدولة الحديثة لإضفاء دورا إيجابيا على ذلك المعبود بوصفه المحافظ على النظام الكوني العالمي المرتبط بإستقرار النظام و الحكم الملكي في مصر .
و على أية حال ظهرت محاولة لعزل المعبود ست في عصر الدولة القديمة من التاسوع الشمسي حيث يظهر في متون الأهرام أحيانا ببعض السمات السلبية فضلا عن عدم ظهور دور واضح له تجاه قرينته ( نفتيس ) التي توصف بأنها أخت المعبود أوزير التي قامت بالإشتراك مع أختها ( إيزيس ) في عمل شعائر النحيب و البكاء و إعادة البعث و الإحياء لأخيهما أوزير في حين أن ست لا يظهر له أي دور واضح مع قرينته الأمر الذي يعكس قيام طائفة من كهنة الشمس خلال عصر الدولة القديمة بمحاولة لعزله و نبذه من التاسوع الشمسي و رغم كل ما سبق كان وجوده في مجمع الأرباب المصري القديم أمرا لا غناء عنه ، فهو يحقق التوازن بين فعاليات قوى النظام المستقر أو المثالي و بين قوى الفوضى و عدم الإستقرار .
و بمعنى آخر كان هو طرف المعادلة الآخر لتوازن قوى و معطيات البيئة الطبيعية على أرض مصر ، فإذا كان المعبود أوزير على سبيل المثال يمثل الطبيعة الخيرة الرزينة و المعطائة المتمثلة في طين الأرض و خصبها و وفاء النيل بفيضانه العظيم فإن ست في نفس المعادلة يمثل الجانب الآخر المقابل من شراسة و غضبة قوى هذه الطبيعة و لم لا ؟ ألم يكن منذ بداية ظهوره على مسرح الأحداث ربا للرياح العاتية و الأعاصير الرملية القوية و الصواعق المرعبة .
إن أهم ما لفت إنتباه الدارس تجاه الصورة الأسطورية للمعبود ست هو الفصل رقم 175 من كتاب الموتى ( الذي يرجع لعصر الدولة الحديثة ) حيث ورد فيه حوارا فريدا بين كل من المعبودين آتوم و أوزير الذي يطلب بإلحاح من آتوم أن يقوم بإحضار ( با ) روح ست إلى العالم الآخر حتى يقوم ( أوزير ) بالقضاء عليه و لكن آتوم يراوغه في تحقيق ذلك الطلب قائلا له :
" إنني قد تدبرت أمره ( أي ست ) و سوف يتم حبس بائه ( روحه ) على المركب الشمسي " و هنا يتبين لنا الأمور التالية :
1 – أن كهنة أوزير لم يتمكنوا من القضاء على عبادة ست و نفوذ كهنته و أنصاره خلال عصر الدولة الحديثة .
2 – أن اللاهوت الشمسي كان حريصا أشد الحرص على إبقاء المعبود ست في مركب الشمس حتى يدافع عن رع من مخاطر العالم الآخر دون أن يتم إلحاق الأذى بست من جانب أوزير و لا سيما و أنه ( ست ) قد هبط للعالم الآخرالذي يعتبر مملكة المعبود أوزير و المسيطر الرئيسي على كل مخلوقاته .
3 – أن وجود ست في المركب الشمسي ليس إلا مجرد حبس لطاقاته و فاعلياته التي يستفيد منها آتوم خلال رحلته الأخروية ، فلا يخرج منها أبدا و لا يتم تصويره خارج نطاق هذه المركب و هنا ينبغي لنا أن نشير إلى أن ملوك عصر الرعامسة إعتبروا أنفسهم صورة ست في مركب الشمس حيث يقومون بدحر و قمع أعداء مصر الفوضويين من خلال تمثلهم بذلك المعبود في ساحة القتال ، فالملك هنا هو ست المدافع عن النظام الشمسي العالمي في مركبه و المقاتل لخصوم البلاد الذين يتشبهون بثعبان الفوضى الأزلي أبوفيس .
أثارت مناظر ذبح و قتل ست على جدران المعابد المصرية و لا سيما في عصر الدولة جدلا كبيرا بين الباحثين . فهل المعبود ست يتم قتله فعليا و ذلك على النقيض من الصورة التي رسمت له في متون الأهرام بوصفه المعبود الأوحد الذي تميز صراحة بأنه الذي تمكن من الهروب من الموت ؟
و برغم وجود بعض المناظر التراثية الأيقونوجرافية ( التصويرية ) المتصلة بمفهوم توجيه العقاب للمعبود ست و لا سيما المنظر الشهير الذي تم تصويره على جدران صالة الأعمدة الكبرى في الكرنك حيث يتم ذبح غزال يعبر عن ست بواسطة الملك و يصف النص المرافق للمشهد أنه عندما قام الملك بذبح الغزال إسترد ( عين حورس ) الضائعة و في ذلك إشارة لمتن قديم من متون الأهرام التي نصت صراحة على أن حورس ( الملك ) هزم و ذبح ست و إسترد عينه التي كانت قد إنتزعها ست منه سابقا .
إن مشهد ذبح الغزال في صالة الأعمدة الكبرى في الكرنك و الذي يتوافق مع نص الدولة القديمة يعكس حقائق هامة تمثلت فيما يلي :
1 – أن إسترداد حورس ( = الملك ) لعينه التي إنتزعها ست منه يعني حيازته للسلطة الملكية التي إنتزعها من ست في السابق و إضفاء الشرعية على حكم الملك بوصفه حورس الوريث الشرعي الفعلي للبلاد و قطع أي محاولة تماما على كهنة الإله ست الذين زعموا بأن ست إنتزع عين حورس ( = السلطة الملكية الشرعية ) فذبح الغزال يهدف إلى شل قدرته على إغتصاب السلطة الملكية من الوريث الشرعي الفعلي للبلاد ( حورس ) .
2 – وفقا لما ورد في نص الدولة القديمة قام حورس بذبح ست في أحراش الدلتا مما جعل ملوك الرعامسة و كهنة الكرنك يشيدون صالة أعمدة كبرى تحتوي على نباتات البردي في أحراش الدلتا حيث المكان الذي إختبأ فيه حورس و توج هناك و قضى على ست و من هنا ندرك أهمية تمثيل ذلك المشهد على الجدار الجنوبي الغربي لصالة الأعمدة فهو يدخل في نطاق أيدولوجيا إضفاء الشرعية السياسية على ملوك الرعامسة داخل تلك الصالة و من خلال تتويجهم فيها بعد قيامهم بشعيرة ذبح الغزال و إسترداد عين حورس .
3 – برغم أن الغزال يعبر من خلال هذا السياق عن المعبود ست إلا أنه لا يمثل صورة ست المعهودة و المتعارف عليها ، فهذا المنظر يمثل ممارسات طقسية أكثر منها تعبيرا عن عقاب فعلي و كذلك الأمر في معظم الحالات التصويرية الأخرى المماثلة فإن المعاقب هنا في معظم الأحيان ليس ست بذاته ( و لاسيما حتى نهاية عصر الدولة الحديثة ) ممثلا في هيئته التجسيدية المقدسة المتعارف عليها و إنما هي رموزه الحيوانية الحلولية ( أي التي حلت محله ) مثل الحمار ، الخنزير ، فرس النهر ، التمساح ، الغزال ، الظبي ... إلخ فهي التي تطعن و تقيد و تضرب أو حتى تذبح بل و في أحيان أخرى تدفن و هي على قيد الحياة ، و ربما كانت أشهر الأمثلة على هذه الحالة الأخيرة هي حفائر كلية الآثار التابعة لجامعة القاهرة بقيادة دكتور علي رضوان في منطقة أبوصير و التي كشف فيها عن ثلاث حمير ( أحد الرموز التصويرية الرئيسية للمعبود ست ) ردمت أقدامها في الرمال و هي على قيد الحياة ، ثم ضربت على رؤوسها لتموت و هي في وضع الوقوف و بما أن تأريخ هذه الدفنة وفقا لبعثة جامعة القاهرة يرجع لعصر الأسرة الأولى فهنا يمكن لنا أن نطرح التساؤل التالي : هل يمكن إعتبار هذه الدفنة ترجمة عملية لطقسة مبكرة تعبر عن إهلاك ست الشعائري ( و ليس شخص المعبود ذاته ) وفقا لما ورد في متون الأهرام و بعض المناظر التي سجلت و نقشت على جدران المعابد المصرية القديمة ؟
و مما لاريب فيه أن هذه المقدمة كانت ضرورية قبل تناول موضوع المقال المتمثل في ماهية المعبود ست الأسطورية خلال العصور المتأخرة و محاولة فهم التغيرات التي طرأت على أدواره في تلك المرحلة المتأخرة زمنيا من الحضارة المصرية القديمة . و قد تناول الدارس في مقال سابق أسطورة النزاع بين حورس وست التي إهتم ملوك الأسرة الخامسة و العشرين بكتابتها ( لمزيد من التفاصيل أنظر أسطورة النزاع بين حورس و ست في بداية العصر المتأخر ) على اللوحة الشهيرة التي تناولت مذهب الخلق في منف و التي ظهر من خلالها المعبود ست في الملامح التالية :
1 – أن المعبود ست لم يلجأ لإستخدام العنف من أجل حل النزاع بينه و بين حورس و ذلك على الرغم من تراجع المعبود جب ( رب الأرض ) عن قراره الأول الذي كان بموجبه قام بتقسيم مصر إلى مملكتين واحدة في الشمال يحكمها حورس و الأخرى في الجنوب يحكمها ست ، فلما تراجع عن قراره و أعطى ملكية الأرضين لحورس لم يظهر أي رد فعل سلبي من جانب ست على الإطلاق وفقا لمعطيات نص هذه الأسطورة بل يظهر ست و كأنه يمتثل للقرار
2 – تصالح ست مع حورس و أقام معه سلاما نهائيا حتى بعد أن آلت السلطة الملكية كلها للوريث الشرعي الوحيد ( حورس ) و لا شك أن صدى هذه الفكرة تضرب بجذورها أيضا في متون الأهرام منذ عصر الدولة القديمة فقد أشارت هذه المتون أنه و بعد إنتصار حورس على ست أخضعه لسلطته و تصالحا .
3 – ظهر ست في هذه الأسطورة و هو يمثل القوة و البأس و الشدة و ذلك على النقيض من حورس الذي يمثل الشرعية و القانون  عندما يندمج حورس مع ست و يتصالح معه ذلك يعني أن القانون يتصالح مع القوة
4 – ست لا يمثل منذ البداية مفهوم سلبي أو شيطاني فهو القوة اللازمة لأي ملك حاكم لتنفيذ القانون فلا قانون دون وجود قوة و العكس صحيح كما نجد من ناحية أخرى أن الشرعية عندما تعود لحورس فذلك يعني إخضاع القوة لكي تصبح في خدمة القانون فأي قوة دون وجود قانون يعني تحولها لقوة غاشمة و باطشة مما يعني فساد العالم و إنحلاله و أن مصر لن تصبح قابلة للمعيشة و السكن
من هنا نرى أن ست في بداية العصور المتأخرة كان يمثل القوة و البطش و الشدة و أحيانا الفوضى التي لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها ، بل ينبغي السيطرة عليها و إخضاعها لصالح السلطة الملكية الشرعية الأمر الذي يؤكد أن مذهب الخلق في منف لم يهدف لتصوير ست كشيطان أو كرمز للشر المطلق بل يسعى لإبراز لهيمنة حورس على ست من أجل إتمام التصالح و التآخي .
و قد إستمرت هذه الأسطورة خلال العصر الصاوي ( الأسرة السادسة و العشرين ) إلا أنه قد حدث تغير كبير في صورة المعبود ست خلال الغزو الفارسي لمصر في عصر الأسرة السابعة و العشرين حيث وجهت له و لأول مرة تهم صريحة لم تكن معروفة في السابق ، فظهر في هيئة الغازي الفارسي البغيض و الذي تم طرده من البلاد بعدما إنتصر عليه حورس فنقرأ على لسان المعبودة إيزيس التي ترفع شكوى أمام رب الشمس رع حور آختي قائلة له :
" يا رع حور آختي أيها السيد الواحد الذي ليس له مثيل الذي يصدر الأوامر فيعمل البشر بأوامره و أنت الذي خلقت لوائح العبادة للآلهة و أرشدت الملك في قصره .... أنظر ، هذا ( ست ) قادما كالمتمرد متجها نحو مصر مرة أخرى ليقوم بالسلب و النهب مع أنصاره و هو يحاول الآن أن يستولي على البلاد بقوة و بنفس طريقته السابقة التي غزى بها البلاد ... لقد قام بتحطيم المعابد ! و أطلق صرخاته فيها ... أنظر ها هو يقتحم السرابيوم و يقوم بعمل تمرد في منف و لقد جلب إشمئزاز آتوم في معبده ... لقد إنطلق بمجون و أطلق صرخاته في معبد آمون و أشعل الحرب في البلاد و أقام مذابح في مصر ... فليكن إنقلابا عليه ، إذا أمرت يا رع بذلك "
يتبين لنا من هذا النص الأسطوري هذه الحقائق الهامة و هي :
1 – لم يعد هناك تصالح بين حورس و ست مثلما ظهر في نص مذهب الخلق في منف الذي يعود لبداية العصور المتأخرة و يضرب بجذوره في متون الأهرام التي ترجع لعصر الدولة القديمة ، بل يرتكز الحديث هنا على أن المعبود ست المجسد في صورة المحتل الفارسي قام بغزو مصر و إقتحم مع حلفائه البلاد لكي يخرب و يدمر معابدها و هو أمر لم نعهده من قبل في تكوين الصورة الأسطورية للمعبود ست من قبل .
2 – يتخذ ست في هذا النص معالم الغازي الآسيوي الذي يسعى بكل قوته لعزل حورس ( و هو الملك المصري الشرعي ) عن العرش فيطلق قوته المعهودة و وحشيته اللاقانونية ضد المعابد و آلهتها فيأكل الحيوانات المقدسة و يستبيح المحرمات و يمنع تقديم القرابين و يحرم إقامة الأعياد لمعبودات مصر  
3 –يهدف هذا النص لإعلان نهاية العالم و خراب الكون إذا لم يتخذ المعبود رع حور آختي الإجراءات اللازمة لصد ست و الإنقلاب عليه و مواجهة شروره التي يسعى لنشرها و من هنا ندرك تلك الحملة التي شنها كهنة مصر في العصور المتأخرة داخل المعابد المصرية القديمة حيث قاموا بكشط صور المعبود ست من مناظر المعابد و المقابر ( على سبيل المثال لا الحصر تم كشط مناظر المعبود ست من تاسوع طيبة على جدران الكرنك )
و لهذا السبب ظهرت مجموعة من المشاهد المتعددة في العصرين البطلمي و الروماني على جدران المعابد المصرية تصور ما يلي :
1 – مناظر ذبح الأعداء و هي عبارة عن طقوس تزخر بها معابد دندرة و إدفو و فيلة فصور الفنان أعداء مصر و قد أوثقت أيديهم خلف ظهورهم وفي بعض الأحيان تم تصويرهم مقطعي الرأس و نجد الملك و هو يخاطب المعبود حورس في معبد إدفو قائلا له :
" لقد سقط ست تحت نعالك " و هي عبارة إستجدت في العصرين البطلمي و الروماني لكي تؤكد على هزيمة و دحر أعداء البلاد المتقمصين لشخصية المعبود ست عدو مصر الحقيقي
2 – مشاهد ذبح و حرق الحمار و هي الطقوس التي ظهرت تحديدا في المقاصير الأوزيرية الخاصة بتحنيط و بعث و إعادة إحياء المعبود أوزير داخل تلك المعابد و لذلك وجب حمايته من ست و لذا تم تصوير الحمار و هو يلقى مصيرا قاسيا حيث يتم حرقه و الهدف من ذلك هو : منع ست من أن يعترض طريق الإله فيجب التخلص منه تماما فلا يبقى فيه ذرة حياة و لذا نجد الملك في مقاصير أوزير في معبد دندرة يقول : " أقضي على الحمار و أمنع وصول الهواء إلى جسده " و هنا يختلف الدارس مع بعض الباحثين الذين إعتبروا مشاهد ذبح و حرق الحمار في العصرين البطلمي و الروماني مجرد شعائر لم تهدف للقضاء على ست نفسه ، فهنا ( في العصرين البطلمي و الروماني ) أصبحت رموز و أشكال ست تعبر عنه شخصيا و فعليا و ربما كانت وجهة النظر هذه صحيحة فقط قبل الإحتلال الفارسي لمصر .
3 – نلاحظ من ناحية أخرى أن مشاهد ضرب و ذبح حيوانات ست تعددت من حيث الكم و الكيف في معابد العصرين البطلمي و الروماني و هي مشاهد لم تظهر مثلا في معبد أبيدوس الذي يرجع لعصر الدولة الحديثة و المكرس للمعبود أوزير ،  فكان من الأجدر أن يتم ضرب و ذبح حيوانات و رموز ست في ذلك المعبد أو في مقبرة أوزير الشهيرة المعروفة بإسم الأوزيريون مما يعكس فارق جوهري بين شكل ست في عصر الدولة الحديثة و بين صورته الأسطورية في ما بعد عصر الإحتلال الفارسي .
4 – مناظر ذبح و قتل فرس النهر في إدفو و هي الطقوس التي أكدت على أن ذلك الحيوان هو تجسيد حقيقي و فعلي للمعبود ست في إدفو فلا يستطيع أحد القضاء عليه سوى الملك بقوته الخارقة و هنا يتحدث الملك عند قيامه بهذه الشعيرة قائلا : " أذبح فرس النهر بأفعاله الشريرة فلا وجود له بعد الآن ، و لتسعدوا و لتهللوا أيها الفلاحون الطيبون " و لاشك أن هذه العبارة الأخيرة تعكس قلق الفلاحين المصريين من ذلك الحيوان الذي يلتهم البذور و النباتات و الخضراوات في الحقول و هو ما يعني من ناحية أخرى إستجابة معظم الفلاحين المصريين لأسطورة الكهنة في العصرين البطلمي و الروماني فيما يتعلق بخطورة و شر و طغيان ست الذي يسعى لتخريب حقول و مزارع مصر .
و من جانب آخر تحدثت المصادر الإغريقية في العصر البطلمي عن أن المصريين إعتبروا أن هناك علاقة تجمع بين ست العدو الديني و السياسي لمصر و بين اليهود . ثم جاء بلوتارخ في مرحلة زمنية لاحقة و تحدث في الفصل رقم 31 من مؤلفه ( أسطورة أوزير و إيزيس ) عن أن ست :
" هو ( الأب الأول ) لليهود وفقا لما يقوله المصريون و لقد تم طرده من مصر و ظل مشردا خارج البلاد لمدة سبعة أيام ، ثم قام بعدها بإنجاب إبنين له هما هيروسيما و يهوذا "
إن هذا النص الأسطوري ذو الطبيعة الشعبية يعكس إندماج ست بصورة اليهود في مرحلة الشتات و في مرحلة تأسيسهم لمملكة يهوذا في فلسطين في العصور المتأخرة للحضارة المصرية القديمة .
و لاشك أن الرعب الذي هيمن على المصري القديم في العصور المتأخرة قد تجسد في صورة عنف الغزاة القادمين عبر الصحراء و المأمورين من ست لتدمير مصر ، و نرى ذلك في صورة نص شعبي آخر ينتمي للعصر الروماني حيث يتنبأ بمحاولة غزو أخرى للبلاد من خلال اليهود المتمثلين في ست و تظهر المعبودة إيزيس من خلال ذلك النص كغريمة لليهود و لربهم ست فنقرأ على سبيل المثال :
" لقد تم طرد اليهود من مصر سابقا بأمر من إيزيس ، إهجموا على اليهود لأنهم بشر عديموا الآلهة ، فهم ينهبون المعابد بزعامة ست "
و هنا يمكن لنا أن نستنبط الحقيقتين التاليتين :
1 – وفقا لمعطيات النص المصري تحول المعبود ست لكي يصبح ربا لليهود و ليس ربا للمصريين و لم يعد ست هنا كما كان في السابق المدافع عن رب الشمس رع في مركبه الشمسية في العالم الآخر و الذي كان يقوم بطعن ثعبان الفوضى الأزلي أبوفيس و الذي كان يهدد المركب ذاتها .
2 – لا يمكن أن يكون مثل هذا النص الأسطوري قد تم إنتاجه في فراغ ، فلا فكر دون واقع و لا واقع دون فكر فكلاهما يؤثر في الآخر بالتبادل و بمعنى آخر أن الحروب المتعددة التي إندلعت بين المصريين و اليهود في العصر الروماني و لاسيما خلال القرن الأول الميلادي تركت تأثيرا أكثر سلبية على صورة المعبود ست الذي إتحد باليهود وفقا لأيدولوجيا كهنة و شعب مصر مما جعله رمزا كاملا للتشيطن و الشر المطلق في مرحلة متأخرة من التاريخ المصري
و هنا و قبل أن نختتم هذا المقال ينبغي أن نشير إلى أن نزعة التوجه السلبية ضد المعبود ست في العصور المتأخرة بدأت إرهاصاتها الأولى عند الغزو الفارسي لمصر ولاريب أن الجالية اليهودية التي كانت مستقرة في إلفنتين قد ساعدت على تأجيج هذه الكراهية و لاسيما و أن رئيس المستوطنة العسكرية اليهودية هناك كان قد أرسل لحاكم أسوان يذكره بأن الملك الفارسي قمبيز قام بتحطيم جميع المعابد عند إحتلاله لمصر ما عدا معبد ( يهوا ) اليهودي في إلفنتين ، الأمر الذي يعكس وجود تضامن و تعاون بين الفرس و اليهود ضد المصريين و كان هذا التضامن يشكل نقطة حاسمة في تكوين صورة سيئة ضد ست الذي تحول بدوره إلى رب الأجانب الغزاة ( الفرس و اليهود ثم الحكام البطالمة و اليونان و الرومان فيما بعد ) و هو الأمر الذي تم ترجمته عمليا في المعابد المصرية التي تنتمي لزمن الإحتلال البطلمي و الروماني من خلال طقوس العنف الموجهة ضد ست .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق