الأحد، 10 فبراير 2013

رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى بين إقامة الماعت و إرساء مبدأ القوة القانونية و تحقيق نظام الخلق الأول و قهر أعداء البلاد


رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى بين إقامة الماعت و إرساء مبدأ القوة القانونية و تحقيق نظام الخلق الأول و قهر أعداء البلاد

يسعى الدارس من خلال هذ المقال أن يتناول قضية مفهوم إقامة الماعت خلال عصر الدولة الوسطى و الربط بين ذلك المفهوم و بين مبدأ إرساء القوة القانونية و تحقيق نظام الخلق الأول و قهر أعداء البلاد . و لا يسعني في هذا المقام سوى إهداء هذه الدراسة للزميلة العزيزة و الأخت القديرة ( مايسة مصطفى ) و التي تتجه دائما ناحية حب العلم و معرفة بعض القضايا والإشكاليات التي تتعلق بالفكر المصري القديم . زعم ملوك الأسرة الثانية عشرة أن عصرهم لم يكن سوى تطبيق عملي لمفهوم القضاء على الفوضى و إحلال النظام في البلاد بأسرها و بصورة أبدية . و قد تم التعبير عن هذا البرنامج الأيدولوجي السياسي من خلال النموذج الأدبي الشهير و المعروف بإسم ( تنبؤات نفرتي ) ، فقد كان ذلك النص يعبر عن نموذج أدبي كلاسيكي لوصف الأزمات و الإشكاليات و الفوضى التي سادت في مصر خلال عصر الإنتقال الأول وفقا للصورة التي سعت السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى أن تعلنها على الملأ ، و لذا فقد قامت تنبؤات نفرتي بإبراز سياسة الملكية في عصر الدولة الوسطى كرد فعل على زمن الفوضى السابق من خلال الحقيقة التالية :
أن ممارسة السلطة السياسية و ضع القانون في حيز التنفيذ لا يمكن تطبيقهما إلا من خلال إستخدام ( مبدأ القوة ) حيث ينبغي منع أي قوة منافسة سياسية أخرى للسلطة الملكية من الظهور بل و قمعها إن لزم الأمر ، لأن ترك أي قوى سياسية أخرى منافسة لهذه السلطة يعني جلب الفوضى و إحداث الأزمات في مصر مثلما حدث في السابق .
و لذا فقد تحولت الملكية في عصر الدولة الوسطى إلى دولة القوة القانونية ، و السعي نحو إحتكار هذه القوة و بشتى الطرق فكان ذلك هو سبيلها الأوحد للقضاء على زعماء الأقاليم الآخرين المنافسين لهم و كسر شوكة جيوشهم للأبد و إخضاعهم للسلطة الملكية ذات الصبغة الشرعية الوحيدة .
إن إختلاق نص تنبؤات نفرتي كنموذج كلاسيكي للملكية خلال عصر الدولة الوسطى كشف عن الحقائق التالية :
1 – هذا النص هو تقرير وصفي لفوضى وهمية مختلقة حلت على البلاد بأسرها قبل تولي ملوك الأسرة الثانية عشرة مقاليد الحكم و هو يصور طبيعة الأمور في مصر و العالم عندما لا تتواجد السلطة الملكية التي تسعى لإحقاق الحق و وضع النظام في مقابل الفوضى
2 – وظيفة هذا النص هو التأكيد على عدم إمكانية إحلال السلام في العالم و إستحالة تطبيق النظام و العدالة إلا من خلال وجود سلطة ملكية شرعية إختارها الإله و إصطفاها منذ الأزل .
3 – ترسيخ مفهوم إنتشار الأزمات و الكوارث في مصر إذا غابت السلطة الملكية الشرعية صاحبة الحق في تطبيق مبدأ إستخدام القوة العسكرية مما يؤدي إلى وعي الشعب المصري بالخطر الدفين عند إختفاء هذه السلطة ، فلا سلام و لا نظام و لا عدالة إلا في وجود ملك شرعي يطبق مبدأ إستخدام القوة ذات الصبغة القانونية . 
4 – يوحي هذا النص بأن الإنسان في مصر و العالم لا يميل إلى تحقيق النظام ، بل هو خاضع فطريا و طبيعيا و تلقائيا لإحداث الفوضى ( إسفت ) و هنا يمكن معنى وجود السلطة الملكية التي تحقق الماعت ( النظام و السلام و العدالة و الحق و الخير )
و لهذا السبب قامت النصوص الأدبية الملكية ، ذات الطبيعة الدينية و الأهداف السياسية ، بطرح هذه الإشكالية الخطيرة وفقا لمنظورها الأيدولوجي : كيف سيكون الحال عند إختفاء ماعت ؟
إذا إختفت ماعت كنتيجة لغياب السلطة الملكية ، أدى ذلك إلى إنهيار الصلة التي تربط الإنسان في مصر بعالم الآلهة ، فماعت كانت تربط الفرد بالأحياء و الأموات و الآلهة و الكون ، و عندئذ تتنحى الآلهة عن عالم مصر ، و بما أنها ( الآلهة ) هي التي تعمل على ضمان الخير و الخصوبة للبلاد بأسرها ، يكمن هنا خطر غيابها ، لأن العاقبة ستكون وخيمة حيث تنتشر المجاعات كنتيجة لإنخفاض مستوى الفيضان و يغيب الأمن فيسود القتل و النهب بين الناس مما يفضي لتحطيم الصلات الإجتماعية الطيبة بين جميع الأفراد ، و كأن التساؤل المضمر ( الخفي ) الموجه من السلطة إلى الأفراد : أهكذا يرتضي شعب مصر لنفسه الكوارث التي وقعت خلال عصر الإنتقال الأول و في غياب السلطة الملكية الشرعية ؟
و لعل أبلغ الصور الأدبية البلاغية التي عبرت عن مفهوم إنتشار إسفت في البلاد في ذلك العصر هي الفقرة التي وردت في نص ( إيبوور ) – المختلق خلال عصر الدولة الوسطى – حيث ذكر هذا الحكيم " فإذا سار ثلاثة أشخاص في الشارع ، لا يلبث أن يتبقى إثنان منهم فقط ، لأن العدد الأكبر يقضي على العدد الأصغر ، و يصبح لون النهر أحمر لسيلان الدم فيه " و كلما تصاعدت الوتيرة اللغوية الأدبية البلاغية لإنتشار إسفت ، كلما نمى الشعور بالخطر ، و نشأت الحاجة لوجود السلطة الملكية الشرعية .
و لذلك السبب يتم رثاء إنهيار العدالة – المفترض غيابها خلال عصر الإنتقال الأول - في نص ( إيبوور ) بهذه الكلمات :
" لم يعد هناك أحد يسير في الطريق ، فقد عمت المعارك بالأيدي ، و لم يكن هناك قائد في تلك الساعة " ثم يطرح كاتب النص التساؤل التالي : " أين هو في هذا اليوم ؟ هل هو نائم ؟ ... أنظروا : لا يمكن رؤية سلطته العقابية و لا يمكن لأحد أن يناديه لأنه كان خاليا من الغضب ضد من أحدث الفوضى "
يتبين لنا من هذه الفقرة ملاحظات هامة تمثلت فيما يلي :
1 – من الصعوبة معرفة من هو المخاطب بصورة مؤكدة من خلال عبارة " أين هو في هذا اليوم ؟ هل هو نائم ؟ " ، فهل هو الإله الخالق نفسه الذي تنحى عن العالم ؟ أم هو الملك الحاكم ضعيف الشخصية ( صورة الملكية خلال عصر الإنتقال الأول ) ؟ لكن في كلا الحالتين يبرز هنا النقد الموجه لأول مرة في نص أدبي بلاغي لأي منهما عند إنتشار إسفت .
2 – عدم وجود المقدرة على إثارة الغضب ضد الظلم و هي صفة الملك الضعيف و هي صورة تناقض صورة الملك القوي الذي ينبغي أن يغضب ( الغضب العادل ) – صورة الملكية في عصر الدولة الوسطى .
3 – سعى هذا النص و غيره من النصوص الأدبية الأخرى إلى الترويج لفكرة أن الغضب العادل هو من الفضائل الأخلاقية التي ينبغي للملك و حاشيته أن يتحلوا بها ، فهو يغضب لما يغضب له الشعب إذا غابت العدالة و حل الظلم .
و لذلك فلا غرابة من وجود نص أدبي آخر ، و هو نص سنوهي الذي ينتمي لعصر الدولة الوسطى ، يتناول غضب الملك المصري في عصر الدولة الوسطى وفقا للصيغة الأدبية التالية :
" إذا غضب ، يتجمد أنف كل إنسان فلا يتنفس ، و إذا هدأ يتنفس الإنسان ثانية " .
و هنا ندرك أن الغضب التاريخي الأول كان هو غضب الملكية وفقا للمنظور الأيدولوجي لأدب السلطة في عصر الدولة الوسطى و لم تكن قد ظهرت بعد فكرة الغضب الإلهي في ذلك العصر ، فغضب الإله لم يظهر تاريخيا و للمرة الأولى إلا من خلال النصوص الأدبية السياسية لعصر الرعامسة ( خلال الدولة الحديثة ) و كرد فعل على أحداث عصر العمارنة ، فانتقلت وظيفة حراسة و حماية العدالة من الملكية إلى الإله و بصورة نهائية ، و تحول مصدر الغضب من الملك في الدولة الوسطى إلى الإله في عصر الرعامسة .
إن الجشع و الطمع و الكذب و جميع مظاهر الشر ( إسفت ) الأخرى هي صفات لها جذور طبيعية و فطرية في البشر و في العالم وفقا للتصورات الأيدولوجية لملكية الدولة الوسطى . و لكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه الملكية كانت تدعوا لمفهوم مشابه للفلسفة الدينية الغنوصية التي نادت خلال القرن الثاني الميلادي بفكرة رفض وجود العالم بأسره بإعتباره ( شر مطلق ) ، فالعالم وفقا لهذه التصورات الملكية ليس شر مطلق ، بل هو عالم ذو قيمة مزدوجة تتكون من الخير و الشر ، و ينبغي للملك أن يمارس سلطته و بقوة على هذا العالم حتى يتمكن من توحيد القيمة المزدوجة التي تتحول إلى قيمة واحدة إيجابية ، فيحل الخير بدلا من الشر و يحل النظام بدلا من الفوضى . و لكي يحقق الملك هذا الهدف ، تبرز سلطته تارة في شكل رحيم و مسالم و عطوف تجاه الأفراد الطيبيين و تبرز تارة أخرى في شكل عدواني و قاتل تجاه المتمردين و يظهر الوجه المزدوج لهذا الشكل الخاص بالسلطة الملكية بإندماجه بالإلهة ( باستت ) الربة الرحيمة العطوفة المسالمة ، و بإتحاده بالإلهة ( سخمت ) ربة العنف و القتل و العدوانية ، و هو الأمر الذي تجلى بوضوح في نص سنوهي الذي ورد فيه ما يلي :
" هو ( الملك ) باستت التي تحمي الأرضين و من يقوم بتمجيده ( تمجيد الملك ) يصبح تحت ذراعه الحامية ، و هو الإلهة سخمت التي تقف ضد كل من يعصي الأوامر و من يكرهه ( يكره الملك ) سيكون مصيره البؤس و الشقاء "
إن هذه الفقرة التي تنتمي لنص سنوحي تعكس بعض الأمور الهامة التي تتمثل فيما يلي :
1 – إن هذا النص يكشف عن مفهوم الولاء المطلق للسلطة الملكية خلال عصر الدولة الوسطى ، فهو ينتمي لبرنامج تعليمي يهدف لوضع الرعية و تشجيعها نحو طاعة الملك الذي يتعهد بوضع من يطيعه تحت ذراعه الحامية بوصفه الإلهة ( باستت ) التي تحمي الأرضين
2 – يتجه هذا النص من ناحية أخرى لتوجيه تهديد مباشر و صريح لكل من يقف ضد سياسة هذه السلطة أو لا يمتثل لأوامرها ، ففي هذه الحالة لن يجد أمامه سوى الإلهة ( سخمت ) التي يتحد بها الملك لقمع جميع معارضيه .
3 – لا يمكن لأي فرد ينتمي لشعب مصر أو ينتمي للعالم أن يقف – من خلال هذه الفقرة – تجاه السلطة الملكية في موقف المحايد ، فعليه أن يقرر منذ الآن فصاعدا إلى أي جهه سينتمي ؟ هل سينتمي لجبهة الملك و يصبح تحت حمايته ؟ أم سينتمي للجبهة التي تعارضه ؟
4 – تكشف هذه الفقرة عن فكرة لجوء الملكية و إتجاهها نحو الألوهية سواء ناحية باستت أو ناحية سخمت في تثبيت صورتها المزدوجة : المسالمة و العنيفة أمام الشعب المصري ، فالألوهية هنا أقوى من الملكية حتى و إن لم يعترف بها كاتب النص بشكل مباشر أو صريح فلولا وجود ألوهية لها مكانة طيبة و قوية في نفوس الناس لما لجأت السلطة الملكية لهذا التشبيه الأدبي البلاغي .
و هنا ينتقل الدارس لتناول قضية هامة من القضايا الفكرية الهامة و التي لم تقتصر فقط على عصر الدولة الوسطى ، و إن كان تناول مفكروا الدولة الوسطى لها ترك تأثيرا بالغا فيها ، و هذه القضية هي مدى إرتباط مبدأ القوة بتحقيق العدالة ، و القوة التي نتحدث عنها هنا هي قوة الملكية التي تلجأ أحيانا لأقصى عقاب لأجل تحقيق النظام ، فهذه السلطة الملكية قد تلجأ لحكم ( الإعدام ) و هو بلا شك من أعظم الأحكام المؤثرة الذي لا يمكن إصداره إلا من جانب السلطة الملكية أو الآلهة المصرية . فالقتل في الحضارة المصرية القديمة هو إحتكار صارم للدولة ( و ذلك لم يمنع من وجود بعض الحالات التي تم تنفيذ حكم الإعدام فيها في فترات تاريخية معينة من جانب حكام الأقاليم ) فعقوبة الإعدام لا تصدر إلا من جانب الملك الذي يتم توجيه النصيحة له بأن يتروى و يتحفظ للغاية في إصدار مثل هذا الحكم .
و هنا نجد تساؤل هام يطرح نفسه : ما هو السبب الذي يدفع الملك للتروي كثيرا قبل أن يصدر مثل هذا الحكم ؟
مما لاشك فيه أن مثل هذا التحفظ يعود في المقام الأول إلى التصور المتعلق بأهمية روح الإنسان . فخلال عصر الدولة القديمة كان الملك هو الوحيد الذي له الحق في وجود ( با ) بمعنى روح ( مع التحفظ الشديد في ترجمة هذا المصطلح بذلك المعنى ) و أن هذه ( البا ) الملكية تنفصل عن جسد الملك بعد وفاته و تبتعد عن عالم الأرض لتصعد لعالم السماء ، و لكن و بعد نهاية عصر الدولة القديمة و ما تبعها من تغيرات سياسية و دينية خلال عصر الإنتقال الأول ، حدث تحول بارز الأهمية تجاه ( البا ) التي أصبحت حقا للجميع ، فقد ساد الإعتقاد منذ عصر الدولة الوسطى بأن لكل إنسان روح تنتقل معه نحو العالم الآخر بعد وفاته ( و يرى عالم المصريات ألتن موللر بأن مفهوم البا ( الروح ) قد إتسع كثيرا منذ نهاية عصر الدولة القديمة و لم يكن مقتصرا فقط على الملوك و إنما شمل أيضا عدد من الأفراد ) و بسبب هذه السلطة الروحية الكامنة في كل إنسان لا يتم تنفيذ حكم الإعدام إلا في حالات قصوى يكون فيها رضاء الآلهة المصرية مؤكدا وفقا لمفاهيم الأيدولوجية الملكية المصرية ، و ذلك لأن الحاكم نفسه يخشى شكوى روح المحكوم عليه بالإعدام في محكمة العالم الآخر إذا كان حكمه غير عادل . و ما يؤكد هذا الطرح هو النص المعروف بإسم ( تعاليم الملك خيتي الثالث لإبنه مري كارع ) حيث يوجه هذا الملك حديثه و نصائحه لإبنه قائلا له :
" إحفظ نفسك من العقاب غير العادل ، و لا تقتل لأن ذلك لا يجلب النفع لك و عاقب بالسجن أو الضرب و بهذا الشكل ينتعش و يزدهر البلد ما عدا العصاة و المتمردين الذين إنكشفت خطتهم لأن الإله يعلم أنهم عصاة فيجازيهم بالدم . و الحكام الذين يفصلون بين الناس في المحكمة الأخروية ، أنت تعرف أنهم ليسوا طيبين و في ذلك اليوم يأخذ البؤساء حقوقهم ممن ظلموهم "
هناك حقائق هامة تتعلق بهذا النص الأدبي تتمثل فيما يلي :
1 – يعتقد البعض من الدارسين بأن هذا النص قد تمت كتابته خلال نهاية عصر الإنتقال الأول و ذلك عندما كانت الملكية لا تزال تحت سيطرة ملوك إهناسيا و قبل أن تنتقل مقاليد الأمور لزعماء طيبة الذين إنتصروا عليهم في نهاية المطاف و قاموا بتأسيس عصر الدولة الوسطى .
2 – و نظرا لأن الملكية خلال عصر الإنتقال الأول لم تكن على نفس درجة و قوة السلطة الملكية خلال عصر الدولة القديمة ظهر في ذلك النص و لأول مرة إعتراف الملك بأخطائه فهذا شيء جديد لم نعهده من قبل ، فهو ينصح إبنه بعدم تكرار الأخطاء التي وقع فيها عندما يحكم البلاد .
3 – ظهر في ذلك النص و من خلال الفقرة التي وردت هنا أن هناك محكمة في العالم الآخر ، سيحاسب فيها الجميع أمام الآلهة بل و يظهر فيها الملك كشخص يتم محاسبته هو الآخر و إلا لما قال لإبنه " أنت تعرف أنهم ( حكام المحكمة ) ليسوا طيبين " و هو ما يعني أن الملكية خلال عصر الإنتقال الأول كانت تؤمن هي الأخرى بحقيقة إتيانها بالخطأ بل و أنها ستحاسب على ما إرتكبته من أخطاء .
4 – هناك بعض الباحثين يرون أن هذا النص لا يعود لعصر الإنتقال الأول على الإطلاق ، بل هو نص مختلق خلال عصر الدولة الوسطى و تم رده زمنيا لعصر الملك الإهناسي ( خيتي الثالث ) و الذي يظهر فيه كملك مرتكب للآثام مما يعني أنه كان موجها كدعاية سياسية سلبية ضد ملوك العصر الإهناسي من جانب ملوك الدولة الوسطى الذين حرصوا على إبرازهم في تلك الصورة السلبية .
و هناك نص أدبي آخر يؤكد أهمية عدم إصدار حكم الإعدام على أي شخص دون أن يرتكب ذنب محدد و هو نص بردية وستكار الذي تم تأليفه خلال فترة متأخرة من عصر الدولة الوسطى حيث يتحدث هذا النص عن ساحر يدعى ( جدي ) إشتهر بقدرته على الإتيان بالخوارق السحرية ، إلا أنه يمتنع عن إجابة طلب الملك ( خوفو ) الذي رغب في رؤية معجزاته فطلب منه فصل رأس أسير مسجون حتى يرى خوارقه الباهرة و هنا يبدي الساحر شجاعة بالغة و يرفض طلب ( خوفو ) فيقول له : " و لكن ليس على إنسان يا سلطاني و يا حاكمي أنظر إنه غير مسموح بإجراء ذلك على قطيع الإله " . و هنا تغير رأي الملك ( خوفو ) فورا و أمر بجلب أوزة فقطعت رأسها ثم أعيدت لها مرة أخرى فأدرك الملك قدرة الساحر جدي الخارقة .
         ينبغي لنا هنا في هذا الصدد أن نطرح الإستنتاجين التاليين :
1 – يظهر الساحر و ليس الملك في صورة الشخص القادر على الإتيان بالخوارق و المعجزات و هو ما يعكس صورة أخرى للملكية لا تتفق مع ما ورد ذكره عنها من ألقاب و صفات تم تسجيلها على جدران المعابد المصرية القديمة .
2 – هذه البردية من وحي الخيال الشعبي و لم يتم إنتاجها في مصنع الأيدولوجيا الملكية ، فهي تعكس فكر العامة من الناس تجاه بعض الملوك و كان الفكر الشعبي المصري خلال عصر الدولة الوسطى يرى خوفو بوصفه ملكا لا يبالي بالقيمة الإنسانية فيأمر الساحر بقطع رأس أسير لإجراء معجزاته السحرية . و كان هذا الحكم ( قطع الرأس ) من وجهة النظر الشعبية حكما ظالما و لا سيما و أنه يتم على شخص أسير مسجون لم يرتكب ذنبا خطيرا يستوجب ذلك العقاب و لا ينبغي إستخدامه كأداة للتجارب الملكية
 و من ناحية أخرى تبرهن وثائق مؤامرة الحريم الملكي التي كان ضحيتها الملك رمسيس الثالث في عصر الأسرة عشرين على وجود مثل هذا التحفظ في إصدار حكم بالقتل على المتآمرين ضد الملك . فلم يتم إعدام المجموعة التي حرضت على إرتكاب هذه الجريمة و بالرغم من إثبات ذنبهم إلا أنهم لم يعدموا و إنما حكم عليهم بالإنتحار حيث كان هذا التحفظ تجاه القتل يرجع لسبب الخوف من المحاكمة في العالم الآخر و إمكانية محاسبة من تسببوا في قتلهم من جانب آلهة العالم الآخر و من هنا نستنتج حقيقة بارزة الأهمية و هي :
إن تطور عقيدة المصريين في عصر الدولة الوسطى فيما يتعلق بوجود حساب في محكمة أخروية فضلا عن فكرة خلود الروح لجميع الناس و إمكانية تقديم شكوى لهذه الروح ضد من ظلمها ، ترك تأثيرا كبيرا في العمل السياسي للملكية منذ عصر الدولة الوسطى و حتى نهاية العصر المتأخر و أن توخي تطبيق العدالة و إستخدام مبدأ القوة ضد المتمردين لا يعني على الإطلاق إفراط يد الملك في القتل .
هل لجأت السلطة الملكية في عصر الدولة الوسطى و ما تلاها من عصور إلى عمل إجراءات أخرى لممارسة الحكم السياسي ؟
 في واقع الأمر أن السلطة الملكية بداية من عصر الدولة الوسطى لم تعتمد فقط على مفهوم إستخدام القوة لتطبيق العدالة في ممارستها السياسية ، و لكن إعتمدت أيضا على إستمرارية إجراء الطقوس ذات الطابع السحري في المعابد المصرية للسيطرة على نظام الحكم في البلاد ، فنظام الحكم الملكي في مصر يرتبط إستقراره بمفهوم الحفاظ على دورة أو مسار الشمس في العالم ، فإذا كانت الشعائر تهدف للحفاظ على مسيرة الشمس فذلك يؤدي إلى وجود ملكية مستقرة و تتميز بتحقيق بالعدالة مما يعم بالنفع و الخير على الجميع .
و كان إجراء هذه الطقوس السحرية الشمسية في المعابد المصرية القديمة يهدف فعليا لتحقيق أمرين هما :
1 – هي شعائر تعمل على الإبادة التامة لأعداء إله الشمس رع و هي موجهة في الأساس لثعبان الفوضى عبب ( الذي ظهر في نصوص الحضارة المصرية لأول مرة خلال عصر الإنتقال الأول ) . إن ظهور ذلك الثعبان كخطر يهدد المسيرة الشمسية في الكون يعني أن العالم لم يعد كما كان من قبل يتمتع بقيمة الخير وحده بل أصبح يتكون من قيمتين : الخير و الشر و هي صورة دراماتيكية تكونت لدى الفكر المصري بعد سقوط الملكية في نهاية عصر الدولة القديمة .
2 – لم تكن هذه الطقوس الشمسية السحرية موجهة فقط ضد أعداء الإله ، بل كانت موجهة أيضا ضد العدو السياسي للسلطة الملكية و تحديدا منذ بداية عصر الدولة الوسطى .
و لكن و من جانب آخر ينبغي أن نشير لأمر هام و هو : أن الطقوس السحرية لإبادة الأعداء ظهرت إرهاصاتها الأولى منذ فترة متأخرة من عصر الدولة القديمة و لاسيما فيما تعارف عليه الدارسون بإسم طقسة ( تحطيم الأواني الحمراء ) التي ورد ذكرها في متون الأهرام إلا أن هذه الظاهرة زادت خلال عصر الدولة الوسطى و أصبحت نموذج بارز للملكية خلال تلك الفترة . و تتمثل هذه الشعيرة في تحطيم مجموعة من الأواني الحمراء و التي نقش عليها أسماء أو كينونة أعداء الإله أو الملك كما ظهر عليها بعض النصوص الطقسية الموجهة ضد ( الأمراء الأجانب و حاشيتهم و كل المصريين من رجال و نساء من الذين يثيرون الفوضى ) حيث نقرأ وصفهم فيما يلي
" هم يتمردون و يثيرون الفتن و يضمرون العصيان في جميع أنحاء البلاد " بل إن هذه الطقوس التي سجلت كنص على هذه الأواني إتجهت ناحية كل ما يفكر فيه العدو أو المتمرد من شر داخل قلبه و لم يخرجه بعد إلى حيز التنفيذ ، فالفكرة السيئة يتم القضاء عليها قبل أن تدخل في نطاق التنفيذ بفضل هذه الشعائر فنقرأ النص التالي الموجه صراحة ضد :
" كل الكلمات السيئة و الشريرة و الصفات الدنيئة و كل الفتن السيئة و كل الخطط و الأمور السيئة و كل الأحلام السيئة و كل نوم سيء "
  و هنا يمكن لنا أن نستشف النتائج التالية و هي :
1 – إن الطقوس هنا تقوم و منذ عصر الدولة الوسطى برقابة سحرية حول الأمور التي لا تقبل الرقابة من أي جهة أو سلطة بصورة قاطعة مثل : صورة الملك في حديث معين بين الناس بل و حتى في أحلام الرعية ذاتها ، فإن تناول أحد الأفراد ذكر الملك بشكل سيء ، تم توجيه هذه الطقوس ضده .
2 – تظهر هذه الطقوس السحرية ( كعنصر مكمل ) و ليس ( كعنصر بديل ) لأجهزة و مؤسسات الرقابة الملكية ، فالطقوس السحرية تبدأ مفعولها عندما تعجز أجهزة الرقابة عن أداء عملها بكل فعالية ممكنة .
3 – تتجه هذه الطقوس السحرية ضد الخطر الذي تحاول الملكية صده و مواجته سواء من الخارج أو الداخل . فالأجانب و المصريون يتم وضعهم على مستوى واحد إذا كانوا من المتمردين و المعارضين
4 – إن فكرة الغضب الملكي العادل التي أشرنا إليها من قبل تتجه ضد ظلم علني و واضح و ظاهر ، و لكنه لا ينصب أبدا ضد أفكار و خطط و وجهات نظر مستترة ( خفية ) ، و من هنا تظهر أهمية هذه الطقوس السحرية التي توجه ضد حقد ( الذين يحقدون على الملك في قلوبهم ) - وفقا للتعبير المصري – فمن يفعل الشر و يرتكب جريمة ظاهرة للعيان يقع ضحية غضب الملك و من يكره الملك في قلبه ( و هي جريمة غير ظاهرة ) يستحق غضب الملك و عقابه السحري .
إن رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى و ما تلاها من عصور تاريخية لاحقة تمثلت في إبراز الحقيقة الفكرية التالية :
خضوع الجميع أمام الشعائر السحرية التي تحمي الملك من أحقاد الأجانب و المصريين من المتمردين . فالمسألة هنا تتعلق بأحقية الملوك الشرعية لهذه السلطة السياسية . و في نظر الفكر الملكي لا توجد سلطة دون تمرد و لا يوجد النور دون الظلام و كما أن الشمس تكافح خلال مسيرتها الكونية للقضاء على أعدائها ( و هي فكرة ظهرت تاريخيا و لأول مرة خلال عصر الأسرة صفر من خلال تصوير الزعيم أو الملك كواحد من المشاركين في القضاء على أعداء الشمس في صلايات تلك الفترة ) من خلال إصدار أشعتها المتوهجة و الحارقة نحوهم ، مما يعني أنها لا تتمكن من البقاء في العالم إلا من خلال التوهج المحرق للأعداء ، كذلك ينبغي أن تكون السلطة الملكية التي لن تتمكن من البقاء إلا من خلال القضاء على الأعداء المتمردين و الذين يسعون لإحداث الفوضى في البلاد .
و معنى ذلك أن لجوء الملكية للقتل يبرز أنها الحل الأخير الذي تلجأ إليه عند إنعدام أي وسيلة أخرى للإصلاح . و الملكية ظهرت منذ البداية و هي تعبر عن نفسها في صورة عدوانية ظاهرة ، ففي صلاية الملك نعرمر يظهر منظر قطع رؤوس الأعداء للتعبير عن العقاب الملكي الموجه ضد المتمردين و لكن ألا يمكن أن نعتبر هنا و في تلك الفترة تحديدا ( نهاية الأسرة صفر ) أن مثل هذا القرار كان أمرا مسموحا به نظرا لأن ( البا ) كانت حكرا على الملك نفسه و لم تكن فكرة وجود ( البا ) للجميع قد ظهرت في تلك المرحلة المبكرة ، و من هنا لم يكن هناك ضرر من تنفيذ قرار قطع رؤوسهم و عدم الخوف من محاسبة الملك من جانب هؤلاء المتمردين في العالم الآخر بل و تصوير ذلك الأمر فنيا على الصلاية ؟
و بالرغم من وجود البا لأي شخص بعد ذلك كفكرة ترسخت منذ عصر الدولة الوسطى ، إلا أن الملكية لم تستغي عن الصورة العدوانية القاتلة تجاه أعدائها ، فقد تكرر منظر قطع رؤوس الأعداء في مناظر كتب العالم الآخر في عصر الدولة الحديثة ، و كل التغيير الذي حدث أن هذا الحل لم يكن سوى حلا مرضيا عنه من جانب الآلهة و السلطة الملكية و ذلك عند إنعدام الحلول السلمية الأخرى و هنا يمكن إبراز الحقيقة الفكرية التالية :
إن ترسيخ ماعت ( النظام و الحق و العدالة و الخير ) في العالم من جانب السلطة الملكية لن يتم إلا من خلال قمع إسفت ( الفوضى و الباطل و الظلم و الشر ) حتى و لو تم ذلك بالقتل و قطع رؤوس الأعداء و المتمردين ، فعالم مصر لن يكون جدير بالثقة و لن يصبح قابل للسكن إلا من خلال تنفيذ هذه الوسيلة و هنا يسود السلام و الهدوء و النظام فتهيمن ( ماعت ) على العالم بل و تصبح مشاهد ضرب و قتل الأعداء قابلة للعرض و الرؤية من جانب الجميع و لا ينبغي لأحد أن يشعر بالرعب من وجود مثل تلك المناظر لأنها ضرورية فلولاها لما سادت ( ماعت ) في الكون بأسره . و لذلك هناك بعض الباحثين الذين تناولوا مشاهد أيادي و أعضاء الذكورة للأعداء و التي تم تصويرها و هي مقطوعة على جدران المعابد المصرية خلال عصر الدولة الحديثة ، حيث يرون أنه رغم التقدم و التنوير النسبي الذي حققه ملوك الدولة الحديثة ، إلا أنهم و من خلال إصرارهم على إبراز المشاهد الدموية لم يختلفوا كثيرا عن الملوك السابقين و أنه ليس هناك شك في صحة هذا التصوير و كما يبدو فإن عظمة نجاح أي معركة كانت تقاس بعدد قتلى الأعداء و تصويرهم صرعى في ميدان القتال بكل فخر و زهو . 
و لكن ينبغي لنا هنا في هذا الصدد أن نتناول أمرين في غاية الأهمية فيما يتعلق بمشاهد ضرب و قتل الأعداء أو المتردين و هما :
1 - إن هذه المناظر الفنية ليست بالضرورة تعبر عن واقع تاريخي فعلي ، فنحن نجد دائما أن عددا كبيرا منها كان يتم إستنساخه من نصوص و مشاهد أقدم زمنيا . فالمهم هنا هو ليس التعبير عن الحقيقة التاريخية و ليس من الضروري أن يكون هذا أو ذاك الملك قد قام بمعركة فعلية و إنما تهدف هذه المشاهد لعرضها للرؤية لكي تردع سحريا المتمردين و العصاة عندما يشاهدون مثل تلك المناظر و هي في ذات الوقت تشد من أزر المؤيدين للسلطة الملكية فيثقوا في قوة و حماية الملك لهم .
2 – ترتبط مشاهد ضرب و قتل الأعداء دلاليا بفكرة طقوس الإبادة السحرية الموجهة ضد الأعداء الخارجيين و المتمردين الداخليين و التي زادت خلال عصر الدولة الوسطى ( و منها على سبيل المثال طقسة تحطيم الأواني الحمراء ) فهي تتفق معها في نفس المعنى و ذات الهدف ، فهي عبارة عن تهديدات و لعنات سحرية أيقونية ( تصويرية ) تتقي بها السلطة الملكية أي تمرد من الخارج أو الداخل
و ينتقل الدارس هنا إلى معالجة فكرة الأعداء الأجانب و التأكيد على الصورة التي رسمتها الملكية المصرية خلال عصري الدولة القديمة و الوسطى لعالم مصر ، فمن خلال هذه الصورة تأخذ مصر مكانا في عالم النظام و الإستقرار الذي خلقه إله الشمس رع حيث وضع ممثله على الأرض و هو الملك لكي يضع ( الماعت ) بدلا من ( إسفت ) كما أن الحدود السياسية للمملكة المصرية تنتهي عند العالم الذي خلقه إله الشمس فقط أما الشعوب التي تعيش بجوار المملكة المصرية فهم لا ينتمون لمصاف العالم المنظم و المخلوق بل ينتمون لزمن الفوضى إلا أن الملكية المصرية و لا سيما خلال عصر الدولة الوسطى عرضت كيفية التعامل مع هذه الشعوب من خلال وصفهم بأنهم خارجين عن المجتمع المصري و لكن ليس هناك داع لإبادتهم و لا لإدماجهم في المجتمع المنظم ، فالشيء الهام هو الإبقاء على هؤلاء الأعداء خارج عالم مصر المنظم و هذا ما نجده في نص تعاليم الملك خيتي الثالث و الموجه لإبنه مري كارع حيث نقرأ ما يلي :
" إن الآسيوي بائس حقا بسبب المكان الذي يعيش فيه ، فالمياه لديه شحيحة جدا و هو لا يتمكن من الوصول إلى مصادر المياه هناك برغم تعدد الطرق المؤدية إليها بسبب الجبال التي تعيقه عن ذلك و هو لذلك لا يعيش في مكان واحد ، فقلة الغذاء لديه تجعله في حالة تنقل و ترحال دائم و هو في حروب منذ زمن الإله حورس و لا ينتصر و لا يمكن هزيمته و لا يعلن أبدا عن يوم الحرب و هو مثل اللص المنبوذ من قبل المجتمع "
يعكس هذا النص لإبراز النتائج التالية :
1 – يتناول هذا النص لأول مرة فكرة تعرف المصري القديم على الظروف الطوبوغرافية و البيئية لشعوب بلاد الشام و لاسيما بعد إحتكاكه بهذه الشعوب حضاريا .
2 – يشير هذا النص إلى هجرات هذه الشعوب و عدم إستقرارها في مكان واحد لقلة المصادر المائية و الغذائية و صعوبة الوصول إليها مما يجعلها دائما في حالة بحث دائم عن تلك المصادر .
3 – إن صورة الأجنبي هنا تعني رفض الملكية لإقامة أي سياسة خارجية معه ، فلا يمكن عمل تعاقد أو حلف سياسي مع ذلك الأجنبي و لا يمكن الإنتصار عليه كما أنه لا يهزم أبدا من أحد ، فهو ليس عدو و لا صديق ، لأن العدو يعلن الحرب في معاد متفق عليه أما هذا الأجنبي فهو مشغول دائما بالكفاح لأجل الحصول على الماء و الغذاء و لذلك ينبغي فقط تخويفه و الحد من خطره ، فيتم عزله في عالمه الخارجي حتى لا يقترب من مصاف العالم المنظم و هو عالم مصر الذي خلقه إله الشمس رع
و لذلك نجد الملك ( سنوسرت الثالث ) و هو يصف لنا سياسته تجاه النوبيين على نص لوحته الشهيرة قائلا :
" لقد كونت حدودي و ذلك بزحفي نحو الجنوب و حصلت على أكثر مما حصل عليه أسلافي و ذلك بذهابي بعيدا عن ما كلفت به ، و قد هاجمت المهاجمين لأن السكوت عن الهجوم تجاه العدو يعني دعوته للعدوان ، فالهجوم يعني القوة ، و التراجع يعني الضعف ، فالجبان هو الذي يذعن و يخضع لطرده من بلده و النوبي ينبغي إرجاعه إلى محله و سكنه ، فإذا هوجم يتراجع و هو لا ينتمي للبشر ( = المجتمع المصري المنظم ) و لا يستحق الإحترام فهو شقي و قلبه محطم "
فهذا النص يؤكد على أن الأجانب لا يعتبرون كطرف يمكن التعامل معهم سياسيا خلال عصر الدولة الوسطى و هو ما يمكن تأكيده من جانب آخر من خلال نص تعاليم مري كارع حيث نقرأ ما يلي :
" إن الآسيوي هو مثل التمساح الذي يقف على الضفة ، فهو يعض فقط في الطرق المعزولة ، إلا أنه لا يقوم بفعل ذلك في الأماكن المزدحمة "
فالأجنبي بسبب تمرده لا ينتمي أبدا لمصاف العالم المنظم و المخلوق من رع و لذلك ينبغي للملك و حاشيته أن يجعلوه في حالة خوف و فزع دائم بتأديبه من آن لآخر و لذلك ظهرت فكرة إنشاء القلاع و الحصون العسكرية بكثافة خلال عصر الدولة الوسطى سواء في الشمال أو الجنوب لمنع تقدم هؤلاء الأعداء ناحية مصر و توجيه ضربات عسكرية تجاههم أحيانا و ذلك للإبقاء عليهم في الخارج و لعزلهم عن عالم مصر المنظم .
و إذا كانت هذه هي السياسة الملكية خلال عصر الدولة الوسطى تجاه الشعوب الأجنبية في الخارج فإن السياسة الملكية نحو الداخل و كما أشرنا في أكثر من موضع في هذا المقال كانت تتجه نحو إقامة الماعت ، فملكية الدولة الوسطى هي التي تتعايش مع العالم المنظم ( عالم مصر ) و هي التي تضمن المعيشة في جميع أنحاء البلاد بأمان و سلام عند إقامتها للماعت . فماعت هنا تعني تحرير الضعفاء من سطوة و بطش الأقوياء و لاشك أن فكرة التحرر من الظلم تحمل في ثناياها مبدأ تحقيق العدل من جانب السلطة الملكية و تحقيق المساواة بين الجميع على الأقل من الناحية النظرية .
و هنا ظهرت متون التوابيت في عصر الدولة الوسطى لكي تعالج قضية في منتهى الأهمية و هي : هل عدم المساواة الموجود بين المصريين يرجع للنظام الذي خلقه إله الشمس رع منذ بداية الزمان ؟
إن نصوص التوابيت تتحدث عن إله الشمس رع الذي خلق الرياح و الماء و قام بتقسيمها على الجميع بالتساوي ثم وضع في قلوب البشر الخشية من الموت و ذلك لكي يقدموا القرابين للآلهة المحلية التي توجد في معابد المدن المصرية المختلفة و نقرأ على سبيل المثال ما يقوله إله الشمس عن نفسه في نص متون التوابيت التالي :
" لقد خلقت كل واحد مثل أخيه و منعتهم جميعا من الظلم و لكن قلوبهم تمردت و عصت أوامري "
و هنا ينبغي لنا أن نتوقف لكي نرصد الملاحظات التالية :
1 – إن عدم المساواة لا تعود على الإطلاق إلى النظام الذي خلقه إله الشمس رع في بدء الزمان و تلك ملاحظة في منتهى الأهمية إذا ما قورنت بما كان موجود في حضارات أخرى ، فعلى سبيل المثال إعتبرت أنثروبولوجية ( الدراسات الإنسانية ) الإغريق القدماء أن الفوارق بين الأحرار و العبيد هي فوارق طبيعية من صنع الآلهة
2 – على الرغم من أن المصريين في عصري الدولة القديمة و الوسطى إعتبروا أنفسهم هم ( البشر الوحيدين ) في هذا العالم و أن عالمهم هو العالم النظامي المطلق ، إلا أنه لم يكن يخلو من التفاوت وعدم المساواة بينهم و لكن عدم المساواة هنا ليس من إرادة الإله الخالق و إنما هو من صنع الإنسان الذي قام بإرادته الحرة و من قلبه برفع راية التمرد و العصيان ضد الإله .
3 – إن رفع راية التمرد و العصيان ضد الإله ينتمي للأعمال الجشعة التي سيطرت على الإنسان و هو ما عرفه المصري القديم في نصوصه و أطلق عليه تسمية ( جشع القلب ) و الذي لم يخلقه إله الشمس رع منذ البداية .
4 – إن جشع القلب هو الذي أدى لوجود التفاوت و عدم المساواة بين البشر و هو يمثل أحد ظواهر الفوضى ( إسفت ) التي جاءت السلطة الملكية خلال عصر الدولة الوسطى للقضاء عليها و هنا تكمن رسالة الملكية في ذلك العصر .
5 – إن إقامة الماعت تعني العودة لنظام الخلق الأول الذي لم يكن فيه أي تفاوت أو عدم مساواة و هنا فقط و عند تحقيق ذلك الهدف يصبح العالم ( عالم مصر ) قابلا للسكن و يسود الهدوء و السلام فيه مثلما كان في الزمن الأول الذي خلقه إله الشمس رع .
  و لهذا السبب يتم توجيه النصيحة للملك و ذلك لكي ينتقي موظفيه الذين سيسعون معه لإقامت الماعت ، فينبغي له أن يختار الموظفين طبقا لكفاءاتهم الفردية و ليس وفقا لمعيار الطبقة الإجتماعية التي ينمتون إليها و يجب تطبيق مبدأ المساواة بين الجميع أمام القانون و لذلك يؤكد الملوك دوما في نصوصهم بأنهم لم يفرقوا بين الغني و الفقير و بين القوي و الضعيف و بين الذين يعرفونهم و الذين لا يعرفونهم . كما تؤكد النصوص من ناحية أخرى أن التفاوت بين البشر لا يزول و لكن ينبغي أن يكون متوازنا في المجتمع و هذا التوازن يعني : إعطاء و رد الحق لأي إنسان مظلوم ، فهذا هو العمل الإنقاذي الذي تقوم به السلطة الملكية ، فهي تنقذ الضعيف من طغيان القوي و لذلك يظهر الإله الخالق ( و الذي لم يكن سوى الملك الحاكم في حقيقة الأمر ) في متون التوابيت و هو يقول :
" أنا أحكم بين القوي و الضعيف "
و هنا ندرك أنه بالرغم من أن هذا الخالق ( أو بمعنى أدق ممثله الملكي على ) لم يكن مسئولا عن الظلم الموجود في العالم ، إلا أنه مسئول عن عدم ترك الظلم يهيمن على العالم و هو يعمل بتصميم على إعادة نظام الخلق الأول الكامل و الذي قام الإنسان بإفساده و من أجل المحافظة على نظام الخلق الأول ، أعطى هذا الخالق للإنسان ( ملوك و هم في البيضة – بمعنى منذ الأزل - لكي يحمون الضعفاء من بطش الأقوياء ) - وفقا لنص متون التوابيت – و هنا تمكن رسالة الملكية في عصر الدولة الوسطى .
هل كان ملوك الدولة الوسطى هم أول من تناولوا مفهوم تحقيق العدالة و المساواة و عدم التفرقة بين الجميع ؟
هناك دلائل تشير إلى أن طبيعة الحكم الملكي العادل لم تكن موجودة منذ البداية ، فنصوص عصر الدولة القديمة و لا سيما نصوص الأهرام لا تتناول هذه الفكرة إلا بشكل نادر و سطحي إذا ما قورنت من ناحية الكم بنصوص التوابيت و نصوص أدبية أخرى في عصر الدولة الوسطى و لكن من ناحية أخرى لم تكن فكرة تطبيق الحكم العادل من إختراع ملوك الدولة الوسطى ، و إنما هي من نبت و إبتكار حكام الأقاليم خلال عصر الإنتقال الأول الذي وضعوا أنفسهم في صورة الزعماء و الأبطال الذين أنقذوا أقاليمهم من المجاعة و عملوا على تحقيق العدالة و المساواة بين الجميع ، فهم الذين قاموا بتكوين نظام حكم جديد في أقاليمهم كبديل لنظام الحكم الملكي الذي إنهار و سقط في نهاية عصر الدولة القديمة و إعتمد هذا النظام على مفهوم مواجهة الفوضى و الخطر و تحقيق الماعت و إفناء إسفت و لذلك فقد جاء ملوك الدولة الوسطى و إعتمدوا على نفس المفاهيم و أعادوا بناء السلطة الملكية المركزية من جديد بناءا على مفهومين أساسيين إرتبطا ببعضهما البعض و هما :
1 – إعادة تصوير الملكية ذات الطابع الإلهي المقدس و الذي كانت عليه خلال عصر الدولة القديمة .
2 – تصوير الملك و هو يقوم بنفس وظائف حاكم الإقليم خلال عصر الإنتقال الأول من تحقيق للماعت و إفناء للإسفت و إنقاذ الجميع من المجاعة و البؤس و الشقاء و الظلم .
و بهذا الشكل تكونت صورة الملك ( كراعي طيب ) للشعب و ذلك من خلال الرسالة الملكية الموجهة للرعية في عصر الدولة الوسطى فهو يحمي رعيته ليس فقط من الجوع و الفقر ، و إنما يتكفل في المقام الأول بحماية الضعفاء من ظلم و إستغلال ذوي السلطات
يتبين لنا مما تقدم أن رسالة ملكية الدولة الوسطى تسعى للتأكيد على شرعية تنفيذ مبدأ القوة القانونية فبدون هذا المبدأ لن تتحقق الماعت كما أن هذه القوة نتجت عن سبب ضعف قلب الإنسان الذي تمرد ، فالإنسان بطبيعته ليس عادلا و لكنه قادر على تقبل العدالة و إنجذابه نحوها إن قامت السلطة الملكية بفرضها ما عدا القليل من الأشرار الذين يصعب إصلاحهم و لذلك تظهر السلطة الملكية ( كمنظمة أخلاقية ) تسعى للعدالة و المساواة لإنقاذ ( الفضيلة الإجتماعية ) و إبعاد الأعداء عن عالم النظام ( عالم مصر ) الذي خلقه رع منذ البداية ، فيصبح واضحا لدى العقلاء أن الإنسان لا يمكن أن يعيش في سلام دون وجود هذه السلطة و تلك هي رسالة ملوك الدولة الوسطى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق