بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم التوسعة الكونية و مبدأ مد الوجود في الملكية المصرية القديمة ............................................................
................. يتناول هذا المقال واحدة من أهم المفاهيم الفكرية و الدينية للحضارة الصرية القديمة فيما يتعلق برؤية الملكية المصرية القديمة لما يعرف بتوسعة الحدود الكونية و مد الوجود و مدى تطبيقها لهذا المبدأ الفكري عمليا على ما أنتجته عبر العصور المختلفة و لاسيما في مجالات الفن و العمارة و الحروب العسكرية .
تمثل هذا المفهوم في إقامة منشآت معمارية و أعمال فنية تفوق حجما أو ثراءا مما صنعه الأسلاف . فكل ملك يسعى نحو إبراز توسعة الحدود الدينية و الكونية لمنشأته المعمارية أو صنيعه الفني بشكل يظهر فيه التفوق و العلو على آثار السلف . و هو ما يبرز أحد الدعائم الفكرية للمصري القديم و المتمثلة في ( إظهار تفوق الخلف على إنجازات السلف ) و أحيانا ما كان ذلك المبدأ يتم تطبيقه عمليا بهدف إضفاء شرعية سياسية و دينية مقدسة على حكم الملك الحاكم .
تجلت مظاهر الترجمة العملية لتوسعة الحدود الكونية و مد الوجود من خلال عدد من التجارب التاريخية الملكية الهامة تمثلت فيما يلي :
1 - بدأ ملوك الدولة القديمة - و لاسيما ملوك الأسرة الرابعة - في تطبيق هذا المفهوم عمليا من خلال إقامة مقابر ملكية تفوقت أحجامها على مقابر أسلافهم – من ملوك الأسرة الثالثة – فظهرت المقبرة الهرمية بواجهاتها الأربعة و هى تمتد نحو أركان الكون الأربعة ، فأصبحت المقبرة الملكية الأرضية ترتبط بعالم السماء و مسيرة الشمس و مواضع النجوم و أصبحت أركانها تجسد أركان الكون نفسه ( مثال : إسم هرم الملك خوفو : آخت خوفو – بمعنى أفق خوفو و هي تسمية تربط المقبرة الملكية بالحدود الكونية الشمسية ) . و من هنا نجد إرتباط قوي بين حدود المنشأة المعمارية الدينية و حدود الكون . و كلما جاء ملك و عمل على توسعة حدوده المعمارية ، فهو يهدف لإبراز مد الوجود الخاص بأثره الخالد .
2 - لم يشذ ملوك الأسرة الخامسة عن تطبيق هذه القاعدة حتى و إن أصبحت مقابرهم الملكية أصغر حجما من مقابر ملوك الأسرة الرابعة بل قاموا بتطبيق ذلك المبدأ على نحو آخر ، تمثل في إقامة معابد شمسية فائقة الحجم ، لم يظهر لها مثيل من قبل فيما نعلم حتى الآن ، فضلا عن الزيادة الكمية و النوعية لمناظر و شعائر تم تصويرها على جدران تلك المعابد لأول مرة فتفوقوا بذلك في إظهار أعمالهم – من وجهة نظرهم – على ملوك الأسرة الرابعة . و لم تكن سياستهم المعمارية و الفنية الجديدة سوى ترجمة لكشف ولائهم التام لمعبودهم الشمسي الأثير ( رع ) ، فعملوا على إبراز السيطرة الكونية لربهم الخالق من خلال مناظر و شعائر المعابد الشمسية و إستفادوا من تلك الظاهرة بتوحيد و إدماج أنفسهم به في نهاية المطاف .
3 - إن المد الوجودي و توسعة الحدود الكونية لمعابد الشمس هي أعظم قرينة عملية تؤكد على الترجمة الفعلية لتلك القاعدة مع الوضع في الإعتبار حقيقة هامة : لم يكن مفهوم الكون في عصر الدولة القديمة قد تخطى عالم مصر ، فإله الشمس و ممثله الأرضي ( الملك ) لايحكم سوى مصر ، فقد كانت الأيدولوجية الملكية في ذلك العصر تروج لصورة مصر في مصاف العالم المنظم الذي خلقه رب الشمس و كلف ممثله الأرضي – الملك - بوضع الماعت ( النظام و الخير و العدالة ) بدلا من الإسفت ( الفوضى و الشر و الظلم ) ، فلم تعترف الملكية المصرية خلال عصر الدولة القديمة بأنها دولة واحدة تقع في محيط دول أخرى متعددة و إنما هي البلد الوحيد و المنظم القائم في العالم و يحيط بها مناطق و بلاد أخرى غير معروفة و تتسم بالفوضى و لا يسكنها سوى الأعداء .
4 – لما تولى الملك ( ونيس ) زمام الأمور في البلاد ، أتى بما لم يأت به الأسلاف ، فأوجد تقليدا دينيا جديدا تمثل في تسجيل نصوص الأهرام الملكية على جدران الحجرات الداخلية لمقبرته الملكية . فكانت هذه النصوص تهدف لتحقيق السعادة الأبدية للملك الحاكم في عالم السماء و إندماجه برب الشمس رع و تأكيد سيطرته الكونية الشمسية على الكون بأكمله . و من هنا ندرك أن النصوص الدينية الملكية لعبت دورا هاما في إظهار مفهوم توسعة الحدود و مد السيطرة الكونية للملك و ذلك كناحية تعويضية لإبتعاد الملكية عن سياسة تشييد المعابد الشمسية الكبرى في ذلك العصر .
5 – لم يختفي هذا المفهوم الفكري عمليا خلال عصر الإنتقال الأول برغم ضعف السلطة المركزية السياسية . فقد قام حكام الأقاليم و كبار رجال الدولة بالتعبير صراحة عن رغبتهم في ( التوسع و التواجد ) فنقرأ على سبيل المثال نص في تعاليم ( خيتي الثالث ) الموجهة لولده ( مري كا رع ) أنه ( يريد أن يأتى بملك من الأسلاف فينظر إلى ما صنع و يتفوق عليه و يزيد مما حققه هو ) . كما نقرأ من جانب آخر نصوصا أخرى تعود لذات الفترة في مقابر حكام الأقاليم تتحدث عن إعادة بناء مقاصير الأسلاف و ترميم تماثيلهم المقدسة و إعادة تصوير المناظر داخل مقابرهم و توسعة أساساتها و مد وجودها المكاني و وضع أبواب جديدة من الحجر لها و ذلك لإعادة إحياء منشآتهم القديمة و حتى تكون مكانتها أعلى من مكانة جميع الأشراف و الرجال الآخرين مما يؤكد أن مبدأ التوسعة الكونية و مد الوجود خلال ذلك العصر بدأ تطبيقه على نطاق أشمل و أوسع مما سبق فكان ذلك داعيا لإبرازه في نصوص عصر الإنتقال الأول .
6 – عندما عرفت مصر الإستقرار السياسي في عصر الدولة الوسطى ، زادت من إنجازاتها الفكرية و الدينية و المعمارية و الفنية و اللغوية ، و كانت تلك الإنجازات تعبيرا صادقا عن مبدأ التوسعة الكونية و مد الوجود في جميع المجالات التى عملوا على تطويرها عمليا . فنجد الملك ( سنوسرت الأول ) يقول ( لقد صنعت أعمالا عظيمة و زدت ما ورثته عن أسلافي ) . كما شيد من ناحية أخرى المقصورة البيضاء في الكرنك و التى كشفت مناظرها و طقوسها على توسعة السيطرة الكونية للمعبود ( آمون رع ) و مد وجوده هو و ممثله الأرضي ( الملك ) على عالم مصر . و من جانب آخر شيد المك ( سنوسرت الثالث ) مجموعة من القلاع العسكرية في بلاد النوبة تنظيم التجارة مع النوبة العليا و حماية الحدود من الجنوب فعمل على ( توسعة رقعة الحدود المصرية ) و أقام ( لوحات الحدود الشهيرة ) عند هذه القلاع ، فإعتبرت حدود مصر الجنوبية منذ ذلك العصر و عند أقصى مكان شيدت فيه القلاع المصرية من ( دعائم السماء و أقصى الحدود الكونية )
7 – أصبح هذا المبدأ أكثر وضوحا من الناحية العملية في عصر الدولة الحديثة و لاسيما عند قيام الإمبراطورية المصرية في آسيا فأصبح الملك يوصف بكونه ( هو الذي يمد حدود مصر ) ، فهو بذلك لم يحافظ فقط على ما ورثه من أسلافه و لكنه قام بزيادة هذا الميراث . كما نجد الملك ( تحتمس الثالث ) و هو يقول ( إنني أفعل أكثر مما فعله الملوك من قبلي و لم لا ؟ ألم يعتبره المؤرخون – طبقا لما تركه في حوليات الكرنك – صاحب أعظم إنتصارات حربية في الشرق القديم ؟ و من هنا أصبحت حدود مصر الخارجية تقع في إطار عالمها الداخلي المقدس فوصلت إلى ( أركان و حدود الكون ) على حد تعبير المصري القديم و لذلك لم تعد مصر وحدها هي الدولة الوحيدة القائمة في العالم ، بل هي واحدة من مناطق و دول أخرى متعددة و تحول إله الشمس رع كرب خالق لشعب مصر و الشعوب المجاورة لها و ظهر منظر شعوب الأرض الأربعة في مقبرة الملك ( حورمحب ) في وادي الملوك ( و هم شعوب مصر و النوبة و ليبيا و بلاد الشام ) و تم وصفهم بعبارة ( ماشية رع ) ..... و من ناحية أخرى سعت الملكة ( حتشبسوت ) على إظهار ذلك المبدأ عمليا من خلال وضع مسلتين عملاقتين في حرم الكرنك في أكثر الأماكن ضيقا للمعبد ، و كانتا في ذلك الوقت من أكبر المسلات المصرية حجما مما يرجح حقيقة هامة و هي : سعت الملكية في الحضارة المصرية القديمة لإبراز مفهوم التوسع الكوني و المد الوجودي لإسباغ شرعية سياسية و دينية على حكم الملك و إظهار إنجازاته و تفوقه على ما أتى به الأسلاف .
8 – أصبحت المعابد المصرية خاضعة لذلك المفهوم في عصر الدولة الحديثة – و لاسيما معابد الكرنك – بشكل لم يسبق له مثيل . فلم تعتبر هذه المعابد و لفترة طويلة مكتملة النشأة و التكوين . فقد كان كل ملك يعقد العزم على أن يضيف معماريا و دينيا و شعائريا لتلك المعابد ، كما كان عنصر إبراز الضخامة المعمارية ظاهرا فيها و كانت توسعة حدود الكرنك ترجمة أخرى لمبدأ التوسعة الكونية و مد الوجود و إبراز تفوق الخلف على السلف .
9 – تمثل المقابر الصخرية الملكية للدولة الحديثة واحد من أبرز التطبيقات الفعلية للتوسع و مد الوجود ، فأقدم المقابر في الوادي و التى ترجع لعصر الملك ( تحتمس الأول ) لم تكن سوى مقبرة متواضعة الحجم و قليلة الغرف و لكن بدأ الملوك اللاحقون فيما بعد في زيادة الحجم الإجمالي للمقبرة الملكية ، فزادت الغرف و الأعمدة و كثرت المناظر تدرجيا إلى أن بلغ التوسع ذروته في عصر الرعامسة ، حيث إمتدت أحيانا إلى ما يزيد على مائة متر أسفل الصخور و تم زخرفتها كلها بنقوش و ألوان زاهية و تميزت أحيانا بعض المقابر بموضوعات و مناظر دينية قد لا نجدها في مقابر أخرى . و عندما قام الملك ( رمسيس الرابع ) بإختصار حجم مقبرته مقارنة بحجم المقابر الملكية السابقة ، و أزال الأعمدة و كثيرا من المناظر الدينية ، لم يتخلى عن مبدأ التوسع و مد الوجود داخل مقبرته و إنما ترجمه عمليا على نحو مختلف ، فقام بعمل ممرات أعلى و أوسع بشكل ملحوظ من تلك التي في مقابر الأسلاف .
10 – يتبين لنا مما تقدم أن المصري القديم كان يضع حدودا في باديء الأمر و على سبيل التجربة لجميع منشآته الدينية و المعمارية و الفنية ثم يقوم في فترات لاحقة بعمل تغييرات و توسعات متعددة لكل ما تم عمله في السابق تحقيقا عمليا لمبدأ التوسع الكوني و مد الوجود إلى أن يصل في نهاية المطاف لحد معين لا يتجاوزه فقام بوصفه بالحد الأقصى و النهائي المقدس و الثابت و كانت هذه الحدود القصوى النهائية تعتبر في آخر الأمر حدودا مطلقة تنتمي لحدود و بنية العالم نفسه .
11 – إن مبدأ التوسع الكوني و مد الوجود و إبراز تفوق الخلف على إنجازات السلف يعكس عددا من الحقائق الهامة تمثلت فيما يلي :
أ – أن المصري القديم كان لا يؤمن بمبدأ القناعة كنز لا يفنى و مبدأ الرضاء بالقليل ، فقد أدرك أن التقدم الحضاري و العلمي لا يتأتى إلا من خلال السعي الدؤوب نحو العمل المتواصل و تحدي الذات و عدم الإكتفاء بما تم إنجازه من جانب الأسلاف و أن السلف لم يتوفق على الخلف فلم يترك له شيئا لكي يحققه .
ب – لا يعني مبدأ التوسع و مد الوجود و التفوق على السلف أن المصري القديم كان لا يحترم الأسلاف ، بل على النقيض تماما ، فهو لايكتسب أية شرعية في أعماله و إنجازاته إلا إذا كان مؤديا لطقوس تقديس السلف مقلدا لما فعلوه من سلوك و أخلاق يقتدى بها و مرمما لآثارهم القديمة . فهو هنا يقتدي بهم سلوكيا و أخلاقيا و يحافظ على آثارهم القديمة و في ذات الوقت يتفوق عليهم حضاريا فيزيد من ميراثه المادي و العملي ، ولا يكتفي بما تحقق في زمانهم .
ج – لا ينبغي أن نأخذ دائما بما قاله الملوك عن أنفسهم فنعتبره في إطار الحقائق التاريخية - من خلال التطبيق العملي لمفهوم التوسع و مد الوجود و التفوق على السلف – فهذا المفهوم كان ساريا على الأقل من الناحية النظرية بين جميع الملوك ، فالملك ( توت عنخ آمون ) وصف نفسه ( أو أغلب الظن البطانة الملكية التى كانت حوله ) أنه أتى بما لم يأت به الأسلاف ! كما ذكرت الملكة ( حتشبسوت ) في الدير البحري أنها أرسلت لرحلتها الشهيرة لبلاد بونت التي لم يصل إليها المصري القديم من قبل ! فالأمر في هذه الحالات لا يعدو كونه دعاية سياسية ملكية لا تتطابق مع الواقع التاريخي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق