بسم الله الرحمن الرحيم
( الصلة السياسية و الدينية بين كهنة طيبة و ملوك الأسرة الحادية و العشرين ) ............................................................
.................تتجه هذه الدراسة نحو تحليل واحدة من أهم الفترات التاريخية التى مرت بها مصر فيما يعرف بعصر الإنتقال الثالث ( 1069 ق.م – 664 ق.م ) و التى تبدأ بالأسرة الحادية و العشرين و تنتهي عند بدايات الأسرة الخامسة و العشرين . و يقتصر هذا المقال على عصر الأسرة الحادية و العشرين للكشف عن أههم المتغيرات السياسية و الدينية التى أدت إلى نهاية عصر الدولة الحديثة و الدخول لمرحلة تاريخية جديدة لا تقل أهمية عن ما سبقها من أحداث و وقائع غيرت إلى حد كبير ملامح الدولة المصرية و شكل السلطة الملكية
و لا يفوتنا فى هذا الصدد أن نهدي هذه الدراسة الموجزة لجميع الزملاء و الزميلات العاملين فى مجال الإرشاد السياحي و حقل الآثار المصرية بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم .
أدت زيادة نفوذ كهنة آمون إلى أن يطمعوا فى الحكم و لا سيما بعد الضعف الذي حل فى السلطة الملكية فى النصف الثاني من عصر الأسرة العشرين . و قد كانت أهم أسباب ضعف السلطة الملكية و الدولة المصرية فى ذلك الوقت تلك الأزمة الإقتصادية التى عصفت بمصر و بلاد الشرق الأدنى كله نتيجة لإكتشاف عنصر الحديد و إتجاه التجارة الدولية آنذاك للإعتماد عليه بدلا من البرونز .
و لا ريب أن هذا التحول قد أدى إلى إستنزاف و إرهاق ميزانية الدولة المصرية متمثلة فى السلطة الملكية التى لم تتمكن من الوفاء بإلتزاماتها تجاه عمال دير المدينة بدفع أجورهم فضلا عن غلاء الأسعار و هو ما دفع عمال دير المدينة و بشكل مباشر إلى إضراباتهم الشهيرة و مطالبتهم المسئولين بدفع أجورهم . و من جانب آخر تبين لنا عامل آخر لا يقل أهمية عن ما سبق فى تعميق مساويء الأزمة الإقتصادية يتمثل فى إنخفاض منسوب فيضان النيل و ذلك على فترات متقطعة من عصر الأسرة العشرين
و لم يكن رد فعل كهنة آمون إيجابيا إزاء تلك الوقائع ، حيث رفضوا مشاركة العمال أزماتهم الإقتصادية و ظهروا كما لو كانوا ينتمون لطبقة أخرى لا علاقة لها بالشعب ، فلم يقبلوا بقلة مخصصاتهم من الدولة ( السلطة الملكية ) بل و وصل الأمر إلى حد أنهم قاموا برفع شكوى ضد عمدة غرب طيبة الذي تعاطف ذات مرة و قام بصرف بعض مستحقاتهم من مخازن معابد آمون ، فقاموا بتقديم شكواهم إلى الوزير ذلك العمدة بل و وصفوا فعلته بالجريمة الشنعاء .
إلا أن ما تقدم و رغم إتفاق الباحث على الشكل العام لما توصل إليه البحث العلمي من نتائج ، ينبغي لنا أن نشير إلى حقيقتين هامتين :
1 – إن هذه الواقعة تدل على أن كهنة آمون حتى نهاية النصف الأول من عصر الأسرة عشرين لم يكن بمقدورهم التحكم الكامل فى مخصصات الدولة لأنها لم تكن تحت سيطرتهم المباشرة ، بل كانت تحت سيطرة السلطة المدنية للدولة المتمثلة فى عمدة غرب طيبة و الذي كان خاضعا بدوره لسلطة الوزير ، فلم تكن لديهم السلطة لمنع عمدة غرب طيبة من أخذ بعض مخصصات معابد آمون و صرفها على العمال .
2 – لم يكن هناك فصلا فعليا بين مخصصات معابد آمون و خزائن السلطة الملكية و ذلك على النقيض مما كان يظنه عدد كبير من الباحثين فى علم المصريات . فلم يحدث ذلك الفصل على المستوى العملي إلا فى نهايات عصر الأسرة عشرين . فقد كان الأصل هو إشراف موظفي الدولة المكلفين من قبل السلطة الملكية على مخصصات و ثروات معابد مصر بأكملها .
و قد عبر كهنة آمون عن أطماعهم صراحة فى الحكم عندما قام كبيرهم ( أمنحوتب ) بتصوير نفسه فى معابد الكرنك بحجم مساو لحجم الملك ( رمسيس التاسع ) و في مواجهته و ذلك على عكس ما قضت به القواعد الفنية و التقاليد الرسمية التى كانت دائما ما تقتضي تصوير الملك بحجم أعظم دائما من قامات أتباعه . و قد خلف ( أمنحوتب ) في رياسة كهنوت آمون بطيبة كاهن يدعى ( حريحور ) الذي لم يكن يقل عن سلفه طمعا فى الحكم مما جعله يستفيد من ضعف السلطة الملكية فى نهاية عصر الأسرة عشرين و لا سيما فى عصر الملك ( رمسيس الحادي عشر ) حيث قام بتسجيل إسمه على جدران معبد خونسو بالكرنك ، فانتحل لنفسه الألقاب الملكية و بدأ يؤرخ بسنوات توليه كهنوت آمون و ليس كما كانت تقضي التقاليد الرسمية بالتأريخ بسنوات حكم الملك . و هنا تود هذه الدراسة أن تطرح تساؤلات مشروعة و هامة : هل إعتلى ( حريحور ) عرش البلاد فى معابد طيبة و انفصل عن سلطة الملك ( رمسيس الحادي عشر ) فى الشمال ؟ هل وجود الألقاب الملكية منقوشة على جدران معبد خونسو بالكرنك أدلة مادية تعكس إنفصاله عن السلطة الملكية ؟ هل تم العثور على هذه الألقاب الملكية خارج إطار معابد الكرنك ؟ هل هذه الألقاب تقع فى إطار النصوص الدعائية ذات الأهداف المستقلية و المطامع الأيدولوجية أم فى إطار الآثار الغير مغرضة ؟ ما مدى السيطرة الفعلية لكبير كهنة ( حريحور ) على جنوب البلاد ؟ .............. إن الأمر المؤكد هو شعور كهنة آمون بقدرتهم على تحدي السلطة الملكية في نهاية عصر الأسرة عشرين و السعي قدر الإمكان للإستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد و لا سيما و أن الملك ( رمسيس الحادي عشر ) - آخر ملوك الرعامسة – لم ينجب ولدا و لذلك فقد إزدادت آمالهم فى التطلع لحكم البلاد و أنهم هم الملوك القادمون في زي ديني بوصفهم الكهان الكبار لآمون و الخدم الفعليين له و الأكثر جدارة و إستحقاق للسلطة الملكية .
و لكن الأمور لم تكن تسير دائما وفقا لمصلحة كهنة آمون فى نهاية الأسرة عشرين ، فقد قام الملك ( رمسيس الحادي عشر ) بتزويج ابنته ( تانت آمون ) من ( نسي با نب جدت ) و هو المعروف بإسم ( سمندس ) ، مما كان سببا مباشرا فى صعوده على عرش البلاد و تأسيسه لأسرة جديدة في مقر ملكي جديد و هي العاصمة تانيس و من هنا بدأت وقائع الأسرة الحادية و العشرين – بدايات عصر الإنتقال الثالث - مما جعل العلاقات بين كهنة طيبة و البيت المالك الجديد تدخل في مرحلة جديدة و تتطلب سياسة مختلفة
ظن بعض الدارسين وجود صراع بين كهنة طيبة و البيت المالك الجديد فى بدايات عصر الأسرة الحادية و العشرين ، و هو أمر لا يستقيم وفقا للأسباب التالية :
1 – لم يثبت وجود أى صراع عسكري مسلح أو حتى معارضة سياسية أو تجاهل من نوع ما من فريق تجاه الآخر . فكل طرف من الطرفين قدر للطرف الآخر مكانته و قوته . فكهنة طيبة كانوا يقدرون أن الملك الموجود في تانيس هو ملك مصر العليا و السفلى و أنه هو الملك الشرعي للبلاد ، لذلك كانوا يؤرخون في نصوصهم بسنوات حكم هؤلاء الملوك . و من جانب آخر إحترم ملوك تانيس خلال عصر الأسرة الحادية و العشرين كهنة طيبة و قدروا مكانتهم بإعتبارهم أقوى الكهنة في البلاد و أكبرهم منزلة دينيا و سياسيا و أنهم يقومون بعملهم الجليل في طيبة صاحبة السمعة المعروفة دينيا و سياسيا .
2 – إن التقارب بين كهنة طيبة و ملوك تانيس كان أمرا حتميا و ذلك بسبب ظهور إنتشار واضح لمجموعات أجنبية جاءت من الصحراء الغربية و عرفت بإسم ( الماشواش ) و هي إحدى القبائل الكبرى للصحراء الغربية و كانت قد ظهرت على مسرح الأحداث التاريخية منذ عصر الأسرة التاسعة عشرة و زادت شوكتهم فى عصر الأسرة عشرين و استقر بعضهم فى إقليم الفيوم و تولوا رئاسة الكهنوت فيها للمعبود ( حري شا إف ) – القائم على بحيرته – كما تمكن بعضهم من تقلد الوظائف العسكرية المصرية الهامة مما جعل أطماعهم فى الحكم لا تخفى على كهنة طيبة و ملوك تانيس فكان التقارب السياسي و الديني بين الفريقين لا غناء عنه لمواجهة الخطر الجديد
3 – إن الألقاب التى حملها ملوك الأسرة الحادية و العشرين تربطهم بطيبة و معبودها . فهناك الملك ( سا آمون ) بمعنى ( إبن آمون ) و هناك الملك ( با سبا خع إم نيوت ) بمعنى ( النجم يشرق فى المدينة ) و المقصود بها مدينة طيبة . و هناك إسم الملك ( آمون إم إيبت ) بمعنى آمون فى الحرم
4 – وجود نص في محجر الجبلين يذكر أن الملك ( نس با نب جدت ) و هو ( سمندس ) جلس ذات مرة في قصره في منف يفكر في عمل يكسبه التكريم و التبجيل من الأجيال اللاحقة فقرر ترميم و إعادة بناء بهو أعمدة كان قد تم تشييده فى عصر ( تحتمس الثالث ) في مدينة طيبة بعدما طغى عليه الماء حتى كاد أن يبلغ سقفه ، فأرسل ثلاثة آلاف عامل لقطع الأحجار له و لترميمه الأمر الذي يعكس سيطرة ملوك تانيس على مدينة طيبة و أن كهنة آمون لم يناصبوهم العداء
5 – تكشف لوحة الملك ( شاشانق )من الأسرة الثانية و العشرين و التى تم العثور عليها فى أبيدوس عن زيارة قام بها الملك ( بسوسنس الثانى ) - من الأسرة الحادية و العشرين - لمدينة طيبة لإستفتاء وحي آمون فى الإعتداء على قبر ( نمرود ) والد ( شاشانق الأول ) و لاريب أن هذه الإجراءات لم تكن تتم فى ظل وجود صراع بين الفريقين
6 – إن أهم مظاهر التقارب بين كهنة طيبة و ملوك الأسرة الحادية و العشرين فقد تمثل فى زواج كبير كهنة آمون من بنت الملك التانيسي و هو زواج ذو بعد سياسي و يكشف فى ذات الوقت عن صيغة مصلحة سياسية توفيقية بين الفريقين تتمثل فى الأمر التالي : إذا لم يوجد من يتولى السلطة الملكية في فرع تانيس ، يتقدم أحد كهنة آمون لإعتلاء عرش البلاد و إذا لم يوجد من يتولى رياسة كهنة آمون من الفرع الطيبي ، يتقدم أحد الرجال من عائلة الفرع التانيسي للإستحواذ على منصب كبير كهنة آمون و هو الأمر الذي تكرر مرتين على الأقل خلال هذه الأسرة و بمعنى أدق تركيز السلطات الدينية و السياسية فى يد أقوى عائلتين فى البلاد مما يجعل ثروات مصر كلها تحت سيطرتهم
7 - تعلمت مصر درسا تاريخيا عظيما خلال عصر الدولة الحديثة و هو المعرفة بأن حدود العالم المنظم الذي خلقه الإله لا تنتهي عند حدود مصر بل تصل الى كل المناطق التى أقامت معها مصر معاهدات سلام و تحالفات سياسية ، فتطورت مهارة السياسة الخارجية لدى ملوك ذلك العصر فى عمل تلك المعاهدات السياسية الخارجية مما كان له تأثير إيجابي على سياسة المصريين الداخلية و بين بعضهم البعض . فلم يدخلوا فى صراع مسلح على السلطة الملكية – كما حدث على سبيل المثال بين حكام طيبة و إهناسيا خلال عصر الإنتقال الأول – و من هنا يمكن التأكيد على حقيقة هامة و هي أن المحافظة على شكل السلطة الملكية ذات الطابع المركزي و لو شكليا خلال عصر الأسرة الحادية و العشرين كان هو أهم سمات المرحلة السياسية في بدايات عصر الإنتقال الثالث مما يجعله عصرا متميزا عن العصرين الإنتقاليين السابقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق