المغزى التمثيلي لمناظر المعارك العسكرية بين الرؤية الفنية و الحقيقة التاريخية ............................................................
.................
جاءت الأعمال الفنية المصرية فى عصور ما قبل الأسرات كباكورة فنية مميزة كشفت عن وجود فئة النخبة السياسية التى بدأت تعلن عن نفسها من خلال أداة الفن ، كما كانت في ذات الوقت وعاء ديني يحتوي في داخله على أحداث و مشاهد حاول من خلالها الفنان أن يعبر عن ما يجول في ذهنه مستمدا مادته من بيئته و وقائع عصره . و من نافلة القول أن هذه المشاهد الفنية الأولى لم تكن تسجل أحداثا ذات طابع تاريخي واضح ، فقد كانت سمتها الغالبة مشاهد معارك و صيد لحيوانات برية و نهرية ، إلا أنه كان ينقصها التحديد الواضح لعنصري الزمان و المكان ( و هما العنصران الضروريان لإكتمال أركان الحدث التاريخي ) فضلا عن الغموض البارز في تعيين أبطال المشاهد ذاتها و ذلك لأن أسلوب الكتابة التصويرية الصوتية لم يكن قد ظهر بعد في تلك المرحلة .
لم تتضح الملامح و الإرهاصات الأولى لأسلوب الكتابة التصويرية الصوتية إلا مع نهايات الأسرة ( صفر ) حيث بدأ الفنان يسجل الوقائع و الأحداث و لو بشكل عام في صلاية الملك ( نعرمر ) بتحديد و إبراز شخصية و كينونة و سلطة الملك الذي يظهر و لأول مرة و هو يقوم بضرب العدو بمقمعته و هى أولى المشاهد الملكية العسكرية في الحضارة المصرية القديمة التى نجح الفنان في تصويرها و جعلها في أولوية إهتماماته بإخلاء مساحة كبيرة في بؤرة الصلاية تأكيدا على أهمية الواقعة ذاتها
و يمكن هنا أن ندرك قاعدتين بارزتين فى فن المعارك العسكرية الملكية أراد الفنان تمثيلهما و هما :
1 – لا يظهر هذا المشهد واقعة تاريخية مؤكدة نظرا لتصوير الملك في وضع شعائري حيث يتم تصوير شخصية حامل الصندل ورائه و هو يحمل إبريق و صندل مما يرجح قيام الملك هنا بطقسة ضرب عدو أمام المعبود حورس أكثر من كونها حدث تاريخي
2 – يهدف تصوير ذلك المشهد الفني لإبراز مفهوم ( الصورة كإمتداد للواقع ) فالمنظر يدل على إنتصار أبدي لصاحبه على العدو مما يقلص من أهمية تسجيل المكان و إبراز الزمان للمنظر بأكمله
تكرر ذلك الأمر في عصر الدولة القديمة ، فقد ظهرت مناظر المعابد الملكية للدولة القديمة تصور ملكا مثل ( بيبي الثانى ) و هو يقوم بهزيمة بدو الصحراء الغربية برغم معرفتنا بأنه لم يشن أية حملة بنفسه ، إلا أن الفنانين في عصره قاموا بعمل نسخ دقيقة و مفصلة لصورة قديمة كانت قد تم تسجيلها فى عصر الملك ( سا حورع ) خلال الأسرة الخامسة حيث تصور الملك القديم و هو ينتصر على نفس العدو و بذات الأسماء كلها المصاحبة للمنظر و فيما بين المشهدين لم يتغير أى عنصر سوى إسم الملك المسجل على المشهد . و جدير بالذكر أنه و بالأسلوب ذاته تم إعادة إحياء هذه الصورة القديمة بكل تفاصيلها المكانية و بذات الأسماء الخاصة بالأعداء فى عصر الملك ( طهرقا ) خلال الأسرة الخامسة و العشرين مما يعكس نتيجتين بارزتين :
1 – لا تهدف الصورة الملكية لإظهار تفاصيل واقعة تاريخية محددة بقدر ما كانت ترمي لإخفاء المعالم الأصلية للحدث الأصلي . فالحدث التاريخي الذي يرتبط بزمان و مكان لا يهم فن الملكية كثيرا بقدر ما يهمها تحويل الواقعة ذاتها إلى حدث أبدي دائم و خالد لا يرتبط بزمان أو مكان معين
2 – المنظر هنا لا يعبر عن عمل قام به ملك بعينه ، بل هو مشهد يقع فى إطار ( الأيدولوجية الملكية الدعائية العامة ) و لذا يصبح من حق أى ملك أن ينتحل المنظر لنفسه دون الشعور بأى ضرر أو حرج بوضع إسمه بدلا من إسم سلفه على ذات المشهد عند نسخه بنفس تفاصيله ، فهو مشهد مشترك و عام و له صلاحية شرعية لجميع الملوك .
و عندما تحولت مصر فى عصر الدولة الحديثة تجاه المعارك العسكرية و اتجهت لإقامة إمبراطورية مصرية ، إتجهت الملكية لإبراز أعمالها العسكرية فنيا على جدران المعابد فخلعت على الملكية سمات فنية ذات طابع أيدولوجي تمثلت فيما يلي :
1 – ظهر الملك على جدران الصروح و المعابد مدافعا عن عالم الآلهة ( المعبد ) بهزيمة أعداء الملكية و معبودات مصر عسكريا
2 – إبراز الملك فى صورة مقاتل لا يكل و لا يمل ، فهو القاهر الأبدي للخصوم طالما – مثلما أشارت نصوص المعبد – ظلت طقوسه تؤدى بداخله و طالما ظلت آلهة المعبد تسكن في عروشها و طالما ظلت الصورة الفنية المجسدة لذلك الإنتصار على حالها
3 – هزيمة الأعداء و خسارتهم على نحو ثابت و دائم بصرف النظر عن الزمان و المكان و لا سيما عندما يمثلون وجها لوجه أمام الملك
4 – يظهر الخصوم و هم يطلبون الرحمة من الملك الذي لا يصغي إليهم ، فيقدمهم كقربان لرب المعبد بعد التضحية بهم و القضاء عليهم بسيفه الملكي ( سيف القتال و الذبح المعروف بإسم سيف الخبش )
و لعلنا نطرح التساؤل التالي : هل الملكية و من خلال المناظر الفنية العسكرية و ما صحبها من ظروف و ملابسات ، كانت تسعى لإبراز الواقعة بالمعنى التاريخي المصاحب لكينونة الحدث أم كانت تهدف لإبراز مبدأ الديمومة و الثبات الأبدي لأعمالها فلا تحدها و لا تقيد بزمان أو مكان ؟
و لا يمكن لهذه الدراسة أن تتناول الصلة بين الرؤية الفنية و الحقيقة التاريخية لمناظر المعارك العسكرية دون أن تتناول الأثر الفني لمعركة قادش الشهيرة و التى وقعت في عصر الملك ( رمسيس الثاني ) و كانت واحدة من أهم المعارك التى تركت أثرا كبيرا فى فن الرعامسة ، فجاء تمثيلها على هيئة مراحل مليودرامية ( إن جاز التعبير ) واضحة كشفت عن قواعد فنية هامة تمثلت فيما يلي :
1 – تصوير كم هائل من الأعداء فى أرض القتال الأمر الذي يدل على إبراز البرهان الفني على خطورة الأعداء المرتبطة بالكثرة العددية و التى لا يمكن لدارس التاريخ أن يتحقق من مصداقية ذلك الأمر وفقا للمصادر التى أنتجتها في عصرها
2 – نجاح الأعداء و لأول مرة – طبقا للرؤية الملكية – في تطويق و حصار الملك خلال أحداث المعركة و هى الفكرة التى تم تصويرها لأول و آخر مرة في تاريخ الفن للحضارة المصرية القديمة خلال عصر الملك ( رمسيس الثاني ) و كان ذلك الأمر لا يهدف إلا للتأكيد على أن الملك واجه خطرا جديا كاد أن يكلفه حياته بعد أن تخلى عنه كل من حوله و تصوير المشهد بأكمله لا يخرج عن إطار الدعاية السياسية الملكية و لكن بأسلوب فني جديد و مبتكر
3 – يسقط الخصوم في نهاية المطاف عاجزين تحت سنابك خيل الملك أو صرعى فى أرض القتال إلا أن الجديد هنا تمثل فى عدم تصوير الفنان لكل الأعداء و هم صرعى فى الميدان الأمر الذي يكشف عن بداية وجود نواة تاريخية حقيقية فى معركة قادش تتمثل في إعتراف الفنان في عدم نجاح الجيش المصري و الملك الحاكم فى القضاء التام على جميع الأعداء و ذلك على النقيض مما كان يتم تصويره في العصور السابقة أو اللاحقة و تلك كانت مغامرة فنية جديدة و ناجحة بكل المقاييس
4 – طبقا لما ورد فى نصوص المعركة ، فالملك هو الشمس التي تبدد جيوش الظلام ، فجاءت المناظر لكي تبرز في صورة رمزية تتمثل في إطلاق الأسهم ( أشعة الشمس ) من جانب الملك تجاه الأعداء ( جيوش الظلام ) ، فأشعته هي السهام النافذة ناحية أعدائه و لا تخطيء هدفها أبدا .
5 – بما أن الملك هو تجسيد لمعبود الشمس ( رع ) الذي يقوم بنشر ضيائه فيبدد قوى الظلام ، فهو يعمل بذلك عمل الإله الأول عندما قام بنشر نوره على الكون و قضى على عالم الظلام و الفوضى عندما أشرق على عالم الدنيا و بمعنى أدق تصبح الإنتصارات الملكية على أعداء مصر بمثابة إعادة لخلق الكون من جديد ، فلا إنتصار إلا و يعقبه بداية جديدة للكون و هو المعنى الذي أكدت عليه نصوص المصاحبة لمناظر المعارك العسكرية و لاريب أن ذلك لا يعدو كونه فكرة فنية رمزية لا علاقة لها بمفهوم الواقعة التاريخية
6 – ظهرت قلعة قادش فى مناظر المعركة و هي لم تمس و لم تحتل من جانب الجيش المصري الأمر الذي كشف عن إعتراف بارز من جانب الملكية لحقيقة فشل الجيش المصري في السيطرة عليها و يصبح التمثيل الفني هنا مطابقا للحقيقة التاريخية و ذلك يعتبر تقدم فني قوي و إنجاز حضاري يحسب لفناني الملك ( رمسيس الثاني )
يتبين لنا مما تقدم أن هذه النقوش و المناظر الخاصة بمعركة قادش لم تكن قد نسجت لأجل أن تحكي عن أحداث تاريخية في معظم ما تم تصويره . فهي لا تمثل قصة موضوعية عن الماضي بقدر ما تكشف عن إنتصار دائم و أبدي برغم إحتوائها على معطيات فنية جديدة قاربت أحيانا من الحقائق التاريخية ، إلا أنها ظلت دائما فى إطار الأيدولوجية الملكية الساعية ( لتأبيد الواقعة فنيا ) و ( تحويل الماضي إلى حاضر ) و ( إبراز الحاضر كحدث مستقبلي دائم )
و فى عصر الملك ( رمسيس الثالث ) قام الفنانون بزخرفة معبده الخاص في مدينة هابو بمشاهد حربية و نصوص طويلة كشفت عن معارك عسكرية قامت في عصره ، إلا أن أهم ظاهرة لفتت إنتباه الدارسين هو تكرار مناظر معركة قادش التى وقعت في عصر ( رمسيس الثانى ) بجوار المناظر التى عبرت عن المعارك الفعلية التى وقعت في عصره ، فقام الفنانون بنسخ المناظر القديمة لقادش و وضعوا نفس الأعداء في مواجهة الملك ( رمسيس الثالث ) و ذلك بالرغم من أن الحيثيين كانوا قد إختفوا فعليا من المشهد السياسي و التاريخي فى عصر الملك ( رمسيس الثالث ) مما نستشف منه النتيجة التالية : .... إن الحدث العسكري المصور على جدران المعابد ( و هو هزيمة الأعداء في قادش ) يتحول إلى ( تمثيلية دينية مقدسة ) و لذلك يتم إعادة تصويرها في ( صورة رمزية طقسية ) فتنقش من خلال ( منظر فني مترجم على جدران المعبد ) يهدف إلى إبراز مفهوم ( الإمتداد الأبدي للصورة الفنية ) بصرف النظر عن ( واقعية الحدث ) و ( مدى مطابقته للحقيقة التاريخية ) في الزمن الذي تم فيه تصويره .
و من هنا يمكن التأكيد على النتيجة التالية:
إن المشاهد العسكرية في المناظر الفنية تعكس حقيقة إحساس المصري القديم بأن عالم مصر ( الكون ) هو دائما في خطر دفين و لذلك ينبغي على الملكية أن تواصل إنتصاراتها العسكرية لدرء هذا الخطر و لو على المستوى الفني ثم تتحول هذه الإنتصارات بمرور الزمن إلى ( إحتفالات دينية ) ، فيتحول التاريخ إلى ( تمثيلية دينية مقدسة ) يشترك فيها الجنس البشري كله ( الملك و أنصاره و أعدائه ) و تتمكن الملكية من إجتياز الإختبار الصعب في نهاية المطاف فتنتصر على الأعداء ( فينتشر الضياء الشمسي ) و يتم ( إحلال النظام ) في عالم ( الفوضى و الظلام ) و تنجح في إبعاد الخطر أبديا عن البقاع المقدسة ( المعبد – مصر – الكون ) فتعيد ( خلق الكون من جديد ) و تسعد مصر بهذه البداية الجديدة و ( يعم الخير على الجميع ) و من هنا تتلاشى تدريجيا ( الوقائع التاريخية ) أو تختفي وراء حجب ( التصوير الفنى الأيدولوجي الرمزى )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق