بسم الله الرحمن الرحيم
مظاهر القانون الحضاري للمعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني ............................................................
................. لم يكن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني مجرد منشأة معمارية دينية ضخمة ، و أن ما حدث فيه من تطورات معمارية و فنية و دينية لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد نهايات لتطور طبيعي للتراث الديني و المعماري المصري القديم الذي يضرب بجذوره نحو عصور عتيقة ، فهو لا يظهر كصورة طبق الأصل من المعابد المصرية القديمة ، كما أن ظروف نشأته السياسية و الإقتصادية إختلفت كثيرا عن أحوال و ظروف تشييد المعابد المصرية الأقدم زمنيا و تاريخيا ، فالمعبد المصري في العصور المتأخرة تم بنائه في زمن إحتلال أجنبي و لذا ينبغي علينا أن نفرد دراسة كاملة عن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني و حتى نتفهم السمات الدينية و السياسية و المعمارية للمعبد المصري في ذلك الوقت نطرح التساؤل التالي : لماذا إتجه المصري القديم لتشييد معابد متعددة في زمن الإحتلال البطلمي و الروماني ؟
1 – إرتبطت ظاهرة بناء المعبد المصري في العصور المتأخرة بظاهرة الكتاب الديني المقدس ، فقد ورد في معبد حورس بإدفو العبارات التالية " تم إعادة بناء المعبد في عصر بطلميوس الثالث وفقا لخطة البناء العظيمة في ذلك الكتاب الذي هبط من السماء إلى شمال منف " . يتضح لنا من خلال هذا النص – و هناك أمثلة أخرى تعطي معنى مشابه لبقية المعابد التى ترجع للعصرين البطلمي و الروماني – أن المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني أصبح ترجمة عملية واقعية لمفهوم الكتاب الديني المقدس أو بمعنى أدق تحول إلى ما يعرف بالقانون الحضاري ، فهو كتاب يشبه الوحي الذي نزل من السماء ، فلا يجوز أن يضاف إليه شيئا و لا يجوز أن ينتقص منه شيئا ، و ذلك هو المقصود بمصطلح القانون الحضاري . و بما أن الكتاب الديني المقدس هو أساس بناء المعبد ، فقد أصبح المعبد بالتالي يحتوي في داخله على ذلك الكتاب فهو يقوم بحفظه من الضياع و من النسيان .
2 – أصبح المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني وحدة معمارية و فنية ثابتة و واحدة ، فكانت خطة بنائه تخضع لقانون حضاري ثابت لا يقبل التغيير أو الإضافة أو النقص و بشكل صارم يختلف تماما عما كان يحدث في العصور السابقة ، فجميع المعابد التى شيدت في العصور المتأخرة لا تعدو كونها مجرد صور متنوعة لنمط معماري نموذجي واحد . و هذا النمط تجسد أفضل ما يكون في معبد إدفو ، فنلاحظ في تشييد ذلك المعبد أنه تحول إلى مقاصير معمارية دينية متداخلة في بعضها البعض ( مثل مقاصير الملك توت عنخ آمون ) ، و ذلك من خلال تصوير نمط الكورنيش المصري في قمة كل واجهة أو كل وحدة معمارية للمعبد بحيث تصبح كل وحدة معمارية كما لو كانت مستقلة بمناظرها و طقوسها و شعائرها . فقدس أقداس معبد إدفو على سبيل المثال يشكل وحدة معمارية دينية مستقلة و في ذات الوقت تظل محجوبة عن العالم الخارجي من خلال الوحدات المعمارية الأخرى التي تتقدمها و تحتويها في آن واحد . فالمعبد تم بنائه على شكل سبع مقاصير بسبع بوابات متداخلة ، و كل بوابة مقصورة ( نقصد بالمقصورة هنا أي عنصر من عناصر المعبد التي تظهر في أشكال متعددة مثل الفناء – صالة الأعمدة الأولى – صالة الأعمدة الثانية - صالة تقدمات القرابين ... إلخ ، حيث تم تشكيل هذه العناصر معماريا و فنيا على هيئة مقاصير ) تفصل بين عالمين : عالم خارجي و آخر داخلي .
3 – إن الهدف من هذه الصورة المعمارية التى كشفها كهنة العصرين البطلمي و الروماني هو تصوير عالم مطلق القداسة موجود على الأرض و ينبغي حمايته ولذا فيجب حجب هذا العالم المقدس و بكل الوسائل الممكنة عن سياق العالم الدنيوي الخارجي الدنس . فعمارة المعبد في ذلك العصر كانت تتميز بإجراءات أمنية ( مثل المقاصير المتداخلة و عدم الدخول إليها من جانب أي فرد عادي ) أملاها إحساس دفين بالخطر ، فالمعبد هنا يعكس حالة الخوف من تدنيسه و إنتهاك حرمة قدسيته المهددة من العالم الخارجي ، و من هنا كان الإبتعاد عن ذلك العالم الخارجي الدنس هو الوسيلة لحفظ المعنى المقدس في المعبد .
4 – نلاحظ هنا وجود قاعدتين أساسيتين قامت عليهما بناء المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني و هما : ( الحفاظ على شيء مقدس في الداخل ) من جانب و( التعرض للخطر من الخارج ) من جانب آخر . و من خلال الجمع بين هذين المتناقضين ، نستشف ملمحا هاما يسترعي الإنتباه و هو : النفور الشديد من الأجانب و الذي نراه واضحا في خشية الكهنة آنذاك من تدنيس المقدسات مما ينتج عنه وجود نزعة قوية ( للإنطواء على النفس في عالم داخلي مقدس – المعبد ) و ذلك في مقابل ( العالم الخارجي الدنس ) الذي يسيطر عليه الأجنبي المحتل . و من هنا جاءت نصوص المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني لكي تؤكد على أن الأجنبي الغريب ( نجس ) و ( غير طاهر ) ، و لهذا توصي هذه النصوص بحرمانية إقتراب الأجانب من المعبد و عدم رؤيتهم لشعائر العبادة و أصبحت هذه القاعدة لكهنة المعبد قانونا حضاريا أو بمعنى أدق تعليمات دينية مطلقة القداسة و واجبة التنفيذ و ثابتة المعالم و لا يجوز تغييرها أو حتى مجرد التفكير في تعديلها .
5 – تحول المعبود ( ست ) في المعبد المصري للعصرين البطلمي و الروماني إلى إله العالم الخارجي الدنس و رب الغرباء و الأجانب الذين يسعون لتدنيس عالم مصر المقدس ( عالم المعبد ) و أصبحت صورة ( ست ) تمثل من الآن فصاعدا صورة الأجنبي الشرير الذي يسعى لهدم معابد مصر و نشر الفساد في البلاد و طمس الهوية الحضارية لها ، و بما أنه كان ربا للرياح الشديدة و الأعاصير و الزوابع الرملية المخيفة ، إنتقلت هذه الصورة للأجانب الذين تحولوا إلى ( كائنات و مخلوقات إعصارية مخيفة تتجه للهجوم على مصر ) فلا غرابة من وجود مناظر و شعائر ضرب و تدمير ( ست ) في المعبد المصري آنذاك و تعميم تلك الطقوس على جميع المعابد المصرية التي تنتمي لنفس الفترة مما يعني أن هذه الشعائر تحولت إلى قانون حضاري ، فهي طقوس واجبة التنفيذ و لا يجوز إهمالها أو نسيانها و إلا تعرضت مصر لخطر الزوال .
6 – ليس هناك شك في أن ( معاداة و مقت الأجانب ) و ( الخوف الشديد من تدنيس المقدسات ) هي أفكار نشأت في عصر شهدت فيه البلاد إحتلال أجنبي بدءا من العصر الفارسي و حتى العصرين البطلمي و الروماني ، فهي تجارب تاريخية و سياسية و فكرية سلبية مما جعلها تترك آثار و ذكريات مؤلمة ، فلا يمكن أن تنشأ هذه الأفكار و هي معلقة في فراغ فضائي ، بل لا بد و أنها ترجمت ما وقع في البلاد من أحداث صادقة عبرت عن خشية الكهنة من تأثير الغزو الأجنبي الفكري للبلاد و زوال الثقافة المصرية فضلا عن عدم إحترام العديد من هؤلاء الأجانب لمعطيات الحضارة المصرية .
7 – تحول المعبد المصري في ذلك العصر لكي يجسد ذكرى الماضي المجيد ، فهي تعطي إنطباعا بأنها تمثل الجوهر الفني و المعماري الكلاسيكي للحضارة المصرية القديمة ، فكل ما تم بنائه أو تصويره في المعبد هو هو تمثيل لأصل ديني مقدس قديم . و هذه الظاهرة لاشك أنها ملفتة للنظر عندما نعلم أن جميع بلاد الشرق القديم في العصر الهللينستي بدأت تتجه لتبني الرموز الدينية و الأشكال الفنية اليونانية داخل معابدها الرسمية ، حيث بدأت تسود و تهيمن في بلاد الشرق القديم و حوض البحر المتوسط ، و كانت مصر هي البلد الوحيد التى ظلت محتفظة برموزها الدينية و أشكالها الفنية و نمطها الحضاري القديم و لاسيما في معابدها الرسمية . فلا غرابة عندما نقول أننا هنا أمام إصلاح ديني كهنوتي شامل يتجه نحو العودة إلى الأصول و المنابع الأولى المقدسة ، ثم يتم إستعراض هذا الإصلاح في شكل جديد . و لا يخفى علينا أن ما كان يروج له الكهنة آنذاك من إستعادة و إسترجاع الماضي المجيد يهدف إلى تثبيت ميراث الأسلاف القديم ، و عند تثبيته يتحول هذا الميراث إلى قانون حضاري لا يمكن تغييره أو الإضافة عليه مما يعني الحفاظ عليه للأبد فلا يضيع أبدا .
8 – أصبح المعبد المصري في ذلك الوقت موسوعة للعلم و المعرفة و الثقافة ، و هي قفزة نوعية كيفية ملفتة للنظر ، فما كان يتم نقشه و تخليده على جدران المعبد لم يعد مجرد طقوس دينية ، بل تعدى ذلك الهدف القديم ، فظهرت نصوص و مناظر تقوم بوصف الكون و تتحدث عن جغرافيا مصر و ما حولها من البلاد ، فضلا عن قص أساطير دينية متعددة تحكي عن ما حدث في سالف الزمان ، كما ظهرت نصوص طويلة تصف التعاليم الأخلاقية و السلوكية للكهنة و ما ينبغي لهم أن يتبعوه عند دخولهم للمعبد ، و زادت هذه النصوص في وصف ممتلكات و ثروات المعبد و قوائم كاملة بما ينبغي أن يتم تقديمه من جانب الملك من قرابين يومية ، و بإختصار : إتجه كهنة مصر في ذلك العصر لخلق موسوعة شاملة لحضارة و ثقافة مصر داخل المعبد بوصفها قانونا حضاريا واجب الإتباع .
9 – إزداد عدد العلامات التصويرية ( الهيروغليفية ) المنقوشة على جدران المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني بشكل لم يسبق له مثيل ، فقد تجاوزت لأكثر من 7000 علامة تصويرية جديدة و من هنا يمكن القول بأن الكتابة المعبدية إتجهت هي الأخرى لكي تكون موسوعة لغوية تحتوي في داخلها كل شيء ، فكانت كل علامة تصويرية تجسد ( صورة لشيء ما ) موجود في ( العالم الخارجي ) و بهذه الطريقة تصبح كل ( كائنات و موجودات العالم الخارجي ) مصورة و منقوشة في ( العالم الداخلي – عالم المعبد ) و بمعنى أدق أصبحت كتابة المعبد ترنو نحو وضع العالم بأكمله ( داخل المعبد ) و بما أن المعبد هو مكان الخلق الأول و مقر سكن المعبودات الأولى ، نشأ تصور جديد مؤداه أن العالم الداخلي المقدس ( المعبد ) ما هو إلا الكتابة التي سطرتها الآلهة في بدء الزمان ، وبرغم إستيحاء هذه العلامات التصويرية من ( العالم الخارجي ) فوضعت في ( عالم المعبد الداخلي ) إلا أن المعبد يظل هو ( العالم الحقيقي ) ، فهو الصورة الفعلية للعالم المقدس و الذي ينبغي أن لا يتحول و لا يتبدل و لا يتغير على الإطلاق ، فالنصوص التى تصف العالم الفعلي داخل المعبد تزعم لنفسها الصحة المطلقة و لذا تكتسب هذه النصوص صفة القانون الحضاري .
10 – تحول المعبد المصري في العصر المتأخر إلى نمط حياتي و سلوكي عام و ملزم للجميع ، فقد وصفت نصوصه ما ينبغي عمله كأسلوب حياة و معيشة لا يقتصر فقط على المعبد و لا على الكهنة بل هو نمط و نموذج حياتي ملزم للجميع ، و بمعنى أدق أصبحت تعاليم المعبد الأخلاقية و السلوكية ( معيارا صارما للحياة العملية ككل ) ، فما يسود داخل المعبد من نماذج سلوكية ينبغي أن يهيمن على سلوك المجتمع بأكمله خارج المعبد ، و بما أن هذه القواعد الأخلاقية و السلوكية نابعة من محيط ديني مقدس ( المعبد ) أصبحت الحياة هنا خارج المعبد تتسم هي أيضا بالقداسة و لا نقصد بالحياة المقدسة خارج المعبد بأنها ذلك العالم الخارجي الدنس الذي تحدثنا عنه سابقا ، فالعالم الخارجي الدنس هو كل من لا ينتمي لمصر و حضارتها و هو كل من لا يبجل معبودات مصر و هو كل من يهدد معابد مصر ، أما الحياة خارج المعبد تتسم بقدسيتها النابعة من قدسية إتباع التعاليم و الأخلاق الحميدة المسجلة على جدران المعبد ، و هكذا تتحول مصر إلى بلد مقدس بفضل إتباعها لتعاليم الآلهة المسجلة على جدران المعبد بل و تصبح أقدس بلدان العالم ، لدرجة وصفها بأنها ( معبد العالم ) و بتعبير آخر كشف المعبد المصري في العصرين البطلمي و الروماني عن قانون حضاري ثابت و دائم يهدف إلى تعميم القدسية المطلقة على مصر و أن المصري القديم لديه وعي خاص بالتفرد و التميز و أنه وحده من بين شعوب الأرض الذي يقدس الآلهة و أن المعبودات لا تعيش إلا في مصر و أنه لا يزال يحيا حياة جماعية و مشتركة مع آلهة مصر و من هنا خلعت القداسة على شعب و أرض مصر و في المقابل كان الدنس أمرا حتميا لكل من لا يقبل بعالم مصر .